الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-136 -
قصّتي مع رقص السماح
فارقتكم في آخر الحلقة الماضية على أن نبدأ رحلة المشرق، «قَد أَزِف الرّحيلُ وشُدّت الأهْداجُ» ، كما قال الشاعر القديم، يوم كانوا يسافرون على الإبل، ينصبون عليها الهوادج للنساء مبالغة منهم في إعزازهن وإكرامهن، حتى كأنهن لا يخرجن من بيوتهن ليسافرن بل تسافر بهن البيوت وهن فيها.
ولكن خبّروني: ماذا تصنعون إذا عرضَت لكم ساعةَ السفر حاجةٌ ترغبون قضاءها قبل الرحيل؟ لذلك أستأذنكم أن أجيب على رسالة وصلت إليّ معها قصاصة من جريدة، فيها كلمة يُثني كاتبها على رقص السماح وعلى أنه مثال الاحتشام والكمال، ويسألني ما رأيي فيه.
لي مع رقص السماح هذا قصّة هزّت دمشق هزاً وشغلَت صحفها، وكان لوزارة العدل نصيب فيها وللمجلس النيابي، واستُجوِبَت الحكومة بشأنها. أفأسافر قبل أن أنبّئكم نبأها؟
في القصص يقدمون للقُرّاء أبطالها ويعرّفونهم بهم قبل الدخول فيها. وأبطال هذه القصّة مدرسة «دَوْحة الأدب» في
دمشق، وشيوخ الموسيقى في حلب، وفخري البارودي.
أمّا مدرسة دوحة الأدب فهي ثانوية أهلية أنشأها بعض من يدعوهم الناس بالزعيمات النسائيات، اللواتي يُغلِقن عيناً وينظرن بالأخرى وحدها (كما يفعل الصيّاد قبل أن يضغط على الزناد). ينظرن إلى الغرب وعاداته بعين الرضا ويُغمِضن العين عن عيوبه وعن مفاسده، كما يُغمِضنها فلا يبصرن بها جَمال ما في الشرق المسلم من فضائل ومكرمات.
استدعت هذه المدرسة من دمشق أكابر مترَفيها ففسقوا فيها. أوَليس من الفسوق في نظر الشرع أن يُرسِل أبٌ ابنتَه البالغة متكشّفةً مُبدِية زينتها إلى حيث تختلط برجال أجانب عنها ليسوا بمحارمها؟ ولو كانوا أساتذة لها، وإن لم يكن بينها وبين واحد منهم حبّ ولا غرام ولا اتصال بالحرام؟
وأمّا حلب فقد كانت مثابة الفنّ العربي فيها أساطينه ودهاقينه، وكان ممّا تفرّدَت به فرع من هذا الفنّ عنوانه «اسقِ العِطاش» مشهور معروف، مختلَف في أصله؛ فقائل إنه قديم منسوب للشيخ أبي الوفاء المصري الصوفي وإن الشيخ عبد الغني النابلسي عارضه. وهو فقيه دمشقي عالم متمكّن، لكنه من القائلين بوحدة الوجود على مذهب ابن عربي. وهي مقالة مقتبَسة عن الأفلاطونية الحديثة منافية للتوحيد الذي جاء به محمد والرسل من قبله عليهم صلوات الله وسلامه.
والكلام الآن على النغمة والمقام لا على صحّة أو بطلان الكلام. ولعلّ أصله نوع من الاستسقاء كانوا ينشدونه عندما ينقطع
غيث السماء، أكثره تضرع ودعاء، من مثل قولهم:
يا ذا الْعَطا، يا ذا الْوَفا
…
يا ذا الرّضا، يا ذا السَّخا
اسقِ العِطاشَ تكرُّما
…
فالعقلُ طاشَ منَ الظَّما
وكان هؤلاء المشايخ إذا أنشدوا الموشّحات وما يماثلها وقفوا وعبّروا بدقات أقدامهم على الإيقاع الموسيقي وبأيديهم عن حركات النغمة على أسلوب يعرفونه. ولا شكّ أنه بدعة سيّئة، وأسوأ منه وأقبح وأولى بالإنكار ما يُسمّى عندهم بالذكر، وما هو من الذكر، لكنه في لغة العرب وفي اصطلاح العلماء يُدعَى الرقص. ونقل ابن عابدين في الجزء الثالث من حاشيته (وهي عمدة المفتين في المذهب الحنفي) عن المنظومة الوهبانية هذا البيت:
ومَن يستحِلّ الرقصَ قالوا بكُفرِهِ
ولا سيّما بالدّفِّ يلهو ويزمِرُ
وأمّا فخري البارودي فهو أبرز الزعماء الوطنيين الشعبيين في دمشق، غنيّ واسع الغِنى كريم شديد الكرم، خفيف الروح ساحر الحديث حاضر النكتة، لكنه -والله أعلم بحاله- رقيق الدّين. يخطب خُطَباً يخلط فيها الفصحى بالعامّية، تؤثّر في الناس تُضحِكهم كثيراً وتبكيهم أحياناً، يخاطب العامّة باللسان الذي تفهمه العامّة، ولا تنكر ما يقوله الخاصّة. ولقد سبق الكلام عنه في هذه الذكريات.
