الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-137 -
تعليقات وهوامش
مَثَلي فيما كتبت عن ديغول وسوريا مَثَل الذي يتبوّأ كرسيه في السينما، يرى الفلم معروضاً لكن لم يشهد مراحل إعداده ولا يعرف خفايا أعمال أبطاله، ولا يدري ما حقيقة القصّة وما صَنع فيها مرتِّب المشاهد (السيناريست) ولا مؤلف الحوار.
ولكنّ هنا في المملكة من قدماء أصدقائنا ومن رفاقنا في كلّية الحقوق رجلاً كان وراء الحُجُب (الكواليس)، رأى أبطال الرواية بلا تحسين ولا تزيين ولا (ماكياج)، دنا منهم وكلّمهم، وعنده من الأخبار ما هو عند الناس سر من الأسرار. وأسرار السياسة تُفشى وتُعلَن بعد ثلاثين سنة، وقِصّتنا مع ديغول قد مضى عليها أكثر من أربعين سنة.
هذا الرجل الذي ولي رياسة وزراء سوريا ورياسة مجلسها النيابي، وكان أوّل من تجرّأ على الكلام في كسر احتكار دول الغرب للسلاح وحظر استيراده إلاّ منهم، هو الدكتور معروف الدواليبي. وأنا أقترح على الجريدة أن تبعث إليه مَن يسمع منه هذا الحديث ويكتبه، وكيف نجا على يده مفتي فلسطين الحاجّ
أمين الحسيني رحمه الله من براثن الحلفاء، وما صنع ممّا هو أقرب إلى الأساطير منه إلى الواقع. وإن شئتم ما هو خير من ذلك وأجدى على الجريدة وقُرّائها وأنفع للتاريخ، فاستكتبوه مذكّراته وستجدونها من أغنى الذكريات بالمعلومات.
* * *
وتعليق آخر جاءني من الأستاذ زهير الشاويش عن المقابلة التي أشرت إليها بين الأستاذ محمد كمال الخطيب ومَن كان معه، وبين الحاجّ أمين. لقد ذكّرني أن هذه المقابلة في بيت الشيخ موسى الطويل قد حضرها -على رأس المعترضين على الحاجّ أمين وفي مقدّمة مجادليه- طبيب كبير السن معروف في دوما وعند بعض المُسِنّين من أهل الشام، هو الدكتور سعيد عودة. وهو طبيب من دوما، طويل اللسان جداً جارح اللفظ جداً، لا يداري ولا يواري ولا يبالي ممّا يتعارفه الناس من أدب الخطاب، كان سيّئ الظنّ بالناس، ما يُذكَر عنده أحد إلاّ صنّفه في الـ «إنتلجنس سيرفس» . وترجمتها اللفظية «مصلحة الذكاء» ، ومعناها المعروف «الاستخبارات» ، أي التجسّس للإنكليز ولغيرهم من أعداء العرب والإسلام. وزاد على ذلك فأعطاه رقماً في هذه المصلحة.
وكان من شأنه أنه إذا حضر مجلساً لم يدَعْ لأحد مجالاً للكلام، يبدأ فلا ينتهي حتى ينتهي المجلس. وكان صديقنا بل أستاذنا الدكتور حمدي الخيّاط جاراً لنا في الدار، وكان له مجلس مفتوح للناس يوم الجمعة، وكان إذا حضر الدكتور سعيد ثَقُل المجلس ووقف الحديث. ولقد اصطدمت به مرات وأسمعته كلاماً
من جنس ما يخاطب به الناس. وأنا إذا شئت أقدَرُ عليه منه لأنني أحفظ ثلاثة أرباع أهاجي العرب، ولكن حيائي منه لسِنّه وخوفي أن أسيء إلى الرجل الكريم صاحب الدار جعلني أكفّ عنه.
لقد خبّرني الأستاذ زهير وكان حاضراً هذا المجلس مع الشيخ عبد القادر العاني، وهو رجل صريح غاية الصراحة ولكنه مخلص إلى أقصى درجات الإخلاص، يعمل لله، جهير الصوت شديد الهجوم، ولكنه صافي القلب محب للحق، فإذا نُبّه انتبه ورجع إلى الصواب. والأستاذ زهير بالنسبة لهؤلاء صغير السنّ ولكنه واسع الاطلاع؛ لمّا نسيت اسم الطيار التركي الذي كان من السابقين إلى الطيران في الشرق وسقطَت طيارته ودُفن في صحن مقبرة صلاح الدين الأيوبي ذكّرني هو به مع أن القصّة كانت قبل أن يُولد بزمان. ذلك أنه يضمّ إلى ما رآه ما سمعه، ويستودع ما سمع ذاكرة قوية يؤيّدها -كما يبدو- بمذكّرات يكتبها.
