الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-140 -
كيف قابلنا الشيشكلي
؟
نحن كالنمل. هل رأيت قرية النمل؟ ادنُ منها ترَ حركة دائبة وصفوفاً متعاقبة، كلّ واحدة تأخذ بعقِب أختها فتمشي وراءها. كنت أحسب أنّ لها غاية تريد بلوغها، ثم علمت أنها تدع مِن أثرها شيئاً له رائحة، تهدي رائحته التي بعدها فتتبع سبيلها، فإذا مسحت بإصبعي طريقها اضطرب حبلُها واختلّ سيرها.
أليس هذا مثال البشر؟ بعضهم يموج في بعض، منهم من يمشي يميناً ومن يمشي شمالاً، وكلٌّ مسرع لا يقف، وكلٌّ يحسب أن طريقه هو الصراط المستقيم. وهل أنا إلاّ واحد من الناس أمشي مشيهم وأصنع صنيعهم؟ أصبح فأعدو نهاري كله، فإذا جاء الليل هجعت أستريح، ثم غدوت لأعود فأعدو من جديد.
لا أقف إلاّ مرة في رأس كل سنة. أقف قليلاً لأنظر أمامي لأرى إلى أين أسير، وأنظر ورائي لأرى كم قطعت من الطريق. أفتح دفاتري وأصفّي حسابي، كما يصنع التاجر عند الجرد السنوي إذ ينظّم موازينه ليبصر كم ربح وكم خسر. واليوم (الأربعاء 23 جمادى الأولى) هو يوم الجرد، في هذا اليوم من سنة 1405
ختمت ثمانياً وسبعين صفحة من كتاب حياتي الذي لا أدري ولا يدري أحد كم عدد صفحاته، لأن النسخة الأصلية لا يستطيع أحد أن يراها، فهي في كتاب مكنون مخبوء، ما فرّط الله في هذا الكتاب من شيء.
وليس المراد بالكتاب الذي ما فرط فيه من شيء القرآن، بل هو كتاب القدَر الذي انفرد بعلمه الرحيم الرحمن، لا يعلمه نبيّ مُرسَل ولا ملَك مقرَّب. إنه غيب ولا يعلم الغيب إلاّ الله.
فتحت اليوم (23/ 5/1405هـ) الصفحةَ التاسعة والسبعين، فمتى تُغلَق؟ وهل أقدر أن أعود إلى ما قبلها فأصحّح ما فيه من أخطاء مطبعية أو ما فيه من أغلاط فكرية؟
إن من رحمة الله بنا أن جعل لي ذلك، أعود إليها ولكن بالذاكرة، وأصحّح ما فيها بالتوبة. فاللهمّ إني تبت إليك فتُب عليّ، وجئت أستغفرك فاغفر لي، فلقد أيقنت والله الآن أن لذائذ الدنيا سراب وأن مخاوفها أوهام، وأنها كلها رؤى منام أو أضغاث أحلام.
كتابة على الماء، يموج الماء فيمحوها، يمحوها أمام عينك ولكنها ثابتة أمام الله، لا تضيع منها صغيرة ولا كبيرة يُحصيها ليحاسبنا عليها. دنيا كالذي تراه في لوحة الرائي (التلفزيون): مناظر جميلة وجبال وأنهار وناس وبهائم، عالَم كامل، ولكن إذا أدرت المفتاح أو انقطع تيار الكهرباء ذهب كلّ ما ترى في لمحة فكأنه ما كان.
* * *
كنت أقف على رأس كلّ سنة فأصفّي حسابي مع الزمان، ولكنْ كَبُر الآن رقم الحساب وطال العمر، وما عدت أستطيع أن أشمل كلّ الذي رأيت في عمري بنظرة، ولا أن أحصره في فكرة، ولا أن أصوّره في مقالة.
إني لأفكّر الآن: ما الذي قدّمته لآخرتي في هذه السنوات الطوال؟ ما الذي نفعت به الناس؟
لقد طُبع ممّا كتبت إلى هذا اليوم أكثر من أربعة عشر ألف صفحة، وما لم يُطبع كثير. لقد علّمت في المدارس من سنة 1945. إنها ستّون سنة، بدأت التعليم قبل أن أُكمِل التعلّم، علّمت في المدارس الأولية في القُرى وفي الابتدائية والمتوسطة والثانوية، ودرّست في الجامعات وفي أقسام الدراسات العُليا فيها، في الشام وفي العراق وفي لبنان وفي الرياض وفي مكّة. علّمت بنين وبنات، علّمت مشايخ وأفندية، ألقيت محاضرات في النوادي ودروساً في المساجد، وخطباً في المظاهرات وفي الشوارع والساحات. والله وحده الذي يعلم عددها. وضعت أو شاركت في وضع قوانين كثيرة ومناهج للمدارس الشرعية.
