الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-144 -
صور ولمحات من كراتشي
ما أدهشني لمّا وصلنا مطار كراتشي أنني رأيت المراوح الكِبار فوق مكاتب موظفي المُكوس (الجوازات) وهم بقمصان ما لها أكمام، ونحن نلبس الصوف من تحت الثياب والمعاطف من فوقها وفوق ذلك العباءات! فكدت أحترق، ولكن برودة الموظف الذي وقفنا أمامه، هذه البرودة التي أعداه بها الإنكليز على ما يظهر، أطفأَت الحريق الذي أوشك أن يشبّ فيّ وردّتني إلى برد بغداد التي فارقناها وهي في الشتاء.
وكان وراء الحاجز سفراء السعودية ومصر والعراق وسوريا، ووفود الجماعة الإسلامية وحشد ضخم من كرام القوم، تركوا بيوتهم وجاؤوا إلينا يسلّمون علينا نصف الليل، وأخونا الموظف لا يحسّ بهم ولا ينقص من عمله شعرة.
وانتهت الإجراءات أخيراً ففتحوا لنا، لا عناية بنا بل لأنها وصلَت طائرة جديدة ودخل وفد آخر من المسافرين. وخرجنا فوجدنا سفير مصر الصديق الجليل الدكتور عبد الوهاب عزّام، وسفير السعودية الصديق الفاضل الشيخ عبد الحميد الخطيب،
وسفير سوريا الصديق الكريم ورفيقنا في المدرسة (وإن كان متقدّماً عني وكان أكبرَ سناً مني، لكن لا تشوا بي إليه فتخبروه بأني فضحت سنّه) الأستاذ جواد المُرابط، والسفير العراقي الفاضل النبيل الشيخ عبد القادر الجيلاني، وأمير الجماعة الإسلامية الداعية العالِم المودودي وصحبه، والمفتي الشيخ محمد شفيع، وجماعة التبليغ الإسلامي، وكبار التجّار، وجماعة من الصحافيين والمصوّرين الذين أزاغوا أبصارنا ممّا أبرقوا بمصابيحهم أمامنا.
وأنا أحب أن أسرع فأقرّر حقيقتين وجدناهما من أول ساعة دخلنا فيها باكستان، وكلّما مرّت الساعات ازددنا إيماناً بهما، هما:
(1)
إن القوم هنا يُحبّون العرب حبّ تقديس، ويتبرّكون بالعربي تبرّكاً، ويعدّون معرفة العربية شرفاً ومجداً، بل إنهم يرون تعلّمها ديناً، لأنها لغة قرآنهم وسنّة نبيّهم، ولا يسرّهم شيء كما يسرّهم التقرّب إلى العرب. رأينا هذه الحقيقة عند الحاكمين والمحكومين والكبار والصغار والمتعلّمين والجاهلين.
(2)
وإن عتبهم علينا بمقدار حبّهم لنا. يتألّمون لأنهم يُقبِلون علينا ونُعرِض عنهم، ويَدْعون بالدعوة الإسلامية التي تُدخِلهم فينا وندعو بالدعوة العربية التي تُخرِجهم منّا، حتى إنهم كانوا يشكون من بعض الصحافيين العرب لأنهم كانوا ينصرون الهند على باكستان تبعاً لإمامهم الذي كاد يقودهم في طريق النار، فرعون الجديد الذي صنع ما لم يصنع الفراعنة الأوّلون. سمعنا هذا العتب من أكبر رجال باكستان على الإطلاق، كما سمعناه من
المشايخ والطلاب ومن عوامّ الناس.
وحقيقة ثالثة أستعجل بتقريرها، هي الشكر الحقّ على الرعاية والعناية التي وجدناها من السفراء العرب في باكستان، فلم يكن يمضي يوم دون أن نزور السيد عبد الحميد الخطيب والسيد الدكتور عبد الوهاب عزام أو الأستاذ الجيلاني أو الأستاذ المرابط، يستقبلوننا ويُكرِموننا ويمهّدون لنا طريق الاجتماع بالرجال المسؤولين ويصحبوننا إليهم. أمّا الدعوات والسهرات وإرسال السيارات إلينا فشيء لا يُحَدّ ولا يبلغ شكره القلم ولا اللسان.