وقد وصف لي الاجتماع مع الحاجّ أمين في بيت الشيخ موسى الذي كنت السبب في عقده ولم أحضره، وصف مجلس الدكتور سعيد ومجلس الحاجّ أمين فقال: جلس الدكتور سعيد عودة على كرسي خيزران مرتفع، ورفع رجله قبالة وجه الحاجّ أمين الذي كان يجلس على أريكة ليّنة أقرب إلى الأرض من كرسي الخيزران
…
إلى أن قال: وأنا اليوم وقد انتقل الحاجّ أمين والدكتور سعيد عودة إلى رحمة الله، وزادت معرفتي وكَثُر اطّلاعي وتجمّعَت لديّ وثائق خطّية وشهادات صحيحة تلقّيتها مباشرة من أصحابها، أنا
بعد هذا أشهد أن سعيد عودة عرف شيئاً وغابت عنه أشياء. ويقول (وأنا أنقل ما يقول): إن ممّا غاب عنه خوف الله في إطالة لسانه على عباد الله، وأشهد أنه كان ظالماً. ويقول إن الفكرة التي كانت سائدة عند مجادلي الحاجّ أمين هي أن الوكالة اليهودية أنشأت دولة والهيئةَ العربية العليا أضاعت شعب فلسطين وأخرجَته من بلده. وأن هذه النقطة كانت موضع قناعة أكثر الحاضرين ومنهم -على ما أظن- الدكتور أحمد حمدي الخياط والأستاذ أحمد محمد كمال الخطيب والأستاذ مظهر العظمة والأستاذ عصام العطار والشيخ عبد القادر العاني (وأزيد أنا أنني كنت أيضاً أقول بهذا وأؤمن به إلى حدّ ما)، وبيّن أن الاجتماع استمرّ أكثر من ستّ ساعات، وأنه عُقد في اليوم التالي في جلسة مثلها، وأن الحاجّ أمين ردّ على هذه النقطة بأن الوكالة اليهودية تأوي إلى ركن ركين وحصن حصين، يؤيّدها العالَم الغربي والشرقي ومن نعرف ومن لا نعرف، واستشهد ببيت المتنبّي:
وسوى الرومِ خلْفَ ظهرِكَ رومٌ
…
فعلى أيّ جانبَيكَ تميلُ؟
واليوم وقد رأينا دول العرب وحُكّامها بعد خمسين سنة من الدعاوى العريضة لم تستطع أن تصنع شيئاً، كَبُرَ في نفسي الحاجّ أمين.
وزاد تعلّقي به لمّا تجاورنا في لبنان سنوات توثّقَت فيها صلتي به واستفادتي منه، وقد أطلعني على الكثير جداً من الوثائق، وبعضها ممّا كان أثاره الدكتور سعيد عودة عن قضايا مالية. وأنا أرجو (يقول الأستاذ زهير) أن أتمكّن يوماً من الأيام من نشر
ماعندي من تلك الوثائق، فإن فيها الكثير من الحقائق التي تضع الأمر في نصابه، وترفع رؤوساً طالما حاول أعداؤها خفضها وتَخفض رؤوساً يحاول أصحابها التفاخر والتطاول بها بغير حقّ.
* * *
هذا الذي كتب إليّ به الأستاذ زهير الشاويش.
إن أخبار رجال العصر أكثرها لم يُدوَّن، ولا يزال في صدور أصدقائهم أو في وثائق خاصّة عند مُحِبّيهم والمقربين منهم. فيا ليت بعض من يُعِدّ رسائل الدكتوراة أو الماجستير ويريد أن يكتب عن الرجل الذي كان له المكان الظاهر في قضية فلسطين والذي عاش حياة حافلة بالأحداث، الحاجّ أمين الحسيني، يجمع فيما يجمع من أخباره ما عند الدكتور معروف الدواليبي وما عند الأستاذ زهير الشاويش.
وبمناسبة الكلام عن الوثائق: لقد طالما قلت إنني أعرف أن عند خالي محبّ الدين الخطيب الوثائق الأصلية للحركة العربية التي قامت رداً على ما ذهب إليه غُلاة الأتراك من الاتحاديين وغيرهم من قبلهم، قبل أن تصير إلى هذه القومية المعروفة. عنده رسائل رجالها، عنده ضبوط جلساتها، وكل ذلك بخطوط أصحابها وتوقيعاتهم. ويا ليت إحدى الجامعات أو الهيئات التي تهتم بتدوين تاريخ العرب الحديث تشتريها أو تأخذ صوراً عنها لئلاّ يضيع شيء منها.