فما الذي بقي لي من ذلك كله الآن؟
إن كان عملي للدنيا وحدها فما بقي شيء: المال الذي دُفع لي أُنفِقَ وذهب، والتقدير الذي أرجوه من الناس نُسِي وراح، وكذلك يكون العمل للدنيا. وإن كان شيء منها لله، قد خَلُصَت فيه النيّة وصفي القلب وأُريدَ به الله والدار الآخرة، فهذا الذي يبقى عند الله ويسبقني ثوابه إلى الدار الآخرة.
كان موضوعي في هذه الحلقة مقابلة نفر من أعضاء المؤتمر العقيد أديب الشيشكلي، يوم كان هو الحاكم في سوريا، حكمه النافذ وقوله المسموع وإليه المرجع. فأين الشيشكلي؟ وأين مَن رأيت قبله وبعده من الحُكّام؟ وهل أقدر أن أعدّ من رأيت من الحُكّام؟
كنّا ونحن في المدرسة الابتدائية أيام الحرب الأولى نرى جمال باشا هو كل شيء، وإليه ينتهي في بلدنا كل شيء. يخافه الكبار فكيف لا نخاف -إن ذُكر اسمه- نحن الصغار؟ كان معه الجيش، ومعه المال، ومعه السلاح. وكان يشنق
…
لا يزال أمام عيني منظر المشنوقين في ساحة المرجة أيام الحرب العالَمية الأولى. وبكيتهم مع من بكاهم وسَمّيتهم الشهداء مع من سَمّاهم، وقلنا للمرجة بعدهم «ساحة الشهداء» ، ثم لمّا كبرت وعرفت بعض ما كنت أجهل من الحقائق علمت أن أكثرهم لم يكونوا شهداء ولا مظلومين برآء، ولكن كان أكثرهم مجرمين. كانوا جواسيس وكانوا أعواناً للإنكليز والفرنسيين، ثبت ذلك من الأوراق الرسمية التي وجدوها في القنصلية البريطانية والفرنسية ومن وثائقهما (1).
فكيف تضيع حقائق التاريخ في دعايات بعض الدول وبياناتها الرسمية؟ إنْ كذب عليك ولدك أو تلميذك نصحتَه ثم زجرته ثم عاقبته. ولكن من يعاقب من يزوّر التاريخ وهو يملك كلّ وسائل التزوير وأنت لا تملك من أسباب التصحيح شيئاً؟ السلطان معه
(1) انظر التعليق الذي سبق في أواخر الحلقة الخامسة من هذه الذكريات (مجاهد).
والدولة والمال والإذاعة والصحف معه، فما الذي هو معك؟
كُن مع الله ترَ الله معك، وكفى بالله لمن كان معه بقلبه معيناً ونصيراً. وسيُظهِر الله الحقّ ولو طال المدى، وإن لم يظهر في الدنيا فإن هذه الدنيا فصل من الرواية وليست الرواية كلها، إنه سيُرفع الستار عمّا بقي من فصولها.
كم رأيت في حياتي من حُكّام انتهى إليهم في حياتهم أمر كلّ شيء، ثم أمسوا ليس في أيديهم من الأمر شيء، بل لقد باتوا هم لا شيء:
ماتوا فما ماتتِ الدنيا لمَوْتِهمُ
…
ولا تعطّلَتِ الأعيادُ والجُمَعُ
وسيموت كل طاغية جبّار ويمشي على طريق من سبقه. ما بقيَت الدنيا لأحد قبله حتى تبقى له. بل إن الأسماء التي كبرت حتى مشَت على كل لسان ودخلَت كلّ أذن وصار منها ما يُخوَّف به الأولاد كالبعبع والعفريت والغول، لقد نُسيت هذه الأسماء!
كنت مرة مع بعض العوام فجرى ذكر ستالين، فسألت أحدهم: ألا تعرف ستالين؟ فخجل من جهله ثم قال: أنا يا أستاذ أستعمل الأسبرين، لا أعرف الستالين!
