المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌لمحات من أسلوب الاستعمار - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٥

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌لمحات من أسلوب الاستعمار

-150 -

‌لمحات من أسلوب الاستعمار

قال شاعرنا العربي من أكثر من ألف وخمسمئة سنة:

وأعلَمُ عِلمَ اليومِ والأمسِ قبلَه

ولكنّني عن علمِ ما في غدٍ عَمِ

لأن دون الغد ستاراً كثيفاً فلا يستطيع أحدٌ أن يطّلع عليه. ولكن أمامنا أمارات ربما أرشدَت إلى بعض ما يكون فيه؛ فأنت حين ترى قافلة السيارات تحمل أهل القرية وأثقالهم، تعرف من اتجاهها أين هو مقصدها. والمدارس هي الإشارة التي تعرف منها إلى أين يكون اتجاه الأمّة وكيف تكون حالها في غدها.

والمدارس في المملكة عمرها نصف قرن أو ستّون سنة، أُسِّسَت على التقوى من أول يوم لأنها قامت بأيد مؤمنة في ظل حكومة مؤمنة، وكانت كالبناء في الأرض الخلاء، لا يحتاج بانيه إلاّ إلى شقّ الأخدود ووضع الأساس ورفع الأركان والجدران، كما يريد ويشتهي، وإن عرض له رأي جديد كان سهلاً عليه التعديل أو التبديل.

ص: 331

أمّا المدارس في الشام فهي كالدار القديمة، التي مرّت عليها الأيام وتوارثها الآباء عن الأجداد، وربما ورثها الأجداد عمّن قبلهم. تعاورَتها الأيدي وتبادلَتها المُلاّك، وكل مالك لها يزيد فيها أو ينقص منها أو يبدّل في هندستها، حتى اجتمعَت فيها الهندسات، فكان بيتٌ منها كأنه مسجد فيه الكتب وغرفة منها كأنها ملهى فيها المحرّمات. حتى لم يعُد أكثرها يصلح للبقاء، ولا يجدَّد إلاّ بهدمه ونقل أنقاضه وإخلاء أرضه وإقامة الجديد عليها، أو بترقيعه وإصلاحه بمقدار ما يمكن الإصلاح والترقيع.

كانت المدارس في الشام أصنافاً ثلاثة: المدارس الأهلية، والمدارس الأميرية (الحكومية)، والمدارس النصرانية.

أما المدارس النصرانية فقد فُتحت لأهلها ولم يكن لأبنائنا مكان فيها، ولكنها امتلأت على مرّ السنين بأبناء المسلمين بحُجّة تعلّم اللغة الأجنبية. وهذه الحُجّة الواهية التي لا تَثبت للنظر ولا للتمحيص قد جرّت علينا شراً كبيراً.

أمّا المدارس الأهلية فكانت هي الأقوم سبيلاً والأكثر عدداً، وكان يملكها آحاد من الناس، ما للحكومة دخل في وضع مناهجها ولا في إدارتها ولا في اختيار معلّميها وأساتذتها. وكانت تحرص على تلقين الطلاّب العلوم الإسلامية وتعويدهم على أداء الواجبات والبعد عن المحرّمات، ولكنها كانت تسلك في التربية وفي أساليب التدريس أسوأ السبل؛ تقدّمَت الدنيا وارتقى التعليم فيها وهي في مكانها، لا تشعر بهذا التقدم ولا تحسّ هذا الارتقاء. وكانت الشدّة والقسوة هي الطريقة المختارة فيها، وكان

ص: 332

الفَلَق (التي تسمّيها العامّة الفلقة أو الفلكة) وعصا الخيزران هما عنوان تربية الأولاد.

وكانت هذه المدارس درجات: أدناها «الخُجَة» . والخجة امرأة تعلّم في بيتها، يأتون إليها بالأطفال لتحفّظهم قصار السور أو تلقّنهم حروف الهجاء، وتكون غالباً أمّية أو شبه أمّية، شمّت رائحة العلم ومشت في طريقه خطوة واحدة. وربما وُجدَت «الخجة» على شيء من المعرفة والإدراك، وذلك قليل. فقد كان عندنا في حيّ الصالحية في دمشق خجة عندها شبه مدرسة أولية، فيها أكثر من مئة وعشرين تلميذاً مقسومين إلى ثلاث شعب، يقعدون على مثل مقاعد المدرسة ويدرسون مثل ما يدرسه تلاميذ المدرسة.

