المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌زيارة للموصل وإربلفي بدء رحلتنا الطويلة - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٥

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌زيارة للموصل وإربلفي بدء رحلتنا الطويلة

-142 -

‌زيارة للموصل وإربل

في بدء رحلتنا الطويلة

إن أحلى الأسفار ما كان بالقطار. ولقد عرفت قطارات العراق من سنة 1936 يوم كنت أدرّس فيه، وركبتها من بغداد إلى البصرة ومن بغداد إلى كركوك، فوجدتها أحسن القطارات في البلاد العربية. فلما جئت هذه المرة (سنة 1954) رأينا أن نبدأ رحلتنا للتعريف بقضية فلسطين وحثّ الناس على الاهتمام بها جولةً في أرجاء العراق. ذهبنا فيها إلى الموصل في الشمال ثم إلى البصرة في الجنوب.

وكانت سفرة الموصل ممتعة، وكانت نافعة ببركة الشيخ أمجد وصحبة الشيخ الصواف مع ولدَيه: مجاهد ومصلح، وكانا يومئذ صغيرَين. وأخذنا تذكرة للنوم، فلما جاء موعده انقلبَت المقاعد أسِرّة وثيرة نظيفة غاية النظافة مريحة أكمل الراحة، وألقيت رأسي على الوسادة وأنا أؤمّل نومة هنيئة وصحوة نشيطة، ولم أكُن أدري ما هو مخبوء لي.

ما كدت وكاد الشيخان نستغرق في المنام حتى أيقظتني

ص: 219

(أوركسترا)(1) مرعبة، فيها أصوات لا أدري بماذا أشبّهها ولا أجد كلاماً يفي بوصفها. وتصبّرت ولكنني لم أستطع الصبر، تلك هي أصوات غطيط الشيخَين (أي شخيرهما)، ولن أصفه لأن الشيخ الصواف سيقرأ هذه الحلقة فيظنّ أنني أغتابه عند القُرّاء. فاشهدوا أني لم أقُل عنه شيئاً، واستغفروا الله من شهادة الزور. هل سمعتموني أقول عنه شيئاً؟

فنهضا ووعدا وعداً حسناً، واسترحت إلى هذا الوعد فرجعت أحاول المنام، ورجعَت تلك الموسيقى وتلك الأنغام. فقمت مذعوراً وخرجت من الغرفة ومشيت في ممرات القطار، فوجدت في آخره شطر غرفة: مقعد واحد بدلاً من المقعدَين المتقابلَين في الغرفة الكاملة. فحملت وسادتي وغطائي ودخلتها وأغلقت عليّ الباب بالمزلاج، وقررت ألاّ أفتح لأحد ولو جاءت الشرطة. وسأقول للشرطي إنني كنت نائماً. وهذا صحيح، فلقد كنت في بعض الزمان نائماً، وإن في المعاريض لَمَنجَى من الكذب. ولكن الله سلّم فلم يدخل عليّ أحد.

وكنت كلّما سار القطار أنام، فإن وقف في المحطّات أيقظني وقوفه وصمته كما تُزعِج النائمَ في بيته الأصوات والحركات! حتى وصلنا الموصل.

وذكّرني مجاهد الصواف من سنتين في مكّة (وقد صار دكتوراً من أكسفورد) بهذه الرحلة، وبالحكايات التي سمعها مني والطرائف التي لبث يرويها عني.

(1) الأوركسترا هي الجوقة، وكلمة جوقة فصيحة.

ص: 220

رحمة الله على الشيخ أمجد، فلقد كان بَرَكة العصر، وكان مجلسه مدرسة، وكان يؤثّر بقوّة حاله أكثر من تأثيره بروعة مقاله.

