الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-143 -
من بغداد إلى كراتشي
فارقت الموصل:
سَقى رُبَى المَوْصلِ الفَيْحاءِ مِن بَلَدٍ
…
جُودٌ مِنَ المُزْنِ يَحكي جُودَ أهلِيها
أأندُبُ العَيْشَ فيها، أم أنوحُ على
…
أيّامِها، أم أعزّى في لياليها؟
أرضٌ يَحِنُّ إليها مَن يفارقُها
…
ويَحمَدُ العيشَ فيها مَن يُدانيها
وعدنا إلى بغداد. ولكن هل بغداد التي عُدت إليها هي بغداد التي كنت أُعلّم في مدارسها؟ وهل بغداد اليوم هي بغداد الأمس التي أتكلّم الآن عنها؟ ألا تتبدّل المدُن كما يتبدّل الإنسان؟ ألا يعمل فيها الزمان مثل عمله في الإنسان والحيوان؟
على أنّ الزمان لا ينفع ولا يضرّ، إنه وعاء للحوادث، إناء للصلاح وللفساد، «وكلّ إناء بالذي فيه ينضح». فإذا وجدتم زماناً فاسداً فلا تعيبوه فالعيب ليس منه:
نَعِيبُ زَمانَنا والعَيبُ فينا
…
وَما لِزَمانِنا عَيْبٌ سِوانا
وإذا كان من الناس من يذكر ومن ينسى ومن يفي ومن لا يعرف الوفاء، فإن ذلك يفيض على الزمان وعلى المكان! لمّا رجعت إلى بغداد سنة 1954 ذهبت أزور المدارس التي كنت أدرّس فيها قبل سبع عشرة سنة: الثانوية المركزية، والمدرسة الغربية، ومدرسة الأعظمية (كلّية الشريعة) التي عشت فيها لياليّ ونهاراتي، ورأتني في يقظتي وفي هجعتي، وكانت يوماً مستقَرّي من دنياي.
أفتدرون ماذا وجدت في هذه المدارس التي ذهبت أزورها؟ جئت المدرسة الغربية التي أعرفها وتعرفني، يعرفني كل مَن كان يعلّم فيها معي من إخواني وكلّ من كان يتعلّم فيها من أبنائي، وتعرفني غرفها وأبهاؤها وممراتها وأبوابها وأركانها وجدرانها. تركت فيها بقايا مني، من أيامي، من أمانيّ وأحلامي، فلما بلغت بابها أُصِبْت بصدمة اهتزّ لها جسدي؛ صاح بي البواب: ممنوع يا أفندي.
فلما رآني ماضياً قُدُماً لا أقف عليه ولا أتلفّتُ إليه وثب يعترضني ويقول: قلت لك ممنوع، فماذا تريد يا أفندي؟ قلت أريد أن أقابل المدير. فتردّد ثم قال لي مستسلماً: تفضّل.
ودخلت على مدير المدرسة، فإذا كهل يدلّ سَمْته على فضل وعلى صلاح، فانتسبت له (كما كانوا يقولون قديماً، أو عرّفته بنفسي كما يُقال الآن)، فرحّب بي، وأراد أن يُكرِمني فدعا بأساتذة الأدب العربي ليلقوني، فدخل رجلان سلّما وسلّمت، ثم دخلَت صبيّة حسناء سافرة حاسرة، قصيرة الكمّ واسعة الجيب
يبدو منها الساعد والنحر وأعلى الصدر، تتهدّل خصلة من شعرها على جانب جبينها، فكلّما تكلّمت اهتزّت فسقطت على عينيها فأزاحتها بيدَيها، قصيرة الثوب، ما أنعمت النظر إلى ساقها لأعرف هل تلبس جوارب أم هي كاشفة الساق؟
دخلَت غير محتشمة ولا مستحيِية، كأنها رجل يدخل على رجال أو كأنها حسبَتنا نساء تتكشّف أمامهن كما تتكشّف أمام النساء. وما طالت حيرتي في أمرها ودهشتي منها حتى سمعت المدير يقدّمها إليّ يقول: أعرفك بفلانة (نسيت اسمها)، مدرّسة الأدب العربي. ومدّت يدَها لتصافحني فتأخّرت لحظة ثم قبضت يدي، وقلت كلمة اعتذار ما أعجبَتها.
