المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌شارل ديغول وسوريا

-134 -

‌شارل ديغول وسوريا

انتهت الآن المقالات التي نشرتها «الشرق الأوسط» في سيرة شارل ديغول، وكنت أترقّب نهايتها قاعداً على كرسي من أسلاك فيها الكهرباء المشحون، أنظر أيسطر كاتبها تاريخاً فيه الإحاطة بجوانب الحقّ، أم هو شاعر عاشق يرى بعين الرضا التي لا تُبدي المساوئ ولا تبصر العيوب؟

لمّا سقطَت باريس تحت سنابك خيول الألمان (أو تحت دواليب مصفحاتها إن شئتم تعبيراً حديثاً) بكاها ناسٌ من كبار أدبائنا وكُتّابنا ونسوا ما صنعَت بنا. أنسَتهم لذّاتُ ذكريات لهم عن الفواتن من صباياها وما أصابوا من المتع في مخادع الفواسق من بغاياها، عمّا حاق بإخوانهم في الشام وفي الجزائر وتونس وما والاها. فكتبت وكتب منصفون أحرار من أصدقائنا وألقموهم فيها حجراً، بل جمراً متّقداً يسدّ تلك الأفواه ويودي بتلك الأقلام.

فهل تُعاد اليوم قصّة الأمس؟ ألم يبلغك يا كاتبَ هذه المقالات عن ديغول ماذا صنع بنا؟ ألم يُنبِئك أحد عن أعمال ديغول وجماعة ديغول في بلادنا؟ قد يقول قارئ: لماذا تحطّ دائماً على الفرنسيين

ص: 101

وتنزل عليهم نقداً؟ تدرون لماذا؟ لأنهم هدموا دورنا، لأنهم قتلوا أبناءنا، لأنهم سرقوا حرّيتنا، لأنهم غلبونا على بلدنا.

لأنها لو صنعَت أمة أخرى بهم عُشرَ ما صنعوا بنا لقالوا أضعاف ما قلنا نحن عنهم. والذي كان قبلَ أن يأتي ديغول كان على بشاعته وفظاعته أهون ممّا رأينا بعد أن جاءنا ديغول.

* * *

كانت فرنسا في يوم من أيامها السود، كان يحكمها الألمان يجوسون ديارها يستعبدون كبارها، كانوا هم مالكي أمرها، ولم يكن قد بقي للفرنسيين إلاّ حكومة تعيش في ظلّ الاحتلال، دولة كانت عند ينبوع الماء في قرية فيشي، أقامها الشيخ الكبير الذي كان ماريشال فرنسا، فأنقذ منها ما استطاع إنقاذه وأبقى لها اسماً على حكومة ولو كانت حكومة من ورق.

فسمعنا بأنه قام جنرال فرنسي شابّ في بلد بعيد في إفريقيا، في برازفيل في الكونغو (كما كانت تُسمّى) يحاول أن يجمع بقايا الجيش الفرنسي، يستميل إليه من استطاع من القُوّاد ويجمع حوله من قدر على جمعه من الأفراد، ليُبقي لبلده مكاناً في صفوف الحلفاء.

أمّا سوريا فكانت مستقلّة اسماً ولكنها كانت محكومة فعلاً، لا من الفرنسيين وحدهم بل من الفرنسيين والإنكليز. وكان الرأي لممثل بريطانيا الجنرال سبيرس، الذي كان أخف علينا وأسهل مِمّن عرفنا من جنرالات الفرنسيين. وكان في قرارة نفسه كارهاً

ص: 102

للفرنسيين يريد أن يزيحهم عن كراسي الحكم في الشام وأن يحلّ بريطانيا محلّهم فيها.

عند ذلك وجد ديغول منفذاً ينفذ منه إلى سوريا ليُعيد إليها حكم الفرنسيين، فتقرّب من أهل البلاد. وكانت قد ظهرَت حركته واشتدّ ساعده وكوّن حوله جيشاً صغيراً، ولولا تشرشل والإنكليز ما نجح وما كان له جيش. ولمّا مال ميزان الحرب ورجحَت كفّة الحلفاء أعرضوا بوجوههم عن ديغول، كما يفعلون دائماً؛ إن كانت لهم مصلحة كان منهم وُدّ وصداقة فإن لم تبقَ لهم هذه المصلحة ذهبَت الصداقة وذهب الوُدّ. وفقد ديغول مكانه بينهم حتى إنهم لم يَدْعوه إلى المؤتمرات التي عقدها روزفلت وتشرشل وستالين في طهران وفي يالطا وفي بوتسدام.

