الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-148 -
دفاع عن الفضيلة (1)
يا ليتني لم أذكر في الحلقة الماضية مدارس البنات والذي رأيناه في مدارس البنات! لقد نكأ ذكرُها عليّ جرحي الذي حسبته اندمل، وأيقظ ذكريات ظننتها ماتت فإذا هي حيّة تَلدغ، ولدغتها تُربِك وتكاد تُهلِك. إنه حديث طويل يقطر الألم من كلّ كلمة فيه، وما فيه كلمة إلاّ وهي حقّ وصدق. إنه تاريخ يُروى ليس حديثاً يُفترى، فهل أتكلم عن مدارس البنات أم أعود إلى سرد الذكريات؟
لقد انقطع خيط السبحة على كل حال وتناثرت حبّاتها، ولم يعُد يفيد نَظْمها من جديد.
ولست أكره مدارس البنات ولا أنا مِمّن يبلغ به قصر النظر وضيق الفكر أن يحاربها، لأن طلب بعض العلم فرض على الرجال والنساء، لا فرق بينهما في شيء من الواجبات والمحرّمات ولا في شيء من الثواب والعقاب.
مدارس البنات في الشام قديمة، ولقد قلت لكم إن عمّتي كانت أول فتاة تخرّجت فيها سنة 1300هـ، أي من مئة سنة
وخمس سنوات! أتدرون كيف كان الامتحان؟ كان الفاحصون من الرجال إذ لم يكن في الشام يومئذ من المتعلّمات من يمتحنّ الطالبات. نصبوا ستارة قعدَت وراءها التلميذة ومعلّمتها وأمامها لجنة الامتحان، وكان رئيسها مربّي الشام وأستاذ الجيل الذي كان قبلنا، الشيخ طاهر الجزائري، الذي كان له العمل الأكبر في افتتاح مدارس البنين والبنات والمكتبة الظاهرية التي تُعَدّ من أغنى المكتبات بالمخطوطات، والذي كان من أخصّ تلاميذه به وأقربهم إليه أستاذنا محمد كرد علي وخالي محبّ الدين الخطيب والشيخ سعيد الباني.
ثم أخذ الطريق ينحدر والمصائب تتوالى. والمدارس التي أنشئت لحفظ البنات وتثقيفهن وتقويمهن، وكانت عنايتُها برؤوسهن تملؤها بحقائق العلم وبأفكارهنّ تقوّم طريقها إلى الفهم وبقلوبهنّ تملؤها بالإيمان وبالفضائل، صارت عنايتها بأجساد الطالبات! وبعد أن كانت مدارس البنات لا يدخلها معلم ولا فرّاش (إلاّ إن كان شيخاً كبيراً) صار معلموها من الشباب العُزّاب المتأنقين الحاسرين، أصحاب الشعور المرجَّلة والوجوه المحفوفة، وصارت تقيم حفلات للرجال تمثّل فيها البنات ويرقصن بالثياب القصيرة الرقصة الرياضية ويدبكن «الدبكة الوطنية» ، ثم اخترعوا شرّ اختراع، وهو هذه الرحلات المدرسية التي يشترك فيها الجنسان.
ولقد بدأ ذلك كلّه يوم الاحتفاء بالجلاء! المسلم يحمد الله على النعمة ويتلقّاها بالطاعة، ونحن قابلنا نعمة الله علينا بجلاء المستعمرين عنّا بمعصية ربنا.
لامني أصدقاء لأنني أكتب عن الفرنسيين بقلم سِنّه حديد
يجرح ولا يداوي، فليطمئنّوا فإنني أريد اليوم أن أثني على الفرنسيين؛ لا لأنهم أحسنوا إلينا، ولا لأنهم عدلوا فينا ولم يغلبونا ظلماً على بلادنا ولم يستبدّوا بغير دليل فينا، بل لأن ما رأيناه بعدهم هوّن علينا ما قاسيناه منهم. إن العمى إن جاء بعد العَوَر جعل تصوّر العوَر نعمة، والمصيبة الكبيرة تهوّن ما كان قبلها من المصائب الصغار.
