الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-138 -
مؤتمر القدس الإسلامي
كان قبل هذا المؤتمر مؤتمرات، أعرف أنّ من أقدمها مؤتمر باريس الذي عُقد لمواجهة ما سُمّي «تتريك العناصر العثمانية» ، وقد أخرج عنه خالي محبّ الدين الخطيب كتاباً صغيراً. ومؤتمر القدس الأول سنة 1350، وكان رئيسه المفتي الحاجّ أمين الحسيني، ونُوّابه: محمد إقبال شاعر الإسلام، ومحمد علي علوبة الوزير المصري، وضياء الدين الطبطبائي من إيران، ومحمد زيارة الوزير اليماني. وكان في لجنة الأمانة العامّة (السكرتارية) الأساتذة: عزة دروزة وعبد القادر المظفّر وشكري القوّتلي ورياض الصلح وأحمد حلمي باشا.
ثم عُقد مؤتمر العالَم الإسلامي في كراتشي الذي كان فيه الدكتور معروف الدواليبي، وبعده بنحو عشر سنين كان هذا المؤتمر الذي جئت أتكلّم عنه.
لو أردنا تقويم (ولا تقُل تقييم) هذه المؤتمرات لوجدنا فيها خيراً كثيراً، لا شكّ في ذلك أبداً، وفيها أمور كنت أتمنّى ألاّ تكون. أوّلها حُبّ الكلام، فنحن أمة البلاغة وشعب البيان،
ولكنها ما سُمِّيت بلاغة إلاّ لأنها تبلغ بنا الغاية التي نريد وتوصلنا إلى المقصود، فإن لم تكن لنا غاية معروفة كان الكلام لمجرّد الكلام.
ولا بُدّ من الكلام على أن يكون بعده عمل، فكلام الطبيب سبب للشفاء، ولكن إن لم يُعمَل به فلم يشترِ المريض الدواء ولم يأخذه في مواعيده لم يكن لكلام الطبيب نفع. والثانية أن هذه المؤتمرات فيها رجال كبار من أكثر أقطار الإسلام، ولكن لم يُختاروا اختياراً من أهل هذه الأقطار ولم يوكلوا الكلام عنها ولا يلزمها الذي يقولونه بلسانها.
والثالثة أن أيام المؤتمر تنقضي ويعود كل من حضره إلى بيته وينغمس في دنياه مقبلاً على عمله، وتصير أيام المؤتمر عنده كما صارت عندي الآن: ذكرى من الذكريات. ولكن يبقى المكتب الذي انتُخب فيه واللجنة التي انبثقت عنه، تتكلّم باسمه وتتخذ له مقراً تشتريه أو تستأجره وتضع على بابه لوحة كبيرة تدلّ عليه وتشير إليه، ويحضر رجال هذه اللجنة المؤتمرات والمجتمَعات باسمه، وربما فُرض لهم أو لبعضهم مرتّب دائم من المال الذي جُمع لإقامته، وربما اتخذه بعضهم سُلّماً إلى نيل رغائب الدنيا ومنافعها.
الفلاّح يملك بستانه وما فيه من شجر وما لهذا الشجر من ثمر، وهؤلاء الأعضاء لم يشتروا البستان ولا زرعوا شجره ولا ملكوها، ولكنهم دُعوا فاستظلّوا بظلّها وأكلوا من ثمرها، ولبثوا يأكلون ويبيعون بعد أن زال الشجر والبستان ولم يبقَ لشيء منه وجود.
