الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-130 -
أنا والقلم
تيقّنت الآن أن مثل هذه الذكريات لا موضع لها في الجريدة اليومية، لأن الجرائد إنما وُجدت لتُظهِر ما يُضمِر الناس في قلوبهم من ألم يضيقون بحمله أو أمل يشوقهم تحقيقه، ولتكون مرآة لحياتهم وصدى لأحاديثهم فيما بينهم، تكتب لهم ما يهمّهم من أحداث يومهم ومطالب غدهم. فهم يشترونها ليقرؤوا فيها أنباء السياسة وأهلها، والدنيا وأحداثها، وغرائب الوقائع وطرائفها، وكلّما كان الخبر أكثر إثارة للقُرّاء كانوا أشدّ حرصاً عليه وميلاً إليه. هذه هي الحقيقة. فما الذي يهمّ الناس ممّا وقع لي أنا قبل خمسين سنة؟
ثم أرجع فأقول لنفسي إني أسرد اليوم تجرِبتي في ميدان الكتابة والإنشاء، أفليس في القُرّاء من يرغب في معرفتها؟ أو ليس مِن الراغبين فيها مَن يستفيد منها؟ إنّ شُداة الأدب وطُلاّب الإنشاء كثير، وليس يخلو ما وقع لي -إذا سردت خبره- من نفع لهم يدلّهم سردُه على ما فيه من خير ليأخذوه وما فيه من شرّ ليجتنبوه.
ولا تمنعني فضيلة التواضُع من ذِكر حقيقة معروفة لست أدّعيها دعوى ولكنني أقرّرها تقريراً، هي أنني اتّبعت في الكتابة
أسلوباً يكاد يكون جديداً، عُرف بي وعُرفت به، وما كان في أساتذتي الذين قرأت عليهم ولا في الأدباء الذين قرأت لهم وأفدت منهم مَن له مثله حتى أقلّده فيه وأتّبع أثره، وإن كان فيهم من هو أبلغ مني وأعلى درجة في سُلّم البيان. كما أن صديقي ورفيق طريقي أنور العطار رحمه الله كان له في الشعر أسلوب تفرّد به، قلده فيه كثير وما قلّد هو فيه أحداً.
فمن أين جئت بهذا الأسلوب؟ أعترف أنه ليس عندي جواب حاسم على هذا السؤال، فأنا لا أعرف مِمّن أخذته ولا عمّن نقلته. إن أساتذتي الذين قرأت عليهم ليس فيهم مَن ترك أثراً أدبياً يحشره في زُمرة الكتاب، حتى العلماء منهم الذين أخذت جلّ علمي بالعربية وفنونها عنهم، كالجندي والمبارك؛ فالمبارك رحمه الله ورحم الجندي) ما كان كاتباً قط، لا ادّعى هو ذلك ولا ادّعاه له ولد ولا تلميذ، على أنه كان إماماً في اللغة صدراً بين الرواة، والجندي ليس دونه في اللغة والإحاطة بها وهو فوقه في الأدب، لم يكتب إلاّ كتابة علمية بعيدة عن الأدب المحض. فكان كلاهما عالِماً بالأدب ولم يكن أديباً، حتى إن الجندي -على سنّة كبار علماء الأزهر وأمثالهم من علماء الأقطار العربية- يقرّرون القواعد ويقوّمون المعوَجّ ويعرفون وجه الصواب، فإذا كتبوا جانبوه. ولمّا أراد مدير الأوقاف العامّ جميل بك الدهان (وكان بمثابة الوزير لأن الأوقاف لم تكن قد صارت وزارة) لما أراد أن يُصدِر مجلّة جمع لها أدباء الشام جميعاً وجعل رياسة تحريرها لأستاذنا سليم الجندي. وكنت أنا محرّراً عنده، وجدته كتب مرة في افتتاحية المجلّة كلمة «مواضيع» ، مع أنه لمّا ردّ على اليازجي في كتابه
«لغة الجرائد» وألّف في ذلك كتاباً سَمّاه «إصلاح الفاسد من لغة الجرائد» كتب فيه فصلاً طويلاً في منع جمع موضوع على مواضيع وبيّن أن الصواب فيها «موضوعات» ، فلما جاء يكتب نسي ذلك. فعلّقت على مقالته بهذه الجملة:"قوله مواضيع خطأ صوابه موضوعات، كما قرّر ذلك أستاذنا سليم الجندي في كتابه إصلاح الفاسد"
…
فكانت نكتة.