على أن هذا الذي رأيناه بعدهم هو ثمرة غرسهم الذين غرسوه في نفوس أبنائنا، هو النبت الشائك السامّ الذي نثروا بذوره في أرضنا.
إن الذي أقوله الآن بعد أربعين سنة قلته في يومه وكتبته وأعلنته. وقد كانت الصحف طليقة لا يقيّدها إلاّ قيد القانون ولا يسيطر عليها إلاّ قضاء القاضي، وكانت الأقلام حرّة تجول وتصول حيث تشاء كما تشاء، فكتبت في جرائد الشام، وكان أخي الأكبر وأستاذي وصديقي الأستاذ الزيات يفتح لي في «الرسالة» الواسعَ من أبوابها ويُلحِقني (وإن لم أكُن أستحقّ) بالكبار من كُتّابها، فكتبت فيها غداة يوم الجلاء مقالة كان عنوانها «إبراهيم هَنانو قال لي» .
وإبراهيم هَنانو هو الزعيم الوطني الذي لم تَعْلق باسمه ريبة ولم تخالط سيرتَه البيضاء بقعة سوداء. كان أحد الكبار من زعماء الشام، وكان أول من أعلن الثورة على الفرنسيين بعد ميسلون، فأقام دولة صغيرة لم تقوَ على محاربة الباطل أيام جولته فقُضي عليها. وإن كانت جولة الباطل لا تستمرّ وكانت العاقبة للحقّ وأهله.
كان لهذه المقالة دويّ في الشام كبير، وتناوشَتني فيها أقلام حاولَت أن تمزّق جلدي وتهتك عرضي لأنني -كما زعم أصحابها- شوّهتُ جمال يوم الجلاء بهذه الانتقادات.
وأنا أكتب وأخطب من ستّين سنة كاملة، من سنة 1345هـ، أكسبني قلمي إخوة وأصدقاء وخصوماً وأعداء، فاتّخذ خصومي من هذه المقالة وما جاء بعدها مطعناً فيّ وقدحاً في وطنيتي، ونسوا أنني كتبت في نضال المستعمرين من المقالات وألقيت من الخطب والمحاضرات ما زاد على المئات، ووُلّيت رياسة لجنة الطلاب العليا (أي ما يُسمّى اليوم باتحاد الطلبة) مدّة سنتين من 1929 إلى 1931، يوم كان هؤلاء المنتقدون في ظهور آبائهم لم يخرجوا إلى الوجود أو في بطون أمهاتهم، أو كانوا أطفالاً يبولون في سراويلاتهم! ونسوا أني بذلت ما لم يبذلوا ولذلك فرحت بيوم الجلاء أكثر ممّا فرحوا، ولكن الفرحة لا تُنسي الشريف شرفَه ولا المسلم إسلامه ولا الرجل رجولته.
كان عنوان المقالة «إبراهيم هَنانو قال لي» ، ولم ينتبه أحدٌ إلى أنه كان قد مرّ على موت إبراهيم هنانو رحمه الله أحد عشر عاماً، فقد مات سنة 1935.
قلت في أولها: هذا إنذار أستحلف كلّ قارئ من قُرّاء «الرسالة» في الشام أن يُحدّث به وينشره ثم يحفظه، فإنه سيجيء يوم تضطرّه أحداثه أن يعود إليه فيقول: يا ليته قد نفعنا هذا الإنذار، يا ليت
…
ويومئذ لا تنفع «ليت» شيئاً، لأنها لا تردّ ما ذهب ولا ترجع ما فات.
وهذا إعذار إلى الله ثم إلى كُتّاب التاريخ، لئلاّ يقولوا إنها لم ترتفع في دمشق صيحة إنكار لهذا المنكر ولم يعلُ فيها صوت ناطق بحقّ، وإن كُتّابها وأدباءها حضروا مولد سنّة من ألعن سُنَن إبليس فلم يقتلوها وليدة ضعيفة، بل تركوها تكبر وتنمو حتى صارت طاعوناً جارفاً، حتى غدت ناراً آكلة، حتى استحالت داهية دهياء أيسر ما فيها الخسف والمسخ والهلاك. ونعوذ بالله من تذكير لا ينفع وإنذار لا يفيد.