وعندي شيء أُحِبّ أن أشير إليه هنا إشارة، وإذا كتبت في «المسلمون» الجديدة التي تصدر إن شاء الله بعد أيام فصّلت القول فيه تفصيلاً. شيء كنت أهمس به همساً في آذان إخواني الأدنَين، ثم تكلّمت به في المجالس، ثم عرضت إليه في خُطَبي ومحاضراتي، وأنا أجهر به اليوم لعلّ الله يحقّقه إن كان فيه نفع للمسلمين: هو أننا لا ينقصنا في الدعاة فكر ولا علم ولا لسان، ولكن الذي ينقصنا خطة واحدة نسير كلنا عليها وطريق واضح نمشي كلنا فيه، نعرف من أين نبدأ وإلى أين ننتهي فلا نشتغل بالأمور المختلَف عليها قبل المتفَق عليها، ولا يضع أحدٌ دعوتَه أو حزبيته أو قانون جماعته التي ينتسب إليها، ولا صوفيتَه مثلاً ولا مذهبَه أساساً للدعوة الإسلامية، يصبغها بذلك حتى تصير معرض ألوان. ولا يبدأ بالفروع قبل الأصول، ولا يفرض ما يراه في المسائل الاجتهادية على من يرى غير رأيه.
ولست أقلّد اليهود، ولكن علينا أن نُعِدّ للعدوّ ما استطعنا من قوّة. ومن أقوى القوّة خُطَط العمل. فإذا كانوا قد وضعوا مخططات حكماء صهيون ورسموا فيها طريقهم إلى عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة، يهتدون فيها بعقولهم الفاسدة ووحي شيطانهم، فلماذا لا نضع خُطَط «حكماء حراء» مثلاً، نرسمها للسنين المُقبِلات، نستهدي فيها بهدي القرآن ونسير على ضوء وحي الرحمن؟
هذا هو الشيء الذي أريد أن أقوله.
* * *
لقد ضمّ مؤتمرُنا جماعةً من صفوة العلماء والمفكّرين القادرين على هذا العمل، كالأستاذ علاّل الفاسي من المغرب، والأستاذ البشير الإبراهيمي، والأستاذ الشهيد السعيد سيد قطب، والأستاذ الشيخ أمجد الزهاوي، والأستاذ عبد المنعم خلاّف، والأستاذ الصوّاف، والأستاذ السبسبي، والأستاذ عبد الحميد السائح، والأستاذ عبد الله غوشة، والأستاذ عارف العارف، وأمثالهم ممن ضمّ مؤتمرنا هذا.
وهؤلاء وغيرهم ممن نسيت أن أذكر أسماءهم هم من صفوة العلماء والمفكّرين، وقد ضمّت المؤتمرات من قبله ناساً هم في الفكر والعلم في الذروة والسنام. على أن يكون عملهم سراً لا علناً، وأن يكون مدروساً لا مرتجَلاً.
وأمر آخر لم أفهمه إلى الآن، ولعلّ في القُرّاء من يُفهِمُنيه؛ هو أنه إذا كانت هذه المؤتمرات تسعى إلى غاية واحدة وتصدر عن بداية واحدة، فلماذا لا تمشي معاً؟ لماذا تتعدّد وأولى بها أن تتوحد، وديننا دين التوحيد الذي يدعونا إلى الوحدة؟ إذا تعدّدَت لاختلاف أوقات عقدها فلماذا لا تتوحّد الآن اللجان التي انبثقَت عنها فيكون منها لجنة واحدة، لعلّ مِن أظهر فوائدها لقاء الرجال، ولا يكون من لقائهم إلاّ خير ونفع وتعاون على البِرّ والتقوى، واحتكاك الآراء، ولا يكون من احتكاكها إلاّ شرارة تنطلق فتحرّك مصنعاً وتسيّر قطاراً. وربما أسأنا استعمالها فإذا هي تحرق ولا تحرك، وإذا هي تدمر ولا تسيّر.
وهذا كله يحصل، بل يحصل أضعاف أضعافه في مِنى
بعد قضاء المناسك وأداء الفروض والواجبات لو كنّا نحجّ حجاً كاملاً. وما يكون في مِنى لا يكون مثله في عشرات من هذه المؤتمرات.