وأنا لا أريد هنا أن أسرد تاريخاً، فالتاريخ له مراجع متوفّرة وفيه كتب كثيرة، ولكن أكتب ما بقي في ذاكرتي من ذكريات تلك الأيام. كنّا نسمع أن تشرشل كان يُلِحّ على السوريين لعقد معاهدة تُبقي لفرنسا بعض المزايا في الشام وتُعيد إليها جانباً من سلطانها الذي لم تُحسِن سياسته (وكلّ من لا يسوس المُلك يخلعه). وكان قد استلم الحكم في الشام الوطنيون سنة 1943 وعلى رأسهم شكري بك القوّتلي، فرفض اقتراح تشرشل ولم يستجِب لضغطه ولم يعترف لفرنسا بمركز خاصّ (كما يقولون) في سوريا وفي لبنان.

ولا ننسى أن لروزفلت الذي كان يُدير سياسة الولايات المتحدة أثراً في إزاحة العَلَم الفرنسي عن سماء سوريا ولبنان.

ص: 103

ما فعل هذا ابتغاء ثواب الله ولا فعله حباً بنا، فالدول لا تعرف في سياساتها الحب ولا الغرام وإنما تمشي مع مصالحها ومع منافعها.

ولو ذهبت أسرد كل ما أصابنا من ديغول لرأينا ما قبله بالنسبة إليه كان أخفّ منه. ولقد أدركت أنا عهد العثمانيين خلال الحرب العالمية الأولى، ثم عهد الشريف فيصل بن الحسين (الملك فيصل ملك العراق)، وعهد الاحتلال الفرنسي بعد ميسلون، وعهد الحكم الوطني اسماً الأجنبي حقيقة، وشهدت عهود الانقلابات التي سنّ سنّتها وفتح طريقتها فكان عليه وزرها ووزر من عمل بها حسني الزعيم

ما رأينا عهداً إلاّ بكينا فيه منه وبكينا بعده عليه! لن أعرض لذلك فأخرج من نطاق الذكريات إلى ميدان التاريخ، ولكن أحدّثكم عن يوم واحد من أيام ديغول وحكم ديغول وهو يوم البرلمان، يوم المجلس النيابي في دمشق. هل سمعتم به؟

أعلم أن جوابكم هو: لا. أعرف أنكم لم تسمعوا به، وليسَت علّتكم وحدكم ولكنها علّتنا معشر العرب، بل علّة المسلمين جميعاً؛ لا يكاد يحسّ أحدٌ منّا بآلام أخيه! ولماذا؟ أليس المسلمون كالجسد الواحد إن تألّم عضوٌ منه نقلت أعصابُ الحِسّ الألمَ إلى سائر الأعضاء؟ فهل أصيب الجسد الإسلامي بشلل الأعصاب؟ وعلّة أخرى فينا: هي طيب قلوبنا. وربما كان لطيب القلب اسم آخر، اسم أصدق وأدلّ على الواقع هو «الغفلة»؛ فنحن -لأننا مغفلون أحياناً- ننسى إساءات عدوّنا إنْ بَسَم في وجوهنا أو مسح على رؤوسنا أو قال لنا: آسف فلا تؤاخذوني.

ص: 104

إنْ نَسي الفرد الإساءة وعفا عن المسيء مع المقدرة عليه فهذا من نبيل الأخلاق وكريم السلائق، ولكن إن نسيَت الأمة أنّ هذا الجُحر فيه ثعبان يلدغ وعادت فأدخلت يدها فيه مطمئنّة إليه فلا؛ لأن الرسول علّمنا «أن المؤمن لا يُلدَغ من جُحر مرّتين» .

صلّى الله عليك يا سيدي يا رسول الله، فما تركتَ باب شرّ إلاّ حذّرتنا منه ولا طريق خير إلاّ أرشدتنا إليه. إنك المعلّم الأعظم، ولكن أكثرنا من أغبياء التلاميذ الذين لا تنفعهم عظمة المعلّمين. لقد طالما لُدغنا من الجُحر الواحد، لا مرتين اثنتين بل عشر مرات، ثم يعود أكثرنا ويمدّون أيديهم إليه!