كم عدد الذين يعرفون من القُرّاء تاريخَ القرامطة؟ القرامطة الذين احتلّوا مكّة، وأقَضّوا جانب الدولة العباسية، وعاثوا في الأرض فساداً، وكانوا شرّ قَبيل انتسب زوراً إلى بني آدم. الذين ذبحوا الحُجّاج ذبح النعاج وهم يطوفون حول البيت، واقتلعوا الحجر الأسود وأخذوه معهم إلى هَجَر. ولست أعرف ما هجر:
أهي القطيف أم البحرين؟ ولا يضرّني ألاّ أعرف ما هَجَر بعد أن أباد الله ذلك الصنف الفاسد من البشر.
وصاحب الزِّنْج الذي أثار الأذناب على الرؤوس والعبيد على السادة، وأراد أن يقلب وضع المجتمع ويجعل سافله عاليه ورأسه تحت ورجلَيه من فوق، فقلبه الله فجعل جسده تحت الأقدام وصيّره عِبرة للأنام.
لو كنت أستطيع أن أعُدّ مَن علا حتى ظنّ أنه بلغ برأسه السحاب ثم غدا تأكل جسدَه الدود تحت التراب! كلّما رأيت من يسيطر اليوم بقوّته أو يحكم بجيشه وسلاحه ويستعين بجنده وأعوانه على ظلم الأنام والتحكّم في الناس، يظلم عباد الله ويخالف شرع الله ويسعى في الأرض فساداً، كلّما رأيت ذلك تذكّرت أمثاله وتخيّلت مصيره الذي لا يستطيع أن ينجو منه، فهان عليّ ما أرى.
يا أيها القُرّاء، أقول لكم بعد تجارِب ثماني وسبعين سنة كاملة في هذه الحياة، رأيت فيها من خيرها وشرّها وذقت من حُلوها ومُرّها، أقول لكم: من اغترّ بهذه الدنيا واطمأنّ إليها فهو أحمق.
* * *
أعود الآن إلى موضوعي.
قلت لكم في الحلقة الماضية إنهم انتدبوني أنا والأستاذ كامل الشريف، لمّا حُكم على أخينا نَوّاب صَفَوي بالقتل، أن نذهب
إلى طهران فنسعى للعفو عنه أو للرفق به. لمّا بلغنا بغداد منعونا دخول إيران، وكأنهم كرهوا أن نذهب إلى النجَف فنجتمع بعلمائها لنتعاون معهم على ما جئنا نسعى إليه، فقَدمت جماعة كبيرة من علماء الشيعة إلى بغداد. واجتمعنا في مسجد الكاظمية فقلت لهم: إن نواب صفوي أنتم أولى به وإن قضيّته قضيّتكم، وإنه وإن لم يكن بعيداً منّا أقربُ إليكم، فاعملوا ونحن معكم.
وقلت لكم إنّا ما استطعنا أن نصنع شيئاً وإن سهم القضاء قد نفذ فيه فمات، رحمة الله عليه.
وقد يسأل سائل: من أين عرفت نواب صفوي؟ لقد سمعت أخبار جماعته الفدائية، تلك الأخبار التي ملأت الصحف في تلك الأيام، وما كان يعمل أعضاء «فدائيان إسلام» . فلما قرأت اسمه بين أعضاء المؤتمر كرهت لقاءه، وخفت أن يكون كما قالوا مغرقاً في شيعيته فيقع بيني وبينه جدال ربما أساء إلى المؤتمر وأبعده عن بلوغ الغاية التي يسعى إليها. فلما لقيته وجدته شاباً صغير السنّ بهيّ الطلعة لطيفاً، بعمامة أظن أنها كانت سوداء وجبّة سابغة، ولمّا كلّمته وجدته متأدّباً يحترم الكبير ويستمع النصيحة، فخضت معه في الموضوع الذي كنت أخشاه فوجدته كما كنت أقدّر غالياً في شيعيته.
ولا يأتينا الضرر ولا يقع بيننا الخلاف إلاّ من أصحاب الغلوّ والتشدّد. فصرت أبيّن له ما أرى أنه الحقيقة، فكان يُصغي إليّ ويَقبل ما يقوم الدليل على أنه صحيح من كلامي، فلما لمست طيب قلبه وإخلاصه وحُبّه للوصول إلى الحقّ، كدنا نتّفق على كثير
من المسائل التي يختلف فيها من كان في مثل موضعه وموضعي. ثم صار يُكثِر الاجتماع بي ويمشي معي، ولنا صور كثيرة في المؤتمر وفي المسجد الأقصى بالقدس، ثم في عمان في دار صهري الأستاذ عصام العطار لمّا كان في عمان. وأقول لكم إنني أحببته لِما لمست فيه من كريم الصفات.