* * *
وسترون أننا جمعنا في هذه الرحلة لفلسطين أموالاً طائلة ما تسلّمْنا بأيدينا قرشاً واحداً منها، بل دللنا المتبرعين على مَن سَمّوه الأمين العامّ للمؤتمر، وهو الأستاذ سعيد رمضان (المصري لا البوطي) فأرسلوه إليه. وما تسلّمتُ من المال إلاّ بمقدار ما أدفع منه أجور السفر والفنادق والنفقات التي لا بُدّ منها ولا غِنى عنها، فلما عُدت قدّمت إليهم حساباً عنها كلها مربوطاً به وثائقها.
ولكن ما أرسل الأستاذ سعيد رمضان حساباً ولم أعرف كيف أنفق المال ولا أين ذهب. فلما كانت الدورة الثانية للمؤتمر في دمشق أصررت على أن يُطلع المؤتمرين على حسابها، وقلت إنني لا أتهمه ولا يحقّ لي أن أتهم أحداً، ولكن أطالب بما يطلبه الدين وتطلبه الأمانة وما هو الحقّ. فلما لم يستجيبوا لي قاطعت المؤتمر فلم أحضره. وقد بلغني أن واحداً من الأساتذة المعروفين من الإخوان المسلمين من حلب قام فيهم خطيباً، فنال منهم موافقة على بياض على حساب لم يقدَّم ولم يطّلع عليه أحد.
أعفوَه من تقديم الحساب، ولكن بقي الحساب الأكبر يوم العرض على الله؛ هنالك ينكشف الغطاء، فمَن أكل قرشاً من مال الله أو وضعه في غير موضعه، أو ستر على هذا الأكل وإن لم يشاركه الأكل، كان شريكه في الإثم
…
هنالك ينال كلٌّ ما يستحقّ.
وليس الصلاح بتجميل ظاهر الحال ولا بتحسين المقال، بل إن المقياس المعاملة. وعُمَر لمّا جاء رجل يزكّي عنده رجلاً سأله: هل عاملته؟ هل سافرت معه؟ فلما قال لا، ردّ شهادته ولم يسمع كلامه.
وأنا تعوّدت أن أبتعد عن مواطن التهم، لذلك أحذر الدخول في قضية فيها مال. ولمّا كان العمل لدفع الصهيونيين عن فلسطين وأقبل الشباب على التطوع والأغنياء على التبرع، وجمع هنا في المملكة أبناء كلّ بلد عربي ما يساعد متطوّعيه على الجهاد، عرض أحد كبار المحسنين المعروفين مبلغاً ضخماً جداً على أن يكون صكّ قبضه (الشيك) باسمي أنا فأبيت، فلامني إخواني وقالوا: تحرم مجاهدي بلدك من هذا المال؟ قلت: إن هذا المال سيُسجَّل على أنني استلمته، فمن أين أُقنع الناس أنني قد وضعته في مواضعه وسلّمته لمن رُصِد له؟ رحم الله امرءاً جبّ الغيبة عن نفسه ودفع قالة السوء عنها.
لذلك لا أتسلّم مالاً بيدي ولا أشارك بجمعه إلاّ إن وثقت بمن يتسلّمه، ولا أمشي في طريق أرى أوّله ولا أعرف آخره.
هذه مقدّمة ما كان من حاجة إليها، ولكن الأدب هو البثّ، والأديب كالمرأة الحامل، لا يزال يثقل عليها حملها حتى ولادتها، والأديب لا يستريح حتى يُلقي إلى القُرّاء وِقْر الفكرة فيشاركوه في حملها. أمّا إن كان أحسنَ في هذا أو أساء فأمرٌ قلّما يهتمّ بمثله الأدباء.