ولن أسرد الحديث عن الأيام التي قضيناها في الموصل، ولا أستطيع سردها ولكن أذكر ما بقي لديّ منها. من ذلك أن الصواف أخذني لأحاضر في ناديهم (وقد صار للإخوان المسلمين بسعي الصواف ناد في الموصل كما صار لهم ناد في بغداد وفي البصرة). وكنت وسط المحاضرة وأنا مندفع بحماسة فَوّارة، فرفعت رأسي، فإذا منارة المسجد تُطِلّ علينا قد أحنت رأسها فوقنا

إي والله، فما ظننت إلاّ أنها ستسقط علينا. فقطعت الخطبة فجأة وقلت: السلام عليكم، ونزلت. فضجّ الحاضرون وقالوا: أكمل، أكمل، تكلّم، تكلّم. فقلت: ويحكم! أما ترون المنارة تريد أن تنقضّ علينا؟ فإذا كان مقدّراً عليّ أن أموت فدعوني أذهب إلى فلسطين فأقاتل اليهود فأكون شهيد المعركة، لا أن أموت تحت الأنقاض.

قالوا: إن هذه هي الحدباء، منارة مسجد نور الدين، نور الدين الذي ردّ الله علينا به وبصلاح الدين أرض فلسطين. أفما سمعت بها؟ إن لها ثمانمئة سنة وهي مائلة. أما سمعت ببرج بيزا المائل في إيطاليا؟ قلت: بلى، وعندنا في أول حيّ الميدان في دمشق منارة مائلة (1). ولكن من يضمن أنها وقد ظلّت راكعة طول هذا الزمان لا تسجد فوقنا الآن؟

ولا أدري كيف أقنعوني وأرجعوني، ولا أدري كيف أكملت خطبتي ورأسُ المنارة مائل عليّ أراه من فوق رأسي!

(1) وقد كان في جدّة إلى عهد قريب واحدة تشبهها في مسجد الباشا.

ص: 221

وقام يخطب في هذا الاجتماع شيخ بعمامة بيضاء عرفت -بعدُ- أنه رئيس هذا النادي. تكلّم فأجاد ونمّ ما قال عن علم وفضل وإخلاص، وأُعجبت به وأثنيت عليه. فلما كان من الغد وكان الشيخ الصوّاف يمرّ بي في سوق مزدحمة (بقيَت في نفسي صورتها وذهب مني اسمها) فوجدت محلاًّ لشواء اللحم، والشوّاء بمئزره الأحمر قائم في مدخله يقطّع اللحم للزبائن، وهم مزدحمون عليه. وفي المحلّ موائد يقعد عليها الآكلون، يأخذون اللحم الذي طلبوه فقطّعه لهم إلى حيث يُشوى قِطعاً أو كَباباً، ثم يأتون به فيأكلونه على هذه الموائد.

و «كَباب» الموصل وحلب أشهى وأشهر كَباب (1) في بلاد العرب. فقال لي الصواف: هل تُحِبّ أن ندخل فنأكل؟ قلت: أفي هذا المكان ووسط هذا الزحام؟ لا يا عم. قال: إنك تعرف صاحب المحلّ. قلت: وأنّى لي معرفته؟ قال: انظر إليه تذكره. قلت له: وأين هو حتى أنظر إليه؟ قال: ها هو ذا. وإذا هو يشير إلى الرجل ذي المِئزر الأحمر. وتلك -كما أدركت- عادة الجزّارين في ذلك البلد، يلبسون هذا الثوب الأحمر. فأنعمت النظر إليه وهو يقطّع اللحم من الخرفان المعلّقة بين يديه، فإذا هو صاحبنا بالأمس وإذا هو الشيخ الذي خطب في الاجتماع!

ومرّ بي الصوّاف في سوق تُباع فيها موادّ التموين فقعدت أمام دُكّان يزدحم الناس على صاحبها، هذا يطلب رزاً أو سُكّراً أو

(1) فائدة: الذي نسمّيه في بلاد الشام كلها «كباباً» يَدْعونه في مصر «كُفتَة» ، و «الكباب» عندهم هو القِطَع المَشويّة (أو «الشُّقَف») في بلاد الشام، وهي «الأوصال» في الجزيرة العربية (مجاهد).