وأرقى من الخجة «الكُتّاب» . ولي تجرِبة فيه كتبت عنها كثيراً من المقالات، ولكني نسيت أن أودعها هذه الذكريات (1). أدخلني جدي إليه قُبَيل إعلان الحرب الأولى وأنا طفل ما أحسب أني جاوزت الخامسة إلاّ قليلاً، فلبثت في هذا الكُتّاب من بعد صلاة الظهر إلى أن كان الانصراف بعد العصر، ساعتان أو ثلاث ساعات مرّ عليها الآن ثلاث وسبعون سنة، وكلّما تذكّرتها أحسست الرعب الذي أصابني فيها والألم الذي دخل عليّ منها والشقاء الذي استهللت به حياتي العلمية. فماذا يكون مبلغ العذاب الذي مرّ عليه أكثر من سبعين سنة ولا تزال مرارته في قلبي، ولا أزال كلّما ذكرته كأنني أراه أمامي؟!

(1) من شاء فليقرأ مقالة «في الكُتّاب» المنشورة في كتاب «من حديث النفس» (مجاهد).

ص: 333

وفوق ذلك مدارس ابتدائية منظَّمة، عرفتها تلميذاً ثم علّمت في أكثرها. وأقدمها وأشهرها مدرسة الشيخ عيد السفرجلاني. ولي عنه كتابات كثيرة، ويوم مات كنت أحترف الصحافة وكنت محرّراً في الجريدة الكبرى في دمشق، فكتبت عنه، فقال لي أحد الإخوان: أتشغل أعمدة الجريدة في الكتابة عن شيخ كُتّاب؟

ولم يدرِ أن شيخ الكُتّاب هذا كان من أساطين النهضة في دمشق. كان جندياً مجهولاً في معركة الإيمان والكفر والعلم والجهل، لبث سبعين سنة يعلّم الأولاد، فاجتمع في سجلاّته اسم التلميذ وأبيه من قبله وجدّه من قبلهما ووالد جده! وكانت مدرسته أولاً عند باب الفرج (1)، أحد أبواب دمشق السبعة، وكلّها باقٍ إلى الآن إلاّ باب النصر الذي كان في رأس سوق الحميدية. ثم انتقلت إلى المدرسة الجَقْمَقيّة، وهي من أجمل الأبنية الأثرية في الشام، جدّدَتها وأصلحَتها وأعادتها إلى رونقها وزارةُ الأوقاف بإشراف دائرة الآثار، ولكنها تركَتها خالية ليعجب منها السياح ويزورها الزائرون. ثم انتقلت إلى المدرسة الجوهرية. وقد علّمت في هذه المدارس كلّها.

ومن المدارس الابتدائية «الأمينية» التي كان مديرها وصاحبها الشيخ شريف الخطيب، وهو ابن خالتي. وقد كنت عنده تلميذاً، ثم صرت عنده معلّماً. والمدرسة الريحانية التي ورد ذكرها في كتاب أستاذنا كرد علي رحمه الله «المعاصرون» ، فندب مجمع

(1) في المناخلية، وهما بابان: باب على السور الخارجي وباب على الداخلي، وهما باقيان.

ص: 334

اللغة العربية أحد الناس للإشراف على طبعه وتصحيحه، فوضع في ذيل الصفحة حاشية تقول إن ذلك سَبْق قلم من كرد علي وإنها قرية الريحانية التي هي في جنوبي الشام قرب القدم.

هذا الرجل الذي وكّلوه تصحيح الكتاب كان يرفع الصواب الذي أثبته كرد علي ويضع الخطأ الذي توهّمه هو! والمدرسة الريحانية قديمة، أُزيلَت لمّا افتتح الشارع الكبير الموصل إلى دار أسعد باشا العظم. وقد عرفتها وأنا صغير، وكان القيّم عليها الرجل العجيب صاحب النوادر، الشيخ عبد الجليل الدرة، الخطيب الطلق اللسان، الحاضر الدمعة متى شاء، الذي يبكي في خطبته ويستبكي الناس عندما يريد، كأن في عينيه صنبوراً يفتحه فيقطر الدمع منه! أمّا قرية الريحانية فليست جنوبي الشام كما قال هذا المصحّح العلاّمة، بل هي في شماليها قرب دوما التي أمضيت سنين من عمري قاضياً فيها (1).

