المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌في سبيل فلسطينقطعنا ربع محيط الأرض - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٥

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌في سبيل فلسطينقطعنا ربع محيط الأرض

-135 -

‌في سبيل فلسطين

قطعنا ربع محيط الأرض

كنت أمشي في هذه الذكريات في طريق واضح، فتشعّبَت أمامي المسالك وافترقَت (كما قلت من قبلُ) الطرق، فمن أين أمشي الآن؟ أُتِمّ الكلام عن عملي في القضاء؟ أُكمِل الحديث عن فلسطين؟ أستمرّ في عرض نماذج عن أساليبي في كتاباتي؟ وهل أستطيع أن أعرض هذه النماذج كلها؟

اخترت مرة فقرات ممّا كتبت في شبابي عن الحب من كتابي «صور وخواطر» وكتابي «قصص من التاريخ» وكتابي «قصص من الحياة»

وثقوا أني قلت ولم أفعل، والشعراء يقولون ما لا يفعلون. وإن وصفت جمال المرأة وفتونها وصفاً دقيقاً صادقاً، ولكن ما قارفت لذة منه بالحرام ولا قاربتها. فسمعَت طرفاً منه زوجتي وأنا أُمليه في الهاتف على الأخ الكريم طاهر أبي بكر ناموس «الشرق الأوسط» (أي سكرتيرها)، وهو جزاه الله خيراً يسجّلها ويطبعها، وجزى خيراً ولدي الأستاذ عادل صلاحي الذي يصحّحها، وجزى قبل ذلك الناشرَين الكريمَين الأخوين

ص: 117

الأستاذين هشاماً ومحمداً صاحبَي الجريدة وصبرهما عليّ وعلى طول ذكرياتي.

فأنكرَت عليّ ما سمعت وقالت: ماذا يقول الناس عن شيخ يكتب في الحب؟ فتردّدت وأخّرت نشر ما اخترت. وهتف بي أستاذ كبير ما أُحِبّ أن أصرّح باسمه واستحلفني أن لا أفعل، وطلب إليّ أن أشرح قصّة الرحلة التي رحلناها من أجل فلسطين والتي أشرت إليها في الحلقة الماضية.

فكان هذا الأستاذ كجَهيزة التي زعموا أنها دخلت نادي قومها وهم يحاولون رأب الصدع بين فرعَين منهم قتل رجلٌ من الفرع الأول رجلاً من الفرع الثاني، يريدون أن يقبل أولياء القتيل الدية وهم يأبَون إلاّ القصاص، وكانت قد استحكمَت بينهم عقدة الخلاف واشتدّ النزاع فقالت لهم: إن ولد المقتول قد انتقم لأبيه من القاتل. فقالوا: «قطعَتْ جهيزةُ قولَ كل خطيب» ، وسارت مثلاً باقياً إلى الآن.

قلت للأستاذ: شكراً لك، لقد أرحتني من هذا التردّد وأوضحت لي طريقي، ولكن الرحلة كانت سنة 1954 وأنا لا أزال في ذكريات سنة 1945. فقال: ومن طالبك بالسير في ذكرياتك مع السنين؟ إن القُرّاء يريدون الخبر سالماً كاملاً ولو خَفِيَ تاريخه، ولا يريدون أن تُقطَع أوصاله وتُفرّق أعضاؤه ليسلم له تاريخ وقوعه.

قلت: هل تعرف حكاية بنت السلطان التي كانت تحكيها لنا الجدّات ونحن في الفراش في ليالي الشتاء الطوال لننام عليها؟ سألخّصها للقُرّاء، ولكن لا ليناموا بل ليبقوا مستيقظين، فإني

ص: 118

جاعلها فاتحة حلقة واسعة جداً من حلقات هذه الذكريات التي طالت جداً؛ بداية قصّة طويلة هي قصّة رحلة المشرق التي رحلناها من أجل فلسطين.

كان لبنت السلطان عقد من نفيس الجواهر وغالي اللآلئ، ولكن ميزته فوق نفاسة جوهره وغلاء لآلئه رَصُّه العجيب، فهو من عشرين لوناً ولكن صانعه جعلها تأتلف وتختلف وتتقارب وتتباعد، حتى جاء منها صورة تُبهِر البصر وتستهوي القلب. فانقطع خيط العقد (أي نظامه) وتبعثرَت حبّاته، فأمضت بقيّة عمرها تبحث عنها وتحاول جمعها وما وصلت إلى الأقلّ منها، وما وصلت إليه لم تستطع أن تعيد صَفّه كما كان.