ولي معه مواقف طريفة، منها أنه لمّا نجح في الانتخابات في سنة من السنين، وكان الحشد الكبير في داره الكبيرة في
القَنَوات وتعاور الخطباء المنبر، قال لي: لا بد أن تتكلّم. وصاح بالناس: كَفّ يا شباب، سَمَاع (أي صفّقوا واستمعوا)، الشيخ علي الطنطاوي.
وكنت أُدعى بالشيخ من قبل سنة 1930، ولذلك قصّة سأقصّها يوماً (1). فقلت له: إني نظمت قصيدة. قال (بلهجته العامّية) وشاعر أيضاً؟ تقبرني (وهي كلمة تحبُّب تُقال في الشام). قلت: نعم. قال: هات. وأصغى الناس، وأردت أن أجعلها نكتة فقلت (كأنني ألقي مطلع قصيدة): دمشقُ قدْ فازَ الزعيمُ فخري.
هل انتبهتم إلى النكتة في كلمة «فخري» ؟ فضحكوا جميعاً وقال: بلحيتك (يخاطبني أنا). نطق بدري! (وهي كلمة لا يعرفها إلاّ الشاميون، أو الكهول والكبار منهم)(2).
كان فخري البارودي وطنياً مُخلِصاً وأميناً على المال، ولكن الناس يتّهمونه تهمة شائعة وقالة سوء قيلت عنه، ما حقّقتها
(1) قال علي الطنطاوي في الحلقة 244 من هذه الذكريات: كان أبي إمامَ المسجد الصغير، فلما توفّاه الله ولّوني أنا الإمامة وأنا لم أكمل السابعة عشرة، فقالوا لي: لا بدّ للإمام من عمامة. فأدرتُ على طربوشي عمامة فصرت شيخاً صغيراً. قالوا: ولا بدّ له من لحية. قلت: العمامة أتينا بها من عند البزّاز (أي بائع القماش) فمن أين آتي باللحية؟ (مجاهد).
(2)
يقولون: "حَكَى بَدْري"، تُقال لمن يجيء بالكلام السخيف الذي لا يتناسب مع المقام؛ كأنما يقولون: سكوتك خير من كلامك هذا. والنكتة التي أشار إليها في قوله «فخري» تُفهَم مسموعة لا مكتوبة، لأنها تحتاج إلى ألف بين الفاء والخاء! (مجاهد).
وأستغفر الله من روايتها من غير تأكد منها. ولكن الذي حقّقته وتأكدت منه أن ولعه بالموسيقى وحبّه للفنّ أوصله إلى فكرة شيطانية ما أحسب أنها خطرت في بال إبليس نفسه، هي أن ينقل رقص السماح هذا من المشايخ والكهول ذوي اللِّحى إلى الغيد الأماليد والصبايا الجميلات من بنات دوحة الأدب، التي دعوتها من يومئذ «دوحة الغضب» . ولعلّ هذه النقلة على ما فيها من الفسوق الظاهر، لعلّها أيسر من بعض ما في أناشيد المشايخ من شِرك يكاد يكون ظاهراً.
