الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-139 -
رجال كرام عرفتهم في مؤتمر القدس
أقدّم بين يدَي هذه الحلقة تعليقاً قصيراً على مقالتَي الأستاذ نجدة فتحي صفوة (1).
لقد انقضى أسبوع والهواتف لا تنقطع عني من إخوان لنا أدباء، من صيارفة الكلام الذين يميزون عاليه من نازله كما يميّز الصيرفي العملة النادرة الغالية من العملة الرخيصة المبتذَلة، ومن صاغة البيان الذين يعرفون عياره ومقداره كما يعرف الصائغ عيار الذهب من النظر إليه. يقولون: أقرأت مقالة نجدة فتحي صفوة؟
(1) حينما نُشرت هذه الحلقة في صحيفة «الشرق الأوسط» قدّمت لها الصحيفة بهذه المقدمة: نشرَت «الشرق الأوسط» في الأسبوعين الماضيَين مقالتين للأستاذ نجدة فتحي صفوة، الدبلوماسي العراقي، تحدّث فيهما عن ذكرياته عن أستاذَيه الشيخ علي الطنطاوي أطال الله عمره ومتّعه بالعافية، والشاعر أنور العطّار رحمه الله، عندما كانا أستاذين وكان طالباً في المدرسة الغربية المتوسطة في بغداد. وكأنما لمست المقالتان بعض الذكريات العزيزة في نفس أستاذنا الشيخ علي الطنطاوي، فهو يقدّم لحلقة اليوم من ذكرياته بهذا التعليق على المقالتين.
لقد أصبحت -يا نجدة- معروفاً في المملكة لأن البضاعة الجيّدة لا يحتاج رواجها إلى إعلان، هي تعلن عن نفسها.
لقد أعدت لي بمقالتيك أياماً حلوة عزيزة على نفسي بعدما ولّت تلك الأيام، وذكّرتني عهوداً كنت أعيش بها ثم بذكراها فكاد النسيان يغلبني عليها، ونشرت لي صوراً أنا لا أملك نسخاً منها، فتعالَ انظر إلى هذا الشيخ الذي أثقلَت كاهلَه أعباءُ السنين وجثمَت عليه ثمانٍ وسبعون سنة، هل هذا الشيخ هو الشابّ الأنيق الذي نشرتَ صورته وأفضت في وصفه؟
وأعدت لي ذكرى أنور العطار. وما نسيته رحمه الله، فقد كان شقيق النفس وكان قسيم الروح. أمّا ما كتبتُ عنه في «المكشوف» فقد كان كما حزرتَ وقدّرت؛ في حالة جفوة لا بد أن يقع مثلها أحياناً بين الإخوان والأصدقاء، بل بين الإخوة والأشقاء.
يا نجدة (أناديك كما كنت أناديك يوم كنت طالباً، لا أعرف كيف يُنادى وزير مفوض ولو كان متقاعداً): هل تذكر أيام انقطعَت «الرسالة» عن دمشق في سنوات الحرب وكانت تأتيكم في بغداد، وكنت أحب أن أعرف ما نُشر لي أو لغيري فيها، فلمّا علمتَ أرسلت لي جدولاً بفهارس تلك الأعداد كلها؟ إنها لا تزال بخطّك عندي. فهل تعمل الآن مثل ذلك المعروف الذي عملته من أربعين سنة، فتصوّر لي ما نشرت في «المكشوف» ، أم أن الأستاذ نجدة الباحث الأديب والوزير السابق لا يعمل ما كان يعمله ذلك الطالب الصغير؟
على أني ما كتبت هذا التعليق لأطلب منك أعداد «المكشوف» ،
بل لأكشف لك عمّا أدخلتَ على قلبي من المسرّة بما كتبت وبما نشرت من مطويّ الذكريات، وأطلقت لساني بالفخار أن نشأ في تلاميذي من هو مثلك، وإن كان التلميذ ربما فاق أستاذه. وقد عشتُ حتى رأيت من تلاميذي مَن صار أرسخ في الأدب مني قدماً وأكثر في الناس علماً، وأوسع ذكراً وأكبر اسماً. فلله الحمد على ذلك، وأشكرك وأرجو لك التوفيق.
* * *
أعود إلى سرد حديث المؤتمر.