لقد انقطع الآن -يا أيها القُرّاء- خيط ذكرياتي ولم أعُد أقدر أن أرتّبها على السنين، لقد ضاع التاريخ وتداخلَت الأحداث. فماذا أصنع؟ قلت ذلك للأستاذ الذي اقترح عليّ أن أكتب قصّة الرحلة فقال: إن ذهبَت صورة العقد وتبعثرَت حبّاته فاجعل ما وجدته منها عقوداً صغيرة وارصف في كلّ واحدة منها ما تجد من حبّات العقد الكبير، ثم إذا فرغتَ منها أَعدتَ ترتيبها ونسّقته.

أي أن تنشر الذكريات الآن كما تجيء في ذهنك، ثم إن طبعتها الطبعة الثانية أعدتَ ترتيبها. كما فعل صديقك الكبير خير الدين الزركلي في كتابه «شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز» ؛ لقد جعله متداخل الأخبار مهوَّش الترتيب، ثم نظر فيه فجمع ما هو من أخبار الملك نفسه في كتاب سَمّاه «الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز» . وأنت إن مدّ الله لك في العمر فعلتَ مثله، وإلاّ فإن

ص: 119

لك من إخوتك العلماء وبناتك المتعلّمات وأحفادك وحفيداتك، الطبيب منهم والمهندس، كان لك منهم مَن يعيد ترتيب الذكريات وكتابتها (1). المهمّ أن تدوّن ما بقي في ذهنك قبل أن تنساه.

* * *

كانت هذه الرحلة سفرة عجيبة، مشينا فيها من حيث مشى ابن بطّوطة وبلغنا من الجنوب الشرقي من آسيا ما لم يبلغ. وكان كلّما نزل بلداً ولي قضاءها وتزوّج منها وكان له من زوجاته أولاد، ثم ترك الزوجة والولد وذهب. ونحن ما قضينا بين الناس في محكمة ولا قضينا على أنفسنا بزواج! وكان ابن بطّوطة يجد من يمشي معه لا يفارقه يترجم عنه، ونحن كنّا نلقى المستقبِلين في كل بلد ندخله، ثم يدَعوننا أو نؤثر أن يدَعونا جلّ وقتنا وحدنا.

رحلنا من القدس إلى عمّان إلى بغداد إلى كراتشي إلى آخر باكستان الشرقية، زرنا الهند ورأينا من بلادها دهلي (لا دلهي كما يقول الإنكليز) وبومباي (وهي من أجمل بلاد الدنيا) ولكنَوْ (بلد الصديق الداعية الشيخ أبي الحسن النّدْوي) وكَلْكُتّا التي كان فيها في تلك الأيام، قبل ثلاثين سنة، خمسة ملايين ونصف المليون.

وكان معنا الشيخ محمد محمود الصواف، هو يدبّر أمرنا، يزيح عِلّتنا، يكفينا مؤونة الحِلّ والترحال، يهيّئ لنا كل شيء. فلما

(1) صنعت شيئاً قريباً من ذلك، لكنني لا أدري أيجد طريقه إلى النشر ذات يوم أم هو يُطوى فلا يُنشَر. انظر تعليقي في حاشيةٍ على الحلقة 189 في الجزء السابع من هذه الذكريات (مجاهد).

ص: 120

رجع مضطراً من كراتشي إلى بغداد بقيت أنا والشيخ أمجد رحمة الله عليه وحدنا. فتصوّروا اثنين كان أمهرَهما وأخبرَهما بشؤون الحياة أنا الذي لا خبرة لي فيها ولا أملك من المهارة شيئاً.

قلت إن الصواف كان ثالثنا في العدد ولكنه كان أوّلنا في العمل، فهو المحرّك لهذا المؤتمر الذي لم أحضر مؤتمراً غيره في عمري؛ هو الذي أعدّ له وله -بعد الله- أكبر الفضل فيه. وهو الرجل الاجتماعي الذي يسمّي كل من يلقاه باسمه ويسائله عن خبره وخبر أهله وأصحابه، والشيخ أمجد كان ينسى من لقيه بالأمس! ولقد دوّنت بعض ما رأيت من أخباره العجيبة بإذنه وبموافقته، فلما جئت أكتب الآن هذه الذكريات وجدت أني صرت مثله، وصحّ فيّ أنا ما رويته عنه هو!