* * *
في ربيع الأول سنة 1373 تلقّيت كتاباً من جمعية إنقاذ فلسطين في العراق بإمضاء أمجد الزهاوي ومن مكتب الإسراء والمعراج بإمضاء محمد محمود الصواف، جاء فيه أنهما -أداء للأمانة وإيفاء بالعهد وإبراء للذمّة- يُبلِغان المسلمين كافّة أن بيت المقدس، مهبط الأنبياء والمرسَلين والقِبلة الأولى للمسلمين، مُعرّض لأذى اليهود الذين هاموا بتخريب ما وصل إلى أيديهم من مساجد المسلمين ومعابدهم، وتعمّدوا تدنيسها واتخاذ بعضها دوراً للبغاء. ورغم الهدنة فإن اعتداءاتهم المسلحة على المسلمين متكرّرة ومتوالية دون رادع، وفوق ذلك فإنهم يتطلّعون الآن إلى بيت المقدس، حيث المسجد الأقصى، للاستيلاء عليه وإعلان قيام إسرائيل مملكة حقيقية فيه وتشيِيد هيكل سليمان على أنقاض المسجد. إن تخاذل المسلمين في هذا الأمر وتقاعسهم عن أداء واجبهم في الدفاع عن مقدساتهم معناه إعلان فشلهم في الدفاع عن كرامتهم، إلخ.
وفي الكتاب دعوة لمؤتمر يُعقَد في القدس، يكون موعد انعقاده في اليوم السابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 1373، الموافق للثالث من الشهر الأخير من سنة 1953.
وأنا وعدت أن أقول لكم -إكمالاً لهذه الذكريات- كيف عرفت الشيخ الزهاوي والأستاذ الصواف.
قال الشاعر الأول:
إذا همّ ألقى بينَ عينَيهِ عزمَهُ
…
ونكّبَ عن ذكرِ العواقبِ جانبا
أو لعلّي حرّفت البيت أو صحّفته، فما أعني الآن رواية نصّه
بل الكلام على معناه. لقد أراد الشاعر ثناء ومدحاً، فكان هجاء وقدحاً. وهل أسوأ من أن يُقدِم المرء على أمر بلا نظر إلى مناقبه ومعايبه ولا فِكر في عواقبه؟ ولكنه -على ذلك- وصف لي أنا! إن أكثر ما فعلته في حياتي كان بقرار مفاجئ؛ أُقدِم على الأمر بلا تفكير ظاهر، وإن كانت الفكرة تدخل في عقلي الباطن كما تدخل المعلومات في المِحساب (الكمبيوتر) فيشتغل بها وصاحبها منصرف عنها حتى يعطي جوابها. من ذلك أنني كنت سنة 1929 في مصر أدرس في دار العلوم وأحرّر في «الزهراء» وأكتب في «الزهراء» و «الفتح» ، وكانت الزهراء من المجلاّت الأدبية الأولى في مصر، وكانت الفتح المجلّة الإسلامية الوحيدة التي تشبه الجريدة اليومية في ذيوعها وانتشارها.
وكنت أشارك في عمل المطبعة السلفية. كان طريقي واضحاً وغايتي من سيري ظاهرة، هي أن أُتِمّ الدراسة في دار العلوم وأقيم في مصر وأستمرّ في مثل عمل خالي. فخطر على بالي يوماً بلدي دمشق، وهاجني الشوق إليها وإلى أمي وإخوتي وأهلي وأصحابي فيها، واسودّت الدنيا في مصر في عيني كأني منها في ليل مظلم، وكأن صورة دمشق هي النجم الذي يلمع لي من بعيد. فتركت دار العلوم، وفارقت خالي على كُره منه وعلى دهشة مِمّن حولي، وكان جواز سفري حاضراً فركبت القطار من محطّة باب الحديد في المساء فأصبحت في حيفا.
ومن فرحي بالعودة لم أنَم. وكيف أنام وأنا مسافر في الدرجة الثالثة
…
لأنه ليس في القطار درجة رابعة أرخص منها؟ أمضيت ليلى على مقاعد من الخشب لا يطمئنّ إليها الجنب ولا يستريح
عليها الجسد، فلما بلغت حيفا ركبت السيارة وصعدت إلى رأس الناقورة (حيث تُعقَد الآن جلسات المفاوضات بين الحرامي وصاحب الدار)، ومنها إلى دمشق.
