المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

التي قامت- لم تصطنع واحدة منهن اللغة البربرية لغة رسمية - آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي - جـ ٥

[البشير الإبراهيمي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الخامس

- ‌مقدمة

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌السياق التاريخي (1954 - 1965)

- ‌في مصر

- ‌نداء إلى الشعب الجزائري المجاهد: *

- ‌مبادئ الثورة في الجزائر

- ‌أوسع المعلومات عن بداية الثورة في الجزائر *

- ‌حول ثورة الجزائر والمغرب العربي *

- ‌إلى الثائرين الأبطال من أبناء الجزائر والمغرب العربي *

- ‌إلى القائدين عبد الناصر والسادات *

- ‌برقية إلى الملك سعود *

- ‌ميثاق جبهة تحرير الجزائر *

- ‌اللائحة الداخلية لجبهة تحرير الجزائر *

- ‌بيان من جبهة تحرير الجزائر

- ‌بيان من جبهة تحرير الجزائر *

- ‌كيف تنجح الثورة في الجزائر

- ‌التكالب الاستعماري على الجزائر *

- ‌موالاة المستعمر خروج عن الإسلام *

- ‌الإسلام في الجزائر *

- ‌الجزائر المجاهدة *

- ‌دور الدول الإسلاميةفي المؤتمر الأسيوي - الأفريقي *

- ‌عبرة من ذكرى بدر *

- ‌نفحات من ذكرى فتح مكة *

- ‌من وحي العيد *

- ‌شرعة الحرب في الإسلام *

- ‌الإستعمار والشيطان *

- ‌الاستعمار الفرنسي في الجزائر *

- ‌بين يدي الموضوع

- ‌فتح العرب لأفريقيا الشمالية:

- ‌حقبة المد والجزر للجزائر بين تونس ومراكش:

- ‌الدولة الرستمية:

- ‌الدولة الصنهاجية بجبل تيطري:

- ‌الدولة الفاطمية:

- ‌الدولة الزيانية بتلمسان:

- ‌الدولة التركية

- ‌الإحتلال الفرنسي

- ‌حرب السبعين وثورة المقراني:

- ‌ جمعية العلماء

- ‌عيد فرنسا المئوي لاحتلال الجزائر:

- ‌ظهور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين:

- ‌مشكلة العروبة في الجزائر *

- ‌رسالة إلى المودودي

- ‌من أنا

- ‌مولدي:

- ‌نشأتي و‌‌تعلّمي:

- ‌تعلّمي:

- ‌رحلتي إلى الشرق:

- ‌انتقالي إلى دمشق:

- ‌رجوعي إلى الجزائر:

- ‌تأسيس جمعية العلماء الجزائريين:

- ‌عملي في الجمعية:

- ‌موقف الاستعمار منّي:

- ‌رحلتي إلى الشرق:

- ‌أولادي:

- ‌حالتي المادية:

- ‌في الذكرى الأولى للثورة الجزائرية *

- ‌في السعودية وباكستانوالعراق وسوريا

- ‌كامل كيلاني: باني الأجيال *

- ‌رسالة شكر لباكستان *

- ‌أسبوع الجزائر في العراق *

- ‌في مصر

- ‌الجزائر *

- ‌يوم الجزائر *

- ‌الثائر الإسلامي جمال الدين الأفغاني *

- ‌الذكرى الثالثة لثورة نوفمبر *

- ‌الدين في شعر أحمد شوقي *

- ‌الدين في شعر شوقي

- ‌لغة الشاعر:

- ‌حرية الأديب وحمايتها *

- ‌ميلاد الجمهورية العربية المتحدة *

- ‌جهاد الجزائر وطغيان فرنسا *

- ‌رسالة إلى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ

- ‌رسالة إلى الشيخ عمر بن حسن

- ‌أحمد شوقي *

- ‌الذكرى الرابعة لثورة الجزائر التحريرية *

- ‌الجزائر الثائرة *

- ‌فرنسا وثورة الجزائر *

- ‌صفحات مشرقة في تاريخ الثورات *

- ‌محمد العيد *

- ‌إلى مؤتمر التعريب بالرباط *

- ‌كلمة في تونس *

- ‌خلاصة تاريخ حياتي العلمية والعملية *

- ‌المرحلة الأولى:

- ‌المرحلة الثانية:

- ‌المرحلة الرابعة:

- ‌المرحلة الخامسة:

- ‌ضرورة الانتقال إلى التعليم الثانوي:

- ‌مالية جمعية العلماء:

- ‌أثر أعمالي وأعمال إخواني في الشعب:

- ‌مؤلفاتي:

- ‌خلاصة الخلاصة:

- ‌كلمة في مجمع اللغة العربية

- ‌رسالة إلى الأستاذ عبد الله كنون *

- ‌لقاء مع "مجلة الشبّان المسلمين

- ‌الشيخ الإبراهيمي يعلن:

- ‌خطبة الأستاذ الإمام الشيخمحمد البشير الإبراهيمي

- ‌توسيع لجنة الفتوى *

- ‌إجازة للأستاذ محمد الفاسي *

- ‌مقدمة كتاب «العقائد الإسلامية»للإمام عبد الحميد بن باديس *

- ‌بيان 16 أفريل 1964 *

الفصل: التي قامت- لم تصطنع واحدة منهن اللغة البربرية لغة رسمية

التي قامت- لم تصطنع واحدة منهن اللغة البربرية لغة رسمية في مخاطباتها ومراسيمها وخطبها ومدائحها، وإنما كن جميعًا تصطنعن اللغة العربية، وتتبارين في انتقاء كتابها وخطبائها وتتنافس في إكرام علمائها وشعرائها، وجوائز ملوكها الثمينة هي التي شجّعت على تبريز الشعراء والكتّاب، وإن تعداد أسمائهم يطول، وأين هذا مما فعله الأتراك العثمانيون، أو المغوليون، أو ملوك فارس المسلمون؟

____

‌الدولة التركية

____

تاريخ الدولة التركية معروف، وتاريخ احتلالها لمصر وأرض العرب على زمن السلطان سليم مشهور، وكل ذلك لا صلة له بموضوعنا، وإنما يهمّنا احتلال الأتراك للجزائر وإلحاقها بالممالك العثمانية.

كانت نكبة الإسلام في الأندلس، وتخاذل المسلمين عن نجدة إخوانهم فيها، مقتضية لنتيجتها الطبيعية، وهي ضراوة الإسبان وتكالبهم على المسلمين أينما كانوا، وأقرب بلاد المسلمين إليهم شمال افريقيا، والقضية من أساسها صليبية سافرة، وأول الانتصار يغري تآخره، وإخراج الإسبان للمسلمين من الأندلس كان شفاءً للنفوس المسيحية الموتورة، ولكن ما رأته الدول المسيحية اللاتينية من موقف الحكومات الإسلامية وشعوبها من عمليات إجلاء المسلمين واكتساح الإسلام، شجّعها على الإمعان في التنكيل بهم وعلى غزوهم في عقر دورهم، واحتلال أوطانهم الواقعة على السواحل الافريقية، وسواء أكانت الخطة قديمة أو أوحت بها نتائج الانتصار والتنصير والإجلاء فهي طبيعية كامنة في النفوس.

بدأ الإسبان والبرتغال باحتلال عدة مدن على سواحل مراكش وفي سنة 1509 ميلادية احتلّوا المرسى الكبير ووهران من الثغور الجزائرية، وتداعت القرصنة الاستعمارية من إسبانيا وفرنسا والبرتغال إلى احتلال ما يمكن من الثغور الجزائرية والتونسية، ومطاردة الإسلام بمطاردة أبنائه واستعبادهم، مثل ما تمّ لهم بالأندلس.

ولولا أن قيض الله لنجدة المسلمين ونصرة الإسلام القائد التركي البحري العظيم بابا عروج وأخاه وقريعه القائد خير الدين، لتمّ في شمال إفريقيا ما تمّ في الأندلس من استعباد المسلمين وإكراههم على التنصر.

ص: 111

والقائدان الأخوان تركيان، ولدا بجزيرة (ميديللي) وامتهنا البحارة واتخذاها وسيلة للجهاد في سبيل الله. فخاضا لجج البحر الأبيض وتمرّسا به وعرفا أعماقه وشطآنه، وتطوّعا بنقل طوائف من المسلمين الذين أجلاهم الإسبان من شواطئ الأندلس إلى شواطئ شمال افريقيا فأنقذوهم من حكم الرهبان ومحاكم التفتيش ومن التنصر الجبري أو الإحراق.