وأسرعت لأتخلّص من هذا الموقف فسألت المدير: هل تدرّس الآنسة هنا في مدرسة كلّ طلاّبها شباب؟ فابتدرَت هي الجواب وقالت للمدير بجرأة عجيبة: يظهر أن الأستاذ لم يعجبه أن أدرّس هنا. قلت للمدير: اسمح لي أسألك، هل الآنسة مسلمة؟ قالت وقد انقلبَت كالنمرة المتوحّشة: وما دخل الإسلام في الأمر؟ قلت: يا آنسة، أنا لم أخاطبك وإنما خاطبت المدير. فإن كنت مسلمة فالإسلام يدخل حياة المسلم كلها، يكون معه إن كان وحده أو كان مع أهله، أو كان في سوقه أو كان في مدرسته، يبيّن له حكم كل عمل من أعماله، لأنه ليس في الإسلام عمل يعمله المسلم إلاّ وله حُكم في الشرع.
ورأيت أن الكلام معها لا يُفيد، فقمت فسلّمت على المدير وانصرفت، ودمي كلّه يغلي في عروقي وغضبي يضرب قحف رأسي. وذهبت فسألت مَن لقيت من الشبّان في «دار الأخوّة
الإسلامية»، فإذا هي سنّة سيّئة جديدة: أن يذهب مدرّسون شُبّان إلى مدارس البنات ومدرّسات شابّات إلى مدارس البنين، في أخطر مرحلة من العمر، مرحلة الدراسة المتوسطة التي يكون فيها التلاميذ في بداية العهد بالبلوغ، نار الرغبة مشتعلة بين جوانحهم وكوابح العقل والتجرِبة ضعيفة في نفوسهم، أمّا الدين فقد كان من أثر المستعمرين في أكثر بلاد المسلمين أنهم أضعفوه في نفوس الناشئين.
وروى لي هؤلاء الشباب حوادث ممّا يقع في المدارس التي تدرّس فيها فتيات. حوادث مخيفة أخشى على أعصاب القُرّاء من الشباب أن أذكرها أو أن أشير إليها، فأكون من الذين يريدون الفساد في الأرض. نار وبنزين، هل يكون من اجتماعهما نبع في ظلّ حوله ورد وياسمين؟
وذهبت فنشرت مقالة مشتعلة، لم أكتبها بقلم مقطوف من أغصان الجنّة بل بحطبة من جهنّم، تلتهب كلماتها التهاباً فتُلهِب نفوس أهل الإيمان وأهل الشرف ومَن في نفسه بقيّة من سلائق العروبة وخلائق الإسلام. تردّد صداها بين جوانب البلد تردّد صدى صوت المدافع، أرضَت ناساً أبلغ الرضا وأغضبَت آخرين أعنف الغضب.
حملت على الذين جاؤوا بهذه البنت فألقوها بين الشباب، حمامة بيضاء بين صقور، وقد أشرعَت هذه الصقور مناقيرها وأعدّت مخالبها. على أنها لا تخلو هي من اللوم، فما الذي أدخلها هذا المدخل؟ وإن هي أرادته فما الذي عقد ألسنة أهلها فلم ينصحوها وكفّ أيديهم عنها فلم يمنعوها؟ وإن هي اضطُرّت
(وما ثَم اضطرار) فما لها وما لهم: تختار هذا الثوب القصير وهذا الزي المثير وهم يُقِرّونها على ما اختارت؟
على أنني لا أتّهم شباب العراق ولا بناته. إنهم جميعاً أولادي أو إخوتي، ولا شباب الشام ومصر، ولا أتّهم أحداً بضعف الخلق ولا بامتهان العفاف. هل أتّهمُ المنحدَر إن سيّرت فيه سيارتي بلا كوابح فانهارت السيارة؟ هل أتّهم النار إن أدنيت يدي منها بلا حجاب؟ الطريق إنما شُقّ لتسلكه السيارات، ولكن مع قوّة الكابح (الفرامل) ويقظة السائق. والنار إنما خُلقت ليستفيد منها الإنسان فيطبخ عليها ويتدفّأ بها. وكابح السيارة هنا إنما هو الزواج، والانتفاع بنار الشهوة إنما يكون بإنشاء الأسرة واستيلاد الولد.