* * *
لم نخرج من المطار حتى جاوزنا منتصف الليل وانتهينا من المعاملات الرسمية والاستقبالات. والإنسان مفطور على حبّ الاستطلاع، لذلك يجد المسافرُ المتعةَ الكبرى في قدومه ليلاً على بلدة جديدة وانتظاره الصباح ليُرفع له الستار عنها؛ يحسّ في ليلته تلك كأنه في حلم طال حتى اتصل بالنهار فكانت الحقيقة هي تَتِمّة الحلم. فكيف إذا كان يقدم على عالَم جديد كشبه القارّة الهندية، التي كانت ولا تزال غاية أمل كل سائح، الهند التي يثوي فيها أكثر من خُمس بني آدم.
لذلك كنت لمّا خرجت من مطار كراتشي في شبه نشوة، شديد الانتباه مفتوح العين، لكن الظلام كان يلفّ دوني كلَّ شيء بستار أسود. وكان بين المطار والمدينة أكثر من خمسة عشر كيلاً، مشيناها في طريق لم نجد على طرفَيه إلاّ تخوم الصحراء. هذه
الصحراء التي لازمَتنا من دمشق إلى كراتشي، فكنّا حيثما طرنا وجدناها تحتنا، فكلّ بلاد العرب صحارى، واتصلَت إلى ما حول كراتشي. ثم اختفت الصحراء فلم نعُد نجد من كلكتّا إلى آخر جزر أندونيسيا إلاّ أرضاً مخضرّة، تغطيها مزارع الأرز وغابات المطّاط والنارجيل والموز ومنابت الشاي.
كما أنني لم أجد في أوربّا -لمّا زرتها- إلاّ أرضاً مخضرّة كلّها أشجار ونباتات، وجبالها تلبس جلباباً من الغابات. فكأن الصحراء نطاق يلفّ الكرة الأرضية من خصرها من باكستان وإيران إلى جزيرة العرب إلى شمالي إفريقيا، وأحسبها تمتدّ (وإن لم تكن متصلة) إلى صحراء نيفادا وراء البحر. وأحسب (والله أعلم) أن الله لمّا قسم الخيرات جعل خير هذه الصحارى في بطنها، نفطاً، ذهباً أسود، كما جعل الخير فيما سِواها على كتفَيها وعلى رأسها، ورداً وزهراً، وماء جارياً وثمراً طيّباً دانياً.
فلما قاربنا مدينة كراتشي بدت لنا على الجانبَين مغانٍ ودارات أنيقة (أي فيلات) متناثرة. وكان أول ما عجبت منه أن السائق كان يسير بنا على يسار الطريق، فحسبته نائماً أو سكران ونبهت مَن معي إلى ذلك، فعجبوا من عجبي، وإذا هي طريقة الإنكليز: يخالفون الناس في كلّ شيء؛ إن مشَت سيارات الناس على يمين الطريق مشوا هم على شماله، وإن قاس الناس بالمتر قاسوا بالياردة، وإن وزنوا بالكيلو وزنوا بالليبرة والرطل، ولا يكتفون بهذه المخالفة حتى يفرضوها على ثلث أهل الأرض، ولا يقول لهم أحد: ماذا تفعلون؟ فإذا قسنا نحن بالذراع أو كِلْنا بالمُدّ أو وزنّا بالرطل قامت علينا القيامة، ووُصِمنا بكلّ وصمة سوء واتُّهمنا بأننا خصوم المدنية
وأعداء التقدّم!
ولست أقول هذا لنترك المتر ونعود إلى الذراع وندع اللتر ونرجع إلى المُدّ. لا، ولكن لأبيّن كيف تكون سيّئات الضعفاء حسنات الأقوياء.
وأوّل ما يراه الغريب من البلدة التي ينزلها ثلاثة: الفنادق والسيارات ومظاهر العمران. لذلك تحرص كلّ أمة على تحسين فنادقها ووسائل مواصلاتها، وتُعنى بسياراتها العامّة، وأخلاق سائقيها وعُمّالها وانتظام سيرها.