إن يوم البرلمان واحد من أيام عهد ديغول فينا.

إحدى لياليكِ فهيسي هيسي

لا تَنْعمي الليلةَ بالتّعريسِ

«شِنْشِنَة أعرِفُها من أخزم»

كما يقول المثل، وجرعة سمّ من القارورة الكبيرة التي شربناها كلّها مرغَمين من أيدي قوم روسو ولامرتين، من الذين ثاروا ثورتهم الكبرى (زعموا) ليُقِرّوا في الأرض حقوق الإنسان وينشروا فيها السلم والأمان!

* * *

قبل أن أحدّثكم عن يوم الندوة، أي يوم المجلس النيابي (البرلمان) الذي كتبت عنه وعن أمثاله عشرات وعشرات من الصفحات، أستأذنكم أن أنقل إليكم فقرات من مقالة في مجلّة «الرسالة» (رحمة الله على صاحبها الزيات) عنوانها «كلمة إلى الجنرال ديغول» نُشرت في عدد الرسالة الذي صدر في الثامن

ص: 105

عشر من شوال سنة 1364هـ، قلت في أولها (1):

رأيت في سينما ديانا في القاهرة منذ شهور جريدة الأخبار الفرنسية تعرض صوراً من انهيار ألمانيا، فترى المهاجرين معهم النساء والعجائز هائمين مشردين، ثم تعرض منظراً مثله كان في فرنسا يوم انهزمَت فرنسا. ويعقّب المذيع فيقول بصوت خافت رهيب:"إن في الكون عدلاً". وترى المدائن المخرّبة والذعر البادي والدمار الشامل، ثم تعرض مثل ذلك ممّا كان في فرنسا، ويعقّب المذيع فيقول:"إن في الكون عدلاً".

نعم يا جنرال، إن في الكون عدلاً.

ولكن قومكم ما استوفوا قسطهم من عدل الله، وآية ذلك أنكم أُصبتم فبكى لكم أعداؤكم ورحمكم خصومكم، وكنتم عند الناس ضحيّة القوة العاتية وشهداء العدوان المجرم، وكنتَ أنت تثير الدنيا على الألمان أن حاربوا قومك، وقومُك هم أعلنوا الحرب وهم تقدّموا إليها وهم -كما ادّعوا- بنوها، قد غُذوا بلبانها وربوا في ميدانها، فلما نبَتَ ريشك ورُدّ عنك عدوّك وأغضى عنك الدهر إغضاءة نسيت كل ما كنت فيه وما كنت تقوله وتخطب به، وأقبلت تجرّب سلاحك فينا، فأخذتنا على ساعة غرّة بحرب ما آذنتَنا بها ولا أعلنتها لنا، فسخّرت لقتالنا مدافعك وطياراتك.

ويا ليته كان سلاحك يا أيها المحارب الظافر، ولكنه سلاح أُعطِيتَه عاريّة لتحارب به عدوّ صاحبه وعدوّك، فحاربت به قوماً

(1) والمقالة في كتاب «هتاف المجد» (مجاهد).

ص: 106

آمنين. حاربت -يا أيها البطل- النساء في الخدور والأطفال في المدارس والمرضى في المستشفيات!

وما هابك النساء منّا ولا الأطفال ولا المرضى، ولا رفعوا مثل العلَم الأبيض الذي رفعه قومك حين كان لهم سلاح وكان لهم خطّ ماجينو، لأن لنا نحن من إيماننا حصناً لا تهدمه قنابلك ولا تحرقه نارك.

إنني أسرد عليك -يا جنرال- حقائق ما فيها ذرّة من خيال. صورة ما رسمتها يد فنان ولكن نقلتها آلة التصوير (فوتوغراف)، هذا الجيش الذي عقدت له اللواء ورفعت فوقه العلم وائتمنته على شرف فرنسا وتاريخها، قد أهوى باللواء وطوّح بالعلم وعبث بالأمانة حين سطا بالمخازن، فكسّر أقفالها وفتح أبوابها وأخذ ما فيها. وهذا الذي وقع أسرده كما كان لا أتخيل ولا أتزيّد، وذلك يا جنرال فعل اللصوص لا عمل الجنود.

