الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-128 -
كتاب مفتوح إلى الأستاذ أحمد أمين
هذه رسالة بعثت بها إلى الأستاذ أحمد أمين رحمه الله مطويّة، فنشرها في «الثقافة» وعلّق عليها. وهذا نصّ الرسالة:
كان هنا شاعر لم يعرفه الناس حتى عرّفتهم به هدآتُ الأسحار؛ إذ كان يطوف فيها على مرابع حيّه، يغنيها على ربابه أعذب ألحانه وأشجى أغانيه، وكان ينادي الليلَ الراحل بأرقّ أسمائه فيلتفت الليل ويقف لحظة يصغي إليه، والفجرَ يستحثّه على الرحيل، وتنصت إليه قلوب العاشقين، فإن غنى بـ «يا ليل» هاج بها الشجن فأجابت من لوعتها بـ «آه!» ، ويعرفه القمر لأنه كان يسكب في نوره ألحانه، فتطفو على وجه النور، ثم تسيل من رقتها فيه وتمتزج به امتزاج الراح بالماء، فيشرب فيه أرباب القلوب خمرة نورانية تهيج في نفوسهم سكر الحب الطاهر والعاطفة الخيّرة.
وعرَّفتهم به الضمائر المؤمنة، إذ كان يهتف بها مع الفجر بالنشيد العلوي الذي يوقظ في نفس الإنسان الذي يسمعه «المَلَك» ، فإذا استيقظ فيه المَلَك خنس «الشيطان» واستخذى «السبع» ، فتعرف بنشيده لذة الإيمان، وما في الأرض لذة كلذة الإيمان.
شاعر لم يكن يعرف فضلاً (أي زيادة) من عَروض الأوزان ولا سُلَّم الألحان، ولكنه يعرف كيف يعتصر قلبَه بيد الألم وكيف يُذيب نفسه بلهيب الذكريات، ثم يجعل من ذلك أشعاره التي يغنيها على ربابه، فتميل إليه القلوب وتحنو عليه، وتجد عنده الأنس والاطمئنان.
غنّى للإيمان وللوطن وللحب، وأكثر الغناء. ولكن النغمة البارعة التي تجيش بها نفسه لم يتحرك بها لسانه، ولا جرَت بها يده على ربابه إلى اليوم. من أجل هذا كنت تراه -إذْ تراه- حائراً مضطرب الجوانح زائغ البصر، كأنما يفتّش في الفضاء عن شيء أضاعه، يفتّش وراء أفق الزمان عن الشيء الذي لم يجده فيه، فهو لا يفتأ ينظر إلى ماضيه يقلّبه ويجوس خلاله علّه يجد فيه ضالّته، فإذا افتقدها عاد إلى الآتي، يحاول أن يستشفّ بعين الأمل ما خَلْفَ بابه، فلا يشفّ البابُ عن شيء
…
أما الحاضر فلا شأن له به ولا يعنيه أمره.
أُعجب به الناس لما عرفوه وأحبوه، ثم ألفوه واطمأنّوا إليه، ثم تعودوا أن يروه ويسمعوه، فأضعفت العادة شعورهم به، فكانوا لا يدرون به إن حضر ولكنهم يفتقدونه إذا غاب
…
ثم أصبحوا لا يعنيهم فقده ولا يعزّ عليهم غيابه!
وطرَقَ الحيَّ «شعراءٌ» يضربون على الطبول الكبيرة ويصرخون بأغان فارغة مدوِّية كطبولهم، لا تدعو إلى فضيلة ولا تهزّ عاطفة ولا تمس من النفس موضع الإيمان، ولكنها تدعو إلى الشهوة وتثيرها في الأعصاب، لا تعرِفهم هدآتُ الأسحار ولا يدري بهم فُتونُ
الفجر ولا شعاع القمر، ولكن تعرفهم أضواء الكهرباء الساطعة في معابد الشيطان وهياكل الشهوة، وتعرفهم موائد الخمور في دور الفجور، فحفَّ الناس بهم وصفقوا لهم!