ما قال الله لنا كونوا رهباناً فعطّلوا هذه الطاقة واحبسوا السيل المندفع من فم الوادي، فمَن أراد حبس السيل بعدما سال يذهب به السيل. ولكن أعِدّوا له مجرىً ليجري فيه، أو فاستفيدوا من طاقته يُدِرْ لكم معملاً أو يسيّرْ لكم قطاراً. هذه الشهوة طاقة إن أهدرناها خسرناها، وإن وضعناها في حدودها التي حدّدها الله لها انتفعنا منها. إن كان المصنع ينتج لنا ثياباً وأواني وسيارات فإن هذه الطاقة هي التي جعلها الله منتجة للناس الذين يصنعون الثياب والأدوات والسيارات، فلا تُهدِروها ولا تضيّعوها.
إن المدارس إنّما عُرفت لتزيد الناس علماً، لتقوّم منهم الخلق، لتُبعدهم عن طريق الرذيلة، وهذا الاختلاط يسوقهم إلى هذا الطريق سوقاً.
لقد كانت مقالة طويلة وكان ممّا قلت فيها: إن من المترَفين
الأغنياء قوماً يراجعون الأطباء يشكون إليهم بعض ما يجدون من الأبناء، يقولون إنهم إن حضر الغداء أو العشاء أعرضوا عنه ولم يُقبِلوا عليه، فهم يطلبون لهم دواء يفتح نفوسهم إليه ويزيد إقبالهم عليه. ولا يخبرون الطبيب أن السبب فيما يشكونه أن الولد أكل قبل الطعام بنصف ساعة حبّة شُكلاطة وقبلها تفاحة وقبل ذلك شرب شراباً حُلواً، أي أنه أكل ما لا يغذّيه ولا يكفيه، ولكنه شغل معدته وأضعف شهيّته. والله قد جعل الجوع الذي تحسّون به دافعاً إلى الطعام الذي تحتاجون إليه، كما جعل الشهوة (وهي جوع آخر) دافعاً إلى الزواج، فالشابّ الذي يأخذ من هذه نظرة بشهوة ومن هذه لمسة أو قُبلة، لم يحقّق له ذلك المراد من الزواج ولم يبق عنده قوّة تدفعه إليه ليُقبِل عليه.
* * *
كان هذا الذي رأيته، وهذا الذي كتبته ونشرته قبل ثلاثين سنة. لم أكُن أتصور أنه سيأتي عليّ يوم أرى فيه مدارس البنات في بعض بلاد المسلمين تكشف عن أجسادهنّ بحُجّة الرياضة، وتعلّمهن الاختلاط باسم الفنّ، وتُخرِجهن من بيوتهن للفتوّة أو للتدريب العسكري
…
وسيأتي إن أذن الله ومدّ في الأجل وصفُ ما رأينا من ذلك في الشام أيام الوحدة مع مصر. لقد رأينا شيئاً عجباً تشيب له نواصي الأطفال.
لقد كانت العراق لمّا تركتها بعد أن كنت مدرّساً فيها (كما كانت أكثر البلاد العربية) مَثَلها كمثل غدير كبير كان عذباً صافياً فتعَكّر ماؤه وخالطه الكدر فلم يعُد سائغاً شرابه، فلما عدت بعد
سبع عشرة سنة (أي سنة 1954) وجدت قوماً قد أقاموا مصفاة إلى جنب الغدير أخرجَت ماء صافياً أبلغ الصفاء عذباً غاية العذوبة، فوضعوه في بِركة صغيرة، وما خرج منه من أوضار كانت في الماء العكر أُلقِيت في بركة أخرى صغيرة كلها دنس وطين قذر.