وبعدُ، فقد حدّثني صديق لي فقال: كنت أمس في مجلس، وكنّا نتحدث فيما كان يوم العرض يوم الاحتفاء بالجلاء من مناظر «الكشّافات» ومنظر «الأسير والعروس» حديث إنكار وأسف لِما كان، ونعجب كيف جاز على رجال هذا العهد الوطني وهم فيما كنّا نرى أهل الشهامة والمروءة والغيرة على الأعراض. وكان في المجلس الزعيم الجليل عضو مجلس النوّاب: إبراهيم بك هنانو.
* * *
وكتبت قصّة تخيلتها يتوهّم من يقرؤها أنها واقعة، على طريقة الأستاذ زكي مبارك لمّا كان يخترع مجالس لطه حسين وأحمد أمين يقوّلهما فيها ما لم يقولا ويضع على لسانيهما ما شاء هو من أقوال. على أن هذا القصّة ما جاء فيها إلاّ ما هو حقّ، إن لم يقُلْه مَن نسبتُه إليه فإنه كلام صحيح وفيه موعظة ونصح.
قلت فيها على لسان واحد من أذناب الفرنسيين وأعوانهم مِمّن رفعوهم إلى المناصب العالية: لئن كُتب عليكم (والخطاب
للفرنسيين) أن تذهبوا فإنكم ستعودون عاجلاً ثم لا تذهبون أبداً. إني سأنتقم لكم وسأعدّ وحدي العدّة لعودتكم، سأصنع في ليالٍ معدودات ما لم تصنعوه أنتم في ربع قرن وتسعة أشهر. سأريكم قوّتي. وليست القوّة أن تسوق على عدوّك العسكر اللجب والمدافع والدبابات تضرب بها قلعته، ولكن القوّة أن تأتيه باسماً مصافحاً، فتحتال عليه حتى يفتح لك قلعته بيده فإذا أنت قد امتلكتها بلا حرب ولا ضرب.
إني سأدسّ لهم دسيسة في يوم الجلاء
…
لا أصبر والله حتى ينتهي العيد، لأنها فرصة إن لم أغتنمْها لم أكَدْ أجد مثلها. وأنا أعرَف بأهل بلدي (وإن لم يكن دينهم من ديني): إنهم لا يؤتَون بالقوة ولا تنفع فيهم، وقد جرّبتم ورأيتم، فما قتلتم منهم كارهاً لكم إلاّ وُلد عشرة هم أكره منه لكم، وما هدمتم داراً من دورهم إلاّ هدمتم معها ركناً من انتدابكم عليهم، ولا أشعلتم النار في حيّ لهم إلاّ كانت هذه النار حماسة عليكم في قلوبهم ونار ثورة تُتعِبكم. وهم لا يؤخَذون بالشُّبَه تلقى عليهم في دينهم، إلاّ قليلاً منهم. ولا بالثقافة التي تحمل الإلحاد والكفر تحت عناوين العلم والفنّ، لا يقبل ذلك إلاّ قليل منهم. وما جئتموهم بكتاب ظاهر فيه هدم لدينهم إلاّ أثرتم عليكم مشايخهم وجمعياتهم فهبّوا يدافعون، فإذا أنتم قد قوّيتم بعملكم إيمانهم في صدورهم. وما يُنالون بالقوانين التي تُبطِل قرآنهم، وقد علمتم حينما جرّبتم في المغرب أن تأتوهم بالظهير البربري الذي أرجعتموه هنا لابساً ثوب «قانون الطوائف» . ألا تذكرون ماذا جرى عليكم حتى أبطلتموه بأيديكم؟ ولا بالأموال التي تشترون بها ضمائر زعمائهم وقادتهم،
لأن من هذه الضمائر ما هو كالوقف عندهم: لا يُباع ولا يُشترى ولا يوهَب. ولا بإرهاب الزعماء وحبسهم، وهذا هو الرجل الذي ضربه سنة 1936 رجالُكم بعصيّهم، صار هو رئيس الجمهورية التي تخرجون غداً منها.
