الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المرحلة الخامسة:
____
أعمالي في الجزائر، بعد رجوعي من الحجاز والشام وتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وأعمالي فيها:
كان من تدابير الأقدار الإلهية للجزائر، ومن مخبّآت الغيوب لها أن يرد عليّ بعد استقراري في المدينة المنوّرة سنة وبضعة أشهر أخي ورفيقي في الجهاد بعد ذلك، الشيخ عبد الحميد بن باديس، أعلم علماء الشمال الافريقي، ولا أغالي، وباني النهضات العلمية والأدبية والاجتماعية والسياسية للجزائر.
وبيت ابن باديس في قسنطينة بيت عريق في السؤدد والعلم، ينتهي نسبه في سلسلة كعمود الصبح إلى المعزّ بن باديس، مؤسّس الدولة الصنهاجية الأولى التي خلفت الأغالبة على مملكة القيروان، ومدّت ظلّها على قسنطينة ومقاطعتها حينًا من الدهر، ومع تقارب بلدينا بحيث لا تزيد المسافة بيننا على مائة وخمسين كيلومترًا، ومع أننا لِدَتانِ في السن يكبرني الشيخ بنحو سنة وبضعة أشهر، رغم ذلك كله، فإننا لم نجتمع قبل الهجرة إلى المدينة، ولم نتعارف إلا بالسماع، لأنني كنت عاكفًا في بيت والدي على التعلّم، ثم على التعليم، وهو كان يأخذ العلم عن علماء قسنطينة متبعًا لتقاليد البيت، لا يكاد يخرج من قسنطينة، ثم بعد بلوغ الرشد ارتحل إلى تونس، فأتمّ في جامع الزيتونة تحصيل علومها.
كنا نؤدّي فريضة العشاء الأخيرة كل ليلة في المسجد النبوي، ونخرج إلى منزلي، فنسمر مع الشيخ ابن باديس، منفردين إلى آخر الليل حين يفتح المسجد فندخل مع أول داخل لصلاة الصبح، ثم نفترق إلى الليلة الثانية، إلى نهاية ثلاثة الأشهر التي أقامها بالمدينة المنوّرة.
كانت هذه الأسمار المتواصلة كلها تدبيرًا للوسائل التي تنهض بها الجزائر، ووضع البرامج المفصّلة لتلك النهضات الشاملة التي كانت كلها صورًا ذهنية تتراءى في مخيلتينا، وصحبها من حسن النيّة وتوفيق الله ما حقّقها في الخارج بعد بضع عشرة سنة، وأشهد الله على أن تلك الليالي من سنة 1913 ميلادية هي التي وضعت فيها الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي لم تبرز للوجود إلا في سنة 1931.
ورجع الشيخ إلى الجزائر من سنته تلك بعد أن أقنعته بأني لاحق به بعد أن أقنع والدي أن رجوعي إلى الجزائر يترتّب عليه إحياء للدين والعربية، وقمع للابتداع والضلال، وإنكاء للاستعمار الفرنسي، وكان هذا هو المنفذ الوحيد الذي أدخل منه على نفس والدي ليسمح لي بالرجوع إلى الجزائر.