ولما أدرك الأخوان القائدان تداعي الدول المسيحية للإغارة على ثغور المسلمين كلها، وعزمها على استئصال الإسلام منها، اتفقا مع الأمير الحفصي في تونس إذ ذاك، على أن يجعلا من تونس قاعدة لأعمالهما البحرية، ودفاعهما عن المسلمين واسترجاع ما احتلته تلك الدول، وكانت الدولة الحفصية تلفظ أنفاسها الأخيرة، حتّى أن الإسبان احتلّوا عاصمتها تونس مرّتين، وأفحشوا بالنكاية في المسلمين، واتخذوا من جامع الزيتونة اصطبلًا لدوابهم.

كان من نتائج ذلك التداعي اللاتيني الكاثوليكي أن احتلّت دول أجنبية كثيرًا من الثغور الجزائرية، ومنها ثغر بجاية احتلّه الإسبان، وثغر جيجل الواقع شرقي بجاية، احتلّه الجنويون، فبدأ القائدان بإنقاذ بجاية من يد الإسبان، ودحرا الإسبانيين برًّا وبحرًا، ثم استنقذوا ثغر جيجل، وكان ذلك في سنة 1512 ميلادية، فكانت هذه السنة بداية تاريخ العهد التركي بالجزائر، وفي سنة 1516، احتلّ القائدان الأخوان مدينة الجزائر، واتخذا منها قاعدة ثابتة للهجوم والدفاع والعمليات الحربية بريّة وبحرية، وأهمها قمع القرصنة اللاتينية في البحر الأبيض، ومن هذه السنة أصبحت مدينة الجزائر عاصمة إلى الآن.

كانت نجدة القائدين لمدينة الجزائر تلبية لاستغاثة إسلامية بهما من شيخ تلك المدينة إذ ذاك سليم التومي، ولقي القائدان من رجال الجزائر ما يريدان من تأييد وإعانة وطاعة وثبات وبطولة، وكان رجال أسطول القائدين الذين يدير بهم المعارك البحرية لا يزيدون على ثمانمائة، فعزّزهم بثلاثة آلاف جندي جزائري، وبهذا العدد القليل مع الشجاعة وحسن التدبير، أوقع القائدان بالقرصان اللاتينيين الهزائم المأثورة وطردا حكوماتهم من جميع ما احتلّوه من ثغور تونس والجزائر في مدة قصيرة، وامتدّ ميدان النزال بين الفريقين برًّا وبحرًا من مدينة تلمسان وسواحلها وثغورها إلى تونس وسواحلها وشواطئها، وهو ميدان طوله أكثر من ألف وخمسمائة ميل.

من توفيق الله للقائدين التركيين، ومن دلائل إخلاصهما في نصر الإسلام، تسهيله احتلال مدينة الجزائر لهما، وجعلهما إياها قاعدة لأعمالهما، وإدارة حروبهما، ومركزًا لتنظيم الأمور الإدارية والعسكرية، فقد انتقل شأنهما من حال إلى حال تخالفها، وبعد أن كانا رئيسين بحريين يديران حركة غزو ونهب وتعرّض لأمثالهما ممن يحترف حرفتهما، لا يرجعان فيما يصنعان إلى أحد، حتى الدولة العثمانية لم يكونا يأتمران بأمرها ولا يرجعان

ص: 112

إليها، إلا من حيث الجنسية والدين، وإنما كانا يدافعان عنها إن اقتضى الحال، ويجلبان لها الفخر بانتصاراتهما، بعد أن كانا على تلك الحال، أصبحا أميرين مسؤولين عن إنقاذ شعوب إسلامية من الكفر وأوطان إسلامية من احتلال الأجانب.

ومدينة الجزائر ذات مزايا لا تُحصى، وأهم مزاياها توسطها للشمال الإفريقي كله، ووقوعها على البحر، وإشرافها على كل ما يجري فيه، فهي قاعدة حرب وسلم، وإدارة وحكم، وقد تعاون موضعها ووضعها على إكسابها هذه المزايا، وما ذكرنا منها إلا القليل، وقد تفطن الاستعمار الفرنسي فيما تفطن إلى هذه المزايا الطبيعية، وأضاف إليها بعض المزايا الصناعية فاستغلها لمصالحه، وإن هذا لهو الذي يحمله على الاستمساك بها حتى انه ليتمنى خروج روحه قبل الخروج منها، وسيكون العكس فيخرج منها قبل أن تخرج روحه من جسده ليذوق طعم الحسرات التي أذاقنا إياها.