فقال له فلان الفرنسي: ومن أين تأتيهم أنت؟ وهل تقدر على ما عجزت عنه فرنسا؟
قال: نعم، ولو كنتم قد سمعتم مني ما عجزتم. إنّي آتيهم من الباب الذي لا يستطيع أن يراه أحد مفتوحاً إلاّ ولجه. إني أحاربهم بغرائزهم فأجعلهم يهدمون بيوتهم بأيديهم، وأثير عليهم نساءهم وأثيرهم على نسائهم، وأُلقِي الضعف والخوف فيهم فأفسد عليهم رجولتهم وأخرب أسرَهم، وأجعل جيشهم أخشاباً قد شُغلَت كل خشبة بهواها ولذّتها. إني آتيهم من باب الغريزة الجنسية الذي لم تدخل منه أمّة بغير زواج إلاّ أدخلَت معها النار التي تحرقها والتي لا تخرج أبداً منها.
قال الفرنسي: أما أدخلناهم نحن من هذا الباب؟ أما قلنا لهم إن تعريض أجسام الشباب والشابّات للشمس صحّة لهم وقوّة، فأبوا وقالوا: كلاّ، إنه تعريص (بالصاد)؟ أما قلنا لهم إن هذا الحجاب همجية ووحشية ورجعية وإن التقدم والمدنية بالسفور؟ أما أنشأنا لذلك جمعيات من النساء؟ أما فتحت هذه الجمعيات مدارس؟ أما صنعت هذه المدارس أكثر ممّا صنعت مدرسة الفرنسيسكان؟ إننا لم نصل بعد ذلك كله إلى شيء.
قال الآخر: إن الصبر عند الصدمة الأولى، فإذا استطعتُ أن
أضرب ضربة واحدة فقد ضمنت النجاح. وإني سآتيهم من طريق الوطنية فأقول: إنه يوم عرس الوطن، يوم الجلاء، يوم تختلط فيه الرجال والنساء
…
إلى آخر ما جاء في هذه المقالة، ومن شاء أن يطّلع عليها وجدها في عدد «الرسالة» الذي صدر يوم الإثنين التاسع عشر من جمادى الآخرة سنة 1365 هجرية (1).
* * *
فما الذي كان في ذلك اليوم حتى كتبت عنه هذا الكلام؟
كان أن دمشق التي عرفناها تستر بالملاءة البنتَ من سنتها العاشرة شهدَت يوم الجلاء بنات السادسة عشرة وما فوقها يمشين في العرض بادية أفخاذهن تهتزّ نهودهن في صدورهن، تكاد تأكلهن النظرات الفاسقة. وشهدَت بنتاً جميلة زُيِّنت بأبهى الحلل وأُلبِسَت لباس عروس، وركبت السيارة المكشوفة وسط الشباب. قالوا: إنها رمز الوحدة العربية. ولم يدرِ الذين رمزوا هذا الرمز أن
(1) وهي في كتاب «مع الناس» . ولست أدري لماذا وضعها جدي رحمه الله هناك، فقد كان ينبغي أن توضع في كتاب «في سبيل الإصلاح» لأنها به أليق وألصق (وما أكثر ما أحببت -لو كان الأمر إليّ- أن آخذ المقالة من هذا الكتاب من كتب جدي فأضعها في ذاك أو أعدّل ترتيب بعض الكتب
…
لكنه أمر قد سبق به القول وفُرغ منه). وسوف تجدون أن المقالة الأخرى التي هي كالتتمّة لهذه (وهي «دفاع عن الفضيلة») والتي سيأتي خبرها في الحلقة الآتية من هذه الذكريات، هذه المقالة منشورة في كتاب «في سبيل الإصلاح» (مجاهد).
العروبة إنما هي في تقديس الأعراض لا في امتهانها.
وكان في العرض مناظر كثيرة من أمثال هذا المنظر، قالوا إنها لوحات حيّة تعبّر عن الفرح والسرور! وأُخذت صور هذا كلّه فنُشرت في الجرائد وعُرضت في السينمات، فازدادت جرأة الناس على نقض عُرى الأخلاق، حتى رأينا صور ناس من كبارنا مع نسائهم عراة على سِيف البحر منشورة في المجلاّت!