أمّا فنادق كراتشي فقد رأيت منها الفندق الذي حجزوا لنا الغرف فيه أوّل ما وصلنا، وكان ميزان الليل قد مال والصبح قد اقترب، فلم يعجبني وسألت: أليس في البلد غيره؟ فأخذونا إلى فندق سنترال، وهو أحد الفنادق الثلاثة الكبرى في كراتشي. وسرّني منه أنه عمارتان منفصلتان، إحداهما للطعام والشراب والموسيقى والسماع، والأخرى للمنام. نزلنا في غرف كلّ غرفة منها جناح كامل أو منزل صغير.
وكان التعب يجرّني إلى الفراش جراً، ويدفعني إلى النوم دفعاً، ولكنني خفت أن تفوتني صلاة الفجر فأبدأ رحلتي في باكستان بهدم ركن من أركان الإسلام، فانتظرت حتى أذّن الفجر وصلّيت مع القوم وأويت إلى سريري، وحب الاستطلاع وترقب النهار الذي أرى فيه أول بلدة في القارة الهندية يطردان النوم من عيني.
وقد لبث المستقبلون معنا حتى صلّينا الفجر، فما مضت ثلاث ساعات حتى أيقظني من منامي قرع باب الغرفة، فقمت مضطرباً فإذا هو النادل (الجارسون) يحمل صينية الشاي. فصِحت به أسأله من الذي أمره أن يأتيني بالشاي في مثل هذه الساعة. فحار وعجب وكلّمني بلغة لا أعرف ما هي، فما فهمت عنه ولا فهم عني.
وتبيّنت بعد ذلك أن هذه عادة الإنكليز، يشربون الشاي في السابعة تماماً لا يسبق دقيقة ولا يتأخّر دقيقة. وقد وجدت عادات الإنكليز معي في كلّ فندق نزلناه إلى آخر الرحلة، ولم أفهم معنى قولهم:«إن المؤمن يأكل في مِعَىً واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء» (1) إلاّ حين عاشرت الإنكليز ورأيت أكلهم.
يُفيقون الساعة السابعة فيأخذون الشاي بالحليب قبل القيام من الفراش، فإذا مرّت ساعة جاء الفطور فأكلوا أكل من لا يخشى الفَزْر: بيضتين وقطعة لحم وزبداً ومُربّى وشيئاً اسمه «البودينغ» لا أدري ما هو، وشربوا معه الشاي باللبن. فإذا جاء الظهر أكلوا أكلاً لَمّاً: لحماً بارداً ولحماً حاراً ورزاً وخضراً وحلوى وفاكهة. فإذا كانت الساعة الرابعة أكلوا الفَرَانيّ (أي الكاتوه) وشربوا عليه الشاي باللبن الحليب، فإن كان المساء أكلوا أكبر من أكلة الظهر. ولا يأخذون الخبز مع ذلك كله إلاّ مُغطّى بالزبد. والعجيب حقاً أنه ليس لهم -مع ذلك الأكل كله- أكراش ظاهرة ولا بطون كبطون الحبالى ولا يركبهم الشحم! فأين يذهب هذا الطعام كله؟
(1) حديث صحيح رواه مسلم (مجاهد).
وكان من أثر حُكم الإنكليز أنْ تركوا في مظاهر الحياة في الهند وباكستان كثيراً من آثارهم، فأسماء الشوارع في كراتشي إنكليزية (أو كانت في العهد الذي أتكلّم عنه، قبل ثلاثين سنة كاملة، إنكليزية) وعادات العلية من الناس عادات إنكليزية، واللغة الإنكليزية فاشية بين الكبار والصغار. وكثيراً ما رأيت فقيهاً في مسجده أو تاجراً في سوقه وهو ينطق الإنكليزية كأهلها، مع أن النطق بها عمل من الأعمال الشاقّة التي يُحكَم بها على عُتاة المجرمين!
وكان من عادتي إذا نزلت بلداً أنني أحفظ اسم الفندق ثم أمشي على غير هدى، أمشي الساعة والساعتين والثلاث، ثم أقول لسائق السيارة (أو الركشة، وسأخبركم ما هي الركشة): خذني إلى فندق كذا، فيأخذني إليه.