هذا مَثَل أكثر البلاد العربية لمّا كنّا صغاراً ومَثَلها الآن: ترى الآن في كل بلد قِلّةً أطهاراً صالحين متعبّدين كأنهم (كما شبّهتهم مرة غيرَ مبالغ) من أهل الصدر الأول، وقِلّةً أنجاساً تتلقّف كل خبيث من المذاهب وسخ من العادات، أسماؤهم أسماء المسلمين وما هم في عقائدهم وفي أعمالهم وفي سلوكهم كالمسلمين.
وسائر الناس (أي باقيهم) وجمهورهم كما كانوا من قبل: خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً؛ يُقيمون الصلاة ويصومون ويحجّون كما كان السلف يصومون ويصلّون ويحجّون، فالأعمال هي الأعمال، ولكن النيّات ليست هي النيّات. ومنهم من لا تنهاه صلاته عن فحشاء ولا منكر، ومنهم من لا يحافظ على صلواته أو لا يكاد يصلّي، ويحسب أن الإسلام قول بلا عمل ودعوى بلا دليل، وأن الله يوم القيامة يميّز أهل الجنّة من أهل النار بأوراق النفوس وجوازات السفر، فمَن كُتب فيها أنه مسلم جاز الصراطَ إلى الجنّة ومن كُتب فيها أنه غير ذلك كُبّ في جهنّم.
* * *
بقينا في بغداد إلى أواخر آذار (مارس) سنة 1954، ذهبنا خلالها مرة إلى البصرة كما ذهبنا إلى الموصل. وكان الشيخ الصوّاف قد أسّس في البصرة فرعاً لجمعية الأخوّة الإسلامية،
يقوم عليه الشيخ عبد الله أبا الخيل، وهو والد الوزير الشيخ عبدالرحمن وزير الشؤون الاجتماعية سابقاً، ولا أعرف ما قرابته بوزير المالية. ولقد زرناه في داره وأجبنا دعوة منه إلى الطعام (وإن كنت في العادة أعتذر عن أمثال هذه الدعوات) فرأينا رجلاً كريماً وبيتاً مفتوحاً ونُبلاً وفضلاً، ورأينا أثره في العمل الإسلامي أثراً واضحاً، وفهمت أنهم سَمّوها جمعية الأخوّة الإسلامية لأن الحكومة يومئذ لم تسمح لهم باتخاذ اسم الإخوان المسلمين.
وقد نزلنا في فندق شطّ العرب، وهو أحد الفنادق التي أنشأتها إدارة السكك الحديدية وهي التي تديره، ووجدنا به الراحة والنظافة والاطمئنان.
وعدنا إلى بغداد، وبقينا إلى أن فارقناها في يوم من أيامها الشداد، قد عمّها الذعر وطار بألباب أهلها الفزع.
وأشهد -وقد عشت في العراق سنين- أنه ليس في العراق جبان، ولكن كان في بغداد تلك الأيام ما يَجبن أمامه كلُّ الشجعان؛ عدوّ لا تردّه المدافع ولا تدفعه النار ولا الحديد، غَضِبَ على بغداد وكان مُحِباً لها يحنو عليها، واشتدّ على بغداد وهو اللطيف الرقيق الذي تراه من لطفه ورقته يسيل سيلاناً. إنه النهر يا سادة: دجلة. إنه الفيضان!
وقد رأيت الفيضان العظيم سنة 1936 (ومرّ حديثه في هذه الذكريات)(1) ولكن فيضان سنة 1954 لم يسبق له مثيل. علا
(1) في الحلقة السادسة والتسعين في الجزء الثالث، وانظر مقالة «ثورة دجلة» في كتاب «بغداد» (مجاهد).
