الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى مؤتمر التعريب بالرباط *
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلتني دعوة الأخ العربي المحترم، وزبر التربية الوطنية في المملكة المغربية للحضور في مؤتمر التعريب، ولكن الدعوة لم تصلني إلا يوم 24 مارس بحيث لم يبق على موعد انعقاد المؤتمر إلا نحو أسبوع، وبلغتني الرسالة وأنا ملازم للفراش من مرض أقعدني عن العمل مدة أربع سنوات، فلم أستطع السفر البعيد وأنا على هذه الحالة، ولم أستطع كتابة بحث مفصّل للمؤتمر في بعض ما يتناوله من بحوث في موضوع التعريب، فقلت في نفسي:
هلا واللسان بليل والقلم له صليل، والجسم لا واهن ولا كليل، وقلت لنفسي: وما حاجتنا إلى التعريب ونحن عرب؟ فقالت لي: ما أحوجكم إلى من يطبعكم طبعًا عربيًّا منقّحًا مصحّحًا، بعد أن طبعكم الاستعمار هذه الطبعة المشوّهة الزائفة، ولكني تحاملت وكتبت هذه الكلمات المتهافتة، تتضمن ما أبقته الأيام في ذهني من معان متخافتة.
والتعريب جعل الشيء عربيًّا سواء كان معنى أو مادة، أو إنسانًا، وقد طمعت فيه مخلوقات كثيرة حتى الاستعمار الذي هو معنى من معاني الوحشية ولكنه لبس لفظًا جميلًا من لغتنا ليغرّنا به، فهي تسمية بالضدّ كما سمّوا المهلكة مفازة، واللديغ سليمًا. ولو كنا ممن يغار على لغته أن يدخلها الدخيل من الألفاظ والمعاني لما تركنا هذه الكلمة تجول في لهواتنا، ولأطلقنا عليه اسمه الحقيقي وهو التخريب، إذ لا يوجد في العربية "استخراب" وهو في حقيقة معناه نظام أملاه الشيطان على أوليائه، وأوحى إليهم تفسيره العلمي منتزعًا من طبيعته التي عاهد ربّه عليها بعد خروجه من الجنة، وحدّد لهم حدوده الستة بعلامات اسمها: الشرّ، والمنكر، والظلم، والعلوّ، والفساد، والفحشاء، والتخريب، والأثرة، والغرور، والفتك، والسفك، والافك، والانتهاك.
* رسالة إلى مؤتمر التعرب الذي انعقد بالرباط عام 1961.
ما حلّ الاستعمار بقوم إلا ساء صباحهم وعلا نواحهم، ولا حلّ بأرض إلا أباد خضراءها واحتجن أرزاقها، واحتنك أقواتها، واستعبد أهلها، واستباح حرماتها، وأخنى على مقوّماتها الحسّية والمعنوية، وكل هذا شيء مشهور أصبح الحديث عنه ضربًا من العبث ومضيعة للوقت، خصوصًا بعد أن أدبرت أيامه ونكست أعلامه في أغلب بقاع الأرض التي عاث فيها فسادًا، وملأها فجورًا وفواحش.
إن من أخصّ خصائص الاستعمار التي يبني عليها أمره قضاءه على المقوّمات الحيوية للأمم التي يلتهمها، فيبتليها بالضعف والوهن، وأسباب الموت البطيء أو الوحيّ. يريك أنه محافظ على مقوّماتك محترم لها، ويحلف على ذلك مُحرِجات الأيمان في الوقت الذي هو عامل على هدمها، وإتيان بنيانها من القواعد.