ولم أعُد إلى مصر إلاّ بعد ستة عشر عاماً، عُدت أزورها سنة 1945. أفليس عجيباً أنني جئت أتحدّث عن هذه السفرة إلى مصر بعد أربعين سنة كاملة؟ أوَليس أعجب منه أنني أذكر هذا كله استطراداً خرجت به عن موضوع الكلام عن المؤتمر؟ إنه داء الاستطراد الذي ابتُليت به وآذيت به القُرّاء، وهم كرام فليحتملوه مني وليقبلوني عليه.
لم أكُن أريد السفر يومئذ (أي سنة 1945) إلى مصر ولا أفكّر فيه، وإن كنت أتمنّاه وأحنّ إليه، فإذا بشباب يتحدّثون بأمر السفر إلى مصر، فسألتهم: ما القصّة؟ قالوا إنهم ذاهبون إليها مع الشيخ محمد الحامد. فقلت: أتأخذونني معكم؟ فظهر السرور عليهم وعلا البشر وجوههم، وخبّروه فرحّب بي كما رحّبوا أجمل ترحيب.
كذلك كانت بداية هذه السفرة. وليس الذي قلته رؤيا منام ولا أضغاث أحلام، ولكنها لوحة محا النسيان أكثر أجزائها، فلم يبقَ منها إلاّ ما يبقى من حلم النائم الذي إذا سمع قصّته السامع قال: خير إن شاء الله!
عرضت عليهم الصحبة لأني طول عمري أعجز عن أن أشتري أو أن أبيع أو أن أستقلّ بأمر من أمور الدنيا وحدي، كأن ما أعطاني الله من عقل ومن ذكاء ومن قوة ومن مضاء انصبّ كله على الكتاب
وانحصر بالفكر والعلم وانصرف إلى الأدب، ولأن الشيخ محمد الحامد (رحمة الله عليه) صديق أُحِبّه، وإن كنت أخالفه في بعض ما يذهب إليه؛ فهو صوفي، وأنا مررت في حياتي بأدوار: قربت من الصوفية لأن مشايخي أكثرهم من أهلها ولكني لم أقبلها كلّها ولم أنخرط فيها، وصرت سلفياً (أو كما يقولون عندنا في الشام «وهابياً») ولكني كنت أقف في أشياء هي عندهم من المسلّمات وأراها من المشكلات. وكنت يوماً حنفياً ملتزماً متعصّباً لمذهبي لا أقبل ما يخالفه ولو كان حديثاً صحيحاً! وكنت قد أوتيت من صغري جدلاً، فكنت أقول إن مذهبي امتدّ اثني عشر قرناً وانتشر علماؤه بين مشرق الأرض ومغربها، فهل بلغهم هذا الحديث أم لم يبلغهم؟ وإن هو بلغهم فهل خالفوه متعمّدين وهم من صفوة علماء المسلمين، أم أن لديهم دليلاً آخر يرجعون إليه ويعتمدون عليه؟
وأمثال هذه الجدليات التي رأيت أنها قد تُسكِت المجادل ولكنها لا تُرضي العاقل ولا يقبلها المسلم العالم العامل. وانتهيت إلى الوقوف عند قول المعصوم حين يبلغ آيات الله، وفيما يشرع بما أعطاه الله من وحي آخر اللفظ فيه من عنده والحكم من عند الله، وهو الحديث الثابت الصحيح.
وكنت أخالف الشيخ في مسائل في الفقه يذهب فيها إلى التضييق على الناس وفي أدلّة الشرع سعةٌ فيها، كالغناء، أو يتمسّك بفرعيات هي من الكماليات وليست من أسباب النجاة ولا يُعَدّ تركها من المحرمات. وأشهد مع ذلك أن الشيخ محمد الحامد كان صادقاً مع الله صادقاً مع نفسه، وقد جعل الله له من الأثر في الناس ما لم يجعل لعشرات من أمثالي أنا.