ثم عاد فأوقد فيها النار، أحالها إلى جهنّم الحمراء ليُخفي باللهب السرقة، وذلك يا جنرال صنع المجرمين لا المقاتلين.

ثم وقف يتربّص، فكلّما أقبل مَن يطفئ النار وينقذ الأطفال رماه فأصماه، وهذه حقائق أسردها لا خيالات أتخيلها، وذلك عمل القتلة السفّاكين لا الأبطال المحاربين.

جيشك يا جنرال هاجم المستشفى الوطني وسلّط ناره من أفواه رشاشاته ومدافعه على الجرحى والمرضى، ولم يقدر بعد ذلك إلاّ على أربع ممرّضات شوابّ (شابّات) أخذهن «سبايا» !

ص: 107

جيشك يا رجل الديمقراطية، يا سليل مَن أعلنوا حقوق الإنسان، هاجم مجلس النوّاب (البرلمان) وفعل به الأفاعيل: مثّل بشُرطته تمثيلاً فبقر بطوناً وسمل عيوناً وقطع أطرافاً، وقد بقي ذلك كله كما بقيَت الدماء على جدران البناء، الذي هو آية في فنّ العمران فجعلتموه آية في الخسّة والعدوان، فتعالَ ترَ الدماء على جدرانه المصدّعة وأبوابه المخلّعة. لقد وجدوا صندوق البرلمان الذي كان فيه المال، وجدوه بعد ذلك فارغاً في دار القيادة الفرنسية، وهم (طبعاً) لم يسرقوه، ولكن أخذوه ليحفظوه!

جيشك رمى قنابل الطيارات على السجون حيث لا يملك من فيها دفعاً ولا منعاً، فصيّر سجونهم مقابر لهم. والمستشفى العسكري يا جنرال، جعله جيشك قلعة فيها المدافع، ومنه أحرق سوق صاروجا الذي كان على عهد الأتراك حيّ البشوات والبهوات وحيّ كبار الموظفين وكانت فيه الدور الأنيقة الغالية، فأكل هذا الحريق ثلاثاً وتسعين داراً. ومدرسة الفرنسيسكان كان فيها الرشّاشات تُطلِقها بأيديها الناعمات الراهبات المتبتّلات ذوات الرحمة المسالمات!

نسخة التوراة التي سُرقت من سنوات (وهي أقدم نسخة في العالَم) وجرَت لها تلك المحاكمة المشهورة وقُضي على طائفة من الأظناء الأبرياء بأشد العقوبات، هل تدري يا جنرال أين وُجدت؟ وجدت في دار المستشار الفرنسي لما كُبِست داره بعد الحادث، ويُقدَّر ثمنها (في تلك الأيام أي سنة 1940) بنصف مليون فرنك!

ص: 108

القاضي الفرنسي الذي جئتم به إلى المحكمة المختلطة لأن قُضاتنا (بادعائكم) لا يُطمأنّ إلى علمهم ونزاهتهم، هذا القاضي الفرنسي (المسيو سيرو) وُجد في داره رشّاش كان يقتل به الناس، وهو الذي جيء به قاضياً ليحاكم القتلة والمجرمين!

إن بطريارك موسكو وكلّ روسيا كان في فندق الشرق (أوريان بالاس) يوم الحادث، يوم عصفت هذه العاصفة برأس قائدك المجنون أوليفا روجيه، فنسي هذا القائد كلّ ما يعتزّ به البشر من فضائلهم

لبث البطريارك في الملجأ المظلم تحت الأرض ليلة كاملة قال لمّا انقضت: "لقد كنت في ستالينغراد يوم ضربها الألمان، فما رأيت أشدّ ممّا رأيت الليلة"! ولمّا قدمَت دمشقَ زوجةُ رئيس الجامعة الأمريكية في بيروت السيدة دودج ورأت آثار العدوان قالت: لقد قُتل ابني الوحيد في فرنسا فكان يصبّر نفسي عنه أنه مات في سبيل الحقّ والإنسانية، أما الآن فواطول حزني وكمدي؛ لقد أيقنت أن ابني مات في سبيل لا شيء!