عند ذلك كسر الشاعرُ ربابَه وانسلّ خارجاً من الحيّ بسكون، وأمَّ الجبل ليتخذ لنفسه من «الجادة السادسة» (أعني في جبل قاسيون) ملتجأ، يعصمه علوّه من أن يسمع قرع هذه الطبول، وعاد كالشيخ الذي صارت أيامُه الثلاثة يوماً واحداً، فطال أمسه حتى شمل يومه وامتدت ظلاله إلى غده، فلم يعد يعيش وإنما يعيش خيالُه في خيالات الماضي، كالشجرة التي عرَّتْها لفحاتُ كانون، فهي تعيش في ذكرى آذار المنصرم وزهره وتموز الماضي وثمره. ومتى رجعت في كانون أزهار آذار (1)؟
أجل يا سيدي؛ لقد مات الشاعر ودُفن في جبة القاضي، ولو جاء أمرك إياه بالكتابة لـ «الثقافة» وفي عاطفته ذلك التوقد وفي أعصابه تلك النار، يوم كانت تنثال عليه المعاني وتجيش بالصور نفسُه ويتحرك بالبيان لسانه من غير أن يحركه، حتى لكأنه الجواد الكريم يتفلّت من الشّكال، وكأنّ قلمه إذ يجري على الطّرس يسابق اليد التي تجريه والفكر الذي يمده، لوجدته أسرع إلى طاعتك من السيل الدفّاع إلى مستقره، بل أسرع من الطرب إلى نفس الكريم
(1) هذه هي أسماء الشهور الشمسية التي عرفها العرب من قديم؛ من أيام جاهليتهم. فأما كانون فيمكن أن يكون الأول (آخر أشهر السنة الذي يعرفونه في بعض البلدان باسمه الأعجمي، ديسمبر) أو كانون الثاني، أول شهور السنة (يناير)، وكلاهما من شهور الشتاء القاسية. وأما آذار فهو شهر الربيع (مارس) وتموز شهر قلب الصيف (يوليو)(مجاهد).
والحب إلى قلب الأديب! يوم كان يعيش في دنيا الناس وكأن له دنيا وحده؛ يرى فيها ما لا يرون ويسمع ما لا يسمعون: يرى في كل مشهد جمالاً، وفي كل جمال حلماً فاتناً يستغرق فيه مسحوراً، ويدرك من لذاذاته ومتعه ما لا يعرفه إلاّ مَنْ سمع حديث الجمال ووعاه بأُذن قلبه، وأمضى لياليه حالماً سادراً في أحلامه، فإذا صحا لم يجد ما يترجم به عن نفسه إلاّ لغة ضيقة قاصرة خُلقت للتعبير عن حاجات الأرض لا لوصف أحلام السماء!
وماذا تصنع لغة لا تعرف للجمال كله -على ما لَه من الصور التي لا تنتهي والمعاني التي لا تنفد- إلا كلمة واحدة هي كلمة «الجمال» ؟ وأنّى لها أن تترجم عن عالَم كله حياة وقوة وسحر؟ وكيف تقنعه وللجمال في عينيه صحائف يقرأ منها كل يوم جديداً؛ فلكل وجه جمال لا يقاس به غيره ولا يشبهه سواه، ولكل مقلة جمال، ولكل بسمة ولفتة، ولكل رنة صوت ولكل ومضة ثغر، ولكل واد وجبل ولكل سهل ونهَر، ولكل مقطوعة من الشعر وكل صورة في المتحف وكل زهرة في الروض، ولكل رائحة وكل نغمة. فجمال ريا الياسمين، وجمال أريج الورد، وجمال عبق الزنبق، وجمال رَوْح الفُلّ، وجمال البَيَات والرصْد والحجاز والصَّبا، والعود والقانون والناي والكمَان، وجمال القصة المؤثرة والحكمة المتخيَّرة، وما شئت وما لم تشأ من أنواع الجمال في الوجود
…
كل أولئك ليس له في هذه اللغات البشرية إلاّ لفظ واحد يدل عليه ويشير إليه.
يا ما أفقر لغات البشر!