* * *
فمن أين قبست هذا الأسلوب الذي أكتب به؟ لم آتِ به ثمرة بلا شجرة، فما تكون الثمار إلاّ من الأشجار، ولا أوجدت شيئاً من غير شيء، فما كان موجودٌ من معدوم إلاّ إن قال له الله كُن فيكون. وما منّا إلاّ مَن تأثّر بغيره وأثّر في غيره، والدنيا أخذ وعطاء، وما مثالنا إلاّ كتاجر فتح دُكّانه على طريق القوافل يوم كانت التجارة مقايضة ومبادلة ولم تكن وُجدت نقود: يمرّ به المسافرون دائماً، وكلّما مرّ به أحد أخذ منه سلعة وأعطاه بدلها سلعة أخرى، ولبث على ذلك أكثر من خمسين سنة فاجتمعَت عنده مئات من الأشياء من كل صنف وكلّ لون، فهل ترونه يعرف كلّ شيء منها مِمّن أخذه ومتى أخذه وما الذي أعطاه بدلاً منه؟ هذا مثالي ومثال من كانت حاله كحالي؛ ما قرأت كتاباً، ولا جالست عالِماً ولا أديباً، ولا سمعت خبراً، ولا رأيت سروراً ولا كدراً، ولا نزلت بلداً ولا قابلت أحداً، إلاّ ترك في نفسي أثراً.
فهل أقدر أن أُحصي كم قرأت من الصحف، وكم لقيت من الناس، وكم رأيت من المسرّات والأحزان، وكم قصدت من الأقاليم والبلدان؟ كان لكل ذلك أثر في تفكيري، وفي مشاعري،
وفي أسلوبي.
وإن لأسلوب كل كاتب سمات عامّة نستدلّ عليه بها؛ فبين سطورها وفي تضاعيف جُمَلها وكلماتها، وطريقة صفّها ورصفها، وطول جُمَلها أو قصرها، وسهولتها أو وعورتها، وقُربها من الحقيقة أو ضربها في طرق المجاز
…
في كل ذلك إمضاؤه واسمه، إن لم يكتبه في ذيل المقالة صريحاً كتبه هنا تلميحاً وتلويحاً.
ومن الأساليب ما يكون كالفتاة الشابة تبدو للنساء بوجهها الذي وهبه الله لها، تخرج به كما هو بحسن البداوة الذي وصفه المتنبّي. والتي تُجمّله أو تُبدّله بالأصباغ، فتُورِّد خدّيها المُصْفَرَّين، وتتّخذ لها رموشاً ليست لها، وتستبدل التكحّل بالكحل الذي حُرمت منه، وتغطّي شعرها المجعّد بشعر مصنوع سبط.
وكم بين كاعب غضّة الإهاب ليّنة الأعطاف تتفجّر شباباً وصحّة وجمالاً، وبين نَصَف:
وإن أتوكَ وقالوا إنّها نَصَفٌ
…
فإنّ أطيبَ نصفيها الذي ذهبا
نَصَف غطّت ما فعلت بها السنون بالأصباغ والدهون، وطمسَت ما عراها من بوادر الدمار بما حوى دُكّان العطار: وهل يُصلِح العطّارُ ما أفسدَ الدهرُ؟
لا، ولا يصلحه المزيّن ولا الحلاّق. هل تعدل بسيارتك الجديدة التي خرجت الآن من الوكالة سيارة أكل عليها الدهر وأكل منها، وإن أدخلتها المرأب ونجّدتَ فرشها وصبغت سطحها؟
* * *
لذلك كان أفضل ما كتبت -في رأيي- ما كنت أنطلق به على سجيّتي وأساير طبعي، فأكتب بلا تكلّف ويقرأ الناسُ ذلك بلا تعب، وأسوأ ما كتبتُه ما كنت أتصنّع فيه وأحتشد له وأريد أن آتي بما أحسبه رائعاً، فأتعب أنا بكتابته ويتعب القارئ بقراءته.