لمّا جاءتني الدعوة إلى حضوره هممت -على عادتي دائماً- بالاعتذار عنها والفرار منها، لولا أن هتف بي هاتف (أي كلّمني بالهاتف) من أحد الفنادق في دمشق بأن الشيخ أمجد الزهاوي والشيخ الصواف قد وصلا. فلم يبقَ بُدّ من أن أذهب إليهما، سروراً بلقائهما وقياماً بحقّهما. ووجدت عندهما شيخنا الشيخ بهجة البيطار ورفيقنا الأستاذ محمد المبارك رحمة الله عليهما، فحصراني بالليّن من قولهما والعظيم من حقّهما في زاوية لا أستطيع الخروج منها، فاضطُررت أن أوافق على حضور المؤتمر.
وتركا لي اختيار من يذهب معي أو أذهب أنا معه من دمشق، فنظرت فإذا العاملون في الساحة أكثرهم شيخ كبير له الوجاهة في الناس والصدارة في المجلس، إن مشى مشى الناس وراءه وإن قعد قعدوا بين يديه وإن قال استمعوا لقوله، لكن لا يُرجى منه كبير عمل لأنه استفرغ طاقته وأذهب شبابه وقوّته. ثم إن كثيراً من هؤلاء الذين هم مشايخنا يعيشون (كما أعيش أنا الآن) على
هامش الحياة، لا يخالطون الناس ولا يداخلونهم ولا يعرفون ما يُخفون من مقاصدهم وما يعدون من مكايدهم. فالواحد منهم ينخدع إن خُدع، يظن الناس كلهم صادقين مثله فيصدّق كل ما يقوله الناس. ولو سردت ما وجدت منهم في هذا الباب لأطلت السرد وأمللْتُ القُرّاء.
ووجدت آخرين كل واحد منهم خَرّاج وَلاّج، يعرف من أمر الناس الظواهر والخفايا ويكاد يُدرِك النوايا ويكشف الخبايا، فلا ينخدع لأحد من الناس، ولكنه ربما خدع هو الناس إذ يتّخذ الدين سُلّماً إلى الدنيا، فهو تاجر وتجارته معقود بها الخَسار، لأنه يبيع ذهباً بنحاس وألماساً بزجاج، يُعطي الخالد الباقي من أمور الآخرة ليأخذ الموقوت الفاني من حطام الدنيا. وهل أَخْسَرُ مِمّن يبيع دينه بدنياه، هَمُّه إعجاب العامّة فهو يُقِرّها على بِدَعها وضلالها، ورِضا الحُكّام فهو يمالئهم ويجاريهم؟ يرجو الناس واللهُ أَولى أن يرجوه، ويخشاهم واللهُ أحَقّ أن يخشاه.
فعلى أيّ هذين أعتمد وبأيهما أعتضد؟
لذلك تركتهم وتخيّرت نفراً من الشباب العاملين، مِمّن أعرفه من أهل الفهم والعلم والعقل والدين. كانوا يومئذ شباباً فكأن الله أراني ما صاروا إليه اليوم، صاروا أساتذة كباراً يُشار إليهم بالبَنان. منهم الأساتذة عصام العطار، وزهير الشاويش، وأديب صالح.
أمّا عصام فقد عرفت أباه من قبله في المحكمة، فلما جئت أدرّس في المعهد العربي مع اشتغالي بالقضاء وأوشكَت الساعة الأولى على الانتهاء قام طالب من بين الطلاّب، فحسبته يريد أن
يسأل سؤالاً، فإذا هو يُلقي خطبة بلسان فصيح وبلاغة متدفّقة، يُثني على درسي ثناء لا يستحقّه الدرس. ففتحت عيني دهشة، وشهدت في تلك الساعة مولد خطيب.
ثم لمّا اجترحتُ السيئةَ التي تُبْتُ منها فلم أعُد إلى مثلها فرشّحت نفسي في انتخابات سنة 1947 (1)، كان ذلك اختباراً مني لصداقة الأصدقاء، إذ انصرف عني أكثرهم، حتى إخوان الصِّبا ورفاق العمر الذين لا أفتأ أذكرهم دائماً في هذه الذكريات أعرضوا عني فلم يساعدوني، بل حاربني من كنت أعدّهم من أوليائي فكانوا أشدّ عليّ من أعدائي! وأنا هنا لأقول الحقّ لا لأجامل، وسيأتي إن شاء الله خبر ذلك كله مفصلاً.