وكان تذوُّق الجمال يهيج في نفسه الأدب، والأدب هو البثُّ، فلا تتمّ له متعة ولا يحلو له نعيم حتى يُشرك الناس معه في نعيمه. وكذلك الأديب؛ يجود على الناس بأعزّ شيء عليه: بشعوره وعواطفه، فيفتح لهم نفسه ويكشف لهم عن سرائره ولا يستأثر دونهم بشيء، فهم معه في ألمه وسروره ويأسه وأمله، يتلو عليهم نبأ حبه وبغضه وحركاته وسكناته، فيشاركونه حياته، ثم يقولون: عجباً لهذا الغبيّ الثرثار الذي لا يفتأ يتحدث عن نفسه، ولا ينفك مزهوّاً بها زهو الديك بريشه، مالئاً الصحائف بأخبارها، كأنّ الناس لا همَّ لهم إلاّ أن يسمعوا خبرها! ما درى الظالمون أنهم يتهمون بالأثَرة رجلاً هو أول المُؤْثِرين!
وكان ينقل ما يحس به من معاني الخلود إلى لغة الفناء، فلا يبقى منه إلاّ الأقل الأقل، ثم يعدُّه للنشر فيضيع أكثر جماله الباقي بين مراعاة آداب المجتمع وقوانين النشر وأذواق الناشرين ونزعات القارئين، ثم ينشر فإذا هو يرضي القراء، وإذا منه المعجِب المطرِب المقيم المقعِد، ولكنه لا يرضى عنه ولا يُعجب به، لعلمه بأن خير ما كتب ما (1) لم يعبّر عنه بلفظ ولم يجرِ به قلمٌ على قرطاس.
وما كان -يا سيدي- ليفخر أو ليزهى، وإنه لأعرف الناس بنفسه وعيوبها وأدبه ونقائصه، ولكنك فتحت عليه باباً للذكريات أعياه الليلة سدُّه، وقد كان قبل اليوم مسدوداً.
وذو الشّوقِ القديم وإنْ تسلّى
…
مَشوقٌ حين يَلقى العاشقينا
وإنه لواحد ممّن وأَدَ هذا المجتمعُ ما كان لهم من ملكات.
(1) ما هنا اسم موصول وليست نافية (مجاهد).
كانت له «نفس» فماتت، أفما يُترَك ليرثي -يا قوم- نفسه؟ يذهب مال الرجل فيبكي ماله، ويُحرق بيته فيندب بيته، وتودي تجارته فيُعْوِل على تجارته، ويهجره حبيبه فيأسى على فقد حبيبه
…
وتموت نفسه ويجِفُّ في حلقه لسانه فلا يُطلَق ليبكي نفسه وينوح على بيانه؟!
والرسالة طويلة، إلى أن قلت فيها:
هذا الشابّ الذي كان يتدفّق حياة ويتوثب نشاطاً، والذي كان له في كل ميدان جولة وكان في كل معمعة فارسها المعلم، والذي عمل للأدب وللإصلاح، وللسياسة وللصحافة، وللتعليم وللتصنيف، والذي عرفته العراق وعرفها، وأحبها وأحبه تلاميذه فيها، وبقي فيهم من يفي له ويذكر عهده وبقي هو وفياً للعراق ذاكراً عهدها. وكان شأنه في لبنان كشأنه في العراق، والذي مشى إلى الحجاز، وكان له في كل بلد أثر في نفوس أصدقائه وفي قلوب الآلاف المؤلفة من تلاميذه، الذين ما انفكّ يوليهم من نفسه وقلبه حتى لم يبقَ له نفس ولا قلب
…
هذا الفتى أعادته الأيام بعد هذا كله شيخاً ولم يبلغ الأربعين، ميتاً يمشي مكفَّناً في جبة، وضُيّقت رحاب نفسه حتى أحاطت بها مواد القانون، وحطمت قلمه فتعثر فهو لا يجري إلاّ في حيثيات القرارات وصيغ المخالفات، وصَغُرت دنياه حتى صارت تحدّها جدران المحكمة الأربعة. فماذا -يا سيدي- يرجى منه بعد هذا؟
قضى عليه بلده الذي أحبه وفارق من حبه مصر بعدما بسم له فيها المستقبل عن ثنايا بوارق، ولو أنه بقي في مصر، ومصر
(موطن أسرته الأول) تعرف للأدب حقه وللأدب منزلته، لكان منه اليوم «شيء» !
