الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-147 -
حديث يوم الجلاء عن سوريا
رَبْعُ الشآمِ، أعامرٌ أمْ خالي؟
…
اليومَ عيدُكَ عيدُ الاستقلالِ
هذا البيت مطلع قصيدة للأستاذ العقّاد في يوم الجلاء، أخطرَه على بالي الآن أني أكتب عن هذا اليوم. ولست أدري ما الذي زين للعقاد -غفر الله له- أن يفتتح به قصيدة في التهنئة، وهو لا يبعث في النفس شعور التهاني بل أشجان العزاء، وإني لأتخيّل هذا البيت في مطلع القصيدة كالنائحة في العرس أو الضاحكة في المأتم! وأتصوّر أن الأستاذ حسب الشام خلت من سُكّانها أو أنهم نسوا أيام انتصارهم وموطن فخارهم، فهو يذكّرهم بها (1).
وربما اقترنَت الذكرى أحياناً بمشهد تراه العين، أو نغمة تسمعها الأذن، أو رائحة يشمّها الأنف، أو لفحة حرّ أو لذعة برد
…
وأنا رجل ذاكرته بصرية لا سمعية، ولكن بعض النغمات يرتبط عندي ببعض الذكريات، فأنا لا أسمع الأغنية التي تشدو بها أم كلثوم والتي فيها «مينْ في حُبّه شافْ هَنا زيّي أنا» إلاّ كرّت
(1) بل لأن الأستاذ العقّاد لم يكن يوماً شاعراً مطبوعاً إلاّ عند من طبع الله على ذوقه.
بي الأيام راجعة فرأيت نفسي في سلمية سنة 1931 لمّا أُرسِلت إليها معلّماً في مدرستها، ولا أسمع قصيدة «يا شام» تغنّيها فيروز إلاّ عُدت إلى أيام الانفصال، ولا أسمع «ليلة الوداع» لمحمد عبد الوهاب إلاّ عُدت إلى سنة 1937 حين كنت أدرّس في بيروت وأُوفِدَ أخي عبد الغني إلى باريس ليأتي منها بالدكتوراة في الرياضيات.
وقد يسمع غيري هذه الأغاني فلا تثير في نفسه ذكرى. يقول هيراقليط الفيلسوف اليوناني: "لو أن مئة شخص شهدوا مشهداً واحداً لأثار في نفوسهم مئة إحساس". أو لعلّ القائل فيلسوف يوناني آخر، فما يهمّني الآن تعيين القائل ولكن يهمّني اللفظ المَقول.
وقد أسمع أغنية عامّية اللفظ سوقية الأسلوب فتفتح عليّ باب التخيّل، فأرى فيها عالَماً لا يراه غيري مِمّن يسمعها. كهذه الأغنية التي تقول «ما في حدا، لا تندهي ما في حدا» ، إنها تملأ صدري حزناً وقلبي بالشجن، حين أتصوّر من يأتي دار أحِبّته الذين استودعهم قلبه وأولاهم حُبّه، فناداهم كما كان ينادي، فإذا الدار خلاء ما فيها أحد يردّ النداء. ويتوارد على ذهني حين سماعها كلّ ما أحفظ في بكاء الديار ومخاطبة الأطلال.
لذلك يرنّ في ذهني كلّما سمعت هذا البيت للأستاذ العقّاد رحمه الله صدى الأغنية المشهورة، التي وُلدَت بعدها آلاف الأغاني وماتت وهي تدور على ألسنة الناس تنتقل من الأجداد إلى الأحفاد، أغنية:«الحنّة الحنّة يا قطر الندى» . وأنتم تعرفون أن
يوم الحنّاء كان من الأيام الحلوة التي تسبق يوم العرس، فتكون كالتمهيد له والمقدّمة بين يديه. تصوّروا أن قطر الندى غفلَت عنه فجاء من ينبّهها إليه ويبعث فرحتها به، فلما ماتت عادوا يدعونها إلى يوم الحنّاء. وهل توقظ الذكرى من أَوْدى به الرّدى؟ ذلك هو مبعث شَجَني حين أسمع مثل هذه الأغنية.
