الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-131 -
ذكريات جزائرية
أستعير هذا العنوان من الأستاذ أكرم زعيتر، فقد كتب تحته ذكرياته الجزائرية، وأنا لي أيضاً ذكريات جزائرية، ولكن شتّان ما بينهما، وكم بين من ينفق من كيس مملوء بالذهب ومن كان مثل المتنبّي:«أمواله المواعيد» !
وأنا لا أحسده ولكن أغبطه على أنه يرجع إلى يوميّات كُتبت في حينها، يستند إليها ويعتمد عليها، واعتمادي على ذاكرة تَعِدُ ولا تفي وتُستودَع ولا تؤدّي، وهو مع علية القوم الذين يشتركون في تأليف الرواية ووضع حوارها، وأنا مع المتفرّجين بها (بها لا عليها). كلانا يصف مرحلة سفر واحدة، ولكنه في غرفة القيادة وأنا بين الركّاب.
أنا لم أزُر الجزائر، ولكن ربطني بها فوق رابطة الإسلام ورابطة العروبة أساتذةٌ لنا منها، كالشيخ المبارك، والأستاذ علي الجزائري الذي كان إماماً في لغة الفرنسيين يرجعون هم فيها إليه، وكنّا ندعوه «السيد علي» ، وأستاذ الأساتذة أحمد جودة الهاشمي، والفاضل الذي كان أستاذه يوماً وصار مدير مدرستنا: محمد علي
الجزائري، ومن قبلهم مربّي الشام وأحد بُناة نهضتها الشيخ طاهر الجزائري، والشيخ البشير الإبراهيمي الذي طالت صحبتي إياه، في دمشق عندما كان يزورها (وما أكثر ما كان يزورها) وفي عمان مرات، وفي القدس وفي بغداد. وطالما خطبت في الحفلات التي كان يخطب فيها، وهو عالم طلق اللسان ناصع البيان، يتدفّق الكلام من فيه تدفّقاً بلا لحن ولا زلل.
وقد كنّا يوماً معاً في سيارة واحدة من القدس إلى دمشق، وكنت إلى جنب السائق حيث تعوّدت أن أركب دائماً (حتى إني إن ركبت داخل السيارة توهّمت أنه دار رأسي وضاق نفَسي). وكنّا نتحدّث، فتعبَت رقبتي من الالتفات إليه لأنني لم أكُن أتلو بيتاً من الشعر إلاّ قال: إنه لفلان الشاعر من قصيدة كذا، وسرد عليّ القصيدة كلها أو جلّها.
فقلت: كيف حفظت هذا كله؟ قال: وأخبرك بأعجب منه، فهل تحبّ أن تسمع؟ قلت: نعم. فراح يقرأ عليّ مقالات لي كاملة ممّا نُشر في «الرسالة» أو مقاطع كثيرة منها، ما كنت أنا نفسي أحفظها. قلت: يا سيدي، الشعر فهمت لماذا تحفظه، فلماذا حفظت مقالاتي وما هي من روائع القول ولا من نماذج الأدب؟ قال: ما تعمّدت حفظها، ولكني لا أقرأ شيئاً أحبّه وأطرب له إلاّ علق بنفسي فحفظته.
فأظهرت (صادقاً) العجب منه والإعجاب به، وأضمرت في نفسي حقيقة استحيَيت أن أجهر بها، هي أنه مرّ عليّ دهر كنت أنا فيه كما قال. وأنا لا أزال أحفظ مقاطع كثيرة ممّا كتب المنفلوطي
والرافعي والزيات والبشري وكرد علي وأمثالهم من أئمة البيان، مع صعوبة حفظ النثر وتفَلّته من الأذهان. أمّا ما أحفظ من الشعر فكثير كثير، وإن لم يبقَ منه إلاّ القليل، على أن هذا القليل الذي بقي في ذهني كثير والحمد لله.
* * *
وممّا حبّبني بالجزائر أن جدّنا الذي قدم الشام من مصر سنة 1250هـ كان من جماعة الأمير عبد القادر، وكان مربّياً لأولاده، وكان مفتياً عنده يأخذ راتبه منه، فلما مات الأمير قبله بمدّة يسيرة أبى أن يتسلم الراتب الذي جعلَته له الدولة، وطفق يبيع من كتبه ما يعيش بثمنه حتى توفّاه الله.