ولست الآن في مجال الكلام على مدارس الشام ورجالها، وإنما تكلمت عنها صلة للحلقتين السابقتين لأبيّن موقف المشايخ وأهل الدين منها وما أنكروه عليها، ومبلغ ما جاهدوا وعملوا على إصلاحها.

* * *

وكانت عندنا ثلاث ثانويات أهلية كبيرة رؤساؤها أو مديروها كلهم من المشايخ: الكاملية، وكانت تُدعى حيناً المدرسة العثمانية،

(1) انظر الاستدراك على هذا التعليق في أول الحلقة 152 من هذه الذكريات (مجاهد).

ص: 335

وكان صاحبها ومؤسّسها ومديرها الرجل الذي له الصدارة في الشام بين المربّين وبين السياسيين وبين المصلحين، الشيخ كامل القصّاب الذي شارك في وضع أساس التعليم في المملكة هنا.

والثانوية التجارية التي كان أبي مديرها، والتي مر الكثير من الكلام عنها. والثانوية الثالثة هي الكلّية العلمية الوطنية، وكان مديرها الدكتور منيف العائدي الأستاذ في كلّية الطبّ، ولكن رئيسها ومؤسّسها هو الشيخ أبو الخير (محمد خير) الطبّاع. ثم خَلَفه الشيخ راشد القوّتلي، أحد العلماء الوجهاء الأغنياء الصلحاء.

أما المدارس الأميرية (الحكومية) فكان أقدمها وأشهرها مدرسة الملك الظاهر عند قبره في مدرسته الأثرية، التي تقابل العادلية الكبرى التي فيها مجمع اللغة العربية. ثم كان في دمشق بعد الحرب الأولى خمس مدارس ابتدائية (وكانت المدرسة تُدعى «الأنموذج»)، وهي أنموذج الملك الظاهر، وأنموذج البحصة، وأنموذج المرجة، وأنموذج الميدان، وأنموذج المهاجرين.

وكان عندنا مدارس أولية أشهرها مدرسة الحبّال في أدنى القَيْمريّة، وكانت قديماً للشيخ محمد المبارك والد شيخنا الشيخ عبد القادر، وكان مِمّن تعلّم فيها أستاذنا محمد كرد علي. والمدرسة الريحانية والمدرسة السباهية.

وكان شيخ المعلمين الأستاذ سعيد مراد، وزميله في مدارس البنات الشيخ محيي الدين الخاني، والأستاذ عبد الرحمن السفرجلاني (ابن الشيخ عيد). وكان يدرّس في هذه المدارس

ص: 336

الابتدائية كثير من الأساتذة الأعلام، كشيخنا الشيخ محمد بهجة البيطار والشيخ الدكتور رفيق السباعي وشيخنا الشيخ حامد التقي، وآخرون ربما رجعت إلى الحديث عنهم. وكان يدرّس فيها من الشباب إخواننا أنور العطار وسعيد الأفغاني وسليم الزركلي وجميل سلطان وزكي المحاسني وأمجد الطرابلسي وأمثالهم.

وكل واحد مِمّن ذكرت في صدري عنه ذكريات وأنباء لو كتبتها لجاءت في صفحات كثيرة، ولكان منها تاريخ للمعلّمين في الشام.

وكانت هذه المدارس تديرها أيامَ الأتراك مديرية المعارف في الولاية، وأشهر مدير لها هو هاشم بك. ثم لمّا ذهب الأتراك آلَ أمرُها إلى وزير المعارف اسماً والمستشار (الفرنسي) فعلاً. وكان ركنا وزارة المعارف الأستاذ شفيق جبري والأستاذ مصطفى تمر، وكان أمر المحاسبة للأستاذ مصطفى القبّاني، وكان رئيس الديوان هو عبد النبي القلعي. وقد سبق الكلام أن رجال وزارة المعارف كلهم لا يجاوزون أحد عشر رجلاً، وعند المستشار أربعة أو خمسة: رئيس ديوانه (ولا أزال أذكر اسمه وهو إسبر زمباكوس)، وكان الترجمان عنده ميشيل السبع. وكلهم من النصارى، لأن الفرنسيين لا يثقون إلاّ بهم ولا يطمئنّون إلاّ إليهم، وإن جاؤوا بمسلمين فإنما يجيئون بمثل جميل الألشي وبهيج الخطيب.