فجاء من حلب بأستاذ كان في حفظ الموشحات ومعرفة الغناء القديم مُفرَداً لا يجاريه في ذلك أحد ولا يدانيه، هو الشيخ عمر البطش. وكان بعمامة مطرزة يلبسها التجّار في الشام تفريقاً لها عن العمامة البيضاء التي يلبسها العلماء، وإن كان الشيخ بدر الدين الحسني المحدّث الأكبر والشيخ علي الدقر الواعظ الأشهر يتخذانها.
وفُصّلت للطالبات ثياب من الحرير بأزهى الألوان، فضفاضة كثياب القِيان والإماء في بغداد قديماً وفي مدن الأندلس. وحفّظهن هذه الموشحات، ولكنه نقلها ممّا كانت عليه حين كان يُنشِدها ويرقص عليها المشايخ من تضرّع ودعاء واستغاثة ونداء، إلى كلام كلّه عشق وغرام وشوق وهيام، وكثير منه صيغ ليكون من كلام البنت تخاطب الرجل. وشتّان بين غزل الشاعر ونسيب الشاعرة!
أشرح لكم الفرق: حين تقول "ضرب زيد عَمراً" يكون موقع الرجل كمحل زيد من الإعراب، ومحلّها هي في موضع عمرو.
هل فهمتهم؟ هو يقول: تعالي، وهي تقول: خذني.
واستمرّ التدريب ونحن لا ندري به. وما يُدرينا بالذي وراء جدران مدرسة أهلية للبنات، ونحن لا ندخلها وما لنا فيها قريبة ولا نسيبة تخبرنا بالذي فيها؟
حتى سمعت أنها ستقام حفلة كبيرة في دار أسعد باشا العظم، وهي أوسع الدور الدمشقية وقد صارت الآن متحف الفنون الشعبية. فكتبت أنقد إقامتها وأحذّر منها، وأنصح آباء البنات وأولياءهن أن يمسكوا بناتهم فلا يبعثوا بهنّ إليها. وكيف يرضى لبنته مسلمٌ عربي أبيّ أن ترقص أمام الرجال الأجانب، وتتخلّع وهي تغنّي أغاني كلها في الغرام والهيام؟
ولكن الحفلة أُقيمت، وحضرها رئيس الوزراء وأظنّ أنه كان خالد بك العظم، وحضرها العقيد أديب الشيشكلي، وقد كان بعد قتل حسني الزعيم هو الحاكم من وراء ستار، الجيش معه وحكم البلد في يده، وحضرها قوم مِمّن يُدعَون بوجوه الناس وكبارهم. وعرفنا خبرها من الجرائد ومن الإذاعة، ولم يكن قد جاءنا هذا الرائي أي التلفزيون.
* * *
وأنا من عادتي إذا سمعت بمنكَر أو رأيته أُدخِله ذهني كما تدخل المعلومات في المِحساب (1)، فأنام عنه كما أنام كل ليلة
(1)«المحساب» كلمة وضعتها للكمبيوتر، كما وضعت من قبل كلمة «الرائي» للتلفزيون وكلمة «الرادّ» للراديو، لأنه يردّ علينا الصوت الخارج من المذياع.
كأن شيئاً لم يلج فكري، فإذا كان قبل موعد قيامي لصلاة الفجر استيقظت من نومي، فوجدت الفكرة قد ملأت نفسي وغلبَت على فكري وتملّكَت أعصابي، فأتحمّس لها وأُعِدّ في ذهني ما أكتبه أو أقوله عنها، ويطير النوم من عيني فألبث متيقّظاً أترقّب طلوع النهار.
وكنت يومئذ القاضي الممتاز في دمشق، ولعلّ ذلك بمثابة رئيس المحكمة الشرعية الكبرى في المملكة وفي مصر. وكنت أخطب مع ذلك في مسجد الجامعة، وهو مسجد صغير أقامه العثمانيون لمّا بنوا الثكنة الحميدية التي صارت فيها الجامعة، وهي الأخت الكبرى للثكنة في مكّة التي ترونها عند البيبان، هي مثلها في بنيانها ولكنها أوسع منها وأضخم.
فلما غلب الفرنسيون عليها جعلوا المسجد نادياً أو ملهى وصوّروا على جدرانه صوراً، فلما استرددنا الثكنة عمل طائفة من الشباب على رأسهم أخي الأصغر محمد سعيد، بذلوا الجهد ودأبوا وثابروا حتى استرجعوا المسجد.