وكان أشقّ ما مرّ علينا أنا والشيخ أمجد بعد رجوع الصواف جهلنا لسان الإنكليز. ولغةُ التخاطب حيثما زرنا هي الإنكليزية، وهي لغة عرجاء مقطوعة النسب، تأتي في الترتيب والمنزلة خامسة بين لغات الأمم، ليس فيها قواعد مُحكَمة ولا ضوابط مطّردة، ليست مثل العربية في شرَف نسبها ومتانة سببها (السبب: الحبل) وثبات أصولها وضبط موازينها وحُسن اشتقاقها. العربية هي اللغة الأولى التي لم يعرف تاريخ اللغات مولدها لأن مولدها أقدم من مولد التاريخ، ولم يدرك طفولتها لأنه ما رآها إلاّ شابّة مكتملة الشباب.

هي في الدرجة الأولى، أما الدرجة الثانية والثالثة فإنها شاغرة ما احتلّتها لغة من اللغات. وفي الدرجة الرابعة الفرنسية والألمانية معاً. ولكن الإنكليز بجدّهم ونشاطهم وسعة حيلتهم،

ص: 121

وأنه مرّ عليهم يوم كانوا يملكون فيه خُمس الأرض ويحكمون بقاعاً لا تغيب الشمس عنها لأنها إن غابت عن مغربها بدت في مشرقها، الإنكليز فرضوا لغتهم على الناس على ما فيها من عِوَج وضعف وخلل، ونحن أضعنا بكسلنا وخمولنا لغتنا. ولولا أنها قائمة بكتاب الله واللهُ تعهّد بحفظ كتابه، وما تعهّد الله بحفظه لا يقدر أحد على المسّ به، لولا ذلك لزالت ونُسيَت.

قلنا لهم: كيف نمشي وما نعرف من الإنكليزية شيئاً؟ كيف نخاطب الناس؟ قالوا: ندلّكم على كلمة سحرية تفتح لكم كل مغلَق وتيسّر كلّ عسير وتحلّ كل معقود، فمهما رأيتم من ذلك فقولوها. قلنا: ما هي؟ قالوا: هي كلمة: «نو سبيكن» . فكان الشيخ رحمه الله كلّما واجهته عقبة أو وقعنا في ضيق قال: أفندي قُلها، قُلها.

وأذكر أن طائرة «كي. إل. إم» الهولندية التي كانت تُربَط الساعة على مواعيد قيامها وهبوطها تأخرت في سنغافورة ربع ساعة من أجلنا. جاؤونا ببيانات مطبوعة بالإنكليزية فقلنا: نو سبيكن. قالوا: سبيكن فرنش؟ أي تعرفون الفرنسية، فقلت لنفسي: إنني درستها وتعلّمت نحوها وصرفها وتمكنت من أدبها، وإن لم أُحسِنها نطقاً وبياناً، فلماذا لا أجرّب اليوم حظّي منها؟ ورأيت المسألة قد هانت فقلت: نعم. فجاؤوني برجل ما أدري من أين التقطوه، يتكلّم الفرنسية بفصاحة شاتوبريان وسرعة الممثل فرنانديل الذي كان يقلّده إسماعيل ياسين، فلم أستطع أن أفهم منه شيئاً، فعدت إلى الكلمة السحرية فقلت: نو سبيكن فرنش. قالوا ما معناه: سبيكن ماذا؟ قلت: العربية. فلم يجدوا في مطار سنغافورة من يعرفها.

وأقول إن ممّا وقع لنا: لمّا وصلنا كراتشي في أوّل الرحلة

ص: 122

وعرفوا أني عربي أتكلّم العربية تباشروا ودعوا واحداً منهم، حسبته سيبويه آخَرَ ظهر من الأعاجم في آخر الزمان فكان في العربية كسيبويه الإمام. فلما وصل سلّم وسلّمت وقال: عربي؟ قلت: نعم. فأقبل عليّ عناقاً وتقبيلاً، وشممت منه رائحة هذا «التانبول» الذي يُقبِل عليه الهنود فأزعجني من ذلك تقبيله وعناقه.