وكانت للمعارف ثانوية واحدة للبنين هي «مكتب عنبر» وأخرى للبنات في طريق الصالحية، عند قبر عَرْنوس. يلحق بكل منهما دار للمعلّمين، يشاركنا طلابها في سائر الدروس وينفردون

ص: 337

عنّا في مادّتَي التربية وأصول التدريس، وربما تلقّوا معلومات في الصناعات.

* * *

قلت لكم إن للمدارس الأهلية معايب، ولكنها لها في مقابل هذه المعايب مزايا، من أبرزها العناية بالعلوم الإسلامية من التوحيد والتجويد والتفسير والفقه والأصول والحديث والمصطلح. وإن كان الحرص على استظهار المعلومات أكثرَ من حرصهم على إفهامها، وكانوا يلقّنون التلاميذ أحياناً ما لا تتّسع له مداركهم.

فلما جاء الفرنسيون كان أول ما صنعوه أن جمعوا العلوم الإسلامية كلها في درس واحد سمّوه درس الديانة، ثم جعلوا عنوانه التربية الدينية (في مقابل التربية الرياضية للجسم، والتربية الفنّية، أي الموسيقى والغناء والرسم). هذا، والتربية شيء غير التعليم، وإن كان أحدهما لا يُغني عن الآخر ولا بُدّ من جمعهما.

وجعلوا لذلك كلّه ساعة واحدة في الأسبوع، أي أنهم أعطوه مثل الذي يُعطى للرسم وللموسيقى وللرياضة! فما الذي يمكن أن يتلقّاه التلميذ في ساعة واحدة من هذه العلوم كلها؟ ولماذا لم يجعلوا مثلها للرياضيات بأقسامها، وهي الحساب والجبر والمثلّثات والهندسة المسطحة والهندسة الفراغية والهندسة النسبية؟ أو للطبيعيات بعلومها: الفيزياء بأنواعها والكيمياء بأقسامها والحيوان والنبات؟ هذا ما لبثنا أكثر من أربعين سنة ونحن نقوله لهم، فلا يستجيب لنا أحد ولا يريد أن يفهم عنّا أحد.

ص: 338

ثم ابتدعوا بدعة ظاهرها تنظيم إداري لا اعتراض لنا عليه، بل لا شأن لنا به، ولكن باطنها محاربة الإسلام وإضعافه في نفوس الأطفال. هي أن يتسلّم معلّمٌ واحد الصفّ (أي الفصل) كلّه بدروسه كلّها، فيدرّس الدين والعربية والرياضيات والطبيعيات والرسم والموسيقى وكل ما يُكلّف الطلاّب بتلقّيه. وكان بين المدرّسين ناس من النصارى وناس من المسلمين بالاسم البعيدين عن الإسلام بالفعل وبالعقيدة وبالسلوك، وهم شرّ من غير المسلمين وأبعد عنّا منهم، فكانت النتيجة أن يُكلَّف تدريس القرآن مَن لا يؤمن به، فيُهمِله وينفق الساعة في درس آخر غير القرآن.

وقد وقع في أول الاحتلال أن كُلِّف معلم نصراني في بيروت بتدريس السيرة وتاريخ الصحابة. وكان مفتي بيروت (إن صحّ ما أذكر) الشيخ مصطفى نجا رحمة الله عليه، فذهب إلى المفوضية وطلب مقابلة المفوض السامي، فلما دخل عليه رحّب به وسأل الترجمان عمّا يريده فقال له: إن عندي شاباً مسلماً مطّلعاً على ديانتكم وعلى تاريخ كنيستكم وسِيَر قِدّيسيكم، فأنا أطلب منكم أن تجعلوه معلّماً في المدارس المسيحية الكَنَسية ليدرّس أبناء النصارى.