مشيت مرة ثم ركبت ركشة فقلت لسائقها: "سنترال أوتيل"، فما فهم عني. فكرّرت اللفظ وهو يهزّ رأسه بأدب، فكتبت له الاسم كتابة على ورقة كانت معي، فضحك وقال:"صنطرل هطل"؟ أي أنه خطف الراء وفخّم اللام ومضغ الكلمة بين لسانه وأسنانه مضغاً حتى صار الأوتيل هطلاً، وكانت هذه هي بلاغة الكلام عند الإنكليز.
ولقد كتبت مرة أقول إن اللغة الإنكليزية أفظع اللغات، وإن كنت لا أعرفها، أشهد عليها بما سمعته عنها. فيها حروف تُكتَب ولا تُقرأ وحروف تُقرَأ وهي غير مكتوبة، وحروف تُقرأ في كلمة على صورة وتُقرأ في الكلمة الأخرى على صورة غيرها، وقواعدها
سماعية ليست قياسية، واللفظ بها شنيع. وهم مع ذلك قد فرضوها على رُبع العالَم، لأن أصحابها أهل اعتزاز بها وحرص عليها، ونشاط في تسهيل تعليمها والدعوة إليها، حتى إننا نجعل لها في مدارسنا خُمس الساعات الأسبوعية أو سُدسها ونوزّع الأخماس الأربعة على الدروس الباقية كلها، ثم لا يأخذ منها أبناؤنا ما يسهّل عليهم الدراسة بها إذا ذهبوا يُتِمّون تعليمهم في البلاد الأخرى بل يُمضُون سنة من أعمارهم في تعلّمها من جديد.
ولغتنا العربية أكمل لغات الأرض بلا جدال، صارت لغة كاملة قبل أن يُوجَد في الدنيا كلها من يقول عن نفسه أنا إنكليزي وقبل أن تعرف الأرض هذا الجنس، ولا أقول المبارك. ولم يشهد التاريخ ولادتها ولا طفولتها ولم يعرفها إلاّ بالغة رشدها، لأنها أكبر من التاريخ وأقدم منه مولداً. ولا نزال نجد في هذه اللغة التي كانت مستعمَلة قبل ألفَي سنة كلمات تفي بكل ما يحتاجه أستاذ الطبّ وأستاذ الحقوق وأستاذ العلوم في الجامعة
…
ولا أقول هذا خيالاً ولا فرضاً مستحيلاً، بل أُخبِر عمّا صنعه أساتذة كلية الطب في دمشق حين عرّبوا المصطلحات كلها في السنين الستين الماضية.
ولكنْ قعد بهذه اللغة العربية النبيلة، قعد بها أننا نحن أبناءها (1) لا نعتزّ بها اعتزاز الإنكليز بلغتهم الشوهاء، ولا نحرص عليها حرصهم على لغتهم ولا ننشط في تعليمها ونشرها مثل نشاطهم. بل إن فينا من يظنّ بأن من الظُّرف والحضارة أن يدَع الكلمة العربية
(1) كلمة أبناءها منصوبة على الاختصاص.
الفصحى وينطق بمرادفتها من الإنكليزية أو الفرنسية، فلا نقول «خِمار» ولا «وِشاح» بل «إشارب» ، ولا نقول «معطف» بل نقول «مانطو» ، ولا نقول «البُرد» بل نقول «روب دو شامبر» ، ولا نقول «تِقانة» بل نقول «تكنولوجيا» ، وأمثال ذلك مئات.
عفواً يا سادة فقد خرجت عن الموضوع، بل أنا على الأصحّ لم أدخل بعدُ في الموضوع.
* * *
أمّا وسائل الركوب في كراتشي فكثيرة متنوّعة، منها السيارات الصغار (التاكسي)، وكنّا إن ركبناها وأسرعَت بنا لم نرَ شيئاً. ومنها عربات الخيل، ولكن الخيل ليست مهذّبةً التهذيب الكامل، فهي لا تمتنع عن أن تؤذينا ونحن خلفها بفعل قبيح أو رائحة كريهة تنقض وضوءها لو كانت متوضّئة! ومنها السيارات الكبيرة (الباصات)، ولكنها كانت تلك الأيام، سنة 1954، عتيقة ومزعجة. وكان في كراتشي ترام يسير على المازوت (السّولار)، فلم يبقَ إلاّ الركشة.