ثم بدأ الحوار. فقال: ما اسمي؟ قلت: لا أدري ما اسمك. قال: لا لا، اسم أنت. فقلت: اسمي أنا علي. قال: اسم أبي؟ قلت: عدنا إلى ما نجونا منه. ما الذي يدريني ما اسم أبيك؟ قال: أبي أنت، أبي أنت. قلت: الله يخرب بيتك، أنا أبوك؟ قال: لا لا، اسم أبي، اسم أبي أنت. ففهمت أنه يريد اسم أبي أنا ولكنه أخطأ في الضمائر

وأكثر أخطائنا من علل الضمائر!

ولكن ما لي أستعجل بسرد هذه الأخبار وأنا لم أفتح بعدُ صفحة الرحلة ولم أعرّف بها؟ عليّ أولاً أن أتكلّم عن السفر إلى المؤتمر ومَن دعا إليه، وعمّا كان فيه وكيف جرّني إليه الصواف

ولست أدري الآن كيف استطاع ذلك وجَرُّ جبل أُحُد أهونُ من جَرّي، وحلحلة «ثهلان ذي الهضبات» الذي ذكره الفرزدق (ولا أعرف أين مكانه)(1) أهون من زحزحتي أنا عن مكاني!

(1) ذكره أهل الأخبار والأشعار، وقال ياقوت إنه في العالية (أي عالية نجد) أو إنه في بلاد بني نمير. وفي الكتاب النفيس للشيخ محمد بن بليهد، «صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار» (الذي طبع منذ ستين سنة وصار اليوم من النوادر، ولا أدري لماذا لا تُعاد طباعته)، أنه باق على اسمه إلى اليوم، ويبدو من وصف الشيخ أنه قريب من بلدة الدوادمي المعروفة. انظر صحيح الأخبار 1/ 102 و2/ 164 (مجاهد).

ص: 123

لقد كنت ألقي في تلك الأيام حديثاً أسبوعياً من إذاعة دمشق بعد صلاة الجمعة، يتفضّل السامعون بالإقبال عليه كما يتفضّل الناس هنا بسماع حديثي في الإذاعة وفي الرائي، كرماً منهم لا لأن أحاديثي تستحقّ هذا الاهتمام.

انقطعت عن هذا الحديث نحواً من ثمانية أشهر، ثم عدت فحدّثت السامعين عن هذه الرحلة؛ وصفت فيها مراحلها مرحلة مرحلة، أَرَيتُهم ما رأيت وأسمعتُهم ما سمعت ونقلت إليهم ما شعرت به حتى كأنهم كانوا فيها معي، حدّثتهم عن فلسطين التي رأيتها يومئذ حديثاً لا يعرفونه وهم جيران فلسطين، عن القدس والقُرى الأمامية يوم كانت المشكلة مشكلة القدس، حين أخذوا أحياءها الجديدة فأعطوها اليهود وتركوا لنا القدس العتيقة بأزقّتها. وكانت مشكلة القرى الأمامية: قَلْقيلية وأمثالها التي أخذ اليهود بساتينها وزرعها وتركوا للناس بيوتها وصخرها، فصارت المشكلة الآن أنهم أخذوا حتى القدس القديمة وحتى القُرى الأمامية!

حدّثتهم عن بغداد وعظمتها، بغداد التي عرفتم أني عشت فيها من عمري سنين، فلما عدت إليها بعد خمس عشرة سنة (أي سنة 1954) رأيت بغداد غير التي تركت فلم أكَد أعرفها. عن الموصل التي يُحِسّ الشامي فيها أنه في الشام أو في حلب على التخصيص من مدن الشام، عن البصرة، بندقية العرب (1) ومفتاح الشرق. عن باكستان، البلد المتوثّب الناهض الذي لم يكن مضى على استقلاله إلاّ سبع سنين. عن الهند، والهند دنيا من الأجناس

(1) أي مدينة البندقية في إيطاليا.

ص: 124

والألوان والعجائب. عن ماليزيا، عن سيام (تايلاند) التي يسكن أهلها في بيوت تراها من بعيد كأنها ألاعيب الأطفال ولا ترى فيها إلا ضاحكاً، عن أندونيسيا بلاد الماء والخضرة والجمال.