وربحت أصدقاء جُدُداً مِمّن كانوا يوماً من تلاميذي، ثم صاروا من أقراني ثم سبقوني وتخطّوني، كالأستاذ محمد القاسمي الذي كان على رأس من أعانني على خوض الانتخابات، كما كان الأستاذ زهير الشاويش وعمر عودة الخطيب والأستاذ وحيد العقّاد، الذي أقام لي أبوه الشيخ محمود رحمه الله حفلة انتخابية في مدرسته في حيّ العمارة بجوار الجامع الأموي. والشيخ محمود تلميذ أبي وأستاذي.
في هذه الحفلة قام فتكلّم شابّ أدهش الحاضرين حقاً بإشراق بيانه وانطلاق لسانه وثبات جَنانه، وكان هذا الخطيب
(1) سيأتي خبر هذه الانتخابات وكيف رشح علي الطنطاوي نفسه فيها في حلقة متأخرة في الجزء السابع من هذه الذكريات، وهي الحلقة رقم 193 (مجاهد).
هو عصام العطار (1). وسأكتب يوماً إن شاء الله عنه وعن إخوانه وأقرانه، مِمّن هم أبنائي في السنّ وخُلَصائي وأصدقائي في الحياة، أكتب عن كلّ منهم، تاريخه معي أو تاريخي معه.
أسفت بعد هذه الحفلة على هذا العلم وهذا النبوغ أن يغفله الناس أو لا يهتمّ به الحُكّام، الذين لا يزِنون البشر بما في رؤوسهم من علم ولا بما في قلوبهم من إيمان ولا بما على ألسنتهم من بيان، بل بما في أيديهم من شهادات قد تكون مزوّرات. فسعيت إلى إرساله إلى مصر ليأتي منها بشهادة، ولكن الإخوان هناك لمّا رأوا فيه هذه المزايا قدّموه إلى المنابر وصدّروه في اجتماعات الأسَر، وقعد بين يديه يأخذ عنه ويستفيد منه مَن كان المفروض أن يكونوا أساتذته في الجامعة فيتلقّى هو عنهم ويأخذ الشهادة منهم.
ومن طرائف أخبار الشهادات ومن ظرائفها أنه ذهب إلى مصر في تلك السنة التي أقمتها فيها (سنة 1947) اثنان من رفاقنا كل منهما عالِم، بل هو مرجع في العلم الذي انقطع إليه، الشيخ مصطفى الزرقا الفقيه والأستاذ سعيد الأفغاني النحوي، ذهبا ليأخذا شهادة رسمية يحتاجان إليها لأن القانون لا ينصف إلاّ من يحملها، على طريقة الفرنسيين. ولقد كنت أحفظ قديماً أنك إذا قلت للفرنسي: هذا عالِم، قال: ما هي شهاداته؟ والإنكليزي يقول:
(1) وبعد هذه الحفلة بنحو عشر سنين تزوج عصام العطار الابنةَ الثانية لعلي الطنطاوي، كبرى خالاتي بنان، التي قضت شهيدة في ألمانيا عام 1981، وسيأتي خبرُ موتها المفجع ورثاؤها الموجع في الحلقة 165 من هذه الذكريات (في الجزء السادس)، رحمها الله (مجاهد).
ما هي معلوماته؟ والأمريكي يقول: ما هي أعماله؟ ولست أدري مدى صحّة هذا القول.
وتبيّن من اللقاء الأول بين الأستاذ الزرقا والأستاذ الأفغاني وبين من ذهبا ليتعلّما منه أنه أمام زميلَين لا طالبَين، بل ربما كانا أعلم من كثير من أقرانهما من أساتذة الجامعات.
* * *
لقد كنت في هذا المؤتمر حاضراً كأني غائب. ذلك أني -على مشاركتي الكبيرة في النضال للاستقلال في بلدي وفي الدعوة إلى الإسلام- كان عملي لا يعدو واحدة من ثلاث: إما أن أعلو المنبر فأخطب، أو أن أمتشق القلم فأكتب، أكتب ما أطمئنّ أنا إليه لا ما يُلزِمني غيري بكتابته، أو أن أُستشار فأشير بما يُخطِره الله على بالي
…
على بالي أنا لا على بال غيري. لذلك لم أدخل في عمري حزباً ولم ألتزم بمبادئ هيئة ولا جماعة.