* * *
وتعليق آخر ما كنت أحسب أني سأُضطَرّ يوماً إليه وإلى أن أثبت معرفتي بأدب الأستاذ إسعاف النشاشيبي وعلمه وتذوّقه الشعر. وقد صحبته مدّة طويلة في مصر لمّا كان وكنت أقيم فيها، وحينما كان يزورنا في دمشق. فلما تسلّمت الإشراف على تحرير «الرسالة» (تقريباً) سنة 1947 كنت في كثير من أيام تلك السنة أذهب مع الزيات رحمه الله دائماً وسعيد الأفغاني أحياناً فنسهر عنده حيث ينزل في فندق الكونتنينتال في ميدان الأوبرا. وكنت بحكم عملي في المجلّة أرى ما يكتب قبل نشره، أعرفه من خطه إن كان مكتوباً بخطه ومن أسلوبه إن استكتبه غيره، لأن العطر الزكيّ -ولو خبّأته في ثنايا ثوبك- أريجُه يدلّ عليه ويرشد إليه. كان ينشر تارة باسمه وتارة باسم «السهمي» (لأن النشاشيبي نسبة إلى «النشاب» وهو السهم)، وتارة بحرف نون، وأحياناً يكون الإمضاء «أزهريّ المنصورة» ، وربما أغفل الاسم ووضع في مكانه نقطاً متجاورة.
وأعجب منه أشدّ العجب حين يستشهد على صحّة كلمة بعبارة وردت خلال كتاب أو رسالة لبعض البلغاء: كيف وصل إليها؟ وكيف جمعها وما أخذها من مُعجَم مرتب على الحروف؟ أكان قد وضعها بيده فاستخرجها حين أرادها؟ ولو أنه وضعها بيده فلربما نسي مكانها. أم كان يفهرس كتبه كلها؟ وأنا أعلم أنه لمّا كان في مصر لم تكن مكتبته معه بل كانت في فلسطين. أم كان يستوعب ذلك كله في ذهنه؟ لعلّ عند الأستاذ أكرم زعيتر الجواب أو بعض الجواب.
وإذا كان الأستاذ ناصر الدين النشاشيبي يجمعه بالأستاذ
إسعاف النسَب فإن الذي يجمعنا به (الأستاذ أكرم وأنا) هو الأدب، وقد عجبت من الذي أنكر عليّ قولي أنه لم يستطع أن يَنظم قصيدة في رثاء شوقي فجاء بالتي سَمّاها «ذات القوافي والبحور» وفتح بها من حيث لا يريد باب فنّ جديد هو شعر التفعيلة. ما الذي أنكره وأكبره في هذا المقال؟ هل يعرف للنشاشيبي قصيدة زاحمت في ميدان البلاغة قصائد شوقي وحافظ ومحمد عبد المطلب وأحمد محرّم؟ هل ادّعى هو أنه شاعر، أو ادّعى ذلك أحدٌ من إخوانه ومُحِبّيه؟ وأنا من مُحِبّي أدبه ومقدّريه. وماذا يضيره مع هذا الإطلاع الواسع على أدب العرب، والفهم العميق لكلام العرب، والمحبّة الصادقة للسان العرب، ما الذي يضيره بعد ذلك كله ألاّ يكون شاعراً؟
أمّا عجبي وعجب من معي لمّا كلّمناه أول مرة فما كان ذلك لأنه يتكلم الفصحى، بل لأن له في كلامه وإشاراته أسلوباً يعجب منه مَن لم يكن يعرفه. أنا أعلم أنه كان بليغ القول وكان لا ينطق بالعامّية، وكان يلتزم حتى في الكلام العادي النمط العالي من بلاغة القول، ولكنه كان يُبهِم أحياناً فلا يفهم عنه إلاّ من عرفه. من ذلك أن قاضياً في الشام اسمه محمد نور الله، من أسرة هذا اسمها معروفة على الساحل السوري، كتب إليه مرة في شأن من الشؤون فجاء الردّ في برقية ما فيها إلاّ هذه الجملة:«محمد نور الله ما شاء الله» .
فما فهم المراد منها. فقلت له: أنا أفسّرها لك. وتصوّرت الأستاذ ينطق بها أمامي، وذكرت حُبّه محمداً وتعظيمه إياه تعظيماً يكاد يجاوز به الحدّ المشروع، فقلت له: ما هكذا تُقرَأ. قال:
فكيف إذن؟ فقلت له (وقلدت لهجة الأستاذ): محمد، نور الله؟ ما شاء الله!