وأُقيمت فيه الصلاة، وألقيتُ فيه أول خطبة جمعة وكان موضوعها «خطبة الجمعة» ، ثم جعلوا فيه دروساً ليلية ألقيت أنا بحمد الله أول درس فيها، ثم نُشرت رسائل كتبت أنا أوّل رسالة منها، وكان الذي يرتّب الخطب والدروس ويطبع الرسائل أخي محمد سعيد.
* * *
فلما أُقيمت هذه الحفلة رقص فيها هؤلاء البنات رقصة السماح، وهُنّ صفوة فتيات دمشق جمالاً ومالاً ودلالاً، وألبسوهن ألبسة حريرية ملوّنة فضفاضة كالتي كان يلبسها الجواري قديماً.
لم يكن في هذه الرقصة عورة مكشوفة، ولا كانت رقصة هزّ البطن الظاهر التي تعرفها بعض البلاد، ولا كان فيها عرض الأفخاذ بحركات متّزنة كالذي يدعونه رقص الباليه. ولكن فيها ما أظنّ أنه أضرّ على الشباب من ذلك كله؛ لأن فيها -على الرغم من الثياب الواسعة- من الإثارة ما كان يتعمّد مثلَه في العصر العباسي الإماءُ الفاتنات المستورَدات لإثارة ميول الرجال.
وكان من عادتي حين أصعد المنبر لأخطب خطبة الجمعة أن أُعِدّ الموضوع في ذهني، لا أكتبه لأنه ليس أقبح من خطيب يتلو خطبته من ورقة مكتوبة، يضع عينيه فيها، لا ينظر إلى الناس بل يكلّمهم مُعرِضاً عنهم. وأقبح منه مَن يفعل ذلك في الرائي (أي في التلفزيون).
وربما أعددت في ذهني موضوعَين أتردّد بينهما، أيهما أختار منهما. حتى إن المؤذّن بين يديّ يصل إلى «حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح» وأنا لا أزال متردّداً في اختيار الموضوع، ولكن الموضوعَين في ذهني، فإذا بدأت بأحدهما فتح الله عليّ وانطلقت أتكلّم فيه.
ولم أكُن أنوي التعرّض للحفلة لأنني تكلّمت فيها وكتبت، وحسبت أني أعذرت بذلك إلى ربي. ولكني لمّا بلغت الدعاء في آخر الخطبة خطرَت على بالي الحفلة وما كان فيها، فخفت من
الله أن يراني ساكتاً على إنكارها وأن أكون شيطاناً أخرس. وأنا لا أرضى لنفسي أن أكون شيطاناً ناطقاً بليغاً، أفأرضى أن أكون شيطاناً أخرس؟
وأحسست أن شيئاً قد نبض في قلبي فهزّه مثل هزّة الكهرباء وسرى في أعصابي وعروقي. وحين أحسّ بذلك أعلم أني إن تكلّمت كان كلامي لله وأن الله لا يخذلني، وقع لي ذلك عشرات من المرات، ما تخلّى الله عني في واحدة منها. أمّا حين أتكلّم للدنيا وأفكّر في نفع أناله من كلامي أو ضرر أتحاشاه، إن تكلّمت في هذه الحال لم يكن لكلامي أثر في نفوس السامعين.
لمّا بلغت الدعاء قلت كلاماً صدِّقوا أنني لا أحفظه لأنني لم أُعِدّه ولم أرصفه، وإنما تكلّم به إيماني على لساني. قال السامعون لي بعد ذلك أنني قلت ما معناه أن دمشق ظئر الإسلام ومثابة الأخلاق لا ترضى بما يخالف الإسلام ولا بما يذهب بمكارم الأخلاق، كائناً مَن كان قائله أو فاعله وكانت منزلته بين الناس، وأن هذه الحفلة منكَرة وأنها حرام وأنها تنافي الإسلام، وأن كل من حضرها ورضي بها آثم، وأن الذي لا يغار على محارمه ديّوث!
وخرجَت الكلمات من فمي كالرصاصات من المدفع الرشاش، ما احتمل هذا الكلام كله دقيقتين اثنتين. وشُدِهَ السامعون أوّلاً، ثم خشعوا ثم اقتنعوا واستيقظَت ضمائرهم المؤمنة، وقرأت في الصلاة آيات قالوا إنها جاءت مناسبة للمقام، لا أعرف الآن والله الذي قرأت يومئذ في الصلاة.