ويبدو النوعان فيما نشرت إلى الآن (1). والذي نشرتُ إلى الآن وطُبع وهو في أيدي الناس يزيد على أربعة عشر ألف صفحة، منها ما أودعتُه كتبي التي أصدرتها ومنها ما بقي في مجلاّت عرفتها وحفظتها، ومنها ما نسيت أين نُشر ولم أحتفظ بالجريدة ولا
(1) لو سُئلت لقلت إن قديم علي الطنطاوي يكاد يكون كله من النوع الثاني الذي وصفه آنفاً، هذا الذي يَتعب القارئ بقراءته ويقف فيه عند هذه الكلمة أو تلك يبحث عن معناها في المعاجم، أما جديده فمن النوع الذي قال إنه ينطلق فيه على سجيته بلا تكلف. لقد أحسستُ بذلك دائماً وأنا أقرأ كتابات جدي رحمه الله، ثم أحسست به أكثر لمّا جئت أجمع كتاباته التي لم يُخرجها في حياته في كتب؛ فكلما أوغلَت المقالةُ في الزمن وجدتُني أكثرَ حاجةً إلى التعليق عليها بما يُذهب غرابة مفرداتها ويُفهم القارئ غوامض ألفاظها، فتخرج المقالة الواحدة بالعدد من الحواشي. أما الجديد فلا أكاد أجد بي حاجة لشيء من هذا إذا اشتغلت به. وليس يسع المرءَ أن يحدد خطاً فاصلاً في السنين انتقل الأسلوب عنده من هذا المنهج إلى ذاك، فكل انتقال في الدنيا يتم متدرّجاً، لكن يمكنني أن أحدد الخمسينيات تحديداً عاماً لهذا التحول؛ فما كان من كتابات علي الطنطاوي في الأربعينيات والثلاثينيات فأكثره من النوع الصعب وفيه تصنّع أو تكلّف (كما قال هو عن نفسه هنا)، ثم لا تكاد تجد من هذا كله شيئاً فيما كتبه منذ أواخر الخمسينيات إلى آخر عمره رحمه الله (مجاهد).
المجلّة فضاع، ومنها كتب لا تزال مخطوطة.
ولمّا جئت أجمع مقالاتي، أضمّ النظائر والأشباه أؤلّف من كل زمرة كتاباً، كان من أقرب كتبي إلى الطبع وأبعدها عن التصنّع وأكثرها غلياناً كتاب «هتاف المجد» .
ولا تقولوا إن جمع المقالات في كتاب يُفقِد الكتاب معناه ويُذهِب وحدة موضوعه، فإن هذا الكلام على صحّته لم يأخذ به أحد. ها هم أولاء الكُتّاب الذين سبقونا وكانوا قبلنا، وقرأنا ما كتبوا واستفدنا منه، كلهم جمع مقالاته في كتب؛ من أمثال العقّاد والمازني وطه حسين والرافعي والزيات، الذين كانوا أئمة الأدب وكانوا قادته وكانوا سادته. كل منهم جمع مقالاته في كتب. وإلاّ فخبّروني: ماذا يصنع بها؟ يرميها؟ يمزّقها؟ يحرقها؟ حتى تضيع فيضيع معها أدب كثير ويُفقَد بفقدها نفع كثير.