وكان يكلّم العامّة بما تكلَّم به الخاصّة، وكان ذلك ممّا أخذه أدباؤنا على بعض المتقدّمين. دعانا مرات إلى الغداء معه في فندقه الكبير الذي كان ينزل فيه فأحببنا (أنا وأنور العطار) أن نردّ إليه الدعوة، فأبى علينا وكاد يغضب منّا، كما يغضب إن لم نُجِب دعوته. فلما ألححنا عليه خفّف عنّا فرضي أن نغديه لحماً مشوياً. وكان قد أنشئ مقهى جديد في طرف دمشق في أول شارع يُدعى شارع بغداد فأخذناه إليه.
قال للجزار بلهجته المعروفة: جنّبني الدهن، جنّبني الدهن. فلما جاء اللحم وجدناه غارقاً في الدهن يسبح فيه. فقلت له: لماذا خالفت ما طلب الأستاذ وقد أمرك أن تجنّبه الدهن؟ فقال: لا ياسيدي، قال لي:"جِبْلي الدهن"! ذلك لأنه كان يخاطب صبيّ الجزار بمثل ما يخاطب به عضو المجمع العلمي.
أما كتابه «الإسلام الصحيح» فالذي كنت كتبته عنه (والذي يهمّني الآن منه وقد سمعت أنه أُعيدَ طبعه) أن أقول إن فيه أشياء ليست من الإسلام الصحيح. وهذا أمر ليس من اختصاص الأستاذ إسعاف على علوّ قدره في الأدب، ولا الأستاذ ناصر الدين على منزلته في الصحافة، بل إن المرجع فيه -كما يكون المرجع في كل علم من العلوم- إلى أصحابه وثقات أربابه.
فالذي يملك أن يحكم عليه: هل هو موافق للدين أو مخالف له؟ هم علماء الدين. ولم أقُل رجال الدين لأنه ليس عندنا في
الإسلام رجال دين (أي إكليروس)، وإنما عندنا علماء وجهلاء، كما أن في كلّ علم من العلوم وكل صنعة من الصناعات قوماً لهم معرفة بها وقوماً بعيدين عنها قد شُغلوا عنها بغيرها.
أمّا الأستاذ عادل الصلاحي فأشكر حبّه إياي وخوفه عليّ ودفاعه عني، وأقول له على ذلك كلّه: إنني لست الذي:
نَسَماتُ الرّبيعِ تجرحُ خدّيْـ
…
ـهِ ولَمْسُ الحريرِ يُدمي بَنانَهْ
ولا أنا إناء ثمين من البلّور الرقيق تكسره وقعة من علوّ ذراع، بل أنا قطعة من الفولاذ المتين الذي يسقط من المنارة العالية ويبقى سالماً. فلا تخَفْ عليّ أن تهدمني مقالة مهما كانت. على أنني شكرت الأستاذ ناصر الدين وإن كان قد أسرف، وشكرت الأستاذ حسن الكرمي الذي أنصف.
وأنا لم ألقَ الأستاذ حسن الكرمي، ولكنّ أخاه عبد الكريم رحمه الله كان معنا وأخاه عبد الغني كان سابقاً لنا. وأحسب أن الأستاذ حسن كان في المدرسة (مكتب عنبر) متقدّماً علينا، فهو إذن أكبر مني سِناً. فإن كان هذا يسوؤه فلا تخبروه به، فإن من إخواننا من يكره أن يصرّح بعمره. والعرب تقول:«إنما يأسى على العمرِ النّساء» ، فما بال بعض الرجال يكرهون أن يُقال إنهم صاروا شيوخاً؟
أمّا ما كتبه عن ذكرياتي الأستاذ أكرم زعيتر، فما أملك إلاّ أن أُطرِق معه خجلاً وأن أقول له (صادقاً): شكراً. فلئن كانت كلمته كريمة فلا عجب فإنه هو الأكرم.