ص: 222

سمناً وذاك يسأله عن مسألة في الإرث أو في الطلاق! وإذا هو عالِم تاجر. لقد نسيت اسمه، ولو أنني هتفت وأنا أكتب هذه السطور بالشيخ الصوّاف لأعلمني هاتفياً باسمه، ولكنني خفت أن أكون في سؤالي كالذي يغشّ في الامتحان ويستعين على جوابه بالإخوان.

وهذه الطبقة من العلماء التجّار ومن طلبة العلم الكبار كان عندنا في الشام كثير من رجالها. أذكر منهم الشيخ هاشم الخطيب والشيخ موسى الطويل والسيد شريف النصّ والشيخ أحمد القشلان والشيخ عبد العزيز الخطيب، وآخرهم ويكاد يكون أجلّ أو مِن أجلّ مَن عرفت منهم الشيخ صالح العقّاد.

ومن قرأ كتاب «صناعات الأشراف» (وعهدي بقراءته بعيد جداً فلا أذكر الآن منه شيئاً) ومَن تتبّع أخبار أهل التجارة والصناعة من الأعيان والعلماء في كتب الأدب وجد منهم جماعة لا تُحصى كثرة من الصحابة ومن التابعين ومن الأئمة المتبوعين، كأبي بكر وعثمان وعبد الرحمن. وعمرو بن العاص الذي كان -كما أذكر- جزّاراً، كما كان عمر بن الخطاب سمساراً، ومن التابعين سعيد ابن المسيّب الذي كان يتّجر بالزيت، وأبو حنيفة وهو بَزّاز (تاجر قماش) وله دائرة مالية توزّع رواتب شهرية على كثير من فقراء العلماء، والليث بن سعد الذي شهد له الشافعي (وحسبكم به شاهداً) بأنه أفقه مِن مالك ولكن أصحابه لم يقوموا به، والذي كان دخله الصافي ثمانين ألف دينار من الذهب في السنة ولم تجب عليه زكاة قط، لأنه لا يستبقي منها ما يحول عليه الحول! وعبد الله بن المبارك، ولي عنه كُتيّب في سلسلة أعلام التاريخ التي أصدرتها من قديم، كما أن لي كتابات عمّن ذكرت هي في كتابي «رجال

ص: 223

من التاريخ» وفي غيره من كتبي.

كان عبد الله بن المبارك يحجّ سنة ويغزو سنة، فإذا أراد أن يحجّ بعث من ينادي في الناس: إن ابن المبارك يريد الحجّ فمن يحبّ أن يصحبه فليأتِ إليه. فيجيئه الناس أفواجاً فيقول لهم: نجعل نفقتنا شركة، فإن البركة فيها أكثر. فيعطيه كل منهم ما معه من النقود في صرّة يصرّها يكتب عليها اسمه، ثم يذهبون معه، فكلّما نزل منزلاً أعدّ لهم أطايب الطعام، ومن ذلك الطعام الفالوذج، يأكلونه ويأكل هو مِن زُهده -على غناه- طعاماً دون ذلك. ثم إذا أنهوا حجّهم قال لهم: انظروا ماذا تريدون أن تُهدوا إلى ذويكم وإلى أصدقائكم لأشتريه لكم ثم أحاسبكم عليه. فيشتري كلٌّ مايريد. حتى إذا ما رجعوا إلى بلادهم (وكانت بلده في أطراف بلاد الأفغان اليوم) أقام وليمة كبيرة، ثم أعاد لكل منهم صرّته التي فيها نقوده وكانت السفرة كلّها على حسابه.

ومن طريف خبره أنه نزل مرة منزلاً، فرأى بعدما نام أصحابُه شاباً يأتي إلى دجاجة ميتة كانوا قد رموا بها فيأخذها. فدعاه وسأله، فتردّد الشابّ واستحيا وامتنع عن الجواب. فلما ألحّ عليه علم أنه هو وأخت له لا يملكان شيئاً وأنهما احتاجا حتى حلّت لهما الميتة، فلذلك أخذ الدجاجة. فدعا عبد الله بن المبارك وكيلَه وقال: انظر كم بقي معك من النفقة (أي من نفقته هو لحجّه) فأَمسِكْ منها ما يكفي لعودتنا وادفع الباقي إلى هذا الشابّ، فإن إعطاءه خير لنا من حجّة النفل هذه السنة.