وما نقله الأستاذ أكرم من حديث العقيد عطاف الجزائري عن الرئيس شكري بك كنّا نسمعه من الثوّار أيام الثورة السورية سنة 1925، وكنّا طُلاّباً في الثانوية.
ولقد سمعت من عمّي الشيخ عبد القادر الطنطاوي من قديم خبراً ما حقّقته ولا توثّقت منه، هو أن أصل أسرتنا من الجزائر. ولعلّ ما عندنا من الحِدّة يشير إلى ذلك، وقد كان جدنا الشيخ محمد الطندتائي (وطندتا هو الاسم القديم لطنطا) يذكر الجزائريين مرة أمام الأمير ويثني على خلائقهم وسلائقهم، واستثنى واحدة. فصرخ به الأمير وقد اعتراه غضب مفاجئ فقال:"وِشْ هيّه؟ " قال جدّنا باسماً: "هذه هيه".
يعني هذه الحدّة التي عُرف بها الجزائريون والتونسيون،
والتي ورد في خبر لم يصحّ أنها تعتري خيار أمّة محمد عليه الصلاة والسلام. ومن كان حديد المزاج (يثور بسرعة وتهدأ ثورته بسرعة) لا يكون ماكراً ولا حاقداً ولا يكون في قلبه غِلّ على أحد، لأنه يوفي كل واحد حسابه من ساعته فلا يبقى له عند أحد دَين يحقد عليه به.
وكان للأمير أحفاد في دمشق أدركت منهم اثنين وانعقدَت المودّة بيني وبينهما، وإن كنت في سنّ أولادهما: الأمير طاهر الذي كان له مجلس أسبوعي يحضره كما يحضر أمثالَه (وكان لهذا المجلس أمثال في دمشق) أكابرُ الوجهاء وأفاضلُ العلماء. والأمير طاهر هو والد الصديق الأمير جعفر الذي لبث أمداً طويلاً أمين المجمع العلمي العربي في الشام.
والثاني هو الأمير سعيد الذي كانت صلتي به أوثق، وكنت أزوره في داره في زقاق النقيب ويتفضّل فيزورني في داري في الجبل. وفي زقاق النقيب كانت دار الأمير عبد القادر الجزائري التي صارت بعدُ الكلّية الشرعية، ودرّست فيها، ثم اشتراها السيد مكي الكتاني.
صحبت الأمير سعيداً في السفر والحضر وعاشرته معاشرة عرفته فيها من قرب. والأمير سعيد هو الذي أعلن قيام الحكومة العربية في الشام سنة 1918، يوم كنت تلميذاً في آخر المدرسة الابتدائية وأول المدرسة التالية، وبقي يأمل أن تقوى الدعوة إلى الملَكية في الشام وأن يكون هو الملك عليها. وعرف ذلك ناسٌ هم في البشر كالطُفَيليات في الحشرات والنباتات: تعيش على غيرها،
تمتصّ من الحيّ دمَه ومن النبات نسغَه وتتسلّق على ساق الشجرة لأنها حُرمت الساق الذي تقوم عليه، وأخذوا منه جليل الأموال، وأغراه بعضهم فجاء بالنقّاش والمصوّرين فجعل من داره نموذجاً مصغراً للحمراء في غرناطة.
ثم أنشأ على سفح الجبل في دمّر (وهي أقرب مصايف دمشق إليها) أنشأ قصراً عجيباً: له أدراج ملتوية تصعد من الجانبَين تلتقي وتفترق، وكلّما التقت قامت بِركة مزخرَفة فيها نوافير عجيبة. ومن أعظم مآثر العرب براعتهم في الصناعات وفي النوافير خاصة، وفي الساعات. أمّا الكلام عن الساعات وما أبدعوا فيها فله مكان غير هذا المكان، وأمّا النوافير فأضرب لها مثلاً واحداً: دخلت على عهدي بالدراسة في دار العلوم سنة 1928 متحف الفنون الإسلامية في ميدان باب الخلق في القاهرة، فرأيت هذه النوافير، فقال لي قيّم المتحف: إذا قعدت على هذا الكرسي ترى عجباً. فقعدت ففتح الصنبور، فإذا الماء من حولي كأنه قبّة متّصلة مبنيّة من الزجاج، تتكسّر عليها الأنوار فتضيء كأنها جوهرة كبيرة، وأنا فيها لا تصيبني قطرة من الماء!