على أن مصر -إن أردت الحق- لا تحب إلاّ أبناءها ولا تبسم إلاّ لهم، وترى واحد الأديب المصري مئة، ومئة غيره لا تساوي عندها واحداً. وإلاّ فخبّرني بالله: لمَ يحتفل نقّادها بأصغر كتاب يصدر فيها ويشتغلون بالكلام عنه الأيام الطوال، ولا يخطّون كلمة ثناء أو نقد للكتاب القيم يصدر في بر الشام أو في العراق؟
وما له يعتب على مصر، وهذا بلده طاشت فيه الموازين وانقطعت الأسلاك وتبلبل الرأي، واختلط الحابل بالنابل والمتحليات بالعواطل، حتى إن الصحف لتجمع على مدح الكتاب وتقريظه وتهلل للشعر الجديد وتصفق، وما ثَمّ إلاّ منكَر من القول قد صيّروه معروفاً، أو ثقيل بارد استحبّوه أو غثّ متهافِت رأوه قوياً بليغاً؛ كأن الأدب صار لهواً وعبثاً، وكأن العربية انحلّت عُقَدها ولم يبقَ لها هذا «الكتاب» تعتصم به، فيحفظ عليها وحدتها ويكون بين أولها وآخرها السببَ الموصول والحبل المتين، فقديمها به حديث أبداً نفهمه اليوم ونتذوقه، وحديثها به قديم لو نشر الله العرب الأولين لفهموه وتذوقوه.
وكأن الأديب هو من ينزع عن جسمه جلدَه ليلبس جلداً مصنوعاً في المعامل التي هي (هناك)، ومن يود لو خلع رأسه ليركّب له رأساً فيه عقل من (هناك)، والذي يفرق بالجهات بين الحق والباطل، فما جاء من حيث تشرق الشمس كان باطلاً كله ولو كان الدينَ والأخلاق والشرف، وما جاء من حيث تغيب فهو حق كله ولو كان الكفر والفسوق والعصيان! وحتى إن هذا البلد
لينكر الأديب الصريح الثابت النسب الموصول السبب، ويحفل بكل لصيق دعيّ
…
ولكن هل يشكو امرؤ بلدَه وأهله؟
بلادي وإنْ جارَتْ عليّ عزيزةٌ
…
وأهلي وإنْ ضَنّوا عَليّ كِرامُ
فلا عليكِ يا دمشق ما صنعتِ بمَن لم يكد يحبك أحدٌ مثلما أحبك، ولم يصف من جمالك كاتبٌ مثلما وصف ولا أشاد بذكرك مثلما أشاد، وهذي صديقتنا «الرسالة» أخت «الثقافة» شاهدة على ما يقول؛ لا يمنُّ ويؤذي بالمن، ولكن يعاتب ويشكو.
ولئن كتب الله لهذا «الميت» ولادة أخرى (والمرء يولَد فيه كل يوم رجل جديد ويموت رجل قديم) وأعاده إلى الحياة، فليضربنّ إن شاء الله في سماء الأدب بجناحَين مبسوطين، وليطلعن على آفاق لم يرها من قبل، وليحدّثنّ قراء «الثقافة» حديثاً هو أحلى من مناجاة الحب وحديث القلب، وإلاّ يُكتَبْ له ذلك فعليه رحمة الله، وما ضر الناس بفقده (شيئاً)!
وهذا اعتذار تضمنته شكوى، فانشره يا سيدي مشكوراً، أو فدَعْه غيرَ ملوم:
ولا بُدّ مِن شكوى إلى ذي مروءةٍ
يُواسيك أو يُسْليك أو يَتَوجّعُ
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته (1).
* * *
(1) الذي نُشر هنا هو أكثر هذه الرسالة، وهي منشورة كاملة في كتاب «من حديث النفس» (مجاهد).
وعلق الأستاذ أحمد أمين على هذه الرسالة في «الثقافة» سنة 1943 (1362هـ) فقال: أرسلَت «الثقافة» إلى الأستاذ الأديب الدمشقي ترجوه الخروج عن صمته والعودة إلى تلحينه، وقد عرفت منه كاتباً قديراً وأديباً متفنناً، فبعث بهذا الكتاب وأباح لنا نشره. ولعل هذا يكون سبباً باعثاً للأستاذ أن ينفّس عن نفسه، ويستعيد قلمه ويمتع القراء بآثاره، ويتحرر من الدنيا الضيقة التي يعيش فيها بين القضايا وكتب القانون وحيثيات الأحكام إلى الدنيا الواسعة، دنيا العواطف ودنيا الناس ومنازعهم ومشاكلهم وإصلاحهم، فما خُلق الأديب وَقفاً على مثل هذه الدنيا الضيقة.