ذكرتُ هذه الحادثة استطراداً ليقرأها الذين يحجّون في كل سنة، لا سيما من المقيمين هنا في المملكة، فيضيّقون المكان

ص: 224

على مَن يحجّون حجّة الفرض ويزيدون الازدحام، ليعلموا أن لهم قدوة إن تركوا حجّة النفل واستبدلوا بها عملاً آخر من أعمال الخير. وأبواب النوافل التي توصل إلى الجنّة كثيرة.

كان من الصحابة ومن التابعين، وكان من الأئمة المتبوعين، مَن هو غنيّ يكاد يُحسَب في عُرف اليوم في أصحاب الملايين، ومن هو فقير لا يكاد يجد الفلوس (والملاليم). ولكن مال الأول في يده لا في قلبه، لا يفرح بما زاد فيه ولا يأسى على ما فاته منه، وكان فقر الثاني في يده لا في قلبه، فحاله حال فقير ونفسه نفس ملِك.

وليس الغِنى بكثرة المال، بل بفقده مع الحاجة إليه. فمَن كان معه مليونان وهو يتمنّى أن تكون ثلاثة فهو ناقصٌ مليوناً، ومن كان معه ألفان، وهو لا يطمح إلاّ إلى ألف فهو زائد ألفاً.

هل عقّدت المسألة؟ إذن أزيدها تعقيداً فأقول إن مقدار الغِنى يتناسب عكساً مع كِبَر الفرق بين ما يتمنّاه المرء وما يصل إليه! إن لم تفهموا هذه الفلسفة فالحقّ معكم، فأنا لا أكاد أفهم عمّن يتكلم بهذا الأسلوب ويحسب أنه صار بذلك من كبار المفكّرين!

* * *

كنّا نقرأ في التاريخ القديم أنباء بابل ونَيْنَوى وتاريخاً لهما مستفيضاً. ولقد زرت بابل من قبلُ لمّا كنت أدرّس في العراق، ولكن ما عرفت أين هي نينوى (مدينة يونس عليه السلام حتى زرت الموصل، فعرّفني بها الصوّاف: قطع بي النهر فإذا آثارها على الضفّة الأخرى مقابل الموصل.

ص: 225

شعرت في الموصل كأنني في حلب (وإن لم أبِتْ في عمري كله إلاّ ليالي معدودة في حلب). ولمّا عدا اللصوص على تَركة مَن كانوا يدعونه «الرجل المريض» ، عدوا على الدولة العثمانية لمّا مات عبد الحميد وجاء الاتحاديون أحفاد اليهود فأضعفوها ومزّقوا وحدتها وأبعدوها عن النصر لمّا أبعدوها عن الإسلام، لمّا تقاسم اللصوص هذه التركة كانت الموصل في القسمة مع سوريا، فلما ظهر النفط في أرضها (وكان الإنكليز يومئذ دهاة العالَم ودهاقين السياسة، وكانت لهم مملكة لا تغيب الشمس عنها) لعبوا لعبتهم فإذا الموصل مع العراق، لأن العراق يومئذ كان معهم، لا باختياره ورضاه فالمسلمون جميعاً، والعرب خاصّة، والعراق على الأخصّ، يأبى إلاّ الحُرّية الكاملة، لا يرضى وصاية من أحد ولا تبعيّة لأحد. وأنا لا أقول هذا الكلام تعصّباً لسوريا لتعود إليها الموصل ولا عداوة للعراق لينزع منها الموصل، فأنا أراهما بلدَين في دولة واحدة، وأنا كما قال الشيخ رضا الشبيبي:

ببغدادَ أشتاقُ الشآمَ وها أنا

إلى الشامِ في بغدادَ جَمُّ التشوّقِ

هما بلدٌ فردٌ وقدْ فَرّقوهما

رمى اللهُ بالتشتيتِ شَمْلَ المُفَرّقِ

وُلدت في دمشق، وأصلي من مصر، وقلبي متوجّه دوماً إلى مكّة كلّما قمت بين يدَي ربي، وانتسابي إلى كلّ بلد مسلم، وحُبّي لكل قطر عربي، ووطني حيث يُتلى القرآن ويُصدح بالأذان وتقوم صفوف المؤمنين بين أيدي الرحيم الرحمن. هذا هو الوطن عندي، لا الشام وحدها ولا مصر ولا العراق.