وشرع الشيخ بعد رجوعه من أول يوم في تنفيذ الخطوة الأولى من البرنامج الذي اتفقنا عليه، ففتح صفوفًا لتعليم العلم، واحتكر مسجدًا جامعًا من مساجد قسنطينة لإلقاء دروس التفسير، وكان إمامًا فيه، دقيق الفهم لأسرار كتاب الله، فما كاد يشرع في ذلك ويتسامع الناس به حتى انهال عليه طلاب العلم من الجبال والسهول إلى أن ضاقت بهم المدينة، وأعانه على تنظيمهم وإيوائهم وإطعام المحاويج منهم جماعة من أهل الخير ومحبّي العلم، فقويت بهم عزيمته وسار لا يلوي على صائح، واشتعلت الحرب العالمية الأولى وهو في مبدإ الطريق، فاعتصم بالله فكفاه شرّ الاستعمار، وكان له من وجود والده درع وقاية من بطش فرنسا التي لا تصبر على أقلّ من هذه الحركات، وكان لوالده مقام محترم عند حكومة الجزائر، فسكتت عن الابن احترامًا لشخصية الوالد، وظهرت النتائج المرجوّة لحركته في السنة الأولى، وكانت في السنة الثانية وما بعدها أكبر وعدد الطلبة أوفر، إلى أن انتهت الحرب، ورجعت أنا إلى الجزائر فلقيني بتونس، وابتهج لمقدمي أكثر من كل أحد لتحقيق أمله المعلّق عليّ، وزرته بقسنطينة قبل أن أنقلب إلى أهلي، ورأيت بعيني النتائج التي حصل عليها أبناء الشعب الجزائري في بضع سنوات من تعليم ابن باديس، واعتقدت من ذلك اليوم أن هذه الحركة العلمية المباركة لها ما بعدها، وأن هذه الخطوة المسدّدة التي خطاها ابن باديس هي حجر الأساس في نهضة عربية في الجزائر، وأن هذه المجموعة من التلاميذ التي تناهز الألف هي الكتيبة الأولى من جند الجزائر، ولمست بيدي آثار الإخلاص في أعمال الرجال، ورأيت شبانًا ممن تخرّجوا على يد هذا الرجل وقد أصبحوا ينظمون الشعر العربي بلغة فصيحة وتركيب عربي حرّ، ومعان بليغة، وموضوعات منتزعة من صميم حياة الأمّة، وأوصاف رائعة في المجتمع الجزائري، وتشريح لأدوائه، ورأيت جماعة أخرى من أولئك التلامذة وقد أصبحوا يحبرون المقالات البديعة في الصحف، فلا يقصرون عن أمثالهم من إخوانهم في الشرق العربي، وآخرون يعتلون المنابر فيحاضرون في الموضوعات الدينية والاجتماعية، فيرتجلون القول المؤثّر، والوصف الجامع، ويصفون الدواء الشافي بالقول البليغ.
وحللت بلدي وبدأت من أول يوم في العمل الذي يؤازر عمل أخي ابن باديس
…
بدأت أولًا بعقد الندوات العلمية للطلبة، والدروس الدينية للجماعات القليلة، فلما تهيّأت الفرصة انتقلت إلى إلقاء الدروس المنظّمة للتلامذة الملازمين، ثم تدرّجت لإلقاء المحاضرات التاريخية والعلمية على الجماهير الحاشدة في المدن العامرة والقرى الآهلة، وإلقاء دروس في الوعظ والإرشاد الديني كل جمعة في بلد، ثم لما تمّ استعداد الجمهور الذي هزّته صيحاتي إلى العلم، أسّست مدرسة صغيرة لتنشئة طائفة من الشبان نشأة خاصة وتمرينهم على الخطابة والكتابة وقيادة الجماهير بعد تزويدهم بالغذاء الضروري من العلم، وكانت أعمالي هذه في التعليم الذي وقفت عنايتي عليه فاترة أحيانًا لخوفي من مكائد
الحكومة الاستعمارية، إذ ليس لي سند آوي إليه كما لأخي ابن باديس، وكانت حركاتي منذ حللت بأرض الوطن مثار ريب عند الحكومة ومنبع شكوك، حتى صلاتي وخطبي الجمعية، فكنت أتغطى لها بألوان من المخادعة حتى أني تظاهرت لها عدة سنين بتعاطي التجارة وغشيان الأسواق لإطعام من أعولهم من أفراد أسرتي، ولكنها لم تنخدع ولم تطمئن إلى حركتي، فكان بوليسها يلاحقني بالتقارير ويضيّق الخناق على كل من يزورني من تونس أو الحجاز، كل هذا وأنا لم أنقطع عن الدروس لطلاب العلم بالليل.