عن الشرق الغنيّ بطبيعته وناسه وأرضه وسمائه وماضيه ومستقبَله، فالطبيعة كلها كنوز: معادن وزيوت وشلاّلات، وثروات لا تنفد، والناس بعدد حبّات الرمل، والملايين فيه كالآلاف عندنا أو المئات، والسماء تسطع بالنور وتقطر بالخيرات، والأرض خصب ونبات وحقول وغابات ورياض وجنّات؛ ما رأينا من كراتشي إلى سورابايا في آخر جاوة بقعة واحدة جرداء. حدّثتهم عن الشرق الغنيّ بالماضي الفخم يوم كانت الحضارة فيه وكان فيه العلم وكانت فيه القوة وكان له في الأرض السلطان، وعن المستقبل الفخم الذي سيرجع إن شاء الله ذلك الماضي، والذي بدَت تباشيره وظهرَت بواكيره حين لم يبقَ في آسيا كلّها من جحيم الاستعمار إلاّ شُعَل صِغار لا تزال هنا وهناك؛ لقد أطفأَت أيدي الشرقيين تلك النار وأقامت مكانها جنّات تجري من تحتها الأنهار، لقد تحرّر الشرق ولن يعود إن شاء الله إلى الرّق أبداً.

لقد انتهى عهد الاستعمار الذي كانت ترفرف راياته فوق أرضنا وتخطو جنوده على ثرانا، وخَلَفه استعمار آخر شَرٌّ منه، لا يحمل أخطارَه غرباء عنّا ولكن ناس منّا من أبنائنا، أخذهم الاستعمار فربّاهم على ما يريد هو فأتمّوا ما بدأ به، بل سبقوه وجاؤوا بما لم يقدر على أن يأتي بمثله.

ولكن ذلك إن شاء الله لا يدوم.

حدّثتهم عن الفتوح الإسلامية الثلاثة في الهند: الفتح

ص: 125

العربي؛ لقد سلكتُ طريقه الذي سلكه ومشيت من حيث مشى، وتتبعت آثار أقدام الجيش الذي خرج من دياره في أرض الحجاز يقوده الفتى العربي، ابن الطائف الذي فارق منازل أهله فيها ومشى ومشى ومشى، حتى جزع الأرض إلى موضع كراتشي اليوم. وأين أنت يا طائف من كراتشي؟ وكان الجندي يشري زاده بنفسه، وراحلته يشريها بنفسه أو يمشي على رجلَيه، وكان يصبر على الحر والقر والجوع والعطش، وكان مع ذلك كله يدعس (لا يدهس كما تقول الصحف) في طريقه كل قوة تعترضه وكل قلعة وحصن حتى بلغ الهند. ذلك الفتى هو محمد بن القاسم الثقَفي الذي لم يَزِدْ عمره يومئذ عن سبع عشرة سنة، وهي سنّ تلميذ في الصف الثاني الثانوي!

والفتح الأفغاني، حين استعاد السلطان محمود الغزنوي ما فتح ابن القاسم، ثم حاز من الهند ما لم يَحُزْه قبله فاتح. ثم الفتح المغولي، فتح بابر وأحفاده الذين ملكوا الهند كلها، وكان منهم الإمبراطور «أكبر» الذي كفر في آخر عمره وأكره الناس على الكفر، ولفّق ديناً جديداً ما أنزل الله به من سلطان، فمحا الله هذا الدينَ الملفّق الجديد وبقي الإسلام إلى يوم القيامة. وكان من أحفاده شاه جيهان، أحد أعظم البنّائين من الملوك، الذي ترك أجمل أثر عمراني على وجه الأرض هو «تاج محل» . ثم جاء منهم الملك الصالح «أورانك زيب» الذي ملك من الهند ما لم يملكه أحد، والذي جمع الحزم والعزم والتقى والصلاح والعلم والأدب، وكان خطّاطاً لا يجاريه إلاّ كبار الخطّاطين، ذلك الذي لا أعرف بعد الخلفاء الراشدين وبعد عمر بن عبد العزيز، وبعد

ص: 126

نور الدين وصلاح الدين وأمثالهم من الملوك الصالحين الكبار من هو أصلح منه.

ومَن أراد أن يعرف قصّة «تاج محل» وذلك الحبّ الخالص وذلك الوفاء العجيب الذي حمله شاه جيهان لزوجته المحبوبة الجميلة التي ماتت في شبابها وفي فتنتها وجمالها «ممتاز محل» ، ومن أراد خبر أورانك زيب (هذا الملك الصالح) وجد ذلك في كتابي «رجال من التاريخ» (1).