كان لي طريق حدّدته وسرت فيه، فمَن كان طريقه على طريقي مشيت معه حتى يختلف الطريقان. إن أردت وأنا في مكّة السفر إلى الشام وصاحبي يريد مصر، رافقته من مكّة إلى المطار، ثم أخذ هو طيارته وركبت أنا طيارتي.
فعلى هذا كنت في المؤتمر: شرّفوني فجعلوني أحد خطباء حفلة الافتتاح، فقلت شيئاً لا أحفظه الآن ولكنه كان بحمد الله صحيحاً موفّقاً.
وكلّما جلّت المناسبة وكثر السامعون وكان بينهم أهل الفكر
والعلم والمنصب، جادت خطبة الخطيب وزادت بلاغته وانجلى بيانه. وهذا الذي يرهّب غير الخطيب ويمنعه أن يعتلي المنبر ويكلّم الناس هو الذي يرغّب الخطيب المتمرس ويدفعه إلى الكلام. ولو أني -حين أتكلم وحدي في الإذاعة فتنقل كلامي إلى عشرة ملايين أو يزيدون- لو أني على منبر أرى أمامي عُشر معشارهم، أقوم بينهم أخاطبهم وأنا أراهم
…
لو كان لسمعتم مني غير الذي تسمعونه الآن حين أتحدّث في الإذاعة أو الرائي.
لا تفهموا من كلامي هذا أنني أحدّث ابتغاء إعجاب الناس أو طلباً لرضاهم، أو أني لا أعمل لله. إني لأرجو أن يكون قصد الثواب أكبر، ولكنها طبيعة طبع الله النفوس عليها، وما لنا في الغرائز والطباع من عمل.
ألقيت خطبة كان أثرها في الناس ظاهراً. ولست أذكر الآن ما الذي قلت فيها ولكن أذكر معنى ما قلت، وقد تختلف المعاني باختلاف طريقة التعبير عنها كما يختلف منظر الغادة الحسناء إن بدت لك بثياب التفضّل (أي ثياب البيت) أو ثياب العروس. أذكر أني جلوت لهم حقيقةً كلُّهم يعرفها، ولكن منهم من ينساها ويطلب مَن يذكّره بها. والقرآن -الذي يجد فيه مَن يحسن فهمَه كلَّ ما يحتاج إليه في دنياه وآخرته، في فكره وسلوكه- علّمنا أن الذكرى تنفع المؤمنين، لأنها وإن لم تُعطِهم ما ليس عندهم تضع تحت أيديهم وأعيُنهم ما بَعُد عنها ممّا هو عندهم.
هذه الحقيقة التي شرحتها في خطبة افتتاح المؤتمر هي أن الله نزّل هذا القرآن وتعهّد بحفظه، وما حفظه الله لا يقدر أن يضيّعه
بشر. وأن الإسلام باقٍ خالد وأن أهله لهم المنصورون، وأن العاقبة لهم وإنْ كتب الله الظفر حيناً لعدوّهم في معركة من المعارك عليهم لما خالفوا عن أمره ولمّا اتبعوا غير سبيله. فليس هذا تعذيباً من الله للمؤمنين ولكنه تأديب لهم أن يعودوا لمثله. وقلت إننا بين أمرين: إما أن ننصر الله فينصرنا ويكون لنا بذلك عِزّ الدنيا وسعادة الآخرة، وإما أن نقعد عن نصرة ديننا ونهمل شريعتنا، فيستبدل الله بنا غيرنا، فيدخل في الإسلام شعب حيّ عامل كشعب الألمان أو اليابان فيحملوا هم لواءه ويصيروا هم أولياءه، ونرجع نحن كفقراء اليهود: لا دنيا ولا دين، نسأل الله السلامة من هذا المصير.
وأبلغُ الخُطَب ليس الذي يَحشد فيه الخطيب أضخم الألفاظ وأبلغ الجُمَل ويسوق فيه أروع الشواهد، ويهدر بذلك هدراً ويتكلم فيه مع لسانه يداه وعيناه. بل إن أبلغ الخُطَب ما قلتَ فيه الحقيقة التي تدخل قلب السامع، فيؤمن بها ويصدّقها ويقول لك: صدقت. على أن توقد تحتها نار العاطفة لا أن تعرضها قضية منطقية باردة تخاطب العقل ولكن لا تهزّ الروح ولا تحرّك القلب، وأن يكون كلامك من قلبك قبل لسانك.