وزعم بعض الباحثين أن قطر الندى في الأغنية هي قطر الندى بنت خُمارويه بن أحمد بن طولون لمّا زُفّت إلى الخليفة المعتضد، فإن صحّ هذا يكون عمرها أكثر من ألف سنة. وأنا هنا ناقل لست بقائل، فلا تطالبوني بالدليل فما لديّ على ما نقلت دليل.
* * *
وبعد، هل سمعتم -يا أيها القُرّاء- بالذي يمشي في نومه؟ أنا ذلك الرجل. لقد مشيت وراء فكرة لاحت لي فتركت طريقي وابتعدت عن غايتي، فعفوكم عني وسامحوني. كنت أتكلّم عن يوم الجلاء، يوم 17 نيسان (أبريل). يسأل العقّاد عن رَبع الشام هل هو عامر أم هو خالٍ؟ إن الشام يا أستاذ ما خلا من أهله، ولكن خلا مِمّن يعرف حقاً ما يوم الجلاء.
تحت يدي الآن عدد يوم الإثنين الرابع من جمادى الآخرة سنة 1365 من مجلّة «الرسالة» . في هذا العدد وفي الذي بعده مقالتان لي عن يوم الجلاء، فأنا أقرؤهما وأسائل نفسي: ماذا يحسّ الشباب الذين لم يدركوا تلك الأيام حين قراءتهما؟ إنهم يقرؤونهما كما يقرؤون قطعة أدبية، كل ما يهمّهم منها نقد أسلوبها وكشف محاسنها وعيوبها، ثم لا تقرع في قلوبهم وتراً حياً ولا تبعث في
نفوسهم ذكرى، إلاّ ذكرى ما سمعوه وما قرؤوه، وهم ما عاشوه ولا شهدوه.
إنما يعرفه مَن كان هذا اليوم أقصى أمانيه وكان أبعد مراميه، نعرفه نحن إذ مشينا حتى وصلنا إليه خمساً وعشرين سنة وتسعة أشهر، لا نمشي في طريق مزفَّت تتخلّله الأشجار وتحفّ به الأوراد والأزهار، بل كنّا نقحم فيه لهب النار، النار التي أشعلها الفرنسيون في دورنا ومساكننا، ونخوض فيه بِرَك الدم الذي أساله الفرنسيون من عروقنا، نطأ فيه على أجساد الشهداء من أبنائنا وإخواننا، لا نمشي على وقع الطبول العسكرية والمزامير، بل على أصوات الأمهات الثاكلات أو بكاء الأولاد الذين أودت بآبائهم وأمهاتهم قنابل المتحضّرين الذين انتُدبوا علينا ليلقّنونا دروس الحضارة، فإذا هي ثلاثة دروس: درس في الإلحاد، ودرس في الفساد، ودرس في تخريب البلاد ونهب ثروات العباد.
* * *
كانت زوجة أبي لهب، حمّالة الحطب، تجمعه بشوكه فتلقيه في طريق رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكن هؤلاء الذين انتُدبوا ليمدّنونا كانوا شراً منها: هي تحمل ما تُطيق حمله يداها، وهؤلاء نقلوه بكل وسيلة نقل قدروا عليها.
ما كان أهل الشام قبلهم كالصحابة الأوّلين ولا كانوا كالتابعين، وكان قد دخل عليهم في دينهم كثير من البِدَع والمُحدَثات، ولكن ما كان فيهم مُلحِد يُظهِر إلحاده ولا سافرة تُعلِن سفورها ولا عاصٍ يجاهر بمعصيته، فضلاً عن أن يفخر بها
أو «يفلسفها» ويدافع عنها. وكانت النصرانيات واليهوديات من أهل الشام يلبسن قبل الحرب الأولى الملاءات الساترات كالمسلمات، وكلّ ما عندهن أنهن يكشفن الوجوه ويمشين سافرات، أذكر ذلك وأنا صغير.
وجاءت مرة وكيلةُ ثانوية البنات إلى المدرسة سافرة، فأغلقَت دمشق كلها حوانيتَها وخرج أهلوها محتجّين متظاهرين، حتى روّعوا الحكومة فأمرتها بالحجاب وأوقعَت عليها العقاب، مع أنها لم تكشف إلاّ وجهها، ومع أن أباها كان وزيراً وعالِماً جليلاً وكان أستاذاً لنا.