تقولون: وهل يكذب أحد مع الله؟ أو هل يكذب مع نفسه؟ وأقول: نعم، الذي يعلم المصلح من المفسد والصادق من الكاذب يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، ولكنّ من سفه نفسه وجهل قدرها يحسب أنه يخادع الله، ولا يخدع إلاّ نفسه: يُظهِر العمل لله ويُبطِن قصده الدنيا، فيَعُدّه الناس في الصالحين لأن لهم الظاهر ويكتبه الله في سواهم لأنه يتولى السرائر.
أما الصادق مع الله (مثل أخي الشيخ محمد الحامد رحمه الله فإنه يُصلِح جُوّانيّه قبل إصلاح بَرّانِيّه، ويصفّي نية قلبه قبل تحسين أعمال جوارحه. والصادق مع نفسه هو الذي يأمر الناس بالخير ويكون أولَ من يأتمر به، لا الذي يدعوهم إليه ثم لا يعمل به ولا الذي ينهاهم عن الشرّ ثم يخالفهم إلى ما نهاهم عنه.
وأقول استطراداً آخر: هل تدرون ما خائنة الأعيُن التي ذكرها الله وما الذي تُخفي الصدور؟ إن كل آيات القرآن عظيم، ولكن في هذه الآية صورة من حياتنا لو أنّنا تنبّهنا إليها.
يكون الشابّ المسلم في البلد الذي انحرف عن جادة الإسلام، ففشا فيه السفور وظهرت العورات، وعمّ الاختلاط في الجامعة باسم العلم وفي الملعب بحُجّة الرياضة وفي المسرح بدعوى الفنّ وفي المستشفى باسم الطبّ، فتمرّ به البنت الجميلة، فيغضّ بصره عنها ويُمسِك بإرادته أجفانَه أن تنظر إليها، ولكن لحظة غفلة منه تجعل عينه تخونه فتقع عليها، فإذا هو ناظر إليها. هذه هي «خائنة الأعين» . أما الذي تخفيه الصدور فهو الاقتراب منها والوصول إليها.
أعود إلى حديثي: عرفت الشيخ الحامد من قديم (وكان أخوه الأكبر الذي ربّاه الشاعر بدر الدين الحامد معنا في مكتب عنبر، لا أقول إنه سَنيني وإن عمره من عمري، فهو أكبر مني بكثير كما أن الشيخ محمد أصغر مني بقليل) ولكنني إذا أفَضتُ في الكلام عنه خرجت عن خطّ سيري. وإن كتب الله لي عُدت فكتبت عنه كثيراً لأني أعرف عنه وعن أثره في حماة الكثير.
وجدته في هذه السفرة صاحب نكتة، وفي روحه خِفّة على القلب وفي سلوكه أنس للنفس. وأنا أكره المتزمّتين الذين يتكلّمون الجدّ دائماً أو يحرصون على «المشيَخة» . والمشيَخة غير العلم وغير التدريس والتهذيب، فمَن شاء أن يعرف ما هي فليرجع إلى مقالة لي قديمة عنوانها «صناعة المشيَخة» (1). وأنا قد أصبر على الجِدّ المحض نصف ساعة، ثم أُفسِده بنكتة تجيء عفواً أو ملاحظة تُضحِك مَن حولي وتُخرِجني من ثقل هذا الجِدّ.
أقول إنني صحبت الشيخ ومن معه في الطريق إلى مصر، فلما بلغناها استأذنتهم وفارقتهم وذهبت إلى دار خالي. وداره أبداً فوق مطبعته، وقد خلّفتها في شارع الاستئناف في باب الخلق فوجدتها هذه المرة في روضة المنيل في شارع الفتح.
وأول مَن ذهبت إليه أقرب الناس إليّ بعد خالي، هو أخي الكبير وأستاذي الزيات رحمه الله. وكانت «الرسالة» في دار صغيرة في طرف ميدان عابدين، كنت حين أدخلها أحسّ أنني ولجت
(1) وهي في كتاب «مع الناس» . وانظر أيضاً مقالة «تحريف لمعنى الإسلام» في كتاب «فصول إسلامية» (مجاهد).