الماء حتى قارب الأرض، ثم حاذاها، ثم صار أعلى منها بمتر، لا يمسكه إلاّ أكياس الرمل التي رُصفت على الشطّ. لا يحمي بغدادَ إلاّ هذه الأكياس، فإذا وقف الإنسان من ورائها رأى وجه الماء يحاذي صدره، يموج كأنه أسد هائج يمسكه قيدٌ ضعيف، فإن نفذ الماء من مكان واحد غرقَت بغداد كلها.
وكانت ليلة سفرنا ليلة لا تُنسى (1): جمع كل امرئ أطفاله والغالي من متاعه واستعدّ للهرب. يستوي في ذلك الغنيّ والفقير، لأن دجلة إن غضبَت لا تفرّق بين الكوخ وبين القصر.
وفي الساعة الرابعة من تلك الليلة كان موعد سفرنا. وفي الرابعة تماماً، لا قبل دقيقة ولا بعد دقيقة، حطّت الطائرة الضخمة (طائرة «ك. ل. م.» الهولندية) على أرض المطار، وشرعَت تأخذ البنزين، فصُبّ فيها أكثر من مئة وخمسين صفيحة. ولم تكن مستودعاتها فارغة بل كان فيها نقص، فملؤوها بهذا الذي صبّوه فيها.
ولم أحسّ بها وهي تقوم، ولم أعلم بأنها طارت حتى نظرت من تحتي فرأيت بغداد والنهر الفيّاض يحيط بها، يلمع كأنه ثعبان ضخم قد التفّ على فريسته. وابتعدنا حتى غابت بغداد عن عيوننا ولكن صورتها لا تزال في قلوبنا، نحاذر عليها الغرق ونرجو لها السلامة. ولكن السلامة لم تتمّ وكانت الفاجعة بعد ذلك بيومين، سمعنا بها ونحن في السفارة العراقية في كراتشي.
(1) انظر مقالة «من بغداد إلى جاكرتا» في كتاب «صور من الشرق: في أندونيسيا» (مجاهد).
ومرّت بنا الطيارة إلى البصرة فلم تنزل بها، ورأيت الناس فيها صغاراً كالنمل تمشي في الشوارع، وكانوا إذا رفعوا رؤوسهم رأوا طيارتنا صغيرة كأنها عصفور فوق سطوح المنازل! وهذا هو مَثَل المتكبر على عباد الله. والكبرياءُ لله وحده، والكبرياء كانت سبب هلاك إبليس واستحقاقه لعنة الله. المتكبر يرى الناس صغاراً وهم يرونه صغيراً، فليخجل الذين يستكبرون من البشر، وأوّل أحدهم -كما قال الأوّلون- نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة وهو بينهما يحمل في بطنه العذرة!
يغرّه أنه استطاع أن يطاول الجبال طولاً ويخرق بطونها قوّة واقتداراً، فإذا جاء الأجل واراه التراب لا يملك دفعاً ولا حراكاً. أنا أعدّ هذه الكلمات وأمامي الجريدة فيها صورة تشيرنينكو، الرئيس السوفياتي الذي ظنّ بإلحاده أنه يستطيع أن يحارب الله وأن يمحو من الأرض دين الله وأن يُكرِه الناس على الكفر، فاسألوه الآن لو استطعتم سؤاله: ماذا وجد؟ اسألوه ماذا أعَدّ للقاء الله الذي لا مهرب منه ولا معدى عنه؟ اسألوه ماذا هيّأ لنفسه ليجتاز الصراط فلا يسقط تحته؟
ما أغنى عنه ماله، وقد هلك عنه سلطانه، وانفضّ عنه جنده وأعوانه، ونزل التراب وحده، وسيقوم بين يدَي ربّه للحساب وحده. فيا أيها الطغاة اعتبروا؛ فلقد كان هذا الرجل أقوى منكم قوة، وكان أضخم جيشاً، وكان أكثر مالاً، وكان أعزّ سلطاناً، فذهب ذلك كله ولم يبقَ في يده منه شيء. اجعلوه عِبرة لكم، فالعاقل من يعتبر بغيره والأحمق من يكون هو العِبرةَ لغيره.