ومرّت الأيام. وجئت هذه المدرسة أُلقي فيها دروساً إضافية، وأنا قاضي دمشق سنة 1949. وكان يدرّس فيها شيخنا الشيخ محمد بهجة البيطار، فسمعت مرة صوتاً من ساحة المدرسة فتلفّتّ أنظر من النافذة، فرأيت مشهداً ما كنت أتصور أن يكون في ملهى فضلاً عن مدرسة، وهو أن طالبات أحد الفصول (وكلّهن كبيرات بالغات) قد استلقَين على ظهورهن في درس الرياضة ورفعن أرجلهن حتى بدت أفخاذهن عن آخرها.
وكتبت في إنكار ذلك مقالة وعرضت له في أحاديث في الإذاعة، واجتمع رأي الشيخ ورأيي على أن بقاءنا في المدرسة بعد هذا لا يجوز. وكان ذلك آخر يوم من السنة المدرسية فلم أعُد إليها السنة التي بعدها.
ألقى المنتدِبون ما حملوه من الشوك في طرقنا، ثم لم يكفِهم ذلك حتى أوحى إليهم شيطانهم بما هو أدهى منه وأمرّ وأبلغ في
الأذى وفي الضرّ، فألقوا بذوره في أرضنا، فلما نبت ملأ بلدنا وأصاب أذى شوكه أبناءنا وبناتنا؛ فكان هذا الاستعمار الجديد شراً من الاستعمار القديم، لأن ذلك يمثّله قوم ليسوا منّا ولا دينهم من ديننا ولا لسانهم من لساننا، وهذا يقوم عليه ويدعمه ويحرسه أبناؤنا.
لذلك تجدون في كثير من البلدان أن الذي تمّ بعد جلاء جيوش المستعمرين أشنعُ وأفظع وأبشع ممّا كان قبل لمّا كانوا هم الحاكمين. ولست أبرّئهم ولا أدافع عنهم، وكيف وهم الذين غرسوا في أرضنا نبتة الفساد، وكيف وفي مدارسهم وعلى مناهجهم سيّروا أبناءنا وبناتنا في هذا الطريق؟
* * *
ورجعت إلى عددَي «الرسالة» أقرأ من جديد مقالتَيّ المنشورتين فيها من أربعين سنة وأربعين يوماً، فأحسّ كأني أدرت إبرة المسجّل فظهر أمامي فِلْم كامل فيه فصول كثيرة وفي فصوله تاريخ طويل: مسلسل كله مآسٍ وفواجع وبطولات وتضحيات، بدأ يوم دفنّا استقلالنا الوليد في وادي ميسلون ورجعنا كما يرجع الأب الثاكل من جنازة ابنه الوحيد وقد ذهب من يديه كل شيء.
ولكنا ما قعدنا، ما استلقينا على كراسينا، ولا هجعنا في سُرُرنا فنمنا نحلم بالجلاء، ثم صحونا فإذا الحلم قد صار حقيقة والأماني غدت وقائع
…
لا، ولكنْ جالَدْنا وجاهدنا، على ضعفنا وقلّتنا وقوّة عدوّنا وكثرة جنده ووفرة عتاده. رأينا أياماً سوداً وليالي طوالاً لم يكتحل فيها جَفنٌ برقاد، وصبرنا على ما لا تصبر على
أكثر منه رواسي الجبال، فكان بعد الصبر النصر وبعد العناء والبلاء كان الجلاء. لذلك قلت في تلك المقالة في مجلّة «الرسالة» (1):
يا أيها الذين عادوا من ميسلون بقلوب كسيرة، ونظروا إلى موكب الغاصب بعيون دامعة، وحملوا الظلم بأعصاب صابرة، وشاهدوا جبروت المحتلّ وطغيانه ووحشيته، والصرح الذي أقاموه على عزائم سواعدهم وسقوه دماء قلوبهم هوى، والبلاد التي براها الله واحدة قُسمت فجُعلت دولاً، والوطني المخلص نُفي أو سُجن أو حُكم عليه ظلماً بالموت شنقاً، والخائن الملعون قد أُعطِي الرُّتَب والذهب
…
ويا أيها الذين خرجوا على الظلم وعرّضوا أرواحهم للموت على شعفات الصخر من جبال اللاذقية إلى جبل العرب، وعلى السهول الفيح من أداني حمص إلى أعالي حلب، وعلى ثرى الجنّات من أرض الغوطة؛ لم يخشوا فرنسا حين كانت تخشاها الدول ويرهب بأسها الأقوياء.