وكان بابا عروج بعد استقراره بالجزائر مطمئنًا إلى الانتصار على أعدائه، وقد زاد عددهم وتمكّنت عداوتهم له بتمكّنه من هذا المركز الحصين، ومطمئنًا إلى ثقة الشعب الجزائري المسلم به، ولكنه كان ممتعضًا من موقف البقية المهينة من سلالة بني زيان أمراء تلمسان، ومن سلالة بني حفص أمراء تونس، فقد كان كل من هذين الأميرين يصانع الأعداء ويماسهم ليحتفظ بلقب الإمارة ولو تحت حمايتهم.

والمتتبع لسيرة القائدين الأخوين حق التتبع لا يستخرج منها أنهما كانا طامحين إلى تأسيس مملكة يستقلان بسلطانها، كما يطمح إلى ذلك من تهيّأت له الأسباب مثلهما، أو يستعملان قوّتهما ضدّ الدولة العثمانية، كما فعل محمد علي حينما ملك مصر، وإنما هما رجلان كانت لهما لذة وذوق في هذا النحو الذي توجّها إليه، وزادت النزعة الإسلامية هذا الذوق فيهما تمكّنًا لأنّ فيه مع اللذة أجر الجهاد وحسن المثوبة عند الله، وإذا كان الجزائريون قد أسندوا إليهما الإمارة عليهم، فإنما ذلك للمصلحة العامة.

وعليه فما كانا يمتعضان لسلوك الأمير الزياني والأمير الحفصي في تمكين الأعداء من الوطن الإسلامي، طمعًا في ملكهما، وإنما كانا يمتعضان لاتخاذ العدو لهما مطية تخفف عنه العناء في الاستيلاء على أوطان المسلمين. ولذلك أقدم بابا عروج على حرب صاحب تلمسان فانتصر عليه واستولى على تلمسان، فتكشف الأمير الزياني عن خزية الدهر واستعان بالإسبان على بابا عروج، واستشهد بابا عروج في أثناء حرب تلمسان سنة 1518.

وولي الحكم بعده أخوه خير الدّين، فاضطلع بالحكم أقدر ما كان عليه، وبالحرب أقوى ما كان تمرّسًا بها واطلاعًا على أحوال أعدائه فيها. أما اضطلاعه بالحكم فللثقة المتبادلة بينه وبين الجزائريين وسكان الجهات التي انضمت إليهم باختيارها أو تغلّبوا عليها عسكريًا، ولأن

ص: 113

سيرة أخيه بابا عروج الصالحة زرعت لهما المحبة في قلوب الناس، فهيّأت له أسباب الاطمئنان، وأما اضطلاعه بالحرب فإن الولاية لم تلهه عن مواصلة الحرب مع الإسبان وغيرهم هجومًا ودفاعًا، وتوالت انتصاراته عليهم في البرّ والبحر، ومن وقائعه المشهورة فيهم، الوقعة التي انتصر فيها على الجيش الذي قاده شارلكان بنفسه، فكسره خير الدين شرّ كسرة.

ولما اشتهر اسمه، وعلا نجمه، واتسقت انتصاراته البحرية في البحر الأبيض، والبرية في سواحله الافريقية التي احتلّها اللاتينيون، وقع ذلك كله موقع الرضى والاغتباط في نفس الخليفة العثماني ورجال حكومته، لأنهم يعدون القائدين الأخوين من رجال دولتهم، ويعدون مفاخرهما الحربية جزءًا من مفاخرهم، وللدولة العثمانية من البحر الأبيض جزء عظيم وهو حوضه الشرقي: سواحل البلقان والأناضول وسوريا ومصر وليبيا، فإذا أضاف هذان القائدان إلى هذا الجزء العظيم سواحل افريقيا الشمالية إلى نهايتها في مضيق طارق، فقد حقّقا لها أغلى ما كانت تطمح إليه الدول العظيمة من آمال في بسط سلطانها على هذا البحر العجيب الذي يقول فيه شوقي:

أَيُّ المَمَالِكِ أَيُّهَا

فِي الدَّهْرِ مَا رَفَعَتْ شِرَاعَكَ

وما زال هذا البحر مجال غلاب بين الدول الناشئة على ضفتيه، وما زالت الحرب سجالًا بين ضفته الافريقية وبين ضفته الأوربية، ولم تجتمع الضفتان في يد واحدة كاملة لدولة واحدة بل لم تجتمع إحداهما إلا قليلًا، تهيّأ ذلك في بعض أجزائهما للفينيقيين ولليونان وفي معظمها للرومان، ولم تبسط ظلها على معظم سواحله إلا الدولة العربية والدول الإسلامية التي تفرّعت عنها، حتى سمّاه بعض المؤرخين (البحر العربي).