والأستاذ يعتب على المجلات المصرية أنها تشيد بالتافه من نتاج مصر ولا تشير إلى الجيد من نتاج الأقطار الأخرى كالشام والعراق، وقد سمعنا هذه الشكوى مراراً، وقد يكون فيها شيء من الحق، ولكن أكبر الظن أنه إهمال غير مقصود، ولعلّ كتّاب الشام والعراق يحملون كثيراً من التبعة، فالكتب الشامية والعراقية تظهر بين أظهرهم وهم أعلم الناس بها وبملابساتها وبقيمتها، فلو كتبوا عنها ونقدوها نقداً قيماً وعرّفوا بها تعريفاً صحيحاً لما تأخرت المجلات المصرية عن نشر مقالاتهم ومشاركتهم في الإشادة بالآثار القيمة منها. و «الثقافة» على الأقل تلتزم هذا وتتعهد به، وتعتقد أنها بذلك تسد نقصاً واضحاً فيها وفي سائر المجلات، وهو عدم إيفاء باب النقد حقه، سواء أكان النتاج مصرياً أو عراقياً أو شامياً. وفي انتظار مقالات الأستاذ نحييه ونشكره.
* * *
وكان الأستاذ أحمد أمين قد أجاب قبل هذا التاريخ بعشر سنين (سنة 1933) على سؤال كنت وجّهته إلى «الرسالة» وهو أوّل ما نشرت فيها، فأجاب الأستاذ الزيات جواباً موجَزاً وأجاب الأستاذ أحمد أمين جواباً مفصّلاً، وقد مرّ خبر ذلك. وكان الأستاذ أحمد أمين من أركان «الرسالة» العاملين فيها، فلما انفصل منها وأنشأ مجلّة «الثقافة» (التي صارت الأخت الصغرى للرسالة) تفضّل فكتب إليّ مرتين أن أنشر بعض مقالاتي في «الثقافة» .
وأنا إن أقبلت على «الثقافة» أمداً فما أعرضت عن «الرسالة» أبداً، ولئن واصلت الأستاذ أحمد أمين حيناً فما انقطعت عن الزيات، وما زلت أعدّه الأخ الكبير المتفضّل، ولكنني لمّا دخلت القضاء وانصرفت إلى كتب الفقه والقانون انقطعت عن الأدب وأهله وعن الكتابة فيه، حتى إن لي في «الرسالة» سنة 1940 مقالة عنوانها «أنا والقلم» (1) أقول فيها:
أعترف أنها قد جفّت قريحتي فما عادت تبضّ بقطرة، وكَلّ ذهني ومات خيالي، ومرّت عليّ أيام طوال لم أستطع أن أخطّ فيها حرفاً، وعُدت من العيّ والحصر كأول عهدي بصناعة الإنشاء، وأصبحت وكأني لم أكن حليف القلم وصديق الصحف، وكأني لم أجرِ للبلاغة في مضمار.
والمقالة طويلة، قلت فيها:
وأنا قد بدأت صحفياً لا كاتباً، والصحفي يعيش مع الناس،
(1) وهي منشورة في كتاب «من حديث النفس» (مجاهد).
يصف حالهم ويصوّر آلامهم وآمالهم ومتاعبهم ومطالبهم، فهو الطبيب لأوجاعهم، إن لم يداوِها بالعقاقير داواها بحسن المواساة وجميل القول. ومن أوجاع المجتمع ما يكون مثل القولنج، حبة رمل تعترض في الدقيق من مجرى البول، في الحالب، فيكون منها آلام كآلام الأم عند الطلق. لا يستطيع صاحبها أن يستقرّ على حال فهو يتقلّب ويصرخ، فإذا زالت عن موضعها زال الألم دفعة واحدة كما جاء دفعة واحدة. ومن الأوجاع ما هو كالسرطان، لا يذهب حتى تذهب الحياة. لذلك يكتب الصحفي المقالة تتخاطفها أيدي القُرّاء، ومن لم يصل إليها دفع عشرة أضعاف ثمن الجريدة ليطّلع عليها، فإذا مرّ اليوم ونُسي الحادث لم تجد من يباليها أو يفكّر فيها.