مَثوى المُنى ومَهوى الهوى وصرت في دار الأمان.
ثم زرت الصديق القديم والأخ الكريم الذي كان سنة 1928 شاباً صالحاً مثله في مصر كثير، لا يكاد يدري به إلاّ من يتّصل حبله بحبله، فلما عدت الآن سنة 1945 وجدته قد صار عَلَم البلد ورجل الرجال، ومرشد الآلاف والآلاف من الشباب في جميع مدن مصر وقراها. ولكن هذا المجد العظيم الذي تعجز عن حمله هامات الرجال فتُصاب منه بالدوار كما تصنع بشاربها المعتقة الصرف من بنات الكرْم، لم يدُرْ رأسه ولم يُبدّل حاله ولا أنساه إخوانه، وبقي معهم كما كان، حتى لقد أحسسْتُ لمّا قابلته أنني فارقته بالأمس، وأن هذه الأعوام الستة عشر ليست إلاّ عشيّة وضحاها.
وكذلك يكون العظيم؛ لقد تعلّمنا في المدرسة ونحن صغار أن السنبلة الفارغة ترفع رأسها في الحقل وإن الممتلئة بالقمح تخفضه، فلا يتواضع إلاّ كبير ولا يتكبّر إلاّ حقير. وأن من أحسّ أن الكرسي أو المنصب أو المنزلة الاجتماعية أقلّ منه ازداد به تواضُعاً، وأنّ من رأى نفسه أصغر من ذلك انتفخ به كِبْراً وتاه على الناس أشراً وبطراً.
إن الذي يكون ارتفاعه على أرجُل الكرسي فقط إذا زال كرسي الوظيفة من تحته هوى وأخلد إلى الأرض، أمّا من كان كالنسر ارتفاعه بجناحَيه، فلا يزال محلّقاً في الجِواء (1).
هل عرفتم من هو الذي أتكلم عنه؟ إنه مجدّد الإسلام في
(1) الجِواء (لا الأجواء) جمع جو.
هذا القرن، إنه الشيخ حسن البنّا (1). أقام لنا حفلة شاي في دار الإخوان التي اشتروها في الحلمية الجديدة، لولا الخجل لقلت إنني أنا المقصود بهذه الحفلة، إكراماً منه لي لا استحقاقاً مني لها. بقيت مُحِباً له من بعيد صديقاً مُخلِصاً أدعو له بظهر الغيب، ولكنني -على طريقتي- ما انتسبت إلى جماعة الإخوان ولا إلى غيرهم من الجماعات.
خطبت في هذا الحفلة وخطب الشيخ الحامد، وخطب الشيخ حسن، وهو في خطبه التي يلقيها كما تُلقى الأحاديث، بلا انفعال ظاهر ولا حماسة بادية، مِن أبلغ مَن علا أعواد المنابر. تفعل خُطَبه في السامعين الأفاعيل وهو لا ينفعل، يُبكيهم ويُضحكهم ويُقيمهم ويُقعدهم، وهو ساكن الجوارح هادئ الصوت، يهزّ القلوب ولا يهتزّ.
وأعرف في الخطابة طريقتين: الطريقة التي نشأنا عليها أول عهدنا في ارتقاء المنابر والتي كان عليها الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله (وأنا أَسَنّ منه بكثير) والأستاذ عصام العطّار والأستاذ الصواف الذي سأتكلم عنه الآن، وطريقة الشيخ حسن البنا والدكتور عبد الرحمن الشهبندر. وكلّ هؤلاء من الخطباء الأبيِناء
(1) لمّا شرعت أكتب في «الرسالة» في أوائل عهدها كان القُرّاء يحسبونني شيخاً كبير السنّ، وقد ظنّ الشيخ حسن ظنّهم ونسي أنه لقيَني عند خالي شاباً. وعندي منه رسالة بخطّه يخاطبني بها خطاب طالب صغير للشيخ الكبير، مع أنه الأكبر سِنّاً وقدراً ومنزلة وأثراً صالحاً رحمه الله.