و «الرَّكْشَة» هي المركب الشعبي في آسيا كلها، وهي في الأصل عربات صغيرة جداً تتسع لراكب واحد يجرّها إنسان مثلي ومثلكم ويعدو بها. وقد ركبتها -كما سأحدّثكم- في كلكتا، المدينة الهائلة التي كان فيها في تلك الأيام خمسة ملايين ونصف مليون، أي بمقدار سكان سوريا ولبنان والأردن (في تلك الأيام)! وكان السائق رجلاً عجوزاً لم يبقَ منه إلاّ قفص عظام، ولم أكُن أريد الركوب لأنني أخجل من الله أن أقعد في عربة يجرّها بشر، لا
سيما إذا كان شيخاً كبيراً. لكنه توسّل إليّ وألحّ عليّ حتى أركب معه، فأعطيته الأجرة ومشيت، فأباها ورفضها وأصرّ على أن أركب. فركبت وانطلق راكضاً، وحرارة الجوّ فوق الأربعين والعرق يغسل جسده، وأنا أرجوه أن يُبطئ وأكلّمه بالإشارة، وهي اللغة التي لم أكُن أعرف غيرها في رحلتي كلها، فيظنّ أني أستحثّه فيزداد ركضاً وإسراعاً، حتى وَقْفتُه وأعطيته أجرته، وزدته عليها ونزلت فأخذت سيارة.
والغريب حقاً أن هذه العربات يجرّها الإنسان، والبقر المقدسة تمشي في شوارع الهند -كما سترون- طليقة. وليست بقرة ولا بقرتين ولا عشراً، بل إنك لا تمشي عشرين متراً في كلكتا مثلاً حتى تلقى بقرة. وقد تمرّ واحدة في الشارع العظيم فيَقِفُ لها الشرطيُّ السيارات حتى تجتاز بسلام واحترام. وقد تأكل أثمن الفاكهة من الدكاكين أو أندر الأزهار من الحدائق فلا ينهاها أحد، بل يتبرّكون بها! وسيأتي خبر ذلك كله إن شاء الله.
هذا هو الأصل في الركشة. لكنها تطوّرَت فلم يعُد يجرّها رجل. بل صارت مقعداً مربوطاً بدرّاجة يركبها السائق ويحرّكها برجلَيه. والمقعد في كراتشي وراء سائق الدرّاجة وفي أندونيسيا أمامه، كأنهم خافوا أن يهرب من غير أن يدفع الأجرة أو أرادوا من الرّاكب إذا كان حادث اصطدام أن يتلقّاه بوجهه الكريم وأن ينجو السائق سالماً! ورأيت الركشة في سنغافورة إلى جنب راكب الدرّاجة. ثم تطوّرَت الركشة فصار مقعدها يُربَط بدرّاجة آليّة (بخارية) فلا يتعب السائق بتسيِيرها، ولم تبقَ الركشة الأصلية إلاّ في المدن الهندية العتيقة مثل كلكتا.
كراتشي مدينة جديدة مشرقة مضيئة، على الضدّ من كلكتا. كانت قبل إنشاء باكستان مدينة صغيرة فصارت من بلاد العالَم الكبار، وكانت لمّا زُرناها عاصمة باكستان، فهي مرفأ عظيم ومطارها من أكبر المطارات، وهي باب الشرق كلّه. شوارعها فسيحة فيها الأشجار المزهرة، الشجرة منها بحجم شجرة الجوز الكبيرة ولكنها ذات زهر دائم أحمر أو أصفر.