ولمّا انقضى المؤتمر ورجعنا إلى دمشق أحبّ وأحبّ فريقٌ مِمّن كانوا في المؤتمر من الأساتذة والمشايخ أن يقابلوا الشيشكلي.
وأنا في العادة لا أطرق أبواب الحُكّام ولا أحوم حولها ولا ألتمس الدنوّ منهم، ولكن لمّا ألقيت تلك الخطبة عن حفلة دوحة الأدب ورقصة السماح وكان بعدها ما كان (وقد قرأتم خبر ما كان) جاء صديق لنا طبيب عقيد في الجيش، وكان العقداء (الكولونيلات) في الجيش السوري نفراً معدودين، منهم العقيد أديب الشيشكلي والعقيد عزّة الطباع، الطبيب الذي أتكلم عنه، وهو أديب النفس وأديب الصنعة، أظنّ أنه يَنْظم الشعر ويكتبه، وهو من إخواننا. اقترح عليّ أن أزور الشيشكلي لأوضّح له ظروف الخطبة التي ألقيت فأزيل من نفسه بقايا الألم لِما قلت عن حاضري الحفلة في دار العظم أن من لا يغار على نسائه ونساء المسلمين يكون ديّوثاً.
وقبلت هذا اللقاء وحدّد الموعد، وذهبت أنا وأخي الشاعر أنور العطار رحمه الله فقابلناه في «الأركان» . وجدته لطيفاً ناعم الملمس حلو اللفظ، كأنه تاجر شامي قديم. وكان -كاسمه- أديباً
عند المقابلة، ما شمخ بأنفه ولا صعّر خدّه، بل استقبلَنا كما يستقبل العربي ضيفه، يُكرِمه ويقدّمه ويرفع مقامه ويتأدّب معه.
ثم كان بيننا لقاء ثانٍ، لا سعيت أنا إليه ولا طلبته ولكن طُلب مني. جاءني يوماً في داري، وكان الشيشكلي والعسكريون هم الحُكّام في الشام، وكان شبح سجن المزة يلوح من ورائهم والناس يخشونهم ويحذرونهم
…
في هذه الحال جاءني صباحَ يوم إلى الدار ضابطٌ في الجيش يخبرني أن سيادة العقيد يحب أن يجتمع بي. وطمأنني بأن الاجتماع وُدّي وأن لي أن أوافق عليه أو أن أعتذر عنه.
وقد حاولت الاعتذار لكني وجدت فيه حرجاً، وطمأنني أن الاجتماع في داره لا في قصر الحكومة. والاجتماع في الدار أدعى إلى الاطمئنان. وكان مستأجراً دار نسيب بك البكري، في أول فرع شارع بغداد الذي يبدأ من ساحة السبع بحرات.
وأنا -كما عرفتم- أستصعب أن أذهب وحدي في زيارة ولو كانت لأقرب أصدقائي إلى نفسي، فأصحب معي واحداً من إخواني. فلما جاءتني هذه الدعوة مررت على دار صديقي وزميلي في المحكمة الشيخ صبحي الصباغ فقلت له: إن العقيد يدعونا لنزوره في داره.
وأستغفر الله أني كذبت في هذا القول، وإن كان إلى المعاريض الجائزة أقربَ منه إلى الكذب الحرام. فقال: خَيّو (أي يا أخي)، لماذا نذهب؟ قلت: نزوره، هو يريد ذلك. ففكّر قليلاً ثم قال: باسم الله.
ذهبنا إليه صباحاً قبل ابتداء العمل في المحكمة، وكذلك حدّد هو الموعد. فلما دخلنا عليه خرج من وراء مكتبه واستقبلَنا من وسط الغرفة، ثم قعد أمامنا فحيّانا بأحسن ما يُحيّي به مضيفٌ ضيفَه. وجاءت القهوة فأبى إلاّ أن يقدّمها هو إلينا، أخذ الصينية من الخادم ووقف أمامنا يقرّبها إلينا! وأنا أتحرّج من أمثال هذه المواقف ولو كانت من زميل أو صديق وأرتبك ولا أعرف ماذا أصنع، لقلّة اختلاطي بالناس واندماجي بالمجتمعات، فقمت واقفاً وقام صاحبي نشكره ونرجو منه أن يقعد، فأبى وقال ضاحكاً: أنتم ضيوفنا، هل نسيتم عاداتنا العربية؟
ثم كان حديثٌ كالذي يكون بين الأصدقاء في المجالس. وبعد أن ذهب بالحديث يميناً وشمالاً قال إنه عازم على نشر دستور جديد، قد استشار فيه أهلَ الحلّ والعَقْد وأراد منه الخير للناس وللبلد، وهو يريد مني (وخصّني هنا بالحديث) أن أُبدي رأيي فيه في عشر حلقات إذاعية من حديثي الذي كان يُذاع بعد صلاة الجمعة من كلّ أسبوع.