يبدأ بالوطن فينتزعه من أهله بالقوّة ثم يأتي بفلول من فقراء، أو وحوش وطنه الأصلي فيحلّهم محلّ أصحاب الوطن الأصليين، ويورثهم أرضهم وديارهم ثم يمتص أموال
الأغنياء المستعبدين بطرق شتّى آخرها فرض المغارم الثقيلة على كل بالغ وعلى داره التي يسكنها ولو كانت كوخًا، ثم على كل رأس من الحيوانات التي يملكها حتى الكلاب، وعلى كل حرفة يمارسها ويعيش العيش المقتر مما تفيء عليه، ثم ينتقل للجنس الذي يعتزّ المستعمر (بفتح الميم) بالانتساب إليه فيتجاهر بتنقصه واحتقاره وطمس مفاخره بجميع الوسائل، ويتعمّد محو تاريخه المدوّن وتجريح شواهده، وإلصاق جميع النقائص به، ثم ينتقل إلى الدين فيبتليه باحتكار وسائل حياته من أوقاف وغيرها ويضع يده على رجاله ويضيق في إقامة شعائره، ويغزوه بالمبشرين المتعصبين ثم ينتقل إلى اللغة- وهي المقوّم الأعظم للأمم- فيرميها بالتهوين والتوهين، ويحرّم تعليمها إلا بإذنه، ويثقلها بالقرارات والقوانين الجائرة حتى يصير تعليم القدر التافه منها شبه مستحيل، ثم يكاثرها بالرطانات الأوربية الجليبة فيفسح لها المجال ويمنحها العطف والرعاية لأنها لغة "الأسياد"
…
هذا إيجاز لوصف الاستعمار على عمومه ولموقفه من مقوّمات الأمم التي تبتلى به.
والآن ننفث زفرات حارة من استعمار واحد بلوناه وعرفناه عرفان اليقين وهو الاستعمار الفرنسي، في وطن واحد هو الشمال الافريقي، في مقومّ واحد وهو اللغة العربية.
كان للاستعمار الفرنسي عند اللسان العربي تِرَاتٌ وطوائل، فهو لا يزال يجهد جهده في محوه واستئصاله من الألسنة، وقد ارتكب جميع الوسائل الموبقة لمحوه من الجزائر، أما مراكش وتونس فلولا مكان القرويين في الأولى، والزيتونة في الثانية، لفعل بالعربية فيهما كل ما فاته فعله معها في الجزائر، وما فاته إلا القليل، وإن له لبرامج محضّرة يدّخرها لوقت الحاجة، فما فاته في بعض الأوطان، أو كان من المصلحة تنفيذه مطاولة، لا يفوته تنفيذه في
وطن آخر مغافصة وبدون تردّد، وأبرز مثال لذلك: قضية الظهير البربري المشؤوم، فقد كان من المقرّر عنده تنفيذه في الجزائر مطاولة، فلما لم يستطع تنفيذه لأسباب، نفذه في المغرب الأقصى حتى محاه الاستقلال، كما محت قريش صحيفة القطيعة، وقد بلغ غضب الاستعمار الفرنسي على اللسان العربي في الجزائر أن أصدر أحد رؤساء حكومة فرنسا وهو "شوطان" ( Chautemps) قرارين عجيبين في شأنه في يوم واحد: الأول عطّل به جريدة من جرائد جمعية العلماء العربية، وختمه بما معناه: إن كل جريدة تصدرها جمعية العلماء في الجزائر باللغة العربية في المستقبل فهي معطّلة سلفًا، من دون احتياج إلى إصدار قرار بالتعطيل، والثاني حكم بأن اللغة العربية في الجزائر تعتبر لغة أجنبية لا يجوز تعلّمها ولا تعليمها إلا بإذن خاص من الحكومة الاستعمارية، هذا والشعب الجزائري شعب عربي صميم، ولنترك لرجال القانون الحكم على هذين القرارين.
وقد وصلت فرنسا إلى بعض غاياتها في بعض أبنائنا الذين حصلوا حظًا من الفرنسية في كل من تونس والجزائر والمغرب الأقصى، فأصبحوا يعتقدون أنها قاصرة عن أداء المعاني العالية في الفلسفة وجميع العلوم العقلية والنفسية والصناعية يلوون ألسنتهم بهذا في مجالسهم الخاصة والعامة، ويلوح لسامعيهم أن أحاديثهم تشفّ عن إعجاب بالفرنسية وتعريض بالعربية، وإن هذا وحده لغميزة في عروبتهم ووطنيتهم ودينهم، وإن هذا لشر آثار الاستعمار في النفوس وأفتك أسلحته في أجيالنا الناشئة في ظل سيطرته منذ طراوة العود، والواقعة تحت وسوسته وسحره، وإن الذنب لذنب المجتمع الذي لم يأخذ بأسباب الحيطة لأبنائه وذنب الحكومتين التونسية والمراكشية اللتين لم تحتاطا للغة الأمّة ودينها، أما الجزائر، فاحمدوا الله على أن وصلتكم منها هذه الأشلاء الممزقة من العربية، وهذه الصورة الجافة من الدين.