ويا أيها الذين نشؤوا في عهد الانتداب، فرأوا في كلّ مدرسة مستشاراً فرنسياً هو الآمر الناهي ومديرُ المدرسة تمثال، وفي كل وزارة مستشاراً هو الفاعل التارك والوزيرُ صنم، وفي كل منطقة مستشاراً هو الحاكم وهو المنفّذ وهو الأمير، وفي وسط المدن مراكز للعدوّ وعلى الجبال قلاعاً له قد وجّهَت مدافعها إلينا، إلى بلدنا، لتضربنا إذا أبينا الظلم أو طالبنا بحقّنا لا إلى الفضاء لتردّ عنّا الأعداء. ويا أيها الشهداء الذين قضوا بنيران العدوّ الباغي في
(1) انظر مقالة «الجلاء عن دمشق» بجزأيها الأول والثاني، وهي في كتاب «دمشق» (مجاهد).
سبيل الله ثم في سبيل الحُرّية، هل تسمع أرواحكم دعائي يا أيها الشهداء؟ يا معشر العرب في قاصٍ من الأرض ودانٍ.
إنّا نحمد الله إليكم، تبارك اسمه وجلّ جلاله، فقد أكمل نعمته وأتمّ مِنّته، وأخرج الفرنسيين من الشام كله فلم يبقَ منهم أحد.
اذهبوا الآن إلى المزّة وادخلوا القلعة (في دمشق)، وأمّوا الثكنة (القشلة) الحميدية فإنه لا يمنعكم جندي وجهه يقطع الرزق ولا يردّكم ضابط فرنسي ولا تحجبكم سلك (جمع سلكة) ذات أشواك. وسيروا في طريق الصالحية، فادخلوا قصر المفوَّض السامي الذي كان يتنَزّل منه وحي الضلال على قلوب الخوَنة المارقين من طُلاّب الحكم وعُشّاق الكراسي، فيكونون لربه عبيداً أذلّة وعلى أبناء بلدهم فراعنة مستكبرين. ولِجُوا قصر المندوب الذي كان ينصبّ منه أمس الموت الزؤام على من يدنو من حماه، فاسرحوا وامرحوا حيث شئتم فالبلاد بلادكم؛ لا فرنسي ولا إنكليزي، ولا طلياني ولا روسي، ولا أشقر ولا أسود.
ألا لا «مفوض سامي» اليوم ولا مندوب. لقد ذهبوا جميعاً، وما تركوا من جنّات زرعوها ولا عيون، ما تركوا إلاّ بيوتاً لنا كانت عامرة فجعلها حكمهم خراباً، وجناناً صيّروها مقابر، وضمائر نفر منّا كانت نقيّة فدنّسوها
…
ذهبوا وما أورثونا خيراً قط.
هذا قصر المفوض السامي الذي كان بالأمس يزعم أنه إله الأرض، تعالى الله ما من إله غيره. وكان كلّما نزَت في رأسه نزوة من حماقة جعلها قانوناً وحمل الناس عليها بسنان البندقية وفم
المدفع: قوانين ينقض بعضها بعضاً وتلعن أواخرها الأوالي (أي الأوائل)، ولا يحصيها عالِم ولا جاهل: "إن المفوض بناء وبناء
…
يقرّر تعديل الجملة الثانية من الفقرة الأخيرة من المادّة 18 من القرار 1105 ل/ر
…
" فلا يعرف جِنّي ولا إنسي ما هذه الفقرة ولا ما هذه المادّة ولا ما هذا القرار! لقد ذهب وأورثنا عشرة آلاف قرار مثل هذا. ذلك هو التشريع الفرنسي الغربي الذي يحسبه القردة المقلّدون أحسن من شرع ربنا، لأن عليه «الدمغة» الأوربّية.
اليوم يوم الجلاء.