صرت كلّما وجدت في جلسات المؤتمر مجالاً لإحدى الثلاث التي ندبتُ نفسي لها وقصرتها عليها حضرت معهم، فإن لم يكن شيء منها بَعُدت عن هذه المجالس وأويت إلى غرفتي في الفندق. وصرت ألقى على انفراد مَن اصطفيت من أعضاء المؤتمر، فكانت لنا لقاءات مع الشهيد السعيد سيد قطب كان يحضرها عصام وزهير ويحضرها أحياناً أديب صالح، وكنّا لا نفترق إلاّ قليلاً، وأُخذت لهذه الجلسات صور نُشر بعضها.
ولي مع سيد قطب رحمة الله عليه تاريخ طويل: كنت معه في دار العلوم سنة 1928 (إن صدقت الذاكرة)، ولكني نسيت ذلك ونسيَه. ثم عاركته فيمَن عاركه في معركة العقّاد والرافعي، وكان يومئذ أكرهَ الناس إليّ وأبغضَهم إلى قلبي، شتمته وشتمني وأنكرته وأنكرني، حتى جاء أخ من فلسطين اسمه (نسيت الآن اسمه (1)) فكتب في الرسالة يعجب منّا فيقول: أتتناكَران ولقد كنتما معاً، وكنت معكما في دار العلوم، في فصل واحد؟
ثم لمّا ألّف كتابه «التصوير الفنّي في القرآن» رأيت فيه فتحاً جديداً في دراسة القرآن، وكتبت أثني عليه بعدما هجوته وشتمته. وكنت في الحالَين مدفوعاً بمبدأ انطلقت منه. ثم كانت المفاجأة لي أني كنت يوماً في دار «الرسالة» عند الأستاذ الزيات، فدخل رجل رأيته دقيق العود أسمر اللون هادئ الطبع ساكن الجوارح، يكاد يكون خافت الصوت قليل الكلام. فسلّمت عليه سلامَ مَن لا يعرف الآخر، فضحك الزيات وقال: ألا تعرف خصمك سيد قطب؟
ففوجئت حقاً، لأني كنت أتصوّره ضخم الجسم بارز العضلات تقدح عيناه شرراً، كالمصارع الذي ترونه في المصارعة الحرّة يضرب رأسه بالحديد ويضرب رأس خصمه بالحديد!
كنت بادئ الأمر في صفّ وكان في صفّ، كنّا في صفّ
(1) ذكره في مقالة «العقيدة بين العقل والعاطفة» المنشورة في كتاب «فِكَر ومباحث» ، قال:"الأستاذ سيد قطب رفيقي في دار العلوم سنة 1928 على ذمة الأستاذ اللبابيدي الذي نشر ذلك في «الرسالة» إبّان المعركة الأولى، معركة الرافعي والعقاد"(مجاهد).
الرافعي وهو أقرب إلى الجهة الإسلامية، وكان في صفّ العقّاد قبل أن يؤلّف العقّاد كتبَه الإسلامية. ثم اقترب منّا بكتابه «التصوير الفني» ، ثم أعطاه الله ما أرجو أن أُعطى نصفه أو رُبعه أو عُشره، فعلا عليّ وسبقني وصنع ما لم أصنع مثله حين ألف «الظلال» ، ثم أعطاه الله النعمة الكبرى التي طالما تمنيتها ولم أعمل لها:
ترجو النّجاةَ ولم تَسْلُكْ مَسالكَها
…
إنّ السّفينةَ لا تَمشي على اليَبَسِ
أعطاه ما كنت أتمناه، بل ما تمنّاه من هو أكبر مني قدْراً وأجلّ في خدمة الإسلام أثراً، الملك فيصل رحمه الله، وهو الشهادة في سبيل الله.
* * *
وألف المؤتمر (ولم أكُن حاضراً) لجاناً أربعاً، منها لجنة للدعاية لقضية فلسطين وتعريف الناس بها، جعلوني رئيسها. فكانت اللجان تجتمع الساعات لتضع منهجها وتحدّد طريقها، وأنا قعدت وحدي فحصرت ذهني وعصرت تجارِبي في الدعوة الإسلامية التي عملت لها جندياً صغيراً من يوم أصدرت أول مطبوعة لي سنة 1348هـ.