لقد أضاعت هذه الزخارفُ وأضاع تمنّي المُلك ثروةَ الأمير، فبيع القصر وصار حيناً مقهى. كما ضاع في الحمراء سلطان المسلمين في الأندلس حين بعنا حقائق المجد بنقوش وزخارف تُبهِج الأبصار، ولكنها لا تحمي الذمار ولا تدفع الأعداء عن الديار.
وممّا يتصل بحديث الأمير وحديث الجزائر أن وفداً عربياً فيه
من العراق الشيخ أمجد الزهاوي وجماعة، وفيه من لبنان الرجل الذي أنشأ «النَّجّادة» المسلمة ليقابل بها الكتائب النصرانية (وقد نسيت اسمه وهو مشهور)، مرّ هذا الوفد في دمشق في طريقه إلى مصر لمقابلة جمال عبد الناصر وحثّه على نصرة الجزائر في جهادها، وكان ذلك قبل أن تستقلّ الجزائر، فانتخبوا اثنين من الشام ليكونا فيه هما الأمير سعيد وأنا.
وقد ذهبنا إلى مصر وقابلنا جمال عبد الناصر مقابلة طويلة في دار صغيرة لم أعُد أعرف أين هي. وقد استولى علينا بما توهّمناه صراحة كاملة في الحديث، وإخلاصاً نادراً لله وللإسلام، وشبه سذاجة فيه. ورجعنا نثني عليه ونرى فيه المثل الكامل للحاكم المرجوّ، ثم تبيّن أننا الذين كانوا السذّج المخدوعين، وأنه لعب بنا وضحك علينا ولفّنا بلسانه المعسول. وأُخِذت لنا معه صورة تذكارية هي عندي، ولكنها اختفت الآن بين أوراقي.
* * *
وأنا الآن في معرض التمثيل لأساليب كتابتي الماضية بفقرات أنقلها منها أمثّل بها عليها، وهذا كلام ممّا أذعت وكتبت يومئذ عن الجزائر، إن كان في بعضه ما يمسّ فرنسا اليوم فهو كلام مؤرّخ لا سياسي، والمؤرّخ يصف ما كان وما ليس له فيه يدان، والسياسي يتكلّم فيما هو كائن أو يسعى ليكون، وفرنسا التي كتبت عنها ما أنقله الآن غير فرنسا اليوم.
فقد كان قُوّادها في الجزائر يُسيئون بفعلهم إليها، ثم انكشف الستار فتبيّن أن الفرنسيين غضبوا منهم كما غضبنا. ثم أعلن هؤلاء
القُوّاد تمرّدهم على حكومتهم (حكومة ديغول) ونشوزهم عن طاعتها، وكان من التاريخ ما تعرفون. ثم إنني أنقل هذا الكلام اليوم لأمثّل به على الأسلوب لا لأعيد مضمونه ومعناه.
لمّا خطفَت فرنسا الزعماء الخمسة الجزائريين (بن بيللا وأصحابه)، وكنت يومئذ أحدّث في إذاعة دمشق بعد صلاة الجمعة حديثاً، استمرّ عشرات من السنين وكان له جمهور كبير من المستمعين، أملى عليّ الغضب ممّا صنعوا والنصرة لإخواني في الدين وفي اللسان ولأخلاق الفروسية التي انتقص منها، فقلت من حديث أذيع يومئذ (1):
إن فرنسا لم تعُد تبالي، لأنها لمّا خسرت بطولة الميدان ولم يعُد يعرف تاريخُها الحديث إلاّ الهزائم، جاءت تستردّ اعتبارها وتُثبِت بطولتها على العُزّل الأقلاّء المطالبين بحقوقهم، وجاءت تجرّب فيهم سلاحها. هل قلت سلاحها؟ إنها زلة لسان أعتذر إليكم منها، لا، ليس سلاحها. لم يبقَ لفرنسا سلاح، ولكنه السلاح الذي استجدَته فرنسا، الذي «شحدته شحادة» من أميركا لتحمي به استقلالها من الألمان أن يطؤوها بنعالهم مرة رابعة كما وطئوها في حرب السبعين، وحرب أربع عشرة، وحرب تسع وثلاثين.