في هذه الفترة ما بين سنتَي 1920 و 1930 كانت الصلة بيني وبين ابن باديس قوية وكنا نتلاقى في كل أسبوعين أو كل شهر على الأكثر، يزورني في بلدي (سطيف) أو أزوره في قسنطينة، فنزن أعمالنا بالقسط ونزن آثارها في الشعب بالعدل، ونبني على ذلك أمرنا، ونضع على الورق برامجنا للمستقبل بميزان لا يختل أبدًا، وكنا نقرأ للحوادث والمفاجآت حسابها، فكانت هذه السنوات العشر كلها إرهاصات لتأسيس جمعية العلماء الجزائريين.
كملت لنا على هذه الحالة عشر سنوات كانت كلها إعدادًا وتهيئة للحدث الأعظم وهو إخراج جمعية العلماء من حيّز القول إلى حيّز الفعل، وأصبح لنا جيش من التلامذة يحمل فكرتنا وعقيدتنا مسلّح بالخطباء والكتّاب والشعراء، يلتفّ به مئات الآلاف من أنصار الفكرة وحملة العقيدة يجمعهم كلهم إيمان واحد، وفكرة واحدة، وحماس متأجج، وغضب حادّ على الاستعمار.
كانت الطريقة التي اتفقنا عليها أنا وابن باديس في اجتماعنا بالمدينة في تربية النشء هي: ألا نتوسع له في العلم، وإنما نربّيه على فكرة صحيحة ولو مع علم قليل، فتمت لنا هذه التجربة في الجيش الذي أعددناه من تلامذتنا.
كانت سنة 1930 هي السنة التي تمّ بتمامها قرن كامل على احتلال فرنسا للجزائر، فاحتفلت بتلك المناسبة احتفالًا قدّرت له ستة أشهر ببرنامج حافل مملوء بالمهرجانات ودعت إليه الدنيا كلها، فاستطعنا بدعايتنا السرّية أن نفسد عليها كثيرًا من برامجها، فلم تدم الاحتفالات إلا شهرين، واستطعنا بدعايتنا العلنية أن نجمع الشعب الجزائري حولنا ونلفت أنظاره إلينا.
تكامل العدد وتلاحق المدد
…
العدد الذي نستطيع أن نعلن به تأسيس الجمعية، والمدد من إخوان لنا كانوا بالشرق العربي مهاجرين أو طلاب علم، فأعلنا تأسيس الجمعية في شهر مايو سنة 1931 بعد أن أحضرنا لها قانونًا أساسيًا مختصرًا من وضعي أدرته على قواعد من العلم والدين لا تثير شكًا ولا تخيف، وكانت الحكومة الفرنسية في ذلك الوقت تستهين بأعمال العالم المسلم، وتعتقد أننا لا نضطلع بالأعمال العظيمة فخيّبنا ظنها والحمد لله.
دعونا فقهاء الوطن كلهم، وكانت الدعوة التي وجّهناها إليهم صادرة باسم الأمّة كلها، ليس فيها اسمي ولا اسم ابن باديس، لأن أولئك الفقهاء كانوا يخافوننا لما سبق لنا من الحملات الصادقة على جمودهم، ووصفنا إياهم بأنهم بلاء على الأمّة وعلى الدين لسكوتهم على المنكرات الدينية، وبأنهم مطايا للاستعمار، يذلّ الأمّة ويستعبدها باسمهم، فاستجابوا جميعًا للدعوة، واجتمعوا في يومها المقرّر، ودام اجتماعنا في نادي الترقّي بالجزائر أربعة أيام كانت من الأيام المشهودة في تاريخ الجزائر، ولما تراءت الوجوه وتعالت أصوات الحق أيقن أولئك الفقهاء أنهم ما زالوا في دور التلمذة، وخضعوا خضوع المسلم للحق، فأسلموا القيادة لنا، فانتخب المجلس الإداري من رجال أكفاء جمعتهم وحدة المشرب، ووحدة الفكرة ووحدة المنازع الاجتماعية والسياسية، ووحدة المناهضة للاستعمار، وقد وكل المجتمعون ترشيحهم إلينا فانتخبوهم بالإجماع، وانتخبوا ابن باديس رئيسًا، وكاتب هذه الأسطر وكيلًا نائبًا عنه، وأصبحت الجمعية حقيقة واقعة قانونية
…
وجاء دور العمل.