* * *

ص: 226

كان عملنا الذي سافرنا من أجله أن نعرّف بقضية فلسطين، فلما استوفيناه في الموصل توجّهنا إلى إربل (التي تُدعى اليوم أربيل)، ولها في التاريخ ذِكر لأن أوّل من جعل الاحتفال بيوم المولد عيداً ورتّب له مهرجانات واجتماعات هو ملكها الذي كان من قُوّاد صلاح الدين، فلما تصدّعَت هذه المملكة الضخمة وقام في كل جانب منها ملك من الملوك كان هو واحداً منهم، وخبره في كتابي «رجال من التاريخ» (1):

ممّا يزهّدني في أرضِ أندلسٍ

ألقابُ معتضدٍ فيها ومعتمدِ

ألقابُ مملكةٍ في غيرِ موضعها

كالهرِّ يحكي انتفاخاً صَولةَ الأسدِ

وإربل على تلّ صناعي عالٍ في رأسه قلعة واسعة هي المدينة، أو مدينة مسوّرة فيها القلعة. وأمثال هذه القلاع التي يتّسع سور إحداها حتى يضمّ صغار المدن، أو هذه المدن المسوَّرة كالقلاع القائمة كلّها على تلال مصنوعة، تمتدّ على امتداد الهلال الخصيب، من حِمْص إلى حماة إلى حلب إلى الموصل إلى كركوك وإربل، كأنها خطّ دفاعي عن هذه البلاد. وأجمل ما بقي منها قلعة حلب.

كان في إربل وفي السليمانية وفي كركوك مشايخ صالحون من شيوخ النقشبندية. وإذا كان في الطرق الصوفية ما يؤخَذ عليها

(1) انظر مقالة «الاحتفال بالمولد» في ذلك الكتاب (مجاهد).

ص: 227

من البِدَع والمخالفات فإن النقشبندية أقلّها مخالفات وبدعاً. ولهم تَكايا، كل تكيّة منها أو رباط مدرسةٌ ومسجدٌ وفندقٌ ومطعم؛ تبقى مفتّحة الأبواب لكل قادم عليها، تعطيه ما يريد وتقدّم إليه ما يطلب: إن طلب العلم وجد فيها العلم، وإن كان مطلبه المنام والطعام وجد فيها الطعام والمنام.

وصلنا مسجد المدينة حين كان المؤذّن يدعو الناس لصلاة العصر فحضرناها معهم، فلما قُضِيَت الصلاة جلس الناس صفوفاً يستمعون للخُطَب التي جئنا نُلقيها عليهم تعريفاً بقضية فلسطين وشرحاً لحالها وحثاً على مساعدتها. ولكنني فوجئت بعَجَب ما كنت أتصور أنني أراه، ولقد شككت فيه وهو أمام عيني أبصره. ذلك أن كبار المشايخ استندوا إلى الجدران وأخرجوا دخائنهم (سيجاراتهم) الطويلة وشرعوا يدخّنون في المسجد! وبدا لي أن ذلك مألوف معروف عندهم لا يرون به بأساً، كما أن من المعروف (أو ممّا كان معروفاً) عند المشايخ في الشام حتى في الجامع الأموي أن يُخرج أحدهم علبة «النشوق» وفيها مسحوق «التبغ» فيشمّونه في المسجد، لا يستنكرون ذلك ولا يُنكِره الناس منهم.

وكلا الأمرين منكَر: التدخين وشمّ النشوق، ولكن العادات تُضعِف الشعور بالعمل وتصرف الذهن عن تقويمه والحكم عليه.