(1) ما يأتي هو حديث «مجزرة الجزائر» ، وهو منشور في كتاب «هتاف المجد» ، وليس هو الحديث الذي أذاعه علي الطنطاوي يوم اختطفت فرنسا زعماء الجزائر، بل إن ذاك هو حديث «فرنسا والجزائر» المنشور في «هُتاف المجد» أيضاً والذي ستأتي منه فقرات بعد قليل. وأحسب أن جدي رحمه الله قد سها في تعليقه هنا فخلط بين الحديثين (مجاهد).
(إلى أن قلت): إنها مجزرة ظاهرة ومذبحة مُعلَنة، والرأي العامّ في أوربّا وأميركا يسمع ويرى ولكنه لا يتكلم. في الحرب الماضية نادوا يا للإنسانية ويا للديمقراطية، ويا للعدالة التي استُبيح حماها ودُنِّس قدسها لأن اللصوص الخوَنة من اليهود نكّل بهم الألمان. وفي كوريا بكوا بعيون التماسيح ونعبوا بحناجر البوم، فما لهم اليوم خرسوا فلا ينطقون؟ وما لهم عَمُوا وصَمُّوا فلا يُبصِرون ولا يسمعون؟ ألا يدرون ماذا يجري في الجزائر أو يدرون ويتغافلون؟
(إلى أن قلت): فيا أيها الفرنسيون، لا تذكروا الحُرّية والأُخُوّة والمساواة بعد اليوم ولا حقوق الإنسان؛ إنكم تدنّسون طهر هذه الألفاظ ونقاءها حين تضعونها في أفواهكم، ولا تحتفلوا بيوم 14 تموز (يوليو) ولا تقرؤوا كتب روسو وهوغو ولامارتين، ولا تُسيئوا إلى الأدب الفرنسي بادعائكم أنكم أربابه. إنكم لم تعودوا خليقين بهذا الأدب.
لقد خنتم تاريخكم ولطّختم وجه أمجادكم بالطين. لقد أطفأتم المصباح الذي زعمتم أنكم رفعتموه يوماً للشعوب حين ثرتم ثورتكم الكبرى، وما ثورتكم الكبرى هذه التي ملأتم الدنيا فخراً بها واعتزازاً؟ لقد كانت ثورة القتل والتدمير والسلب والنهب، ثورة مجرمة حمقاء مغموسة بدماء الأبرياء. وما الفرق بينها وبين عهد الملوك قبلها إلاّ أنه كان في عهد الملوك نفر معدودون يظلمون، فصار بالثورة كل فرد من الشعب ملكاً ظالماً!
إن فرنسا تمشي القهقرى، كل يوم خطوة إلى الوراء؛ لقد
كانت لغتكم لغة السياسة والكياسة والحبّ فسبقَتها اللغة الإنكليزية وصيّرتها وراء وراء. وكانت دولتكم من الدول العظمى فصارت اليوم وراء وراء. وكنتم علماء فصرتم تراجمة، لقد انتهى العلم في فرنسا وصار خير ما تُخرِجه مطابعها المترجَم من اللغات الأخرى. لقد عقمَت فرنسا أن تُخرِج مثل باستور ولافوازيه وديكارت وهانري بيرسون وهوغو وأناتول فرانس ومدام كوري، وصارت عجوزاً متصابية فاجرة أدركها سنّ الإياس فلا تلد العظماء.