…
هذه المرحلة من حياتي هي مناط فخري وتاج أعمالي العلمية والاجتماعية، والأفق المشرق من حياتي، وهذه هي المرحلة التي عملت فيها لديني ولغتي ووطني أعمالًا أرجو أن تكون بمقربة من رضى الله، وهذه هي المواقف التي أشعر فيها كلما وقفت أردّ ضلالات المبتدعة في الدين، أو أكاذيب الاستعمار، أشعر كأن كلامي امتزج بزجل الملائكة بتسبيح الله.
كلّفني إخواني أعضاء المجلس الإداري في أول جلسة أن أضع للجمعية لائحة داخلية نشرح أعمالها كما هي في أذهاننا لا كما تتصوّرها الحكومة وأعوانها المضلّلون منا، فانتبذت ناحية ووصلت طرفي ليلة في سبكها وترتيبها، فجاءت في مائة وسبع وأربعين مادة، وتلوتها على المجلس لمناقشتها في ثماني جلسات من أربعة أيام، وكان يحضر الجلسات طائفة كبيرة من المحامين والصحافيين العرب المثقفين بالفرنسية، فأعلنوا في نهاية عرض اللائحة إيمانهم بأن العربية أوسع اللغات، وأنها أصلح لغة لصوغ القوانين ومرافعات المحامين، وكأنما دخلوا في الإسلام من ذلك اليوم، وخطب الرئيس عند تمام مناقشة اللائحة وإقرارها بالإجماع خطبة مؤثّرة أطراني فيها بما أبكاني من الخجل، وكان مما قال: عجبت لشعب أنجب مثل فلان أن يضلّ في دين أو يخزى في دنيا، أو يذلّ لاستعمار. ثم خاطبني بقوله: وري بك زناد هذه الجمعية.
***
كان من نتائج الدراسات المتكرّرة للمجتمع الجزائري بيني وبين ابن باديس منذ اجتماعنا في المدينة المنوّرة، أن البلاء المنصبّ على هذا الشعب المسكين آت من جهتين متعاونتين عليه، وبعبارة أوضح من استعمارين مشتركين يمتصان دمه ويتعرقان لحمه، ويفسدان عليه دينه ودنياه: استعمار مادي هو الاستعمار الفرنسي يعتمد على الحديد والنار، واستعمار روحاني يمثّله مشائخ الطرق المؤثرون في الشعب والمتغلغلون في جميع أوساطه، المتاجرون باسم الدين، المتعاونون مع الاستعمار عن رضى وطواعية، وقد طال أمد هذا الاستعمار الأخير وثقلت وطأته على الشعب حتى أصبح يتألم ولا يبوح بالشكوى أو الانتقاد، خوفًا من الله بزعمه، والاستعماران متعاضدان يؤيّد أحدهما الآخر بكل قوّته، ومظهرهما معًا تجهيل الأمّة لئلا تفيق بالعلم فتسعى في الانفلات، وتفقيرها لئلا تستعين بالمال على الثورة.
فكان من سداد الرأي وإحكام التدبير بيني وبين ابن باديس أن تبدأ الجمعية بمحاربة هذا الاستعمار الثاني لأنه أهون، وكذلك فعلنا، ووجد المجلس الإداري نظامًا محكمًا فاتبعه، لذلك كانت أعمال الجمعية متشعبة وكان الطريق أمام المجلس الإداري شاقًّا ولكنه يرجع إلى الأصول الآتية:
1 -
تنظيم حملة جارفة على البدع والخرافات والضلال في الدين، بواسطة الخطب والمحاضرات ودروس الوعظ والإرشاد في المساجد والأندية والأماكن العامة والخاصة، حتى في الأسواق، والمقالات في جرائدنا الخاصة التي أنشأناها لخدمة الفكرة الإصلاحية.
2 -
الشروع العاجل في التعليم العربي للصغار في ما تصل إليه أيدينا من الأماكن، وفي بيوت الآباء، ربحًا للوقت قبل بناء المدارس.