* * *
ومرّت بنا الطيارة فوق أرض فارس، فوق إيران؛ البلاد التي ملأ ذكرها تاريخنا، وغلبت أسماء بلدانها على ألقاب علمائنا الذين خرجوا منها والذين غدوا من دعائم صرح مجدنا: الرازي (نسبة إلى الريّ، وهي طهران أو قريبة منها) والقزويني والجرجاني والتبريزي والأصفهاني والشيرازي، وعشرات لهم مثل هذه الألقاب لكل واحد منها في نفوس المتعلّمين منّا والمتأدّبين ذكريات حافلة بالأمجاد.
جزنا العراق ثم طرنا فوق إيران. وهما جارتان، فكيف جارَتا حتى تقاتلتا؟ وهل تتقاتل الأختان أم تتقابلان وتتعانقان؟ وما لهما -وهذه الروابط تربط بينهما- يدع كلّ منهما عدوَّه، بل عدوّهما، ويوجّه قوته إلى الصديق بدل العدو؟!
لمّا جزت بالبصرة من فوق ذكرت أياماً لي فيها لم تكن من أطيب الأيام ولم تكن ذكرياتها من أحلى الذكريات، ولكن المرء يحنّ إلى ما مضى من عمره، كأن فقده منه ويأسه من عودته حبّباه إليه فرأى آلامه مسرّات.
لم أكُن أرى -وأنا أطير فوق هذه البلاد الواسعة- إلاّ أضواء متناثرة، تلوح لحظة من أعماق الأعماق ثم تختفي. فقلت في نفسي: ما أشدّ غرور ابن آدم بهذه الدنيا! إن في هذه الظلمة التي تمتدّ من تحتي لَعالَماً يتنازع أهله، يدفعهم الطمع أو الفزع فيقتتلون ويبيعون الآخرة وما فيها بدنيا هم واثقون من زوالها. وأنا حين علوت في الجوّ لم أرَ من هذا العالَم إلاّ ظلاماً تلوح فيه مصابيح ضئيلة. فكيف يرى أرضَنا كلَّها من يعيش في الكواكب البعيدة (إن
كان فيها ناس يعيشون)؟ إن هذه الكرة كلها لا تبدو لعينيه أكثرَ من ذرّة مضيئة في الفضاء، كهذه الذرّات التي نراها تسبح في جوّ الغرفة في أشعة الشمس التي تدخل من نافذة الجدار إذا كنس الخادمُ أرضَ الدار.
فما أحقر الدنيا وما أشدّ غرور الإنسان! وغبت لحظة عن حاضري وشعرت كأني أعيش في التاريخ، أمشي مع القوافل التي كانت تحمل خيرات الأرض من الشرق إلى الغرب وتعود بمثلها من الغرب إلى الشرق، وحيثما سارت استظلّت بظلّ العَلَم الإسلامي، عَلَم الدولة التي تملك هذه الأرجاء كلها. وأساير الطلبة الذين كانوا يقطعون هذه المراحل الطوال ويصبرون على المشقّات والأهوال ليروُوا حديثاً أو يتعلّموا مسألة. فما أعظم هِمَم أولئك العلماء!
كنت أعيش في الماضي أيام كان الحكم في الأرض لنا، والعلم فينا، والمال معنا، والمجد في ركابنا، وكل خير بأيدينا، لأن أيدينا كانت ممسكة بمفتاح كل خير، ومفتاحُه القرآن.