ووقائع خير الدين هي التي أيأست الإسبان من بلوغ أملهم في شمال افريقيا وهو أمل طويل عريض يفوق آمالهم في أمريكا الجنوبية، لقرب افريقيا منهم واتصالها بهم، وهي التي أخّرت الاستعمار الأوروبي لافريقيا قرونًا وهذا الشمال هو مفتاح افريقيا كلها ومن ملك المفتاح سهل عليه دخول الدار.

وافتقرت الدولة العثمانية إلى كفاءة خير الدين الحربية والبحرية، التي قامت الشواهد عليها من وقائعه وانتصاراته، فاستدعته إلى دار الخلافة وأسندت إليه قيادة أسطول الدولة، ليدع عنها العوادي التي بدأت تعدو عليها في هذا البحر. فاعجبوا لثلاثة أشياء تجتمع في ذلك الوقت، واذكروا ماذا يكون من آثار اجتماعها: أسطول دولة كامل، بقيادة خير الدين في البحر الأبيض، ونسبة البحر الأبيض من خير الدين نسبة عرين الأسد من الأسد، والأسطول أنيابه وأظفاره.

وتولّى ولاية الجزائر في غيبة خير الدين حسن آغا، من سنة 1533 ميلادية إلى سنة 1544. وفي أيام ولايته استولى خير الدين على تونس وألحقها بممالك الدولة العثمانية،

ص: 114

ومحا الدولة الحفصية من الوجود وقطع طمع الطامعين في إرثها، وانتظمت هذه الشطوط التي تبتدئ من القسطنطينية في مملك واحد.

وتولّى ولاية الجزائر- بعد موت حسن آغا- حسن باشا بن خير الدين، من سنة 1544 ميلادية إلى سنة 1552 ولم تزل من آثاره في مدينة الجزائر قلعة تُعرف (بحصن الآمبرور)(1)، ثم استدعي إلى دار الخلافة بأمر الدولة.

فتولّى ولاية الجزائر بعده صالح رايس من سنة 1552 ميلادية إلى سنة 1556، فزاد في رقعة الولاية قطعًا ثمينة اتسعت بها: أضاف إليها صحراء المقاطعة القسنطينية، ومدنها التي كانت مراكز إمارات صغيرة من بقايا المرينيين وغيرهم، وهي: تقرت وورقلة (وارجلان) المذكورة في حديث الدولة الرستمية، وهذا الوالي هو الذي قضى على بقايا الزيانيين ودولتهم بتلمسان، وضمّها إلى الجزائر، وهو أول من غزا المملكة المراكشية من الولاة الأتراك، في عهد ملوكها السعديين، فهاجمهم برًّا وبحرًا، ونصب في فاس ملكًا من أعقاب المرينيين، وما هذه المحاولة إلا تحقيق لأمنية كانت تنطوي عليها نفسا القائد الأكبر بابا عروج وأخيه خير الدين، وقربها ما تسنّى لهما من الفتوحات المظفّرة. هذه الأمنية هي أن يضما المملكة المراكشية إلى ممالك الشمال الافريقي التي أنقذوها من الاستعمار اللاتيني، وهما يرميان بذلك إلى غرضين: الأول إلحاقها بالدولة العثمانية دولة الخلافة، والثاني قطع أطماع الإسبان فيها، ولعلّ لهما غرضًا آخر أشرف، ينتج عن النجاح في هذه المحاولة، وهو إعادة الكرة على الأندلس، والأخذ بثارات الإسلام من الإسبان، وهذه الكرة لا تتصوّر في ذلك الحين إلا باجتماع مراكش والجزائر وتونس في يد كيد بابا عروج وأخيه، وإدارة عسكرية موحّدة كإدارتهما، وقيادة كقيادتهما، ذلك لأن الإسبان تمرّسوا بهذه الدول التي نشأت بالمغرب الإسلامي في جميع عهودها، ونزعت هيبتها من نفوسهم من لدن يوسف بن تاشفين وعبد المؤمن وأبي الحسن، وما أقدم الإسبان على ضربتهم التاريخية الجريئة لمسلمي الأندلس إلا بعد أن استيقنوا أن هذه الدويلات لم تبق فيها فضلة إنجاد لِمستصرخ.