ومن سادة المنابر. وأنا قد جرّبت الطريقتين، كنت أخطب مثل السباعي وأمثاله: تغلبني الحماسة فيعلو صوتي ويحمرّ وجهي وتتلاحق الجمل والعبارات مني، ثم انتقلت منها إلى مثل طريقة الشيخ حسن البنا والدكتور الشهبندر.
في هذه الحفلة في دار الإخوان سنة 1945 قام يخطب شابٌّ آتاه الله جمالاً في الوجه وبسطة في الجسم وجَهارة في الصوت، على رأسه عمامة ليست مثل عمائم المشايخ في مصر، بل هي على طربوش مقشَّش مكويّ كعمائم السوريين والأتراك. فألقى خطبة تتفجّر حماسة وتتدفّق إيماناً، تزدحم ألفاظها ازدحاماً. فسألت عنه، فوصفوه لي بإعجاب وعرّفوه بفخر، وإذا هو طالب عراقي موصلي.
وللحديث بقيّة (1).
* * *
(1) سيلاحظ القارئ أنه وصل إلى هذا الموضع من المقالة وهو يمشي في استطراد تفرّع من استطراد. ومنشأ الحديث (الذي هو أصل الموضوع) أن صاحب هذه الذكريات قال في أول المقالة: "وأنا وعدت أن أقول لكم كيف عرفت الشيخ الزهاوي والأستاذ الصواف
…
"، فلما وصل إلى هذا الموضع في نهاية الحلقة قطع الحديث ليكمله في أول الحلقة التالية. وقد فعل، لكن لو أنكم قلبتم الصفحة وقرأتم الفصل التالي فلن تجدوا من ذلك شيئاً. والسبب أن جدي رحمه الله اقتطع من الذكريات -لمّا نشرها في الكتاب- عدداً من المقالات التي خصصها وهو ينشر حلقات الذكريات في الجريدة للحديث عن بعض الأعلام، وضمّها إلى كتاب «رجال من التاريخ» في طبعته السابعة التي نشرتها=
_________
= دار المنارة سنة 1985، وهكذا خرجت من سياق «الذكريات» المنشورة، ولكنها تسببت أحياناً في انقطاع مفاجئ كما حصل هنا. فمن شاء من القراء أن يُتمّ المشهد الذي انقطع هنا فليذهب إلى مطلع مقالة «الشيخ أمجد الزهاوي» في كتاب «رجال من التاريخ» ، وفيها يقول المؤلف: "لما كنا صغاراً كان شيوخنا -أحسن الله إليهم- يبعدوننا عن كل ما يفسد ملكتنا الأدبية أو يُدخل العُجمةَ والضعف على أساليبنا، لذلك لم أقرأ قصص «ألف ليلة» حتى كبرت وصلب عودي واشتد ساعدي، فلما قرأتها وجدت شهرزاد كلما أدركها الصباح سكتت عن الكلام المباح، فإذا انقضى النهار ودجا الليل عادت فوصلت ما كانت قد قطعته ومشت من حيث وقفت. وأنا اليومَ مثل شهرزاد، مثلها في حديثها ومقالها لا في حسنها وجمالها! قطعت الحديث في الحلقة الماضية لما صعد المنبرَ الشابُّ العراقي الموصلي، وفارقتكم قبل أن أسميه لكم
…
فاعلموا الآن أن اسمه محمد محمود الصواف".
وبعد هذه الإيجاز فصّل الشيخ الطنطاوي الحديثَ عن الشيخ الصواف (رحم الله الاثنين)، وهو حديث شيّق يستحق القراءة، فراجعوه في المقالة المذكورة في كتاب «رجال» (مجاهد).