والآن وقد تقلّص ظلّ الاستعمار الفرنسي أو كاد بعد أن ترك فينا ندوبًا يعسر محوها، فماذا أعددنا لعلاج الندوب التي تركها في مجتمعنا؟ وماذا ادّخرنا لعهد الاستقلال السعيد إذا أردنا أن يكون استقلالًا حقيقيًّا لا شبهة فيه، وماذا هيّأنا من الأشفية للداء العضال الكامن في بعض النفوس، وهو الحنين إلى أبغض العهود إلينا، وهو عهد الاستعمار الفرنسي؟ التجارب تدلّ على أنها ستبقى فينا بقية غير صالحة تحمل ألسنة تحن إلى اللغة الفرنسية، وتختار مخرج الغين الباريسية على مخرج الراء العدنانية، وتتمنّى عاهة واصل بن عطاء لتستريح من النطق بالراء، وأفئدة "هواء" تحن إلى فنون فرنسا وفتونها، وعقول جوفاء تحنّ إلى التفكير على النمط الفرنسي، ونفوس صغيرة تحن إلى حكمها الذي يرفع الأذناب على الرؤوس وهمم دنية تحن إلى حمايتها المبسوطة على الرذائل والشهوات الحيوانية والغرائز الدنيا، فقد كان حكمها في الجزائر يحمي السكير بدعوى أنه حرّ، ويعاقب معلم العربية بالسجن والتغريم بدعوى أنه مجرم ثائر على القانون.
أيها الإخوان المؤتمرون:
إن مؤتمركم هذا لم يعقد لتضميد جميع الجراح التي أبقاها الاستعمار فينا، فهي كثيرة، وعهدنا بالصحو من خُمار الاستعمار قريب، وقد ترك فينا ما يشبه الشلل في أعضاء العمل وسيضطرنا الحال إلى عقد مؤتمرات عديدة، في فترات متقاربة لمعالجة بقية الجراح، فلنرتّبها بحسب الأهمية، حتى لا يضيع الوقت والجهد والمال، ولعلّ من إلهام الخير وبوادر التوفيق أن نبدأ بمعالجة التعريب الذي هو أكبر شعار للاستقلال، وهيهات أن يتحرّر شعب ولسانه مستعبد للغة أجنبية، أو يتحرّر شعب متنكّر للسانه، فاستقلال العرب لا يتمّ تمامه إلا بتعرب ألسنتهم وأفكارهم وهممهم وذممهم، إلى آخر ما للعرب من صفات وأخلاق.
أيها الإخوان:
التعريب نوعان: نوع جزئي ونوع كلّي، فالتعريب الجزئي هو تعريب الألسنة والأقلام وآثارهما من خطابة وكتابة، ويدخل فيه تعريب الدروس التعليمية، والثاني يشمل هذا، ويشمل التخلّق بأخلاق العرب والتحلّي بكل ما اشتهر عنهم من محامد وفضائل، ويظهر مما وصلني من جدول أعمالكم أنكم تقصدون الأوّل، فلنجرِ معكم في هذا العنان، ولنعرب ما استطعنا من الألفاظ، والمصطلحات، والتعليم، وكتبه، وأساليبه، ولغته، ولننقح على قدر الإمكان، ولنكل بقية التصفية والغربلة للزمن، فإننا اليوم في وقت ضرورة تتقاضانا الاستعجال في كل شيء، وليس المستعجل كالمتأني، ولنطهر لغتنا من أوضار الاستعمار ولغاته، ولا ندع أجيالنا الناشئة تنشأ على اعتقاد ناقص في لغتها، بل نتحيّل لها في جلب معاني الاعتزاز بها، ونغرس فيها معاني التمجيد لها. ولسنا بدعًا في هذا النوع من التعريب، فقد سبقنا إليه إخواننا في الشرق العربي، وكان أسبقهم إليه وأسرعهم خطى فيه إخواننا السوريون، فما خرجوا من التسلط التركي حتى كانت كتب التربية والتعليم على اختلاف فروعه جاهزة باللسان العربي، وكذلك كتب الطب والصيدلة والحقوق ومصطلحاتها، وكانت الجهود التي قامت بذلك جهودًا فردية، وما تمّ أسبوع على الجلاء التركي حتى ظهرت كتب عربية موضوعة ومترجمة في التعليم بجميع مراحله، وللسوريين إلى الآن نشاط محمود في هذا الميدان ولصديقنا الدكتور أحمد حمدي الخياط شيخ المتخصصين في التحليلات الكيماوية طريقة معروفة هو فيها نسيج وحده، فهو يأبى أن يكتب كلمة غير عربية في الفرع الطبّي الذي هو من اختصاصه، وقد سمعت منه مرّات أن العربية تتسع لدقائق الطب الذي برع فيه العرب، إذا استثنينا كلمات قليلة يونانية أو فارسية أدخلها الفارابي وابن سينا من ميراثهما الفارسي.