وكانت لكم مستعمَرات فأضعتم بحماقتكم مستعمراتكم، وستضيع منكم إفريقيا كلها على رغم أنوفكم ورغم الرصاص الذي «شحدتموه» من أميركا وسلّطتموه فيها على العزّل الأبرياء. وها أنتم أولاء قد بقيتم في الجزائر قرناً وثلث قرن، فهل استطعتم أن تجعلوها فرنسية؟ هل استطعتم أن تجعلوها تُحبّ فرنسا؟ هل استطعتم أن تمحوا منها العربية والإسلام؟ لقد عملتم كل شيء ولكن الذي أردتموه هو المستحيل.
(إلى أن قلت): لقد كتب ملككم فرانسوا الأول يوماً لأمّه، ثم كتب هذه الجملة نفسها إلى أكبر ملوك عصره، السلطان سليمان القانوني، حين مدّ يده يسأله العون والمدد. قال:"لقد خسرنا كل شيء إلاّ الشرف". وسيكتب التاريخ عنكم للأجيال القادمة -بما صنعتم بالجزائر- أنكم خسرتم كل شيء حتى الشرف.
أمّا دعواكم أن الجزائر بلد فرنسي وقطعة من فرنسا فستصير ذكرى مضحكة من ذكريات الحماقة الفرنسية، يتفكّه بها التاريخ وتضحك عليكم بها القرون الآتية. الجزائر فرنسية؟ بمَ؟ بمَ يا أيها
العقلاء جداً؟ أهي فرنسية بشعبها؟ أهي فرنسية بلغتها؟ لقد فشت لغتكم فيها ولكنها ثوب مستعار وعاريّة مستردّة، وستعود إلى أصلها، إلى عروبتها.
أهي فرنسية بتاريخها؟ الشعب فيها عربي واللغة عربية والدين إسلامي، وكل حَجَر من جبالها وكل رملة من صحرائها، والتاريخ الذي مضى والمستقبل الذي سيأتي، كل هذا يكذّب هذه الدعوى الوقحة الكاذبة البذيئة، دعوى أن الجزائر قطعة من فرنسا. وأقرب من هذه الدعوى بمئة مرة أن يدّعي الطليان أن فرنسا قطعة من إيطاليا.
إن إيطاليا إن قالتها أيّدتها اللغة: كلتاهما لاتينية، والإيطالية أقرب إلى الأصل. وأيّدها تاريخ يوليوس قيصر وبومبي وأن فرنسا بقيَت قروناً وهي تابعة لروما. فماذا يقول الفرنسيون لو ادّعت إيطاليا هذه الدعوى؟ وماذا لو كانت إيطاليا أقوى وساقت قُواها لتذبح الفرنسيين الذين يدافعون عن حرّية بلادهم؟
وبعد يا أيها المستمعون (1)، فما أخاف على الجزائر. إن الجزائر تبدأ في كتاب المجد صفحة جديدة، وأنتم تختمون كتاب أمجادكم بصفحاته كلها. إن ذخر المسلمين من البطولة لن ينقطع أبداً حتى يستكملوا تحرير بلادهم، ثم يكتبوا في تاريخ الدنيا مثل الصفحة التي كتبها جدودهم.
إن الاستعمار قد مضى وقته، مضى. إنه بناء من الثلج أقمتموه خلسة في ظلام الليالي الطوال من كانون (ديسمبر)، وقد
(1) هذه أحاديث أُذيعَت من إذاعة دمشق أيام نضال الجزائر.
سطعَت الآن شمس آب (أغسطس) فلا تصمد بيوت من الثلج لشمس آب. لقد تحرّرَت آسيا كلها واستقلّت أُمَمُها وشعوبها، وسيتحرّر الشمال الإفريقي المسلم وتعود أرضه كما كانت، ثم يأتي يوم ترجع فيه أرض فرنسا موطئَ أقدام الجنود المسلمين. لقد كنّا نحن الحاكمين يوماً في قلب فرنسا من البيرنة (جبال البرنس) إلى بواتيه، وكنّا نملك حفافي البحر المتوسط الذي كان يُسمّى تارة بحر الروم وتارة بحر العرب.