قالوا: إنه يوم النصر يجوز فيه ما لا يجوز في غيره. وكذبوا فيما قالوا، فإن المرأة التي تزلّ يوم العيد كالتي تزلّ يوم المأتم، والناس يزدرونها من غير أن يسألوا عن تاريخ زلّتها.
وكان ممّا كتبت في «الرسالة» :
ألا من كان له قلب فليتفطّر اليوم أسفاً على الحياء. من كانت له عين فلتبكِ اليوم دماً على الأخلاق. من كان له عقل فليفكّر بعقله، فما بالفجور يكون عِزّ الوطن وضمان الاستقلال، ولكن بالأخلاق تُحفَظ الأمجاد وتسمو الأوطان.
فإذا كنتم تحسبون أن إطلاق الغرائز من قيد الدين والخلق، والعورات من أسْر الحجاب والستر، إذا ظننتم ذلك من دواعي التقدّم ولوازم الحضارة وتركتم كلّ إنسان وشهوتَه وهواه، فإنكم لا تحمدون مغبّة ما تفعلون، وستندمون -ولات ساعةَ مَنْدَم- إذا ادلهمَّت المصائب غداً وتتالت الأحداث، وتلفّتّم تفتّشون عن حُماة الوطن وذادة الحِمى، فلم تجدوا إلاّ شباباً رخواً ضعيفاً لايصلح إلاّ للرقص والغناء والحب. فاللهَ اللهَ للأمّة والمستقبل!
إنّنا خرجنا من هذا الجهاد بعزائم تزيح الراسيات وهِمَم
تحمل الجبال، فلا تضيّعوا هذه العزائم ولا تُذهِبوا هذه الهمم، ولا تشغلكم لذّات نفوسكم عن حماية استقلالكم، فمَن نام عن غنمه أكلَته الذئاب. إن هذا الجلاء نعمة من نعم الله، فتلقّوها بالشكر والطاعة واحفظوها بالجد والأخلاق، فبالشكر تدوم النعم، وبالإخلاص تبقى الأمم، وبالمعاصي تهلك وتبيد.
إن أجدادنا كانوا يحتفلون بالنصر بحمد الله وطاعته، فيقودهم الاحتفال إلى نصر جديد. وكذلك تفعل الأمم الحيّة اليوم. أما سمعتم بحفلات تتويج ملك الإنكليز، وما العهد عنها ببعيد؟ لقد كان نصفها في الكنيسة. فلماذا لا يكون احتفاؤنا بالجلاء إلاّ اختلاطاً وتكشّفاً وغناء ورقصاً، كأنه لم ينزل علينا كتاب ولم يُبعَث فينا نبيّ ولم يكمل لنا دين؟
إني أخاف والله أن يكون الأجنبي قد أجلى جيوشه عنّا وترك فينا قنابل تتفجّر كل يوم، فتدمّر علينا أخلاقنا وأوطاننا واستقلالنا. إن كلّ عورة مكشوفة وكلّ فسوق ظاهر قنبلة أشدّ فتكاً من قنابل البارود، ولا يخفى ضررها إلاّ على أحمق.
فيا أيها الناس، لقد جلَت جيوشُ العدوّ عن أرضكم فأَجْلُوا من بيوتكم عاداتهم، وعن رؤوسكم شبهاتهم، وعن مدارسكم مناهجهم، وعن شوارعكم حاناتهم ومراقصهم، وعن محاكمكم قوانينهم، وعن أجسام بناتكم وأولادكم ثيابهم الكاشفة الفاضحة وأزياءهم.
وذلك هو الجلاء الحقّ.
* * *
وازداد الانحدار وتتالت المصائب، وضعف أهل الدين بتنازعهم واختلافهم واشتغال علمائهم بفروع الفروع من أمر دينهم وغفلتهم عن الأصول التي لا تقوم الفروع إلاّ عليها، وخلا الميدان للذين يريدون أن يطبقوا فينا قانون الشيطان، قانون إبليس. وأوّلُ مادّة في هذا القانون كما تعرفون:«ينزع عنهما لباسَهما ليريَهما سوآتهما» .