كتبت في كل موضوع شغل الناس: في الدين وفي الإصلاح وفي السياسة وفي الاجتماع، فإذا هدأت الحياة عندنا قليلاً (وقلّما تهدأ) كتبت في الأدب. وكذلك كنت في دراستي وفي مطالعتي، أقرأ كل شيء ولكن للأدب أكثر أيامي وجلّ اهتمامي، قرأت من كتب الأدب العربي القديم كل الذي وصلَت إليه يدي. قلت لكم من قبل إنني سردت الأغاني سرداً وأنا في أوائل المدرسة المتوسطة، قرأته مرة وحدي ومرة مع رفيق العمر سعيد الأفغاني، الذي كان أبوه الرجل العابد الصالح من كشمير لا يكاد يُحسِن العربية وصار هو اليوم المرجع في علوم العربية والحُجّة فيها، فهو الآن يدرّس في جامعة الملك سعود وما أعرف له في علمه بالنحو نظيراً.
ثم قرأت مئات من المجلّدات، وكنت أقتصر أبداً على الأدب
القديم ثم انتقلت إلى الجديد، بدأت بالمنفلوطي الذي كان الأستاذ لنا والقدوة الذي نقتدي به في الإنشاء، وإن لم ألقَه ولم نعرفه، ثم للعقاد والمازني والرافعي والزيّات وحسين هيكل وصادق عنبر، وقرأت أجمل صفحات الأدب الأخرى: أما الفرنسية فأخذتها من نبعتها وقرأتها بلغتها يوم كنت أعرفها وكنت متمكّناً منها، وإن لم أكُن من المتقدّمين بين رفاقي بمعرفتها. وأمّا الآداب الأخرى فقرأت ما تُرجم إلى العربية منها، ومن أحسن ما أفادني ما تُرجم للمنفلوطي فكتبه بقلمه (وإن خرج به عن أصله)، وبعضه كقطعة تأبين فولتير لفيكتور هيغو يعتبر نموذجاً كاملاً للأسلوب الخطابي، لأن هيغو كان أسلوبه خطابياً وكان بارعاً فيه متقِناً له، وكذلك كان المنفلوطي. وأحسب أن فيكتور هيغو لو عرف العربية وكتب هذه القطعة بها لَما جاء بأحسن ممّا جاء به المنفلوطي.
أما «العبرات» التي حاول المنفلوطي أن يجعل منها قصصاً فلولا جمال أسلوبها ما كان لها في ميزان الأدب الحقّ ثقل، ذلك لأن الأم التي ترتفع حرارة ولدها وليس عندها أحد، فلا تدري ماذا تصنع له، فيتقطّع قلبها شفقة عليه وحُباً له
…
وصف هذه الأم أصعب بمئة مرة ممّا ذهب إليه المنفلوطي، وهو أن يجعل الولد يموت فتموت من حزنها عليه الأم، ويأتي الأب فيفاجأ بالخبر فيُصعق فيموت، ويموت الجيران ويموت أهل الحارة، ويكون وباء عاماً. هذا الذي تشتمل عليه «العبرات» !
ومن أجود ما تُرجم إلى العربية من آداب الأمم الأخرى «رافائيل» للامرتين و «آلام فرتر» التي ترجمها الزيات، ثم روايات الجيب. روايات الجيب هذه إن طرحتَ منها حكايات أرسين لوبين
وجدتَ مجموعة من نفائس القصص والأدب العالَمي، كـ «الفندق الكبير» و «الأبيض والأسود» وأمثالهما.
فلما انصرفت إلى تدريس الأدب في العراق وفي بيروت غلب على كتابتي -لا سيما ما كتبته في «الرسالة» - الأدبُ الخالص. فلما فكّرت في دخول القضاء وأعددت نفسي للمسابقة التي كانت مفروضة على طالبيه تركت الأدب وأهله وجانبت كتبه، وعكفت عكوفاً كاملاً على كتب الفقه: الفقه المذهبي وغير المذهبي، في مثل كتاب «إعلام الموقّعين» و «زاد المعاد» و «فتح الباري» و «سبل السلام» والكتب التي تبحث في علم الخلاف، وهو ما يُسمّى اليوم في الجامعات «الفقه المقارَن» (ترجمة للكلمة الأجنبية).
هنا كان ابتعادي عن الأدب وانقطاعي عن الكتابة، حتى لقد ظننت أني لن أعود إليه أبداً.
* * *