ألقيت أنا خطبتي وخطب الشيخ الصوّاف. ثم قام الشيخ أمجد، وهو قلّما يخطب، فكلّمهم بالكردية لأن أكثر الحاضرين من عامّة الأكراد الذين لا يعرفون إلاّ القليل من العربية، فخطبهم

ص: 228

بلسانهم. وأسرة الزّهَاوي التي خرج منها علماء أجلاّء وأدباء أصلها -كما فهمت- من الأكراد.

والإسلام لا يفرّق بين عربي وكردي ولا بين تركي وفارسي، إنما المؤمنون إخوة، فالإيمان يجمعهم والاختلاف في العقيدة هو وحده الذي يفرق بينهم.

وطال الكلام، وتوالى المتكلّمون بالكردية وأنا قاعد كالأصمّ في الزّفَّة لا أفهم، فمللت وضاق صدري وقلت للشيخ الصوّاف: أنا أمشي أمامكم تلقونني على الطريق. وكنت قد عرفت الطريق من المسجد إلى ساحة البلد، فلما وصلت إليها أخذت طريق الموصل الذي جئت منه، وفي ظني أنني لا أمشي نصف ساعة حتى يكون القوم قد ختموا اجتماعهم وأكملوا خطبهم ولحق بي الشيخان بالسيارة فأدركاني على الطريق.

ولكنني مشيت، ومضت نصف ساعة، وأذّن المغرب وأظلم الليل وأنا أتلفّت ورائي فلا أجد ضوء سيارة ولا أرى أحداً. وكنت في تلك الأيام امرَءاً يحبّ المشي الطويل وكنت أقدر عليه، فما زلت أمشي بخطوات عسكرية موزونة حتى مرّ على أذان العشاء ساعة ونصف الساعة، وأنا وحيد في هذه البرّية ما معي أحد، ولم تمرّ بي سيارة ولم يمرّ بي ماشٍ على رجلَيه.

ثم بدت أضواء سيارة فحسبت أنها سيارة الشيخين قد لحقَت بي، فوقفت فإذا هي سيارة الشرطة، نزل منها ضابط فنظر إليّ بارتياب وسألني من أنا وماذا أصنع هنا، فخبّرته وأريتُه أوراقي، فعجب مني وقال لي: اركب معنا. قلت: لا أستطيع لأنني أنتظر

ص: 229

مَن يلحق بي وأخاف أن أضيع عنهم. فوقفوا معي وخبّروني أن في هذه البرّية وحوشاً خطيرة وأن فيها أشقياء فارّين من العدالة فهم يتعقّبونهم، فلو أدركَني وحش من الوحوش أو شرّير من هؤلاء الأشرار لقضى عليّ.

فتنبّهت كالذي يصحو من منام، وإذا أنا أسير وما معي سلاح وليسَت لي معرفة بالطريق، وقد ابتعدت عن البلد بُعداً كبيراً.

وقفت معهم حتى وصلَت السيارة، فنزل منها الشيخ أمجد رحمه الله والشيخ الصواف ومعهم جماعة. وكان من عادة الشيخ الصواف أنه يكلّمني بلطف ويعاملني برقّة، فثار عليّ ثورة هائلة، فتصوّروا الشيخ الصوّاف بصوته العريض وحماسته المشتعلة وماآتاه الله من بسطة في الجسم يُقبِل بذلك كلّه عليّ أنا!

وسكتّ على غير عادتي إقراراً مني بأن الحقّ معه، وتبيّنت بعد أن هدأَت الأمور كيف أضاعوا هذا الوقت كله في التفتيش عليّ في طرق البلد وسخّروا لذلك الشرطة والشباب وكلّ من يعرفون من الناس، حتى لم يَدَعوا موضعاً قدّروا أنني أكون فيه إلاّ ذهبوا إليه فلم يجدوني.

لم يخطر على بال أحد منهم أنني مشيت وحدي في هذا الطريق وابتعدت عن البلد ثلاثين كيلاً (كيلومتراً) كاملة.

هذا بعض ما بقي لديّ الآن من ذكريات زيارتي للموصل وإربل.

* * *

ص: 230