يا جنرال، لمّا ذهبت أزور القلعة بعد الحادث بأيام لم أستطع أن أدنو منها من رائحة الموت. صدّقني فإنني أشهد شهادة حقّ لا أكتب قصّة من الخيال، تفوح هذه الرائحة من آلاف الجثث، جثث الأبرياء التي كانت بالأمس رجالاً كراماً كانوا ملء الدنيا حياة ونشاطاً وكانوا ذخر عائلاتهم وبلادهم، فصاروا

صاروا أكواماً من اللحم العفن الذي يؤذي العين والأنف.

لم ينجُ من شرّ جيشك لا الأحياء ولا الأموات. لقد أبصرت في تربة الدحداح قبوراً قد نبشَتها القنابل وقذفَت رِمَمها، أفَئن

ص: 109

عجزت عن حرب أعدائك الأقوياء جئت تحارب موتانا؟

لقد كان ذلك كله وكان أكثر منه، أفهذا من العدل الذي تهتف به؟ لا يا جنرال، إن كلمة «العدل» أكرم من أن تمرّ على لسان مرّ منه ذلك الأمر الهمجي الوحشي بضرب دمشق، دمشق أقدم مدينة عامرة على وجه الأرض بلا استثناء، وكدت أقول بأنها أجملها. إن الفم الذي ينطق بكلمة العدوان لا يمكن أن تسمع منه كلمة العدل والحقّ والإحسان.

ولكن في الكون عدلاً. نحن نقولها الآن، وإن من عدل الله أنْ جعل صبرنا نعمة علينا وعدوانَكم وبالاً عليكم، وقد انتهت الرواية وأُسدل الستار، فتعالَ ننظر ماذا ربحنا وماذا ربحتم؟

* * *

إلى آخر المقالة، فالمقالة طويلة ولا أحبّ أن أعيدها هنا كلها. أدعها لأعطيكم صورة عمّا كان، أخالف طريقتي التي سرت عليها في ذكرياتي إلى الآن، أنقل لكم صفحة لم أكتبها أنا ولكن كتبها خالد بك العظم رجل الدولة الذي ولي رئاسة وزراء سوريا مرات، فاسمعوا منه ما يتّسع مجال هذه الحلقة لنشره منها. قال:

وفي يوم الثلاثاء 29 أيار (مايو) سنة 1945 ذهبت إلى الندوة النيابية لحضور الاجتماع المقرّر عقده في الساعة الرابعة، وانتظرت مع لفيف من النوّاب قرع الجرس إيذاناً باكتمال النِّصَاب لعقد الجلسة، ولكن الأكثرية لم تكن قد حضرت.

(إلى أن قال): فقطعنا الأمل بإمكان الاجتماع وسرنا إلى

ص: 110

السرايا (قصر الحكومة) لاستطلاع الأخبار. وجدنا نائب رئيس الوزراء جالساً في بهو الرياسة وحوله بعض النوّاب والموظفين، وبدأ السيد جميل مردم يُدلي بآخر ما لديه من الأخبار والنوّاب يناقشونه فيما يجب عمله. وفي الساعة السادسة تماماً سمعنا أصوات طلقات نارية، وخرجنا إلى الشرفة لمعرفة المصدر، واشتدّ أزيز الرصاص بشكل مزعج فعدنا إلى البهو لنتّقي الرصاصات الطائشة، وعبثاً ذهبَت محاولات نائب الرئيس (وكان الرئيس فارس الخوري) للاتصال هاتفياً بمواقع الشرطة والدرَك، إذ كانت الخطوط الهاتفية مقطوعة.

وبعد مدّة جاءنا مَن يُخبرنا بأن الجنود الإفرنسيين المرابطين أمام مركز رياسة أركان الجيش الإفرنسي طلبوا من حرس المجلس النيابي (والأركان كان مقابلاً للمجلس النيابي) أن يصطفّوا لتحيّة العلَم الفرنسي في موعد إنزاله، فما كان منهم تجاه رفض الحرس هذا الطلب إلاّ أن بدؤوا بإطلاق الرصاص عليهم، فقابلهم الحرس بالمثل. ولكنهم ما لبثوا أن هجموا على المجلس ودخلوه عنوة، وقتلوا جميع أفراد الحرس ذبحاً واستولوا على بناية المجلس، وبعده بدأ إطلاق الرصاص على السرايا من الجهة الخلفية. وعلمنا أن مصدره هو الجنود الإفرنسيون المرابطون إلى جانب بناية الهاتف الآليّ، واخترقَت هذه الرصاصات نوافذ السرايا وصارت تتساقط في الممرّ.