وأقبل الناس عليّ بعدها داعين مهنّئين خائفين عليّ، فقلت
لهم: إني فعلت ذلك لله، والله لا يتخلّى عمّن يعمل له.
ومشَت كلمتي في الناس مشي الكهرباء، تنتقل من أقصى البلد إلى أقصاها في لحظة، فلم يُمسِ المساء حتى كانت حديث الناس.
أمّا الحكومة فعلمت أنها فوجِئَت وغضبَت، ولكن لم تجد سبيلاً عليّ فأنا أتمتّع بحصانات: بحصانة القضاء، وحصانة الدين لأني أخطب خطبة الجمعة في بيت الله، ومن ورائي الأُمّة المسلمة وآلاف من الشباب يدافعون عمّن ينصر دين الله. فلم تجد الحكومة إلاّ أن تصبّ غضبها على رأس مذيعة ما لها ذنب، أظنّ أن اسمها فاطمة البديري، ولست أعرفها.
لمّا سألوها قالت لهم: ماذا كنتم تريدون أن أصنع؟ هل أقطع البثّ؟ (ونسيت أن أقول لكم إن الخطبة كانت تُذاع من الإذاعة على الهواء). هل أقطع الخطبة والخطيب من رجال الدين؟ ثم إنه قاضي البلد، وماذا يقول سامعو الإذاعة؟ ثم إن الأمر كله لم يمتدّ إلاّ أقلّ من دقيقتين، لم أُفِق فيهما من دهشتي حتى أرجع إلى عقلي وأقدّر ما ينبغي عليّ أن أفعل؟
وعلى هذا الدفاع المخلص أوقعوا عليها العقاب.
* * *
وانقسم الناس قسمَين: أمّا أهل الدنيا وفيهم بعض الحاكمين وبعض الصحافيين فحملوا عليّ وكتبوا عني ما شاؤوا وشاء لهم هوى نفوسهم. وقد قلت لكم من قبلُ شيئاً قد لا تصدّقونه ولكنه
حقّ، هو أن الجرائد في الشام تُعلَّق على جدار القصر العدلي، وأنه طالما وقع لي أن الجرائد كلها تحمل عليّ وتسبّني بالعناوين الكبيرة، وأنا أمرّ بها فلا ألتفت إليها وأدخل إلى المحكمة وأباشر عملي وأنساها كأنني ما رأيتها. وأقسم لكم لتصدّقوا أنني إلى هذه الساعة لم أدرِ ما الذي كتبوه عني.
أمّا أهل الدين (وهم الكثرة الكاثرة من السوريين بحمد الله ربّ العالمين) فهم معي، حتى إن القاضي الفاضل العالم الشيخ محمد الأهدلي رحمه الله كتب مقالة عنوانها:«كلنا علي الطنطاوي» ذهب فيها في تأييدي كل مذهب ممكن. ونشرَت الهيئات الإسلامية بياناً طبعت منه أكثر من مئة ألف نسخة ووزّعته في أرجاء البلاد عنوانه «بيان الهيئات الإسلامية إلى الشعب الكريم» . كان ممّا قالت فيه:
إن الجمعيات الإسلامية وعلماء المسلمين تُعلِن للحكومة باسم الدين، وباسم الدستور، والكثرة الساحقة من هذا الشعب الذي تُنكِر أديانه على اختلافها، وتُنكِر أعرافه وأخلاقه الفسوقَ والدعارة والتهتّك وإقامة الحفلات الراقصة المتكشّفة باسم الفنّ والذوق والرياضة، والتي غضبت من الحفلة التي أقامتها مدرسة دوحة الأدب وعُرضت فيها البنات المسلمات راقصات أمام الرجال، في شهر رمضان شهر الطاعة، ونحن في مرحلة حرب مع اليهود، ولا يُستنزَل نصر الله بمعصية الله.