فسألته: هل لكم توجيهات معيّنة تريدون أن نتوجّه إليها في الحديث أو أمور تُحِبّون أن نؤكّد عليها؟
قلت هذا وأنا أعلم وهو يعلم أنني لن أستجيب له إذا أملى عليّ شيئاً لا أقتنع به. وتبيّن لي من هذه المقابلة والتي قبلها أنه ذكيّ نادر الذكاء، فقال: أعوذ بالله، وهل أنا مِمّن يُملي على مثلك؟ إنما نريد أن نستفيد من خبرتك ومن علمك ما ينفعنا وينفع الناس.
وأنا أظهرت أنني صدّقته، وأخذت كلامه على ظاهره. وذهبت
فجعلت حديثي يوم الجمعة التي تلَت المقابلة عن الدستور، وقلت بأن الدول الإسلامية المتأخّرة كانت تدّعي أن دستورها القرآن، ولكن كان أكثر حكامها فاسدين فما نفَعهم الدستور لمّا لم يطبّقوه، لذلك أقول إن دستوراً سيّئاً مع الحاكم الصالح القوي الصادق خيرٌ من دستور صالح مع حاكم فاسد.
سمع الناس هذا الكلام وسمعه هو، فما لامني عليه ولا شكرني، ولكن لم يُذيعوا لي الأحاديث التسعة الباقيات!
* * *
فلما جاء إخواننا في المؤتمر يريدون لقاءه كان الوسيط هذه المرة بيني وبينه الأستاذ أحمد عسّة، مدير الإذاعة، وكان يوماً من الأيام تلميذي، فطلبت إليه أن يأخذ لنا موعداً ففعل.
وذهبنا إليه، نَوّاب صَفَوي الذي أتحدّث عنه، والشيخ محمد البشير الإبراهيمي الجزائري، والأستاذ الفضيل الوَرْتلاني الجزائري، والأستاذ مُحيي الدين القُلَيبي التونسي، ومعهم اثنان أو ثلاثة نسيت أسماءهم الآن، ولم يكن فيهم سوري غيري أنا.
فلما دخلنا عليه أحسن استقبالنا على عادته واستمع منّا. فقال الشيخ الإبراهيمي كلاماً جيّداً صريحاً صادقاً ولكنه مهذّب مؤدّب، وقال آخر كلاماً لا أذكره، ثم استلم الكلام نواب صفوي فقال بلهجة المهاجم المقاتل لا الناصح الصديق: يا شُشْكُلي (وكان يضم الشين الأولى ويُسكّن الثانية)، أنت تخالف الإسلام وأنت تحارب العاملين له وأنت تعمل كذا وكذا
…
وقال كلاماً ما كنت أحسب أن رجلاً يواجه به آخر من عامّة الناس في لقاء له معه أول مرة! وكان العقيد الشيشكلي مبتسماً، ما اختلجَت عضلة في وجهه ولا تقلّصَت بَسمتُه شعرة ولا بدا عليه أنه غضب أو تألّم، وكان يهزّ رأسه مستمعاً كأن الذي يُلقى عليه قصيدة مدح له لا كلام هجوم عليه. وكان يلحظني بطرف عينه خلسة كأنه يقول لي: أهؤلاء الذين جئتني بهم وسألتني الاجتماع بهم؟
وكأني أحسست أن في نظرته تهديداً ووعيداً، فلما خرجنا من عنده (وقد شيّعَنا إلى الباب) قال لي نواب صفوي: ما رأيك؟
ينتظر مني أن أقول له الله يعطيك العافية، فقلت له: الله لا يعطيك العافية! فصُدم وقال: لماذا؟ قلت: الله لمّا بعث موسى وهارون إلى فرعون قال لهما: {فقُولا لهُ قولاً ليّناً} . هل أنت خير من موسى أم هو شر من فرعون، أم أنت لا تعرف آداب الخطاب؟
وكان عندنا بعد هذا الاجتماع احتفال كبير في جامع تنكز، وهو من مساجد الدرجة الثانية بعد الجامع الأموي، في مكان هو لُبّ البلد ومجمع الناس. فوجدنا فيه حشداً عظيماً يريدون أن يستمعوا لمن حضر من المؤتمر، فقام نواب صفوي فحدّثهم بما كان في مجلس الشيشكلي وروى لهم ما قال له.