ومصر- وما أدراكم ما مصر- فقد كان لكتابها ولمجمعها اللغوي آثار مشهورة في تعريب الألفاظ والمصطلحات العلمية، وكان لعلمائها البارزين- كثّر الله عددهم- أياد على العربية بما وسّعوا من آفاقها، وما نموا من ثرواتها.
فهؤلاء الإخوان هم السابقون الأولون في هذا الميدان، فلنأخذ عنهم ولنقلّدهم ولنتّبع خطواتهم في التعريب من غير أن نقصر التقصير الشائن، أو نندفع الاندفاع المتهوّر أو نتبعهم في ما أخطأوا فيه، أو نتساهل في ما تساهلوا فيه، فإن المتأخر متعقب، وعسى أن يرزقنا الله صوابًا نكون به قدوة لمن بعدنا، ومرجعًا لمن سبقنا، فإن الحق لا يتقيّد بزمان ولا بوطن.
أيها الإخوان المؤتمرون:
هذا كله في التعريب المستعجل، كالتهنئة التي تقدّم للضيف قبل حضور القِرَى، أما ما يلزم بعد هذا من إعداد واستعداد، فيلقى كله على كاهل المدرسة الابتدائية وتلامذتها، فالألف المهملة التي يلغو بها صبياننا في كتاتيبهم وأكواخهم وملاعبهم هي مفتاح التعريب الواسع.
يجب في هذا المضمار أن تتلاقى الجهود على تعريب المدرسة الابتدائية وتعريب أبنائها، وتعريب التعليم، وتوحيد أساليبه، وكتبه، في جميع المراحل طبقًا للروح العربية، وانتقاء الكتب هو أساس التعريب، وخصوصًا في المرحلة الابتدائية التي هي مرحلة التكوين اللغوي، ويجب إدخال متن اللغة في هذه المرحلة على طريقة ابن سيده في "كتاب المخصّص"، وصوره المصغّرة ككتاب "كفاية المتحفظ" للاجدابي، و"الألفاظ الكتابية" للهمداني، وطريقة ابن سيده هي ترتيب الألفاظ اللغوية على المعاني لا على الحروف الهجائية، وأحسن كتب الدراسة للصغار هما:"كفاية المتحفظ"، و"الألفاظ الكتابية"، يبدأ التلميذ في معرفة أسماء أعضاء جسمه في اللغة الفصيحة ومعرفة ما هو منسوب إليها من الأعمال، وكل ما هو متصل بها، ثم يتدرج إلى معرفة الأشياء المتصلة به مما يقع تحت نظره ويدخل في تصرفاته اليومية، فلا ينتهي من هذه المرحلة إلا وهو حافظ لجزء كبير من اللغة، ومحسن للتصرف فيه من دراسته "للألفاظ الكتابية" للهمداني، وأنا لا أعني الكتابين بعينهما، بل يجب أن تؤلّف لهذه المرحلة كتب لغوية صغيرة، على غرار الكتابين اللذين مثّلت بهما، إذ هما من أثمن ما ترك لنا سلفنا من الكتب الموضوعة لتربية ملكة اللغة العربية في الصغار، وتقرّب انطباعهم على لغتهم من طريق سهل طبيعي لا عوج فيه، ويجب حمل التلامذة على التكلّم بالعربية الفصحى ما داموا في المدرسة، وتدريجهم على الكلمات السهلة، ثم الجمل الفصيحة، ثم التراكيب الجارية على القوانين العربية، فلا يجاوزون مرحلة التعليم الابتدائي إلا وهم عرب "صغار". ومن الحكمة في هذه المرحلة أَلَّا ينطق المعلمون أمامهم بكلمة أعجمية حتى لا تخدش ملكاتهم، فإن كلمة واحدة قد تفسد كل عمل.