أنا لا أخاف على الجزائر بل أخاف عليكم أنتم. ليس أمامكم أهل الجزائر وحدهم بل المغرب المسلم كله، بل ديار العروبة من أقصاها إلى أقصاها، بل المسلمون في كلّ الأرض، بل الناس جميعاً، الناس الذين لا تزال في صدورهم قلوب ولا تزال في قلوبهم ضمائر. أمّا الذين فقدوا الإنسانية وأضاعوا القلوب، أما الجُثَث التي تمشي إلى المادّة وحدها فستقتلها المادّة التي تمشي إليها.
وسيستيقظ العرب كلهم والمسلمون جميعاً، وسيقاطعون كل شيء فرنسي ويرونه رجساً يدنّس طهرهم وناراً تحرق بيوتهم، وسيجاهدون حتى تشهد الدنيا جلاء آخر جندي فرنسي من المغرب العربي كله كما جلا آخر جندي عن أرض الشام. وما يوم الجلاء عن المغرب ببعيد.
* * *
هذا بعض ما كنت أقوله وأذيعه أيام كان الجزائريون يجاهدون في سبيل تحرير أرضهم.
لمّا كنّا في أوائل الثانوية عند نهاية الحرب الأولى كان الفرنسيون في الشام وفي أكثر الشمال الإفريقي، وكان الطليان في طرابلس، وكان الإنكليز في مصر وفي فلسطين وفي الهند، ولم يكن بلد مسلم لم تطأه أقدام جنود الاستعمار إلاّ هذه الجزيرة التي برّأها الله من أن تطأ أرضَها أقدامُ جنود الاستعمار.
لقد جلت جنودهم عن أرضنا ولكن خلّفوا لهم فيها جنوداً من أبنائنا، فبدؤوا عصر استعمار آخر: استعمار فكريّ، فكانت الوطنية التي أرادوا أن يُحِلّوها محلّ الدين، وهي من مبادئ الثورة الفرنسية التي سرَت إلينا مصطلحاتها ومشت على ألسنتنا كلماتها. ومنها كلمة المواطن والمواطنة الصالحة، بمدلولاتها الغريبة عنّا التي يريد ناس أن يُحِلّوها محلّ رابطة الإسلام.
ثم جاءت فتنة أشدّ هي القومية، وشهدتُ في العراق (كما حدّثتكم، وقد كنت أدرّس فيها بين الحربين العالَميتين) أعنفَ المعارك بيننا نحن الإسلاميين وبين دعاة القومية المناوئة للإسلام.
ثم جاءت قاصمة الظهر وقاصفة العمر ومصيبة العصر: الماركسية. وما أحسب الدجّال الذي وردَت فيه الأحاديث إلاّ كارل ماركس هذا. والدجّال أعور وهذا أعور حقيقة وإن كان ذا عينَين، لأنه ينظر بعين واحدة؛ المسلم ينظر إلى الدنيا والآخرة وهذا وأتباعه لا يرون إلاّ الدنيا، نحن ننظر إلى المادّة والروح وهذا لا يبصر إلاّ المادّة، نحن نرى الأرض والسماء وهذا بصره عالق بالأرض لا يرتفع عنها ولا يرى السماء.
ولقد كتبت كثيراً عن الجزائر ونضالها، فكان ممّا قلت في حديث عنوانه «فرنسا والجزائر» هذه الفقرات:
أقسم إني لو كنت فرنسياً لخجلت أن أقول إني فرنسي، وكل مفكّر أو أديب فرنسي يخجل اليوم من نسبته إلى فرنسا بعد ما صنعَت بالجزائر وبعد أن خطفَت القادة الخمسة من مجاهدي الجزائر.
ولن يستطيع بعد اليوم شاعر من شعرائهم أن ينظم بيتاً واحداً يفخر فيه بفرنسا ويتغنّى ببطولاتها وأمجادها. وبمَ يفخر؟ أبهذا الذي صنعتم؟ أهذه هي البطولة الفرنسية؟ أرضيتم لأنفسكم أن تكونوا قطّاع طرق يختطفون الناس من الطريق؟ ألا واجهتموهم في الميدان؟ ألا صاولتموهم في المعركة الحمراء؟ ألا أخذتموهم من معاقلهم؟ أهذا ما انتهى إليه جنود نابليون؟ وإن لم يكن نابليون وجنوده خيراً منكم.