حدّثتهم عن آثار المغول في قلب دهلي، عن القلعة الحمراء التي لا تزال آية في القوّة وفي الرشاقة بناها باني المسجد الجامع شاه جيهان. حدّثتهم عن كلكتا التي كان فيها بمقدار ما كان في سوريا ولبنان والأردن معاً يومئذ من السكان، وكان الناس فيها من بني آدم يَجرّون عربات الركوب والحمل بدلاً من أن تجرّها الحيوانات، والبقر تمشي تتبختر في الشوارع لأنها مقدسة معبودة لا يعرض لها أحد بسوء!

عن لكنَو (التي فيها ندوة العلماء)، عن ديوبَنْد (التي فيها «أزهر» الهند)، عن عروس المدائن بومباي.

ثمانية أشهر، كم دخلت فيها من بلدان وكم لقيت من ناس، وكم شاهدت من عجائب وغرائب ولطائف وطرائف! وما نسيت

(1) انظر في كتاب «رجال من التاريخ» مقالة «بقية الخلفاء الراشدين» ففيها خبر أورانك زيب وتفصيلات عن تاريخ المسلمين في الهند لا يعرفها عامة الناس، وفي مقالة «الملك الصالح» طرف آخر من هذه الأخبار (مجاهد).

ص: 127

بلدي على هذا كلّه يوماً ولا خمد الشوق إليها ساعة، وكان في قلبي وعلى لساني دائماً بيت الشريف:

وقائلةٍ في الرّكْبِ ما أنتَ مُشتهٍ؟

غداةَ جزَعْنا الرملَ، قلتُ: أعودُ

لقد عدت وفي جعبتي مئات من الصور، من كلّ طريف مُعجِب وكل طريف مُطرِب، نثرت عليهم أكثرها وجلّيتها لهم في أحاديثي فرأوا جديداً لا يعرفونه. ولو أنني رجعت من أوربّا وأميركا وفتّشوني لما وجدوا معي عجباً لأنهم يعرفون ألوان الحياة في أوربّا وأميركا، يعرفونها من السينمات والأفلام، ومن الكتب والمجلاّت، ومن ألسنة الراحلين إليها. أمّا بلاد المشرق فما كنت أعرف أنا ولا يعرفون هم من أمرها إلا القليل؛ لم يكن قد زار أندونيسيا قبلي من السوريين إلاّ نفر قلائل، والذين كتبوا عنها أقلّ.

هذه الأحاديث التي أذعتها لم أكتبها، وقد ضاع أكثرها فيما ضاع ممّا حدّثت به (1). أقول هذا وقلبي يملؤه الأسف. وما جدوى الأسف على ميت قد مات ولن يعود إلى الحياة؟

(1) بعض هذه الأحاديث نجا من الضياع فخرج منه كتاب «في أندونيسيا» الذي طُبع أول مرة سنة 1960، وكانت نيّة جدي رحمه الله أن يجعل ذلك الكتاب جزءاً من تاريخ الرحلة ثم يُتبعه بآخر يخصصه لأخبار الباكستان والهند (وقد أمضى فيهما شطر رحلته)، لذلك حمل كتاب «في أندونيسيا» في طبعته الأولى هذا الإعلان في آخر صفحة من صفحاته:"ارتقبوا كتاب علي الطنطاوي: «في السند والهند»، وهو يصدر قريباً إن شاء الله". ثم مرت الأيام ولم يصدر الكتاب. وكل =

ص: 128

فهل أستطيع الآن (بعد ثلاثين سنة كاملة) أن أتذكّر ما كان في هذه الرحلة؟ أن أصف ما رأيت؟ أن أروي ما سمعت؟ أن أُسَمّي من عرفت من أفاضل الرجال؟ هل أستطيع ذلك؟ سأجرّب وعلى الله الاتكال، ومنكم صالح الدعوات.

* * *

= ما يأتي في هذه الذكريات من أخبار الرحلة لا يخلو من أن يكون مختارات من كتاب أندونيسيا المنشور أو تبييضاً لمُسَوَّدات قليلة كتبها جدي رحمه الله عن الهند والباكستان وكان ينبغي أن يستكملها لتصبح الكتاب الموعود. وقد بقيَت بعضُ هذه المسوَّدات فلم تُنشَر لا في هذه الذكريات ولا في أي مكان، وأرجو أن أوفَّق إلى نشرها قريباً في موضعها المناسب بإذن الله (مجاهد).

ص: 129