وكان الليل قد أرخى سدوله، وانقطع التيّار الكهربائي فبتنا في الظلام الدامس، ولجأ كلّ خمسة أو ستّة من النوّاب والوزراء إلى غرفة مستندين إلى جدار بعيد من الرصاص الداخل من

ص: 111

النوافذ، وخيّم السكوت على الجميع واشتدّ قلقهم. ولم يكن داخل السرايا إلاّ سبعة من رجال الدرك (أي الشرطة) سلاحهم الوحيد البنادق، فأمر نائب الرئيس بإغلاق أبواب السرايا ووضع الكراسي والمناضد خلفها.

وأصبح الموقف حرجاً للغاية، فرئيس الوزراء وزملاؤه غير قادرين على الاتصال بأحد وقوة الحرس غير كافية للدفاع عن أي هجوم على السرايا، وكان ضجيج الرصاص يملأ أرجاء المدينة. وبهبوط الظلام تضاعف الرعب، وكان الجميع يتوجّسون خيفة من المصير المماثل لمصير حرس المجلس إذا عمد الجنود الإفرنسيون إلى الهجوم على السرايا واحتلالها والتخلص نهائياً من أعضاء الحكومة وما يقرب من ثلاثين نائباً من نواب المجلس. ودبّ اليأس إلى القلوب، وعكف الجميع على الصلوات والأدعية حيث لم يعُد ثمة ملجأ إلاّ الله لإنقاذنا من هذا المأزق وإخراجنا من السرايا.

ثم بيّن خالد بك كيف خرجوا انسلالاً واحداً بعد واحد من الباب الجانبي ومشوا على أيديهم وأرجلهم في ظلّ حاجز نهر بردى حتى دخلوا البَحْصة، ومنها انتقلوا إلى دار خالد العظم في سوق صاروجا. إلى أن قال: ومدّ السيد مردم يده إلى الهاتف ليخبر أهله بأنه سليم وأنه في داري، فعرف الإفرنسيون الذين يستَرِقون السمع الملجأ الذي لجأت إليه الحكومة والنوّاب فصوّبوا مدافعهم علينا، فتساقطت القذائف على الدور المجاورة وانهارت على ساكنيها الآمنين

ثم بدأ الإفرنسيون بإطلاق القذائف المحرقة على الدور الكائنة في مدخل سوق صاروجا، وأكثرها من الدور القديمة المبنيّة بالخشب واللبِن.

ص: 112

واشتعلَت النيران في الدور وانتشر الحريق بشكل مخيف، فخرجنا إلى الشارع وشاهدنا الناس آتين من جهة موقع الحريق يحملون ما خفّ من الثياب والأمتعة هرباً من النار، ثم أعقبَتهم جموع السكان وانتشر الذعر بينهم، وساد الاعتقاد بأن الحيّ كله سيكون فريسة للنيران وليس ثمة فرقة إطفائية قادرة على الحضور لأن الجنود الإفرنسيين كانوا يمنعونها من الوصول إلى مكان الحريق لإطفائه.

ثم بيّن في تصوير صادق أمين كيف استطاعوا أن يصلوا إلى دار رئيس الجمهورية شكري بك القوّتلي، وكان مريضاً مرضاً ثقيلاً في داره. أعود إلى رواية كلام خالد العظم، قال: وهنالك استطعنا الوقوف على تسلسل الحوادث خلال اليومين السابقَين، فعلمنا أن رئيس الجمهورية استدعى وزير بريطانيا المفوّض فجاء داخل دبّابة إنكليزية، فاستقبله الرئيس وبلّغه احتجاجاً شديداً على أعمال الجيش الإفرنسي وطلب منه تدخّل حكومته لوقف هذا الاعتداء ومعالجة الأمر بالسرعة، فاقترح عليه المستر شون أن ينتقل إلى حيث يكون أقلّ تعرّضاً لأيّ تشبث فرنسي للقبض عليه وألمح إلى إمكان نقله إلى عمّان بحماية الدبّابات الإنكليزية، فرفض الرئيس بإباء وشَمَم ترك المجال فسيحاً أمام الإفرنسيين وقال: إذا كنت سأخرج من داري فسأخرج بسيارة الإسعاف إلى سرايا الحكومة حيث أمكث هناك، وليأتِ الإفرنسيون ليقبضوا عليّ هناك إذا تمكّنوا من أخذي حياً.