ولو أن كاتب المقالات حين يجمعها يقصّ مع كلّ مقالة قصّتها ويبيّن ظروف كتابتها، لو فعل ذلك لجاء منه كتاب ينفي ما ينكرونه عليه من فقد الوحدة في الموضوع. هذا كتاب «هُتاف المجد» ، وقعت يدي عليه فقلت: أبدأ الكلام عنه. على أنه لم يُطبَع إلاّ طبعة واحدة سنة 1960. في هذا الكتاب بقيّة ممّا ألقيت من خطب، أقلّها مكتوب وأكثرها مرتجَل، وأقلّ المكتوب هو الذي أودعته هذا الكتاب.
وأعترف أنها قد تبدّلَت الأحوال، ففرنسا مثلاً التي كانت عدوّنا الأوّل في الشام وفي الشمال الإفريقي المسلم دانيه وقاصيه، خفّ الآن عدوانها واعتدل موقفها، ولكنني أبقيت ما قلت على
حاله لأنه تاريخ ولأنه يصوّر مرحلة من مراحل حياتنا. ولقد تقارب اليوم ما بين فرنسا وألمانيا وزال أكثر ما كان بينهما من العداء، فهل نطمس لذلك ما كتب موباسان وألفونس دوده وبعض ما قال فيكتور هيغو، والأدباء الذين تحدّثوا عن حرب السبعين وأثرها في فرنسا؟ إن الأدب يبقى لأن له قيمة في ذاته ولو تبدّلت الأحوال.
* * *
لقد عزمت -ما دمت أكتب ذكرياتي وأسرد أحداث حياتي- أن أختار من كل نوع من أساليب كتابتي فقرات أدلّ بها عليه وأمثّل بها له. والكاتب وإن كان فكره واحداً وقلمه واحداً يتبدّل أسلوبه بتبدّل حاله. أمثّل على أسلوب كتاب «هتاف المجد» بمقدّمته أذكر فقرات منها (ولقد نُشر الكتاب كما قلت لكم في شعبان سنة 1379هـ). قلت:
إني أحاول أن ألقي اليوم خطبة، فلا تقولوا قد شبعنا من الخطب. إنكم قد شبعتم من الكلام الفارغ الذي يُلقيه أمثالي من مساكين الأدباء، أمّا الخطب فلم تسمعوها إلاّ قليلاً: الخطب العبقريات الخالدات التي لا تُنسَج من حروف ولا تؤلَّف من كلمات، ولكنها تُنسَج من خيوط النور الذي يضيء طريق الحقّ لكل قلب، وتُحاك من أسلاك النار التي تبعث لهب الحماسة في كل نفس.
ولا تقولوا: وماذا تصنع الخطب؟ إن خطب ديموستين صبّت الحياة في عروق أُمّة كادت تفقد الحياة، ونفثَت فيها روحاً وملأتها عزماً، حين استعارت لها من جلال ماضيها أجنحة تضرب بها في
طِباق الجوّ بعدما هاض الزمان جناحها، ووقفَت -وهي كلمات- سداً في وجه أعظم قائد عرفَته قرون ما قبل الإسلام: الإسكندر، وفي وجه أبيه من قبله، فيليب.
وخطبة طارق هي التي فتحت الأندلس. وخطبة الحجّاج أخضعَت يوماً العراق وأطفأت نار الفِتن التي كانت مشتعلة فيه ثم وجّهَته إلى المعركة الماجدة، ففتح رجل واحد من قُوّاد الحَجّاج أكثر ممّا فتحَت فرنسا في عصورها كلها، وبلغ مشارف الصين، وحمل الإسلام إلى هذه البلاد كلها فاستقرّ فيها إلى يوم القيامة، ذلك هو قتيبة بن مسلم.