تعلن للحكومة أنها -قياماً بواجب الدين الذي يأمر بإنكار المنكَر، وتنفيذاً لأحكام الدستور الذي يحمي الخلق والعفاف،
وذوداً عن عقائدها وأخلاقها- لا ترضى بمخالفة شرع الله وشرع العفاف، والسماح للفئة التي تتبع أهواءها وشهواتها باسم دعوى التقدمية والتجدّد أن تتحكم بأخلاقها وأعراض بناتها ومستقبل أبنائها، وتؤيّد (وأنا هنا أنقل ما هو مكتوب) فضيلة الأستاذ الشيخ علي الطنطاوي في كلمة الحقّ التي أعلنها في خطبته في مسجد الجامعة وعبّر فيها عن حكم الدين، وتُنكر كل تحريف لها، وتطلب وضع حدّ لمؤازرة بعض رجال الحكومة لهؤلاء الناس وحمايتهم للحفلات الماجنة، إلخ.
أما التوقيعات فهي: رئيس رابطة العلماء أبو الخير الميداني، رئيس جمعية تضامُن العلماء كامل القصّاب، رئيس جمعية الهداية الإسلامية محمد سعيد الحمزاوي، نائب رئيس رابطة العلماء مكي الكتّاني، رئيس جمعية التوجيه الإسلامي حسن حبنّكة الميداني، رئيس جمعية الأنصار أحمد كفتارو، رئيس جمعية التهذيب والتعليم هاشم الخطيب، رئيس جمعية الشعائر الدينية محمد الهاشمي، نائب رئيس الجمعية الغرّاء أحمد الدقر، المراقب العامّ للإخوان المسلمين مصطفى السباعي، رئيس جمعية التمدن الإسلامي محمد حسن الشطي رحمهم الله جميعاً).
* * *
ثم أصدرَت جمعية الهداية الإسلامية منشوراً آخر قالت فيه: لقد حذّر فضيلة الشيخ الطنطاوي (عفواً فإني أنقل ما هو مكتوب) وكثيرٌ من العلماء والجمعيات الحكومةَ من إقامة هذه الحفلة وممّا ينشأ عنها من ذيول هي في غِنى عنها وعن عواقبها. وليس الظرف
بالذي يلائم التفكّك بين أفراد الشعب الواحد أو إثارة مسائل لا يرضى عنها الدين
…
إلى أن قالت: وما كان الذي جرى بالأمر الذي يسكت عنه قادة الدين وعلماء المسلمين وفي طليعتهم (عفواً مرة ثانية) فضيلة قاضي دمشق الشرعي الأستاذ الطنطاوي، إلخ.
ولمّا قابل وفود العلماء رئيسَ الوزراء (وأحسب أنه كان خالد بك العظم) قال لهم إنه يحترمني ويقدّرني، ولكنه أنكر لفظاً بذيئاً لا يليق بي قد استعملته هو لفظ الديّوث. فصرخ به الشيخ عبد القادر العاني (وكان جهير الصوت حديد المزاج صدّاعاً بالحقّ):"لقد كفرت وحَرُمَت عليك امرأتك إلاّ أن تجدّد إسلامك! أتقول عن لفظ استعمله رسول الله ووَرَدَ في الحديث أنه لفظ بذيء؟ "
…
يريد لفظ «الديّوث» الذي ورد في حديث أخرجه الإمام أحمد والنسائي والحاكم وغيرهم، فبُهِت ولم يجد بداً من الاعتذار.
ثم انتقلَت القضية إلى المجلس النيابي وأُثيرَت في جلسة 26 حزيران (يونيو) 1951 (الموافق 22 من شهر رمضان سنة 1370هـ)، وكان الاستجواب موقَّعاً من نائب دمشق مصطفى السباعي ونائب دمشق محمد المبارك ونائب المعرّة حكمة الحراكي ونائب الباب عبد الوهاب سكر، رحم الله الجميع فقد مضوا إلى رحمة الله. أمّا الاستجواب فمنشور في الجريدة الرسمية في الصفحة 259 من المجلد الصادر سنة 1951.