فبعد أن كانت النصرانيات واليهوديات يتّخذن الملاءات، وبعد أن كانت دمشق تُغلِق حوانيتها وتخرج المظاهرات فيها لأن وكيلة ثانوية البنات جاءت سافرة عن وجهها، وصلَت الطالبات إلى ما رأينا من التكشف والاختلاط وتلك المنكَرات.
إن أقوى الطاقات في الدنيا ما يسمونه «ردّ فعل» ؛ فأنت حين تكبس بيدك على كفّة الميزان لا يظهر الأثر في الوسط وإنما يظهر في الكفّة المقابلة. هذا الانطلاق وراء اللذّات وهذا التحلل من قيود الدين والأخلاق دفع جماعة من الشباب من العامّة ومن الطلاب إلى إنكار هذا المنكَر، ولكنهم لم يرجعوا إلى مشورة أهل العلم ولم يقفوا عند آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر، وحسبوها فوضى يصنع كلٌّ ما يشاء ما دام يريد بينه وبين نفسه الخير، فانطلقوا يتعرّضون في الطرق للسافرات المتكشّفات، وهجموا مرة على سينما في وسط البلد ليس فيها إلاّ نساء (لأن دور السينما يومئذ كانت عندها بقيّة من حياء، فهي تخصّص أياماً للنساء وأياماً للرجال)، دخلوا عليهن فروّعوهن، فأعطوا بذلك أعداءنا وأعداء ديننا حُجّة علينا. ولذلك قالت العرب في أمثالها:«عدوٌّ عاقل خير من صديق جاهل» .
الفرنسيون أقاموا في الشام ربع قرن فما تعرّضوا لعالِم من العلماء ولا لشيخ من المشايخ، ولكننا لمّا حكَمنا اتخذنا ممّا صنع جُهّالنا وسفهاؤنا حُجّة فحاولنا النيل من علمائنا ومن مشايخنا. حتى إن الشيخ محمد الأشمر، وهو أحد الصالحين الذين ثاروا على الفرنسيين وأبلوا في قتالهم البلاء المبين، وكانت داره حِمى لمن دخلها لم يجرؤ فرنسي أن يدنو منها فيدخل عليه فيها. فلما كان عهد الاستقلال وكان رئيس الوزارة الرجل الوطني
…
سعد الله الجابري، وأخوه إحسان الجابري كان في أوربّا رفيقَ أمير البيان شكيب أرسلان وكان زميلَه في دفاعه عن بلادنا وعن ديننا. سعد الله الجابري هذا أمر باقتحام دار الشيخ محمد الأشمر وبسحبه منها إلى السجن!
كما أسيء إلى كثير من الأفاضل والعلماء، فكتبت في «الرسالة» (عدد يوم الإثنين 6 شوّال 1365) مقالة عنوانها «دفاع عن الفضيلة» ، خاف عليّ الأستاذ الزيات رحمه الله من تبعاتها فمحا اسمي (بموافقتي) من رأسها وكتب أنها لأحد الكُتّاب، ولكن الذي يضع فهارس الرسالة لم يتنبّه لهذا أو لم يخبره به الزيات، فوضع على غلاف الرسالة أن المقالة لفلان (أي لعلي الطنطاوي).
وكان الأستاذ الزيات يحبّ الرفق والاعتدال ويريد ذلك من كُتّاب مجلّته، فيقصّ بموافقتهم من حواشيها إذا هي طالت ويقصّر من أشواكها إذا أوشكَت أن تؤذي بحدّها. فمنهم من كان يرضى بذلك ويوافق كارهاً عليه كالدكتور زكي مبارك، ومنهم من كان يأبى أن يُبدَّل في كتابته شيء ولا يرضى إلاّ أن تُنشَر كاملة
أو تُرَدّ كاملة، ومن هؤلاء الأستاذ سيد قطب رحمه الله وكاتب هذه السطور. لكنه لمّا رأى هذه المقالة جازت الحدَّ المعروف في الصراحة حذف منها، وكتب إليّ رسالة لا تزال عندي يبرّر فيها ما صنع.
والمقالة طويلة والبقيّة في الحلقة القادمة.
* * *