فعجب المفوض السامي وسأل الترجمان: هل الشيخ يجدّ أم هو يمزح؟ فقال الشيخ: إنني أطلب ذلك جاداً. فقال له المفوض: كيف تريد أن نسلّم أبناء النصارى إلى معلّم لا يؤمن بدينهم؟ فقال المفتي: هذا ما جئت من أجله؛ جئت لأسأل: كيف ترضون أن نسلّم أبناءنا إلى معلم يعلمهم ديننا وليس دينه من ديننا ويكفر بما نؤمن به؟

ص: 339

وقد نشأ عن ذلك أمور عجيبة، إذا عدت يوماً وكتبت ذكرياتي عن المعلّمين وعن المدارس رويت الكثير ممّا أحفظ منها. من ذلك أنه كان عندنا في طرف حيّ العقيبة مدرسة أولية فيها معلّمان فقط، وهما شيخ وخوري (أي قسيس)، إذا خرجا من المدرسة فمشيا معاً في السوق في ذلك الحيّ الشعبي المسلم توجّهَت إليهما الأنظار وصِيغَت عنهما النكت. الشيخ بجبّته وعمامته والخوري بثوبه وقلنسوته! وكان الشيخ هو الشيخ قاسم القاسمي، الأخ الأصغر لعالم الشام الشيخ جمال الدين القاسمي، وكان الخوري والد رفيقنا في التعليم وفي كلية الحقوق أفرام عين.

ثم ابتدعوا بدعة أخرى كانت أشدّ علينا من الأولى وأنكى فينا منها، هي أنهم لم يُدخِلوا دروس الدين في الامتحان. وأكثر الطلاب إنما يدخلون المدارسة للشهادة لا للعلم ويحرصون على النجاح في الامتحان أكثر من حرصهم على الفائدة من التعلم، فكانت النتيجة أنْ أهمل التلاميذ درسَ الدين. ولماذا يدرسونه والعلم به لا ينفعهم والجهل به لا يضرّهم، لأن غايتهم النجاح والشهادة؟

ولقد سعينا سعياً حثيثاً دائباً في سنين متطاولة متعاقبة حتى استطعنا أن نجعل له ساعتين في الأسبوع بدل الساعة الواحدة، ثم أُلغِيت هذه الساعة الثانية وعاد كما كان.

والثالثة أن الفرنسيين أضعفوا العربية بأن قرنوها بالفرنسية، وجعلوا التلميذ من حين دخوله المدرسة ابنَ ستّ سنين يبدأ

ص: 340

بتعلّم «A B C» الفرنسية مع «أب ت» العربية. والجاحظ يقول: ما جمع أحدٌ لغتين إلاّ أدخلَت إحداهما الضيم على أختها. وإن كنّا لا نسلم للجاحظ ما قال ونعرف من الناس من أتقن ألسناً كثيرة ولغات متعددة، وكان فيها كلها السابق المجلّي.

صار يبدأ الولد بتعلّم الفرنسية حين يبدأ بتعلّم العربية. والإنكليز والفرنسيون رسموا لتعليم لغاتهم خططاً ووضعوا لها أساليب وصنعوا لها مرغّبات تستهوي التلاميذ الصغار، لم نكن نملك يومئذ (أي قبل ستين سنة) مثلها، فكانت النتيجة أن قَوِيَت الفرنسية على حساب العربية.

وإن كان من الحقّ أن نذكر ما لهم كما نذكر ما عليهم. إن الفرنسيين -رغم هذا- كانوا يهتمّون باللغة العربية أكثر من اهتمام مَن جاء بعدهم، ولقد قلت لكم إننا كنّا نقرأ كتاب قواعد اللغة العربية لحفني ناصف وإخوانه في الصف السابع، أي في السنة الأولى من الدراسة المتوسطة، وهذا الكتاب يحوي من القواعد أكثر ممّا يحويه شرح ابن عقيل، وإنه يكفي الكاتب والأديب إذا وعاه وحفظ ما فيه، فضلاً عن الطالب أو معلّم الابتدائي. وإن كل غلطة في الإملاء كان يخسر التلميذ من أجلها درجتين من عشر درجات، أي أن من يخطئ خمس خطيئات بمواقع الهمزات وأمثالها من الخطيئات الكبار بالإملاء (أي من مثل ما نقرؤه الآن لبعض من يُقال إنهم أدباء) يأخذ صفراً، ومن أخذ صفراً في الامتحان في مادّة من الموادّ لم ينفعه أن يأخذ الدرجة الكاملة في المواد الأخرى كلها وكان مصيره الرسوب حتماً.