خذوهم من حيث كانوا، من شعفات الجبال ومهامه البيد. وهيهات! إن البيداء للأسد، الأسد الذي يهجم من أمام، لا للعقرب التي تدبّ خلسة وسط الظلام. وفرنسا ما كانت أجمة آساد، إن فرنسا مراتع غزلان مباحة لكل صيّاد
…
غزلان، ولكن القرون لذكورها فقط.
فدعوا القتال فما أنتم أهله، وجرّوا الذيول على أبواب الحانات والمواخير في مونمارتر ومونبارناس، وسنّوا قانوناً يحرّم على مدرّسيكم أن يعلّموا الصبية الصغار في المدارس تاريخ الثورة وأمجاد الحروب، لئلاّ يدركوا كيف لطّخ الفرنسيون أمجادهم
بالوحل وكيف عدوا على الحرّيات بعدما ادّعوا أنهم ثاروا دفاعاً عنها، وكيف فقدوا بطولة الحروب فاستعاضوا عنها بقَطْع الطريق وسرقة المارّين، وبالعدوان على النساء والأطفال بعدما زعموا أنهم صاروا تحت علم نابليون يوماً أبطال أوربّا. ولا تُقرِئوهم روائع الأدب الفرنسي التي تتغنّى بالعظمة والسموّ والشرف، لأنكم لم تعودوا خليقين بهذا الأدب ولا أهلاً لهذا التاريخ.
تتشدقون بذكر حقوق الإنسان وتعبثون بحقوق الإنسان، وتهتفون بحقّ الشعوب وتعْدُون على حقوق الشعوب، وتدرّسون في كلّيات الحقوق في بلادكم قواعد الحرب وتكفرون بأفعالكم بقواعد الحرب!
أفلا تستحون؟ استحوا من الله. استحوا من التاريخ. استحوا من علمائكم وأساتذتكم وأدبائكم. استحوا فما هذه حرب، هذا عدوان على بلد ما لكم فيه حقّ من الحقوق: لا الأرض أرضكم ولا الأهل أهلكم ولا اللسان لسانكم ولا الدين دينكم. هذه سرقة، هذه جريمة، هذه قرصنة، هذه وحشية.
وما هذه كلمات سبّ وشتم بل تقرير للواقع. إن الذي يقول للذئب أنت ذئب لا يسبّه ولكنه يُسمّيه باسمه، وكل هذه الكلمات لا تفي بالتعبير عمّا صنعَت فرنسا في الجزائر، ولو صنع عُشرَه شعبٌ آخر لفرنسا لقال عنه كتّاب فرنسا أضعاف ما قلت أنا الآن. إنها جريمة ولكنها جريمة ليس لها قُضاة، وليس للمظلوم فيها محامون.
(إلى أن قلت): وما ضرّت فرنسا الجزائرَ باختطافها الزعماء
الخمسة ولكن ضرّت نفسها؛ لقد نفعَتنا فرنسا وزادتنا إيماناً بالنصر. وما شكَكْنا في النصر قط أنه لنا. إن أُمّة ولدَت عشرة آلاف بطل ليس لفرنسا عشرة فقط من وزنهم لا يُعجِزها إذا أُسِرَ بن بيللا (أحسن الله خلاصه وأجزل ثوابه) أن تُخرِج ألف بن بيللا.
فلا تحسبوا أنكم صنعتم شيئاً؛ ما صنعتم إلاّ أن أخرستم كل لسان كان على طرفه بقيّة كلام في تحسين الظنّ بكم والأمل فيكم، وجعلتم المغرب كلّه، والمشرق الإسلامي من بعده، ناراً تتلظّى عليكم وجهنّم مفتَّحة أبوابها لكم. فلا تقولوا خلا بأسر بن بيللا العرين:
لا تقولوا خلا العرينُ ففيهِ
…
ألفُ ليثٍ إذا العَرينُ أهابا
فاجمعوا كيدَكم وروعوا حِماهُ
…
إنّ عندَ العرينِ أُسْداً غِضابا
* * *