* * *
وإنني أشرع الآن بالكلام على رحلة المشرق:
يقولون إن الإنسان حيوان اجتماعي، فهل هذا القول باطل أم أني لست بإنسان؟ أم أن الله خلقني وحدي دون بني آدم متوحّشاً أخاف المجتمعات التي لم آلفها وأخشاها أن أغشاها؟ وإلاّ فما لي كلّما دعتني الدواعي إلى لقاءِ مَن لم تَزِدْ بيني وبينه الألفة حتى ترتفع بازديادها الكلفة أفرّ من هذا اللقاء، أو أُرجِئه ما استطعت الإرجاء؟
أفليس هذا عجيباً؟ أوَليس أعجب منه أني إذا ضمّني المجلس وصرت فيه تبيّنت أن عندي من المعلومات والمحفوظات والطرائف واللطائف، ما يوجّه إليّ الأبصار ويُميل الأسماع؟
ويقولون إن لكل جديد لذّة، ولكنني لا أذكر أنني مرّ عليّ عيد وأنا صغير وجاؤوني بثوب العيد الجديد إلاّ لبسته مُكرَهاً باكياً. ولا انتقلت من دار إلى دار ولا من بلد إلى بلد، ولا تحولت من عمل إلى عمل، إلاّ أسيت على فراق ما تركت ورائي وخشيت ما سألقاه أمامي. فهل كان المتنبّي ينطق بلساني حين قال:
خُلِقتُ أَلوفاً لو رَجعتُ إلى الصِّبا
…
لَفارقتُ شَيْبي مُوجَعَ القلبِ باكِيا
إن لي الآن بنات ثلاثاً في جدّة وثلاث حفيدات، والبيوت الستّة مفتّحة لي ومَن فيها يستحبّون لقائي ويرحّبون بمجيئي، وأنا أتهيّب أن أسافر من مكّة إلى جدّة وبينهما على الطريق الجديد العظيم أربعون دقيقة أو أقلّ من أربعين. فكيف إذن سافرت إلى
أقصى المشرق؟ بل كيف رضيت أن أحضر المؤتمر وفيه رجال من كلّ البلاد؟
إني لأفكّر في ذلك الآن فأعجب والله منه، وأعجب كيف رحلت قبل ذلك رحلة الحجاز التي حدّثتكم حديثها، والتي كانت سياراتُنا فيها أولَ سيارات دارت عجلاتها على ثراها من يوم خلقها الله وبراها.
إن الذي استطاع أن يضمّني إلى رجال الرحلة الأولى هو الشيخ ياسين الروّاف رحمه الله، والذي جرّني إلى الثانية هو الشيخ محمد محمود الصواف شفاه الله (1).
إن صندوق الحديد في المصرف يوزن بالقناطير ولا يستطيع أن يحمله بعير، ولا تحطّمه المطارق ولا تحرقه النار، ولكنه -على هذا الوقْر كله وهذه المنَعة كلها- يفتحه مفتاح صغير بمقدار عقدة الإصبع، وربما فتحَت بابَه كلمة، كلمة سرّ رُكّبت حروفها بحيث يُغلَق الصندوق بها ويُفتح عليها.
ذلك هو مفتاح شخصية الرجل. فمن الناس من تدخل إلى قلبه بإخافته منك بقوّتك، ومنهم من تصل إليه بإثارة شفقته عليك لضعفك ورقّتك، أو بإطرائه حتى يشلّ الإطراء أعضاءه ويخدّر جسده، أو بإطماعه حتى ينزل لك عن الكثير أملاً بما هو أكثر
…
ومفاتيح أخرى لا أستطيع إحصاءها. وليس حتماً أن يكون
(1) رحمه الله. نُشرت هذه الحلقة أواخر عام 1984، وتوفي الشيخ الصوّاف رحمه الله سنة 1992 (مجاهد).
للشخصية مفتاح واحد، بل قد يحتاج معرفة ما في باطنها إلى سلسلة مربوط فيها عدد من المفاتيح.
فمَن أعلمَ الشيخ الصواف بمفتاح شخصيتي حتى استطاع أن يبلغ مني ما لم يبلغه إلاّ قليل من الإخوان والخلاّن؟
إن الحديث عن هذا المؤتمر لا بدّ فيه من الكلام عن الشيخ الصواف والشيخ أمجد، وهما اللذان دَعَوَا إليه وجمعا من المال ما أنفقنا منه عليه. وسأشرع إن شاء الله من الحلقة المقبِلة بتدارُك ما يمكن تدارُكه ممّا بقي في ذهني من أخبار هذه الرحلة (1).
* * *
(1) بالأمس كان يكلّمني الدكتور سميح الخضراء من جدّة فقال: متى تبدأ بالحديث عن الرحلة؟ قلت: قريباً إن شاء الله. قال: فلماذا لا تأخذ الأحاديث الطويلة التي استمررت تحدّث بها من إذاعة دمشق أكثر من ثلاثة شهور؟
لقد حرّكَت هذه الكلمة أشجاني وأثارت أحزاني، ذلك لأني لم أكتب شيئاً منها، فلا أنا حفظتها على الورق ولا الزمن حفظها في الذاكرة، لذلك ضاع أكثرها. والأقلّ الباقي منها هو الذي سأعرضه عليكم إن شاء الله.