ص: 341

ومنعوا الكلام باللغة العربية في الفُسَح القصيرة بين ساعات الدروس زعماً منهم أنهم يقوّوننا بذلك على تعلّم اللغة الأجنبية. وتعلّم اللغة الأجنبية من أشدّ ما دخل به علينا إبليس. ونحن لا نُنكِر فائدة هذا التعلّم ولكن نُنكِر المبالغة فيه وشدّة الحرص عليه، وأن نُضيع في سبيله لغتنا أو مقوّمات حياتنا، وأن نعطيه رُبع أو خُمس الساعات الأسبوعية ونَدَع الباقية للعلوم كلّها.

واستحدثوا قطعة من الخشب أو المعدن تُسمّى «السينيال» (ومعنى «السينيال» العلامة). فكان التلميذ الذي يحملها يريد التخلّص منها، كمَن يشتري فاكهة فيجد فيها عقرباً، فماذا يصنع إلاّ أن يُلقي الفاكهة ويتخلّص منها ويبعدها عنه حتى لا تلسعه العقرب؟ كان حامل السينيال يتجوّل بين التلاميذ، فإذا سمع من يتكلّم العربية دفع السينيال إليه، ومَن حانت ساعة الدرس وهي معه ناله بسبب ذلك أذى.

فكنّا -من أجل ذلك- نتحامى أن ننطق الفرنسية. خُيّل إلينا أن من الوطنية ألاّ ننطقها وألاّ نتعلّم الحديث بها، فنشأت كما نشأ غيري، أقرأ كتب الأدب الفرنسي فأفهمها، ثم إذا أردت أن ألقي جملتين أو أقول كلمتين انعقد لساني ووقفت، كما وقف حمار الشيخ في العقبة.

والرابعة أنهم حاربوا التاريخ الإسلامي، فكان الواحد من أبنائنا، بل لقد كان رفاقنا لمّا كنّا نتعلّم أيام الفرنسيين في أوائل عهدهم بالانتداب في المدارس، كان إخواني يعرفون من تاريخ فرنسا وتاريخ نابليون ومن جاء بعده من ملوك فرنسا ومن كان

ص: 342

قبل الثورة من ملوكها ومن أخبار حكوماتها أكثر ممّا نعرف من تاريخ أجدادنا (1).

ولم أقُل إنني كنت أجهل ذلك مثل جهلهم لأنني قرأت بنفسي من صغري كتباً من كتب التاريخ، مررت على صفحاتها كلها، ما فهمته منها استوعبَته ذاكرتي وما لم أفهمه جزت به. فلم أكُن بتاريخ الإسلام بمثل جهل الرفاق، وإن كنت في العلم بتاريخ فرنسا مثلهم. بل أنا لا أزال إلى الآن أعرف التاريخ الفرنسي من أوله إلى آخره وأعرف الثورة الفرنسية الكبرى وما كان فيها يوماً بعد يوم وأروي الكثير من أخبار رجالها.

* * *

هذا ما صنعه الفرنسيون: أضعفوا العلوم الإسلامية، وجاؤوا باللغة الفرنسية وزاحموا بها اللغة العربية، وضيّعوا التاريخ الإسلامي ووضعوا مكانه تاريخهم حتى نشأ أولادنا على جهل بتاريخنا.

هذه كلها، ويقابلها أمر لعلّه كان أشدّ علينا وآلم لنفوسنا وأسوأ عاقبة فينا، هو العمل على نزع حجاب الطالبات وعلى تعويد النشء على الاختلاط. وكان ذلك ميدان نزاع طويل وجهاد مرير، وعمل دائم من المشايخ ومن ورائهم جمهور الأمّة المسلمة في الشام، والداعين إلى هذا المنكر والعاملين عليه. وسيأتي إن شاء الله بعض خبر ذلك في الحلقات المقبلات.

* * *

(1) انظر مقالة «أبناؤنا وتاريخنا» في الجزء الثاني من كتاب «مقالات في كلمات» (مجاهد).

ص: 343