ومن العجيب أن التعليم الأوربي اليوم يسلك في تعليم اللغات مسلكًا قريبًا من طريقة الاجدابى والهمداني.
ثم تأتي المرحلة الثانوية تتوسّع لهم في القواعد والتراكيب التي تقوّي ملكاتهم وتنفيها، ونتساهل قليلًا في إدخال الألفاظ الأعجمية في علوم الطب والكيمياء وسائر العلوم الكونية الداخلة في منهاج التعليم الثانوي، إن كانت تلك الألفاظ اصطلاحية عامة وضرورية، وليس لها مرادف عربي، أو تفسّر لهم بما يقاربها ولو بجمل، وأن يمرّنوا على الخطابة ويكلّفوا بإلقاء محاضرات قصيرة تنتقَى لها الألفاظ والتراكيب، وأن تفرض عليهم مطالعة كتب مختارة فصيحة، بليغة، سهلة، لترسخ فيهم الملكة العربية، وألا تكثر لهم حصص اللغات الأجنبية حتى لا تتصادم اللغات في أذهانهم فينشأوا ضعافًا في الكل، فيبنغي أن نفهم نحن ويفهم أبناؤنا أن اللغة العربية هي رأس المال الذي تجب المحافظة عليه، وأن اللغات الأجنبية هي ربح فلا تعطى من العناية ولا من الوقت إلا ما لا يزاحم لغتنا الأصيلة، ولا يبتليها بالضعف، ولا يمسّ قدسيتها عندنا.
ثم تأتي مرحلة التعليم العالي فتكون الملكة العربية قد استحكمت في التلميذ وتمّ "تعريبه" على أكمل وجه، فإذا توسّع في اللغات الأجنبية فلا يخشى عليه انتكاس ولا تراجع، ولا استعجام، لأن لسانه أصبح عربيًّا، يؤيّده فكر عربي، وعقل عربي، فلا تزاحمه لغة أخرى مهما توسّع في أصولها وفروعها، ولأن أفكاره وتصوّراته الذهنية أصبحت كلها عربية، يملك تصويرها والتعبير عنها باللغة العربية بسهولة. وإن هذا هو موضع الخطر على أبنائنا المتعلمين بلغة أجنبية من غير أن يسبق لهم إلمام بلغتهم. ذلك أنهم يحملون في أنفسهم، ككل البشر، تصوّرات ومعاني كثيرة وحقائق علمية وتخيلات ذهنية، ولا يستطيعون بيانها والتعبير عنها بلغتهم العربية في حال أنهم يستطيعون التعبير عنها باللغة الأجنبية التي يتقنونها، فأدّت بهم هذه الحالة بالتدريج إلى كراهية العربية، وانتهت بهم إلى بغضها، ثم إلى الحقد عليها واتهامها بأنها لغة قاصرة، ضعيفة، أو ميتة، لا تستطيع أن تزاحم اللغات، أو تقوى على حمل الحضارات، ثم تنتهي بهم هذه الحالة إلى الانسلاخ من العروبة، وإلى احتقار الدين الذي تترجم عنه هذه اللغة، وذلك هو الضلال البعيد، وفاتهم أن هذه العيوب التي نحلوها للعربية هي بريئة منها، وأن العيب فيهم وحدهم إذ لم يتعلّموا لغتهم، ولم يفقهوا أسرارها ولم يتذوّقوا بيانها، ومن جهل شيئًا عاداه.
وبتعريب المدرسة من الكتّاب إلى الجامعة، وتعريب التعليم من المعلّم إلى الكتاب نكون قد عرّبنا جماعة تقوم بتعريب الجماعات وتعريب الاجتماع وتعريب البيوت، وإن أكبر عقبة تلقانا في هذا الطور هي تعريب المعلم، فيجب أن نحتاط لها وألا نكل تعريب أبنائنا إلى معلم غير معرّب، ونحن نتوقع أن نقع في هذه النقطة في ما يشبه الدَّوَرْ، ولكننا نستطيع الانفكاك عنه بحزم الحكومات، وإدرار النفقات. فعلى الحكومة وعلى وزارة المعارف المختصة أن تبدأ هذه المرحلة بتأليف الكتب الابتدائية ووضعها على ما يوافق مناهج
التعريب، وتطبعها، وتأخذ العهد على معلمي هذا الطور أن يلتزموا ما في تلك الكتب ولا يخرجوا عنها يمينًا ولا شمالًا، فالمعلم مهما كان ناقص التعريب يستطيع الاهتداء بالكتاب الكامل، والصعوبات إنما تعترضنا في تعريب الجيل الأول، فلا بدّ لنا من الصبر الطويل، والحزم الحازم، والحكمة الحكيمة، لنتغلّب على جميع الصعوبات، ونجتاز جميع العقبات، ولا تُبتنى الراحة إلا على التعب.