فوضعت أنا المنهج ودعوت الأعضاء للنظر فيه ومناقشته، فغضب الشيخ الراميني (وأحسب أنه كان مفتي عمان) وقال بأن هذا استبداد مني، فأرضيته وأقنعته بأن الذي قدّمته اقتراح لا يُلزم أحداً، وأن الرأي رأيهم وأن لهم أن يعدّلوا وأن يبدّلوا.
وممّن اتصل حبل الودّ بيني وبينه وأحببته محبّة الأخ،
ووجدت فيه فضائل البداوة التي سمعت أنه نشأ أوّل نشأته فيها: بلاغة في المنطق واستقامة في السيرة وصدقاً في القول ورجولة وشجاعة، وسافرت معه فكان رفيقي في الحجّ لمّا دُعينا إليه فذهبنا باسم المؤتمر، فنمت أنا وهو في غرفة واحدة (وقلّما ضمّتني في المنام غرفة واحدة مع غيري)، فما أنكرت في السفر ولا في الحضر في سلوكه شيئاً، ما لمست منه غلظة ولا وجدت منه إزعاجاً، ولمست فيه صواب الفكرة وصدق المقال. وهو الأستاذ كامل الشريف. وكان ثالثنا في رحلة الحجّ الأستاذ سعيد رمضان.
وكلّفونا أنا وهو السفر إلى طهران لمّا حُكم على صديقنا نَوّاب صفوي بالموت، لنعمل على إنقاذه. فلما وصلنا بغداد منعونا من دخول إيران، فاجتمعنا في الكاظمية بوفد كبير من علماء الشيعة وبذلنا الجهد، فما قدرنا لأخينا نواب على شيء، وقُتل رحمه الله.
ودامت صلتي بالأستاذ كامل الشريف حتى صار وزيراً. وأنا في العادة أبتعد عن الوزراء حتى يُلقُوا عن عواتقهم وقر الوزارة، وإن كنت أستثني من ذلك نفراً ما بدّلَتهم الوزارة ولا غيرَتهم، كالأستاذ نهاد القاسم رحمة الله عليه، والشيخ مصطفى الزرقا والدكتور إسحق الفرحان والدكتور مصطفى البارودي أطال الله أعمارهم، وجماعة آخرين لعلّي كنت أعدّ معهم كامل الشريف لو أني قابلته وزيراً.
وممّن زادت صلتي به وطال اجتماعي معه وتقديري له وصحبتي إياه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، في المؤتمر في القدس وفي عمان في فندق بالاس، وفي دمشق في داري ودار
شيخنا الشيخ بهجة البيطار، وفي بغداد. وقد بلغني أن ابنه الآن وزير خارجية الجزائر وأنه على طريقة أبيه في العمل لله وفي السعي للخير والإخلاص فيه.
ومنهم الأستاذ عبد الرحمن خضر، المحامي العراقي الذي أكبرت فيه دينه وإخلاصه وجِدّه في عمله، وبراعته في صناعته (في المحاماة) وحسن خلقه. ورافقته في بغداد إلى بعض المحاكم وسمعت مرافعته، وكنّا يوماً في زيارة رئيس محكمة من المحاكم يبدو عليه أنه كبير السنّ بادي الشيخوخة، فلما جاء يعرّفه بي قال: شنو؟ إنه أستاذي. فعجبت أولاً، ثم لمّا ذكر اسمه أدركت أنه كان حقاً من تلاميذي في الثانوية المركزية سنة 1936 وأنه في سِنّ إخوتي الصغار، وقد حسبته لمّا رأيته في عمر أبي!
وإن أنا ذكرت في هذه الحلقات طائفة من الناس قلت إنهم تلاميذي فربّ تلميذ فاق أستاذه. عمل الأستاذ -يا أيها القُرّاء- مثل واد بين جبلَين في وسطه جدول صغير، لا يستطيع السائح أن يصل من جبل إلى جبل حتى يقطع الجدول، وليس على الجدوَل جسر يجتاز الناس من فوقه، فقام عليه من يُجيز المسافرين، ينقلهم من ضفّة إلى ضفّة حتى يصل بأحدهم إلى الجانب الآخر ثم يؤمّ الجبل صُعُداً، فيبلغ منهم ناس عاليه وهو لا يزال في مكانه.
هذا مثال الأستاذ، فإن أنا قلت إن فلاناً وفلاناً كانا من تلاميذي فإنما أعني السبق الزمني التاريخي، ولست أعني أنهم يبقون التلاميذ دائماً وأبقى الأستاذ دائماً.
* * *