ولمّا اجتاح نابليون بْروسيا (ألمانيا) ما أعاد لها حرّيتها ولا ردّ عليها عزمها إلاّ خطب فيخته التي صارت لقومه «معلّقات» كالمعلقات العشر عندنا، يحفظها في المدارس الطُلاّبُ ويردّدها على المنابر الخطباءُ، وتقرؤها كل امرأة ويتلوها كل رجل. إن خطب فيخته كانت من أظهر العوامل التي أنشأت ألمانيا الجديدة.
ما قام في التاريخ زعيم عبقري ولا قائد نابغة إلاّ كان السلّم الذي صعد عليه هو الخطب. وما زعمت أني أستطيع أن ألقي مثل هذه الخطب، ولا جئت أباري في ميدان البيان، ولكنْ جئت لأقول الحقيقة التي تملك العقول بصدقها وتأسر القلوب بجمالها.
فيا أيها المستمعون إليّ مقبلين عليّ (أُذيعت هذه القطعة من إذاعة دمشق)، ويا أيها المستمعون وهم مُعرِضون عني، يلهون في القهوات أو يتبخترون في الطرقات. إلى العالِم في مكتبه، والعامل في معمله، والمرأة في بيتها، والطفل في مدرسته
…
إلى كلّ من يتفيأ الظلال من جنّات الشام، ومن يَضحَى بشمس القفار في فلوات الجزيرة، ومن يحيا على شطّ الفرات وعلى جنبات الخليج. إلى الأسود المرابطين في نحور العدوّ في شوارع بورسعيد، وعلى شعفات الجبال في الجزائر، وعلى سِيف القرى الأمامية في فلسطين
…
(إلى أن قلت): إلى كل من شرّق من أمة محمد وغرّب، ما جئت اليوم لأستنفر وأستثير، ولا لأشكو وأستغيث، ولا لأفخر وأحمّس، بل جئت لأبارك هذه الحرب التي أشعلها العرب في كل مكان، من الجزائر إلى مصر إلى العراق، وأطعموها الجماجم وسقوها الدماء. هذه الحرب، ويا بارك الله هذه الحرب.
لقد كشفَت منّا عن الجوهر الذي طالما اختفى تحت غبار القرون، وأظهرَت منّا العزائم التي طالما هجعَت في ظلام الليالي، وسلّت بأيدينا السيوف التي طالما تلوّت في الأغماد وتشكّت طولَ الرقاد. وذكّرَتنا -وقد طالما نسينا- أننا نحن بنو الحرب، بنو التضحيات، بنو المعامع الحُمر والأيام العوابس.
وأنها ما كانت قطّ قلوبٌ أقوى ولا أظهر من قلوبنا، ولا كانت سيوفٌ أحدّ ولا أمضى من سيوفنا، ولا كان مجد أعظم من مجدنا ولا تاريخ أحفل بالنصر والظفر والفضل والنبل من تاريخنا. وأننا نحن طهّرنا أرض الجزيرة العربية من نجس يهود، ونحن أنقذنا الشرق والغرب من عبودية كسرى وقيصر، ونحن قصمنا ظهر كل جبّار وكسرنا رقبة كل متكبّر، وأننا نحن أبطال بدر واليرموك، والقادسية ونهاوند، وحِطّين وعين جالوت، والغوطة وجبل النار (في نابلس)، وأننا هدمنا صروح الشرّ في الدنيا ثم
بنينا فيها صروح الخير والعلم، وأقمنا فيها منار الحقّ والهُدى، وصنعنا للناس خير حضارة عرفها الناس.
لا، ما جئت أفخر بالتاريخ الذي كتبناه أمس، بل بالتاريخ الذي شرعنا نكتبه اليوم. لقد وصلْنا ما كان انقطع من أمجادنا، فالتقى المجدُ الجديد بالمجد التليد، واجتمعَت البطولات التي نُبديها اليوم بالبطولات التي أبديناها بالأمس، وأرينا الدنيا أننا ما أضعنا إرثنا من أمجاد الأجداد. لقد هببنا لنطهّر بلادنا من اللصوص المستعمرين، ولنعيد بناء دارنا ونرفع عليها لواء مجدنا، ونسترجع تحت عين الشمس مكاننا.