وأما النوع الكلّي من التعريب، هو التعريب الشامل النافع، وهو غاية الغايات لكل عامل مخلص للعروبة. فلا يتمّ تمامه بالعلم وحده، وإن بلغنا فيه عنان السماء، فالعلم وحده لا يفيد إذا لم تصحبه في كل خطوة تربية نفسية على شمائل العرب وهممهم، وبطولتهم، ووفائهم، وصدقهم في القول، والعمل والحال، وتضحيتهم، وإبائهم، وإيثارهم، وكرمهم، وشجاعتهم، واحسابهم، وقد قال تعالى في وظيفة الرسول:{وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} .
فقدّم التزكية التي هي التربية على تعليم الكتابة والعلم، وهذا النوع من التعليم الكلّي يجب أن تقوم به جماعات من خطباء المساجد ومن الوعّاظ، ومن حملة الأقلام العربية المسلمة، فيتواطأوا جميعًا على نغمة واحدة وهي أن الإسلام عرّب جميع معتنقيه بالانتساب إليه، وأن كل من تكلّم العربية فهو عربي، وأن العربي لا يكون عربيًّا حتى يكون فيه كل ما أُثِر عن العرب من شمائل وأخلاق.
إذا تمّ لنا التعريب بنوعيه الجزئي والكلّي، نكون قد حصلنا على نتيجة عجز عنها من قبلنا من الدعاة المصلحين، وأدّينا حق الله وحق دينه وحق العروبة على أكمل وجه، وقمنا بالأمانة والعهد كما أمر الله، ومهّدنا للقومية العربية الكاملة بإزاحة العقبات من سبيلها، وجمعنا ما فرّقت السياسة والسياسيون منا ومن الأجانب وأنفهم راغم، وأصبحنا بهذا التعريب الشامل إذا طلبنا معلّمًا وجدناه عربي اللسان والشمائل والهمم والأخلاق قبل أن نجد فيه معلّمًا، وإذا طلبنا خطيبًا واعظًا وجدناه كذلك قبل أن نجد فيه الخطيب، وإذا طلبنا طبيبًا أو صيدليًّا أو محاميًا أو فنانًا أو قاضيًا أو جنديًّا أو شرطيًّا أو غيرهم، ممن تقوم بهم مصلحتنا العامة، وجدناهم عربًا بلسانهم، وشمائلهم، وأخلاقهم، وهممهم قبل أن نجد فيهم الموظف الشخص.
نحن معشر العرب أصبحنا في حاجة ملحّة إلى التعريب في كل علائقنا بالحياة، فنحن في حاجة إلى تعريب ألسنتنا وأفكارنا وعقولنا وأذهاننا وتصوّراتنا، وأكاد أقول ولباسنا ونعالنا وأساليب معاشنا، وهيئات أكلنا وشربنا ونومنا، وأثاث بيوتنا، فقد عمّ حياتنا كلها المسخ والقلب، ورمانا الاستعمار بالناقرة وهي فساد الأخلاق فينا، فلم يبقَ من سمات العرب شيئًا إلا توافه ودعاوى على الألسنة.
أيها الإخوان المؤتمرون:
إنكم بعملكم هذا تقومون بواجب عن جميع أقطار العروبة، فاعملوا وأَتْقِنُوا، واصبروا وشدّوا عزائمكم، واقرنوا الأقوال بالأعمال، فقد مضت أعمارنا في الأقوال بدون أعمال حتى ساورنا القنوط وكدنا نيأس من روح الله، فكم من اجتماعات دُعي إليها من قبلكم وانفضت من غير نتيجة، وكم من أنهار من المداد سالت في هذا السبيل، ولم تنته إلى مفيد، فكفّروا عن سيّئات من قبلكم، بالجد والعزم والحسم والإنجاز.
وفّقكم الله وسدّد خطاكم وجعل البركة في أعمالكم وأصحبكم التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.