إن ايمان الرجلين مضافًا إليه ما تحدثه الانتصارات المتوالية في نفوس القوّاد الشجعان، لا يبعد بهما عن هذه (التهمة) تهمة العزم على استرجاع الأندلس إلى حظيرة الإسلام، أما كونها كانت أمنية لهما فهذا ما نتحقّقه لأنها كانت أمنية كل مسلم على وجه الأرض. ولقد تجدّدت محاولة إلحاق مراكش بالممالك العثمانية مرّة أخرى من والٍ آخر من ولاة الجزائر، وهو قائد رمضان، بعد هذه المحاولة ببضع وعشرين سنة، ولكنها لم تفلح، ثم لم تتكرّر المحاولات الجدية بعد ذلك.

1) حصن الآمبرور: حصن الامبراطور، ويسمّى قلعة مولاي حسن، وهو ابن خير الدين بربروس. والامبراطور المقصود هو شارل الخامس الذي أغار على الجزائر سنة 1541، وهزم هزيمة ساحقة.

ص: 115

ثم تعاقب الولاة على الجزائر بالتعيين الرسمي من الدولة العثمانية، ولا يتسع الوقت لسرد أسمائهم، وذكر أعمالهم وشرح سياستهم، ولكن واحدًا منهم لا يحسن بنا عدم التنويه باسمه، ولا يحسن بكم جهله، وهو (قلج علي)، تولّى الجزائر من سنة 1568 ميلادية إلى سنة 1571.

اشتهر هذا الوالي بالشجاعة والقوّة والحزم والبراعة في قيادة الأساطيل الحربية، وشارك بأسطول الجزائر في الموقعة البحرية الكبرى التي تألبت فيها الأساطيل الأوربية، على الأسطول التركي حتى حطمته، ولم ينجح منه إلا الأسطول الجزائري الذي يقوده قلج علي هذا، ولم يغنم النجاة بأسطوله فقط، بل غنم من أعدائه مغانم أهمها في المغزى، المركب الذي يحمل علم البابا. وكانت من عواقب هذه البطولة أن نقلته الدولة العثمانية من الجزائر إلى دار الخلافة ليقوم بتجديد الأسطول وتنظيمه، وليس في ولاة الجزائر بعده من يحتفظ له التاريخ بمنقبة حربية بكر، وإن كانت لبعضهم مآثر دينية أو عمرانية تستحق التخليد.

بفشل المحاولات الرامية إلى الاستيلاء على المملكة المراكشية وإلحاقها بالممالك العثمانية، وبتقسيم الجزائر إلى ثلاثة أقسام مركزها الجزائر العاصمة، وبالاستيلاء على المناطق الصحراوية وضمّها إلى ما يسامتها من تلك الأقسام الثلاثة، بذلك كله تميّزت حدود الجزائر الحالية تقريبًا، ولم تبقَ إلا مواطن للقبائل المتداخلة لم تزل محل نزاع إلى وقت قريب، وطالما اتخذت منها فرنسا ذرائع للشقاق والتحرّش في عهد استعمارها، وهذه الحدود كلها إدارية لا تشهد لها الطبيعة بحق، ولا يهم إنسان بوضع العلامات الفارقة فيها إلا طمستها الجوامع من صنع الله فكان كالراقم على الماء، وأول ما حدّدت هذه الحدود الإدارية في العهد التركي.

والعهد التركي هو أطول عهود الحكومات المتعاقبة على الجزائر في تاريخها الإسلامي، ولم تتسع رقعة الجزائر على دولة من الدول التي نشأت مثل ما اتسعت في العهد التركي.

فمدة العهد التركي العثماني في الجزائر ثلاثمائة سنة وتسع عشرة سنة، وينقسم إلى خمسة أدوار، بحسب نوع الولاة الذين تعاقبوا على حكم الجزائر.