وعاد بي إلى الحاضر صوت مضيفة الطائرة تقول بالإنكليزية: العشاء! وهي فتاة مولَّدة، نصفها هولندي ونصفها جاويّ، جمعَت الجمال من أطرافه: فتنة الغرب وسحر المشرق. وجاءت بالعشاء سخناً قد طُبخ في الطيارة. وهذه الطيارة كانت يومئذ عَجَباً من العجب، لم تكن نفّاثة (ولا أظنّها عُرِفت يومئذ الطائرات النفّاثة)، ولولا الألفة والعادة لرأينا فيها معجزة، ففيها ثمانون مقعداً كلّ مقعد له زرّ تكبسه بالأصبع فينقلب المقعد سريراً كاملاً، وفيها
بهو للمدخّنين فيه أرائك لا تؤجّر ببطاقات، بل هي مباحة لكل راكب يريد أن يتناول السمّ البطيء بامتصاص الدخائن (السجائر)، وفيها أسِرّة للأطفال مخبوءة في الجدران، إن كانت ثمة أمّ وأرادتها مسّت زراً فخرج لها من الجدار سرير.
فندق كامل يطير في الجو، وهي لا تهتزّ ولا تتحرك لأنها تستطيع أن تعلو حتى تجاوز مكان الاهتزاز. ولقد نظرت مرة فإذا تحتنا، تحت في الأعماق، سحاب مركوم يحجب الأرض وإذا فوقنا سحاب مركوم يحجب الشمس، ونحن نمشي بينهما في جوّ ليس فيه ذرّة من السحب.
ولمّا انقضت سبع ساعات كاملة قيل: لقد دنونا من كراتشي وسنهبط، فشدّوا الأحزمة على أوساطكم.
سبع ساعات قطعنا فيها خطاً مستقيماً طوله ثلاثة آلاف وخمسمئة كيل، مَن مشاها على الأرض في الطرق الملتوية مشى ستة آلاف كيل (كيلو متر). سبع ساعات قطعنا فيها ما كانت تقطعه القوافل في ثلاثة أشهر.
هذه كراتشي التي دخل منها الإسلام إلى القارة الهندية، فكانت فاتحة كتاب أمجادنا في تلك الديار، وستكون إن شاء الله فاتحة كتاب مجدنا الجديد. من هنا دخل ابن القاسم، القائد العربي المسلم، ومن هنا بعد حين (أو من طريق قريب من هنا) دخل القائد الأفغاني المسلم السلطان محمود الغزنوي، ومن هنا دخل الفاتحون المسلمون الذين أراقوا على كل ثرى دماً من دمائهم زكياً، وتركوا في كل أرض شهيداً عزيزاً، وخلّفوا في كل بلد مَن
يُشعِل للناس المصباح الهادئ في ليل الجهل والظلم، يدلّهم على طريق الحقّ والخير حين يلقّنهم أحكام الإسلام.
إن التاريخ مليء بأخبار الفتوح؛ لقد شرّق الإسكندر حتى بلغ بفتحه الصين، وغرّب المغول وقَبيلُهم حتى وصلوا إلى روما مرة وإلى حدود مصر مرة، وفتح نابليون أوربّا، وجاء مئات من الفاتحين، جاء هتلر وجاء غيره مِمّن ظنّ أن الدهر قد سلّمه قياده وأن النصر قد مشى في ركابه
…
فكان ذلك كلّه فتحاً عسكرياً يبقى ما بقي السيف أو المدفع، فإذا زال زال. أما الفتح الإسلامي فكان فتحاً للقلوب وفتحاً للعقول، فبقي أثره إلى يوم القيامة (1).
وقطع عليّ تفكيري -كرّةً أخرى- صوت المضيفة تقول: حلّوا الأحزمة فقد هبطنا في كراتشي. فهبطَت بي من سماء الذكرى والحلم إلى أرض الواقع.
* * *
(1) انظر مقالة «الفتح الإسلامي» في كتاب «فِكَر ومباحث» ، وقد نُشرت سنة 1936. وفي كتاب «أخبار عمر» مقالة بنفس العنوان نُشرت سنة 1946، وبين المقالتين تشابه وبينهما اختلاف (مجاهد).