3 -
تجنيد المئات من تلامذتنا المتخرجين، ودعوة الشبان المتخرجين من جامع الزيتونة للعمل في تعليم أبناء الشعب.
4 -
العمل على تعميم التعليم العربي للشبان على النمط الذي بدأ به ابن باديس.
5 -
مطالبة الحكومة برفع يدها عن مساجدنا ومعاهدنا التي استولت عليها، لنستخدمها في تعليم الأمّة دينها، وتعليم أبنائها لغتهم.
6 -
مطالبة الحكومة بتسليم أوقاف الإسلام التي احتجزتها ووزّعتها على معمّريها، لتصرف في مصارفها التي وقفت عليها (وكانت من الكثرة بحيث تساوي ميزانية دولة متوسطة).
7 -
مطالبة الحكومة باستقلال القضاء الإسلامي في الأحوال الشخصية مبدئيًّا.
8 -
مطالبة الحكومة بعدم تدخلها في تعيين الموظفين الدينيين.
هذه معظم الأمهات التي تدخل في صميم أعمال الجمعية، منها ما بدأناه بالفعل ولاقينا فيه الأذى، فصبرنا حتى كانت العاقبة لنا، ومنها ما طالبنا به حتى أقمنا حق الأمّة فيه، وفضحنا الاستعمار شرّ فضيحة، ومجموع هذه المطالب في ظاهرها دينية، ولكنها في معناها وفي نظر الاستعمار هي نصف الاستقلال.
كانت السنة الأولى من عمر الجمعية سنة غليان: من جهتنا في تكوين الشُّعَب في كل مدينة وكل قرية لتنفيذ مقاصد الجمعية، وغليان السخط علينا من الاستعمار لأننا فاجأناه بما تركه مشدوهًا حائرًا لا يدري ما يفعل ولا من أين يبدأ في مقاومة حركتنا، وتفرّق أعضاء الجمعية على القطر كله يرشدون ويعظون ويزرعون الوعي، ويراقبون حركة التعليم ويحضرون أماكنه.
وعقدنا الاجتماع العام في السنة الثانية، فكانت النتيجة باهرة، والعزائم أقوى والأمّة إلينا أميل. وخرج المتردّدون عن تردّدهم فانضموا إلينا، وأعيد انتخاب المجلس فأسفر عن بقاء القديم وزيادة أعضاء ظهرت مواهبهم في العلم، وكشّر الاستعمار عن أنيابه، فبدأ يمنعنا من إلقاء الدروس في المساجد الواقعة في قبضته، وثارت نخوة الأمّة فأنشأت بمالِها بضعة وتسعين مسجدًا حرًّا في سنة واحدة في أمهات القرى.
…
في هذه السنة قررت الجمعية تعيين العلماء الكبار في عواصم المقاطعات الثلاث ليكون كل واحد منهم مشرفًا على الحركة الاصلاحية والعلمية في المقاطعة كلها، فأبقينا الشيخ ابن باديس في مدينة قسنطينة وحملناه مؤونة الإشراف على الحركة في جميع المقاطعة، وخصصنا الشيخ الطيب العقبي بالجزائر ومقاطعتها، وخصصوني بمقاطعة وهران وعاصمتها العلمية القديمة تلمسان، وكانت هي إحدى العواصم العلمية التاريخية التي أخنى عليها الدهر فانتقلت إليها بأهلي، وأحييت بها رسوم العلم، ونظمت دروسًا للتلامذة الوافدين على حسب درجاتهم، وما لبثت إلّا قليلًا حتى أنشأت فيها مدرسة دار الحديث، وتبارى كرام التلمسانيين في البذل لها حتى برزت للوجود تحفة فنية من الطراز الأندلسي، وتحتوي على مسجد وقاعة محاضرات، وأقسام لطلبة العلم، واخترت لها نخبة من المعلمين الأكفاء للصغار، وتوليت بنفسي تعليم الطلبة الكبار من الوافدين وأهل البلد، فكنت ألقي عشرة دروس في اليوم، أبدأها بدرس في الحديث بعد صلاة الصبح، وأختمها بدرس في التفسير بين المغرب والعشاء وبعد صلاة العتمة أنصرف إلى أحد النوادي فألقي محاضرة في التاريخ الإسلامي، فألقيت في الحقبة الموالية لظهور الإسلام من العصر الجاهلي إلى مبدإ الخلافة العباسية بضع مئات من المحاضرات.