لا أريد الكلام، ولو أردناه لكنّا نحن سادته؛ نحن فرسان المنابر ونحن أرباب الأقلام، ولكننا نريد الفعال. فليقُل أعداؤنا ما شاؤوا وليكتبوا في صحفهم ما أرادوا، فلقد كتبنا نحن ما أردناه سطوراً على ثرى بورسعيد، ومن قبل كتبناها على بِطاح فلسطين وجنّات الغوطة وجنبات الرّمَيثة، وفوق ثرى طرابلس والجزائر والريف المغربي، سطوراً سطرناها بجثث الغاصبين:
قد مَلأْنا البرَّ من أشْلائِهمْ
…
فدَعُوهُمْ يَملؤوا الدّنيا كلاما
* * *
هذا مثال من كتاب «هُتاف المجد» . ولو اتّسع المجال وساعدَت الحال لذكرت أمثلة أخرى. وسآتي بأمثلة من الأسلوب العاطفي، وأسلوبي في الترسّل، وأسلوبي القصصي. ولقد قلت لكم في آخر الحلقة الماضية إني لمّا دخلت ساحة القضاء خرجت من نطاق الأدب وظننت أني لن أعود إليه، ولكنني عدت. فهل
ترون الطنطاوي الشيخ يكتب بمثل الأسلوب العاطفي الذي جرى به قلم الطنطاوي الشاب؟ لقد سألني أخي ناجي لمّا قرأ كتابي إلى الأستاذ أحمد أمين رحمه الله في الحلقة الماضية: هل تقدر أن تكتب اليوم مثل هذا؟ قلت: هاتِ ذلك القلب الذي كان يخفق بالحب ويصفق بالعواطف أكتبْ مثلها، بل أجمل منها، ولكن المرء يلبس لكل حالة لبوسها ويتخذ لكل سنّ ما يناسب تلك السنّ.
كان الشاعر العربي في الجاهلية يهتمّ بأمرَين، بالحبّ وبالحرب، فكان أوسع فنون الشعر عندهم فنّ الغزل ثم فنّ الفخر والحماسة. ولقد سمعتم في الفقرة التي نقلتها من كتاب «هتاف المجد» ما كنت أكتب في الحماسة، فاسمعوا أمثلة، مقاطع موجزة، ممّا كنت أكتب في الحب.
قلت في قصّة «ابن الحبّ» من كتابي «قصص من التاريخ» :
واللهُ الذي أمال الزهرة على الزهرة حتى تكون الثمرة، وعطف الحمامة على الحمامة حتى تنشأ البيضة، وأدنى الجبل من الجبل حتى يولَد الوادي، ولوى الأرض في مسراها على الشمس حتى يتعاقب الليل والنهار، هو الذي ربط بالحبّ القلبَ بالقلب حتى يأتي الولد.
ولولا الحبّ ما التفّ الغصن على الغصن في الغابة النائية، ولا عطف الظبي على الظبية في الكِناس البعيد، ولا حنا الجبل على الرابية الوادعة ولا أمَدّ الينبوع الجدول الساعي نحو البحر. ولولا الحبّ ما بكى الغمام لجدب الأرض، ولا ضحكت الأرض
بزهر الربيع، ولا كانت الحياة.
وفي فصل «القبر التائه» من كتاب «صور وخواطر» هذا المقطع عن لبنان:
لبنان الذي كان يوماً دار الأولياء والشعراء والسيّاح والزهّاد، من كل عابد متبتّل ومحبّ هائم وتائب أوّاب. لبنان الذي جعل الله ماءه خمراً وجمالَه سحراً، فلا تدري أهو السحر قد خَيّل لك أنك في جنّة الخلد أم هو السُّكْر قد جعلك تحسّ التخلّص من هذا العالَم الغارق في الدم الملتحف باللهَب (نُشر هذا الفصل سنة 1940 في شدّة وحدّة الحرب العالَمية الثانية).