وأوّل ما ينتبه إليه المسافر إذا نزل بلداً نظامُ السير. وهو في كراتشي على غاية من الضبط والإحكام، تتسابق السيارات في الشوارع كأنها بنات الجِنّ ولا ترى حادثاً واحداً، وللمارّة عند تقاطُع الشوارع نفق تحت الأرض من جانب إلى جانب. ورأيت وأنا أمشي في كراتشي برجاً عالياً فيه ساعة ضخمة وتحته بناء جديد له بوّابة كبيرة، فحسبته جامعة أو مكتبة عامّة، ورأيت الناس يدخلون إليه فدخلت مع الداخلين، فوجدته ليس بالجامعة ولا بالمكتبة ولكنه سوق الخضر! سوق نظيفة عجيبة مرتّبة أجمل ترتيب، فقِسم للقصّابين ليس فيه ذبابة واحدة، وقسم للخضر، وقسم للفواكه، وأقسام لكلّ ما يحتاج إليه البيت، والأسعار محدّدة معلَنة. وإذا في كل حيّ من أحياء البلدة مثل هذه السوق.
وكنت كلّما سرت مئة متر وجدت دكاكين صغاراً فيها رجال قاعدون، وأمام كل واحد منهم جامان من النحاس الأصفر وورق شجر أخضر يلفّه ويضع عليه ممّا في الجامَين، والناس مزدحمون عليه. وقد ذكر هذا الورقَ وطريقة استعماله ابنُ بطّوطة في رحلته، وقد بقي من أيامه إلى الآن لم يتبدّل ولم يتغير. هذا هو ورق «الفوفل» يأخذونه ويضعون عليه شيئاً حاراً ملوّناً ويمضغونه ثم
يبصقونه في الطرق أو في آنية تكون في المجالس، على صورة لا يستحبّها مَن لم يتعوّدها. فترى شفاههم محمرّة منه، وهو يُقدَّم بدلاً من الدخائن (السجاير) أو معها، وتقديمه من علامات الإكرام.
والمترَفون من الناس يتخذون في جيوبهم علباً وقناني صغاراً فيها من هذه البهارات وهذه الموادّ كما يتخذ المدخّنون علب الدخائن، وهم يزعمون أنه ينقّي الفم ويقوّي الأسنان. وهذا الورق لا يَنبت شجرُه في كراتشي بل يأتون به كل يوم -كما سمعنا- بالطيارة من الهند؛ أي أنه في الهند كمصيبة القات في اليمن، نجّى الله البلدَين من هاتين المصيبتين.
والأسواق كثيرة والبضائع فيها معروضة عرضاً جميلاً. ولقد مررت مرة على مخزن واسع في وسط البلد كأنه من كثرة الأنوار كالثريّات شعلة أو كأنه دار فيها عرس، فدخلته فإذا جامات كبيرة مضاءة مملوءة بزهور ملوّنة حمراء وصفراء وخضراء على هيئة النجوم والأوراد والأزهار، مصفوفة في الصواني مزينة بنقاط من الفضّة اللمّاعة أو بالورق الذهبي أو الفضّي، والناس يقفون على الجامات يأخذون منها.
منظر هو الغاية في حسن العرض وتوزيع الأضواء والنظافة. وإذا هي الحلوى الباكستانية، هذه أشكالها وهذه طريقة عرضها. وهي كلها كالحلوى المسمّاة في الشام «الغُرَيْبَة» ولكنها هنا أدسم وأكثر دهناً، تخلط بأنواع من العطور والبهارات فيختلف طعمها باختلاف لونها، وأكثرها لا يخلو من لذعة كلذعة الفلفل الخفيف.
* * *
أقمنا في كراتشي يومين، ثم دُعينا إلى حفلة كبيرة في حديقة واسعة اسمها -كما أذكر- حديقة آرام باك. وكان في صدرها دكّة عالية عليها صدور المدعوّين ووجوههم وكبارهم، وكانت عادتهم أن ينصبوا لكل حفلة عريفاً، وكان عريف هذه الحفلة الدكتور عبد الوهاب عزّام. وسألت عن سبب الاجتماع فقالوا إن سببه هو المطالبة الشعبية بتطبيق الدستور الإسلامي.
كانت باكستان حلماً في خيال شاعر اسمه محمد إقبال وكانت هدفاً في رأس سياسي اسمه محمد علي جنّة (جناح)، ولكن الإسلام الذي دعوا إليه كان أقرب لأن يكون إسلاماً سياسياً منه إلى الإسلام الحقيقي الذي يقيم شرع الله كاملاً، يلتزم بأحكامه ويؤدّي فرائضه ويبتعد عن حرامه، ولذلك ضاق صدر الشعب بالانتظار فدعا إلى هذا الاجتماع.