* * *
وكنت قد رتّبت أموري على أن أذهب في رحلة الشرق مع الشيخ الصوّاف والشيخ أمجد الزّهاوي، وكاد الأمر ينتهي، بل
لقد سعوا لي أن يكون سفري إيفاداً في مهمّة رسمية آخذ عنها تعويضاً. فلم أعُد أنتظر التعويض ولا أرجو أن تكون مهمّة، بل كان هَمّي كله أن أنجو بريشي، لا أكتمكم أنني خفت أن أبيت في سجن المزة!
إن سَلَف الشيشكلي الذي ابتدع بدعة الانقلابات وحقّقها بعد أن وضع مشروعَها في العراق بكر صدقي في انقلابه الجزئي (وقد شهدت الانقلابَين وسأتحدّث عنهما)، إن حسني الزعيم اعتقل رئيس الجمهورية، فهل يمتنع خَلَفه أن يعتقل رجلاً مثلي ليس رئيساً ولا وزيراً؟
هذه هي قصّة لقائنا مع الشيشكلي. وأنا لا أدنو عادة -كما قلت لكم- من أبواب الحُكّام، ولم ألقَ الشيشكلي إلاّ هذه المرات. وقد لقيت عقيدَين من أعوانه، الأوّل هو العقيد إبراهيم الحسيني الذي جاء المملكة في آخر أيامه فاشتغل فيها. وكان ناعماً مؤدّباً رقيق الحاشية مهذّب اللفظ، قابلناه مرة مع جماعة من المشايخ فاحتفل بنا وأصغى إلينا، فلما ودّعناه وخرجنا تلفّتُّ فإذا هو يمشي ورائي من غرفته إلى أوّل الدرَج، فأقسمت عليه فرجع. ونزلنا الدرَج فلما وصلنا إلى الباب الخارجي لدائرة الشرطة تلفّتُّ فوجدت أنه قد نزل معنا يشيّعنا إلى هذا الباب!
والآخر عقيد خشن بذيء اللفظ قليل التهذيب، نسيت بحمد الله اسمه. استدعى مرة جماعة من العلماء والمشايخ فاعتذر منهم ناس كالشيخ حسن حبنكة رحمة الله عليه وآخرون، وذهبت أنا والشيخ أحمد الدقر والأستاذ محمد المبارك ونفر لا أذكر
الآن أسماءهم. قابلناه في المكان الذي قابلنا فيه من قبل العقيد الحسيني، ولكن اختلف الوجه وتبدّل اللسان، فواجهَنا بتهديد ووعيد وكلام شديد، بلفظ بذيء وصل فيه إلى حدّ الكفر. وأنا المعروف عادة بأنني جريء الجَنان ماضي اللسان، شغلَتني هذه المفاجأة فجعلَتني أفكّر في الذي أقول، وإذا بأخينا المبارك كان أسرع مني، فبادر إلى الردّ عليه بلهجة حاسمة قوية وقال له: نحن لا نقبل أن نستمع إلى هذا الكلام ولا أن نُهدَّد هذا التهديد. وكلاماً هذا معناه أكبرته به وأعظمته منه (وأنا أشهد له هذه الشهادة بعدما ذهب إلى رحمة الله، كما شهدتها في حياته رحمه الله.
ومن غرائب الأمر أننا لمّا خرجنا من عنده حدّث بهذه المقابلة أحدُ المشايخ الحاضرين الذين لم يفتحوا فماً ولم يتكلّموا كلمة، فنسب لنفسه الهجوم على العقيد وتفجّرَت حماسته بعدما انتهت المعركة، وانطلق لسانه بعد أن لم يبقَ للكلام مجال، فزعم أنه قال وقال.
وقد اختلفنا مرة: أيّ العقيدين أقوى مراساً وأشدّ بلاء: العقيد الحسيني الناعم المعسول الكلام أم الآخر الخشن البذيء الذي نسيت اسمه؟ فقلت لهم: لا تغرّنكم نعومةُ الفأس ولا تخدعنّكم خشونةُ الحطبة، فإنّ الفأس على نعومتها تقطع أشدّ الحطب على خشونته.
* * *