لا أستطيع أن أورد الاستجواب كله لأنه طويل، ولكن ألخّصه فيما يأتي:
يقول أولاً: هل ترى الحكومة في هذه الحفلة التي أُقيمَت في
قصر آل العظم باسم معهد دوحة الأدب، وبرزَت فيها الفتيات في سنّ الثامنة عشرة والعشرين في رقصات متعدّدة أمام الجمهور، وأنشدن أناشيد الهوى والغرام بشكل مثير استُعملت فيها آيات القرآن في مواطن لا تتّفق مع جلالة القرآن وقدسيته، هل ترى الحكومة في هذا ما يتفق مع نصوص الدستور وبيانها الوزاري؟
هل ترى الحكومة أنه كان من المناسب إذاعة هذه الحفلة من محطّة الإذاعة الرسمية في شهر هو عنوان العبادة والتقوى والخضوع إلى الله، وهو شهر رمضان؟ هل ترى الحكومة أن مثل هذه الحفلات يصحّ أن يقوم بها معهد أُنشئ للتعليم والتهذيب؟ هل ترى الحكومة أنه ممّا ينسجم مع بيانها الوزاري ومع تعليمات وزارة الداخلية بمنع الاختلاط في الشوارع العامّة بين الرجال والنساء في شهر رمضان أن سُمح بالاختلاط في تلك الحفلة، حين كانت السيدات والتلميذات في أتمّ زينة وأجمل حلية؟
هل ترى الحكومة في تقديم الأستاذ الطنطاوي للقضاء احتراماً لحرّية الرأي ولحرّية المساجد، وللإسلام الذي نصّ الدستور على وجوب استمساك الدولة به وبآدابه؟ إلخ.
وتكلّم في هذه الجلسة الأستاذ محمد المبارك رحمه الله ورحم الجميع) فقال كلمة طيّبة جاء فيها: إن رقص السماح -أيها الإخوان- الذي يريد بعض الناس أن يفخر به قد رافق عصر الانحلال والانحطاط في الأندلس وفي بعض البلاد العربية الأخرى، أفلا يجب أن نقلّد، إذا ما أردنا أن نقلّد، عصور الحضارة والمدّ الذهبي الذي كانت فيه المرأة تجمع بين الخلق والكرامة
والجهاد والكفاح؟ إلخ.
ثم تكلّم رئيس المجلس فدعا النوّاب إلى إرجاء البحث في هذه القضية حتى يَرِدَ جواب الحكومة، ثم أعطى الكلمة للدكتور منير العجلاني فكان ممّا قال: سيدي الرئيس، لقد ألقيت سؤالاً على معالي وزير العدلية يتعلّق بقضية قاضي دمشق الأستاذ الطنطاوي. وليس القصد إحراج معالي الوزير، فهو شخصية محببة مهذّبة وأنا من الذين يُحِبّونه ويحترمونه، ولكنْ أردت أن نفهم من هذا السؤال الأسباب الحقيقية التي حملت الصحف على تكثيف حملة غاشمة ضدّ كاتب كبير ومناضل وطنيّ معروف (أعتذر مرة ثالثة لأنني أنقل مدح نفسي) هو فضيلة قاضي دمشق الأستاذ علي الطنطاوي. وقد كان من جملة الأشخاص الذين استمعوا إلى خطابه في المسجد أستاذ في كلّية الحقوق هو الأستاذ مصطفى الزرقا، كما استمع إليه أستاذ آخر هو الدكتور مصطفى البارودي، وقد أكّدا لي أن فضيلة القاضي لم يأتِ على ذِكر حفلة دوحة الأدب بصراحة ولا تعرّض لها بجملة مخصوصة، إلخ.
ثم ألقى الشيخ الدكتور مصطفى السباعي كلمة قال فيها: إننا نزولاً عند رغبة مقام رئاسة المجلس النيابي ودولة رئيس مجلس الوزراء نُرجئ بحث هذا الموضوع حتى يأتي جواب الحكومة، ولعلها تسعى في هذه المدّة إلى إصلاح الجوّ بما يحفظ لنا الأخلاق ويحفظ سمعتنا في البلاد العربية الشقيقة
…
إلى آخر ما قال.
* * *
هذه هي القضية التي شغلت الناس والتي لم أُرِدْ من إثارتها
-يعلم الله- إلاّ إنكار المنكَر، وقد حوكمتُ بعدها أمام مجلس القضاء الأعلى، عليها وعلى مقالة كنت كتبتها في نقد قانون العقوبات الذي يكاد يُبيح الزنا، وقلت عنه إنه قانون «القطاط في شباط» !
وقصة المحاكمة طويلة، وقد انتهت بالحكم عليّ بخصم عُشر راتبي شهرَين متعاقبَين!
* * *