لبنان الذي لا تدري أي شيء فيه هو أجمل: أذُراه التي تبرقعَت ببراقع الثلج فلم تبصرها عينُ حيّ من يوم خلق الله العالَم، فعزّ بالحجاب جمالها حين ذلّ بالسفور الجمال، أم سفوحه الحالِيَة بالصنوبر، أم القرى المنثورة على تلك السفوح، أم ينابيعه المتفجّرة تفجّر الحكمة على لسان نبيّ، أم أوديته الملتوية التواء الفكرة في رأس أديب لا يملك البيان عنها؟
وأيّه هو أبهى: أصباح بْلُودان أم ظهيرة الشّاغور وحمّانا، أم الأصيل الفاتن في ربا صوفر أم المساء الوادع في خليج جونية، أم مناجاة الملائكة في قمّة جبل الشيخ أم مسامرة الزمان عن «الأرْز» أو في بعلَبَكّ؟ أم أنت تؤثر هذا كله وتتمنّى لو شملته بنظرة منك واحدة ثم ضممته إليك، ثم شددت عليه حتى أفنيته فيك أو فنيت أنت فيه؟
تعالوا سائلوا سفوحه وذُراه وأوديته ورُباه كم شهدت من فصول هذه القصّة الخالدة، قصّة الحبّ، وكم أريقَ على صخوره من الحَيَوات والعواطف، يُطِلْ جوابَكم لو ملك الكلام.
* * *
يا أصدقائي القُرّاء، أستأذنكم أن أشير إلى بعض كتبي وآخذ من كلّ كتاب فقرة أو فقرات، أمثل بها عليه وأعرض بها أسلوبه، ثم أعود إلى قِصّتي في المحكمة.
وإن أمامي -إن صبر عليّ القُرّاء وصبر الناشران الفاضلان- مرحلة طويلة، فأنا لا أزال في ذكرياتي قبل أربعين سنة. وكم مرّ عليّ في هذه السنين الأربعين وعلى بلدي وأمتي من أحداث، لو عرضتُ ما بقي في ذهني منها لامتدّت الذكريات مئة حلقة أخرى! فامتحنا -يا أخوَيّ الكريمَين الأستاذَين هشام ومحمد- نفسيكما ومبلغ احتمالكما: هل تصبران عليّ ويصبر القُرّاء، وإن صبرتم فهل يمهلني القدَر حتى أُتِمّها؟ أنا إلى الآن لا أزال في الرقراق، ما بلغت اللجّ ولا بعدت عن الشاطئ، وإنّ أمامي لبحراً من الذكريات يموج بالأخبار وبالأحداث، فهل أوغل فيه وأستمرّ في عرض ذكرياتي، أم أقف هنا لأنني أمللت القُرّاء واستنفدت صبر الناشرَين؟ (1)
* * *
(1) حين ظهرت هذه الحلقة في الجريدة عقّب الناشران بما يأتي: "يرحّب الناشران كل الترحيب باستمرار فضيلة الأستاذ علي الطنطاوي في كتابة ذكرياته بأسلوبه البديع الفريد. وليس الأمر أمر «صبر» على=
_________
= طول الذكريات، بل إن الناشرَين سعيدان جداً بأن تكون «الشرق الأوسط» هي الصحيفة التي يخصّها أستاذنا الطنطاوي بذكرياته. وهما يعرفان أن قُرّاء «الشرق الأوسط» مثلهما حريصون كذلك على استمرار هذه الذكريات. وتأكيداً لذلك فهما يطرحان سؤال الأستاذ الطنطاوي على القُرّاء، وهما متأكّدان من تجاوُب القُرّاء معهما وإصرارهم على مواصلة الأستاذ الطنطاوي كتابة ذكرياته" (مجاهد).