وفي فترة العطلة الصيفية أختم الدروس كلها وأخرج من يومي للجولان في الإقليم الوهراني مدينة مدينة وقرية قرية، فألقي في كل مدينة درسًا أو درسين في الوعظ والإرشاد، وأتفقد شُعَبَها ومدارسها، وكانت أيام جولتي كلها أيام أعراس عند الشعب، يتلقونني على عدة أميال من المدينة أو القرية، وينتقل بعضهم معي إلى عدة مدن وقرى، فكان ذلك في نظر الاستعمار تحديًّا له ولسلطته، وفي نظر الشعب تمجيدًا للعلم والدين وإغاظة للاستعمار، فإذا انقضت العطلة اجتمعنا في الجزائر العاصمة وعقدنا الاجتماع العام وفي أثره الاجتماع الإداري وقدم كل منا حسابه، ونظمنا شؤون السنة الجديدة، ثم انصرفنا إلى مراكزنا.
بلغت إدارة الجمعية وهي في مستهل حياتها من النظام والقوة مبلغًا قويًّا بديعًا فأصبحنا لا نتعب إلّا في التنقل والحديث، أما الحكومة الاستعمارية فإننا بنينا أمرنا من أول خطوة على الاستخفاف بها وبقوانينها، وقد كنا نعلن في جرائدنا كل أسبوع بأن القوانين الظالمة لا تستحق الاحترام من الرجال الأحرار، ونحن أحرار فلتفعل فرنسا ما شاءت، وكان هذا الكلام ومثله أنكى عليها من وقع السهام لأنها لم تألف سماعه، وقد اطمأنت إلى أن الشعب الجزائري قد مات كما صرح بذلك أحد ساستها الكبار في خطبة ألقاها على ممثلي الأمم في المهرجان الذي أقامته في عيدها المئوي لاحتلال الجزائر، وكان مما قال:"لا تظنوا أن هذه المهرجانات من أجل بلوغنا مائة سنة في هذا الوطن، فقد أقام الرومان قبلنا فيه ثلاثة قرون، ومع ذلك خرجوا منه، ألا فلتعلموا أن مغزى هذه المهرجانات هو تشييع جنازة الإسلام بهذه الديار".
وكانت أعمال الإخوان في المقاطعتين الأخريين مشابهة لأعمالي بمقاطعة وهران لأننا نجري على منهاج واحد، ونسير على برنامج واحد عاهدنا الله على تنفيذه.
ولما ضاقت فرنسا ذرعًا بأعمالي ونفد صبرها على التحديات الصارخة لها، وأيقنت أن عاقبة سكوتها عنا هو زوال نفوذها وخاتمة استعمارها، اغتنمت فرصة نشوب الحرب العالمية الثانية، وأصدر رئيس وزرائها إذ ذاك "دالاديى"( Daladier) قرارًا يقضي بإبعادي إلى الصحراء الوهرانية إبعادًا عسكريًا لا هوادة فيه، لأن في بقائي طليقًا حرًا خطرًا على الدولة، كما هي عبارته في حيثيات القرار، ووكل تنفيذ قراره للسلطة العسكرية فنقلوني للمنفى في عاشر أفريل سنة 1940، وبعد استقراري في المنفى بأسبوع تلقيت الخبر بموت الشيخ عبد الحميد بن باديس- رحمه الله بداره في قسنطينة بسرطان في الأمعاء، كان يحس به من سنوات ويمنعه انهماكه في التعليم وخدمة الشعب من التفكير فيه وعلاجه، وقد شيع جنازته عشرات الألوف من الأمة رغمًا عن قسوة الأحكام العسكرية وقت الحرب، واجتمع المجلس الإداري للجمعية ورؤساء الشُّعَب يوم موته وانتخبوني رئيسًا لجمعية العلماء بالاجماع، وأبلغوني الخبر وأنا في المنفى فأصبحت أدير الجمعية وأصرف أعمالها من المنفى بالرسائل المتبادلة بيني وبين