ـ[الدور الأول]ـ: حكم بابا عروج وأخيه خير الدين، من سنة 1512 إلى سنة 1546، فمدّته 34 سنة.

ـ[الدور الثاني]ـ: حكم البايلاربايات، من سنة 1546 إلى سنة 1587، فمدّته 41 سنة.

ـ[الدور الثالث]ـ: حكم الباشوات الثُّلاثِيني (2) من سنة 1587 إلى سنة 1659، فمدّته 72 سنة.

2) الثلاثيني: كان الحاكم العثماني في الجزائر في هذه الفترة يحكم ثلاث سنوات ثم يخلفه حاكم آخر لنفس المدة

ص: 116

ـ[الدور الرابع]ـ: حكم الأغوات من سنة 1659 إلى سنة 1671، فمدّته 12 سنة.

ـ[الدور الخامس]ـ: حكم الدايات من سنة 1671 إلى سنة 1830، فمدّته 160 سنة.

هذه إلمامة عاجلة بالعهد التركي في الجزائر، وتاريخ هذا العهد حافل بالأحداث، ملوّن بألوان الولاة، إذ كان منهم الظالم لنفسه وللناس، ومنهم المقتصد، ومنهم الصالح، ولكن صلاح الصالح منهم كان من ذلك النوع التركي الذي يظهر في بناء مسجد حيث تكثر المساجد، فلا يكون جامعًا بل مفرّقًا، أو في بناء ميضأة للوضوء أو سبيل للشرب أو إقامة ضريح أو قبّة لولي حقيقي أو وهمي، أو وقف مال على سبيل الخير، وهذا النوع هو أنفع أعمالهم لو دام.

أما تاريخهم السياسي والإداري، فصفحاته الأولى كانت مشرقة بأعمال بابا عروج وخير الدين الحربية وانتصاراتهما فيها، وقد غطّت المحاسن فيها على المساوئ، واعتبرهما الناس منقذين للإسلام وأوطانه- وهو الحق- فلم تبقِ عين الرضى لعين السخط مجالًا، وجاء مَن بعدهما فخلطوا عملًا صالحًا وآخر سيّئًا، وطال العهد فثقلت الوطأة وساء الجوار، وفشت الرشوة والمصادرات وسفك الدماء ففسدت القلوب والنيّات، واختلّت الأحوال تبعًا لاختلالها في أهل الدولة العثمانية، فعمّ الظلم من الولاة وأتباعهم إلى آخر موظف في الدولة، واستبدّ كل وال بالمقاطعة التي يحكمها من المقاطعات الثلاث قسنطينة والجزائر ووهران، وكانت آثار تلك الحالة في الأمّة شقاقًا وتمرّدًا على النظام وسوء أخلاق، ومع ذلك التناهي في فساد الإدارة وانفصام العلائق بين الحاكم والمحكوم، فإن قوة الجزائر العسكرية كانت مرهوبة عند خصومها اللاتينيين حتى أن بعضهم كان يستعدي الجزائر على بعض، وكان يستنجدها فتنجده عسكريًا، ويستتقرض منها المال فتقرضه، وكان استقلال الجزائر بذلك محفوظًا في الخارج، وإن كان ضائعًا في الداخل، وكان ضياعه في الداخل هو الذي مهّد للطامة الكبرى، وهي احتلال فرنسا للجزائر.

وأما الحالة العلمية في ذلك العهد فهي الصفحة المغسولة من ذلك التاريخ، بل هي الصفحة السوداء في تاريخ الجزائر العلمي، فما رأت الجزائر عهدًا من عهودها أجدب من العهد التركي في العلم، ولا أزهد من حكوماته فيه، ويعلّل كثير من الناس ذلك بأن من خصائص الشعب التركي أنه شعب حرب لا علم، وقد يكون هذا التعليل قريبًا من الحق، لأنه اطرد في كثير من الشعوب التي حكموها باسم الخلافة الإسلامية، يعنيه شوقي بقوله فيهم:

رفعوا على السيف البناء فلم يدم

ما للبناء على السيوف دوام

ومن العجيب أن تكون الدول البربرية التي قامت بالجزائر أحفظ لذمام العلم واللغة العربية من دولة الخلافة الإسلامية، فالدولة الرستمية والدولة الصنهاجية والدولة الزيانية جرت

ص: 117