حديقة كبيرة جداً والناس فيها آلاف مؤلّفة لا أدري كم عددهم، ولكنني لم أكُن أبصر وجه الأرض من كثرتهم. ومن عادتهم في مثل هذه الحفلات أنهم يقعدون على الأرض لا على الكراسي، فيتسع المكان لعدد أكبر.
خطب خطباء باللسان الأردي الذي لا أعرفه، وألقى بعض الشعراء قصائد. ومن عادة الشعراء أنهم يُلقُون قصائدهم ملحّنة، أي أنهم يغنّونها غناء. وهو شيء جديد لم أكُن أعرفه من قبل، وإن كان لفظ «أنشد شعراً» قد يُشير إلى أن إلقاء الشعر لا يخلو من بعض النغم عند العرب قديماً.
دعَوني إلى الكلام. وكان الذي يترجم لي إذا خطبت الشيخ
القدوسي، وهو المترجم في المفوّضية السعودية، يُحسِن العربية ويُحسِن الأردية. فألقيت كلمة كان لها وقع عظيم، وصدرت الجرائد لا سيما جريدة «الفجر» (وقد نسيت اسمها الأردي) وجعلت العنوان الكبير لذلك العدد جملة من خطبتي.
قلت في هذه الخطبة ما خلاصته: إنكم انفصلتم عن الهند لأنكم مسلمون وأقمتم هذه الدولة على أن تكون دولة إسلامية، فإذا لم تُقيموا فيها حكم الله ولم تطبّقوا فيها الإسلام فلا معنى لقيام باكستان، فارجعوا إلى الهند.
وقد تَرجم لي هذه الفقرة إلى اللغة الأردية فألقيتها بها. ولعلّي حرفت الكلام أو أضعت بلاغته بسوء تعبيري، فإن لهجة الكلام وإيقاعه قد تبدّل معناه: كنت مرة في دمشق فرأيت سائحاً أجنبياً قد ضلّ الطريق؛ فسألني: "سوكيل أميديا"؟ فلم أفهم عنه. فأعاد الكلمة فلم أفهم، وإذا به يريد أن يسألني عن سوق الحميديّة! فتصوّروا كيف يُضيع سوء الأداء وقبح النطق معاني الكلمات.
صرت بعد هذه الحفلة خطيباً شعبياً. وكانت تلك الأيام أيام ذكرى الإسراء والمعراج والحديث عن فلسطين، فوجدت في كلّ كراتشي مثلَ ما تركت في الشام، يتسابق الأحياء في مثل هذه المناسبات إلى إقامة الحفلات وإلقاء الخطب. وكان من أبرز الخطباء الشعبيين في تلك الأيام عبد الربّ نشتر، وهو خطيب بليغ بِلُغته الأردية ووزير سابق ورجل معروف.
وكان من الخطباء الشيخ الصوفي البدايوني، وهو كما فهمت من أبلغ من يخطب باللغة الأردية، وجماعة قلّما تخلو حفلة منهم.
فضمّوني إليهم وألحقوني بهم، فصرت كلّما أقيمت حفلة أثناء مقامي في كراتشي أكون بين خطبائهم، أتكلّم العربية ويترجم عني المترجمون إلى اللغة الأردية. وأشهد أن الشعب هناك شعب يُحِبّ البلاغة ويتأثر بها وينقاد للخطباء، ويُصغي إليهم ويعمل بما يقولون.
أقمت في كراتشي شهرين ما مر عليّ يومٌ فيها إلاّ مشيت فيه أكيالاً كثيرة: خمسة أكيال أو عشرة أكيال، حتى عرفت البلدة كلّها مثل معرفتي ببلدان المملكة هنا الآن ومعرفتي بالشام التي هي بلدي ومعرفتي ببغداد وبالقاهرة وبعمّان. والحديث عن كراتشي طويل، وسأعود إلى إتمامه إن أذنتم لي في الحلقات المقبلات إن شاء الله.
* * *