اخواني بواسطة رسل ثقات، وكنت حين بدأت نذر الحرب تظهر وغيومها تتلبد أجتمع بالشيخ ابن باديس في داري بتلمسان فقررنا ماذا نصنع إذا قامت الحرب، وقررنا من يخلفنا إذا قبض علينا، وقلبنا وجوه الرأي في الاحتمالات كلها، وقدرنا لكل حالة حكمها، وكتبنا بكل ما اتفقنا عليه نسختين، ولكن كانت الأقدار من وراء تدبيرنا فقبضه الله إليه. بقيت في المنفى ثلاث سنين تقريبًا، ولما أطلق سراحي من المنفى أول سنة ثلاث وأربعين كانت فاتحة أعمالي تنشيط حركة إنشاء المدارس، فأنشأت في سنة واحدة ثلاثًا وسبعين مدرسة في مدن وقرى القطر كله، كلها بأموال الأمة وأيديها، واخترت لتصميمها مهندسًا عربيّا مسلمًا فجاءت كلها على طراز واحد لتشهد للأجيال القادمة أنها نتاج فكرة واحدة.
وتهافتت الأمة على بذل الأموال لتشييد المدارس حتى أربت على الأربعمائة مدرسة، ولم أتخل بعد رئاستي للجمعية وخروجي من المنفى عن دروسي العلمية للطلبة وللعامة، ولما رأت فرنسا أن عقابها لي بالتغريب ثلاث سنوات لم يكف لكسر شوكتي، وأنني عدت من المنفى أمضى لسانًا وقلبًا وعزيمة مما كنت، وأن الحركة التي أقودها لم تزدد إلّا اتساعًا ورسوخًا، انتهزت فرصة نهاية الحرب ودبرت للجزائر ثورة مفتعلة فقتلت من الشعب الجزائري المسلم ستين ألفًا، وساقت إلى المعتقلات سبعين ألفًا معظمهم من أتباع جمعية العلماء، وألقت بي في السجن العسكري المضيق تمهيدًا لمحاكمتي بتهمة التدبير لتلك الثورة، فلبثت في السجن سنة إلّا قليل، ثم أخرجوني بدعوى صدور عفو عام على مدبري الثورة ومجرميها وكان من "زملائي" في السجن الدكتور شريف سعدان- رحمه الله، والصيدلي فرحات عبّاس والمحامي شريف حاج سعيد وغيرهم.
ولما خرجت من السجن عدت إلى أعمالي أقوى عزيمة مما كنت، وأصلب عودًا وأقوى عنادًا، وعادت المدارس التي عطلتها الحكومة زمن الحرب، وأحييت جميع الاجتماعات التي كانت معطلة بسبب الحرب، ومنها الاجتماع السنوي العام، وأحييت جريدة «البصائر» التي عطلناها من أول الحرب باختيارنا باتفاق بيني وبين ابن باديس لحكمة، وهي أننا لا نستطيع تحت القوانين الحربية أن نكتب ما نريد، ولا يرضى لنا ديننا، وهمتنا، وشرف العلم، وسمعة الجمعية في العالم، أن نكتب حرفًا مما يراد منا، فحكمنا عليها بالتعطيل وقلنا: بيدي لا بيد عمرو، وحسنًا فعلنا، كذلك عطلنا مجلة "الشهاب" الناشرة لأفكار الجمعية.
ولما قررنا إحياء جريدة «البصائر» ألزمني إخواني أن أتولى إدارتها ورئاسة تحريرها فقبلت مكرهًا، وتضاعفت المسؤوليات، وثقلت الأعباء، فرئاسة الجمعية وما تستلزم من رحلات وما يتبع الرحلات من دروس ومحاضرات، كل ذلك كان يستنزف جهدي، فكيف إذا زادت عليها أعباء الجريدة وتحريرها؟ ولكن عون الله إذا صاحب امْرأً خفت عليه الأثقال.