ثم هدّد الوزيرَ البريطاني بأنه سيفعل ذلك إذا أعيَته الحيلة ولم تبادر إنكلترا إلى التدخّل في الأمر، فتحمّس الوزير وعاد

ص: 113

إلى مفوضيته وأرسل برقية إلى حكومته واصفاً أعمال الفرنسيين بالطيش والحمق، وذكر عدوانهم على مجلس النوّاب وقتلهم حُرّاسه وقصف المدينة بالمدافع والطائرات ولجوءهم إلى إشعال الحريق بالدور وكسر أبواب المخازن ونهبهم البضائع وسرقتها وإطلاق الحُرّية لجنودهم بالاعتداء على الناس. وأكّد الوزير أن كلّ هذه الأعمال العدوانية لم يكن لها ما يبرّرها ولا هي متفقة مع شرائع الحرب

إلى آخر ما قال خالد بك.

* * *

يومان ما أظنّ أنه مرّ على بلد من البلدان مثلهما؛ كان كل بناء وكل إدارة وكل قلعة أو حصن فيها جنود فرنسيون مصدرَ قتل وبلاء، كان كل الجنود حيثما كانوا يطلقون النار على الناس

لم يبقَ بمنجاة من هذا إلاّ حيّ المهاجرين.

أما رئيس مجلس النوّاب فيقول خالد العظم في مذكّراته إنه كان في فندق الشرق، لم يستطع الخروج منه لأن الفرنسيين كانوا يُطلِقون الرصاص على الفندق ويسدّون مدخله فلا يَلِجه أحدٌ ولا يخرج منه أحد، فبقي معتصماً فيه حتى جاء وزير روسيا المفوض بسيارته يرفرف عليها علم دولته، فتوقّف إطلاق النار مدّة من الزمن، فانتهز سعد الله بك الجابري الفرصة وطلب من الوزير مرافقته بسيارته فخرجا معاً، وتابع معه سيره إلى بيروت حتى يُطلع حكومة لبنان على ما حصل بدمشق، وامتطى طيارة إلى القاهرة وأثار القضية على الملأ، فأدلى الرئيس مصطفى النحاس باشا بتصريح رسمي احتجّ فيه على موقف الفرنسيين وهدّدهم بنسف

ص: 114

مصالحهم في مصر. ثم اجتمع مجلس الجامعة العربية واشترك فيه الجابري مندوباً عن سوريا، وفيه تقَرّر الاحتجاج والسعي لإنقاذ سوريا.

إلى أن قال: ولم يمضِ إلاّ وقت قليل حتى هتف بي الوزير حسن جبارة وقال لي: لك البشرى، هل استمعت إلى الراديو؟ قلت: أيّ راديو؟ أجاب: راديو لندن، فقد أذاع قبل هنيهة أن مستر تشرشل أرسل إنذاراً إلى الجنرال ديغول لإيقاف العدوان وأمهله مدة قصيرة لسحب جيشه من سوريا، وأبلغه أن قائد الجيش البريطاني المقيم في لبنان تلقّى أمراً بإرسال قوّة عسكرية إلى سوريا.

* * *

وفي يوم الجمعة في أول حزيران (يونيو) وصلت الدبّابات الإنكليزية الضخمة إلى دمشق ورابطَت في الشوارع الرئيسية، واختفى الجنود الفرنسيون بمثل لمح البصر وعادوا إلى أوكارهم، وكان يوماً شديداً عليهم كيومنا في ميسلون معهم.

نعم، إن في الكون عدلاً، وإن له رباً إذا أمهل الظالم فإنه لا يُهمِله.

هذه صفحة صادقة من سيرة ديغول كان ينبغي لمن سطرها ونشرها أن يضمّها إليها.

* * *

ص: 115