اليوم يبكي رجال منّا كانوا يأكلون الطيّبات وينامون على ريش النعام من بيع ضمائرهم للأجنبي، على حين كان الناس ينامون على التراب ويأكلون الخبز اليابس. اليوم يبكي رجال حملتهم الخيانة فوضعتهم على مقاعد العزّ في أبهاء الحكومة فصاروا من كبار الموظفين. اليوم يبكي رجال كانت لهم في سجلاّت «الاستخبارات» أسماء فصاروا اليوم أيتاماً كالجِراء (جمع جرو) في المزبلة بعدما مات الكلب.
هؤلاء يبكون، ولكن الشعب كله يضحك اليوم وتضحك معه الدنيا. اليوم يضحك البلد بالزينات والأعلام ويضحك الليل بالأضواء والمصابيح. اليوم يرى الشاميون الفرحة الكبرى التي تنقش ذكراها على قلوب الأطفال والشباب فلا تُمحى أبداً، وتكون لقلوب الكهول والشيوخ شباباً جديداً كما كانت الفجيعة في ميسلون شيخوخة مبكّرة لهذه القلوب التي شابت من الهول قبل الأوان.
(إلى أن قلت): لقد ضاع حلمك يا غورو وتبدّد، وخابت
أمانيك يا ديغول، وحقّق الله الأمنية التي كان يجيش بها صدر يوسف العظمة شهيد ميسلون. وسيحقّق الله أماني سعد في مصر، وعبد الكريم الخطابي في المغرب، وعمر المختار في طرابلس، وورثة عبد القادر في الجزائر، وجناح في الهند
…
ولِمَ لا؟ وأهل سوريا التي نعمت بالجلاء لا يزيدون إلاّ قليلاً عن سُكّان القاهرة اليوم، والعرب كلهم بدولهم وحكوماتهم أقلّ من مسلمي الهند.
فتيهي يا دمشق واعتزّي، فلقد كنت عاصمة العرب في أوّل الدهر حين أنشئ فيك المُلك الضخم وأقيمت الدولة العظمى ورسا عرش بني أميّة في ظلّ راية الإسلام على ثراك، فطاولَت فروعُه النجمَ وأظلّت المشرق والمغرب وطلع على الدنيا مجداً ورخاء وأمناً، وعدتِ اليوم عاصمة العرب حين كنت أول بلد عربي خلص لأهله بعد الاحتلال، وكنت أول بلد عربي جلا عنه الأجنبي بعد أن غصب أرضه واستبدّ بحكمها، وأوّل بلد عربي أبطل الامتيازات الأجنبية التي كانت وصمة عار وشارة ذلّ وصَغار (والتي لا يعرف أكثر القُرّاء اليوم ما هي)، وأوّل بلد عربي ألغى الألقاب التي لم يعرفها العرب، إذ كان أصغر واحد فيهم ينادي عُمَرَ باسمه (ياعمر) وعُمَر يحكم إحدى عشرة دولة من دول هذه الأيام!
في عمر الإنسان ساعات هي العمر، تفنى الليالي وتنقضي الأعمار وتخلد هذه الساعات ذكرى في قلوب البنين. وفي تاريخ الأمم أيام هي التاريخ، تمرّ السنون متحدّرة في درك الماضي مسرعة إلى هوّة النسيان، وتبقى هذه الأيام جديدة لا تبلى، دانية لا تُنسى، مُشرِقة لا تغيب.
وللإنسانية أيام هي ركن الإنسانية، لولاها ما قام لها بنيان ولا ثبت لها وجود. أيام قد عمّت بركاتها وشملَت خيراتها البشر جميعاً. أيام هي ينابيع الخير والحقّ والعدل في بيداء الزمان، وهي المفخرة لأمة أرادت الفخار. وما أكثر هذه الأيام الغُرّ في تاريخنا!
وقد زعم العُداة أننا فرحنا به هذا الفرح لأننا أُعطِينا ما لم نكن نحلم به، كالفقير المسكين إذ يطلب قرشاً فيُمنَح ديناراً. كلاّ، إننا لم نأخذ إلاّ الأقلّ من حقنا. إن الجلاء ليس عجباً وإنما كان العجب العجاب أن يكون في ديار الإسلام احتلال. العجب ألاّ نحكم نحن الأرض وقد خُلقنا من أصلاب من حكموها وورثنا القرآن الذي دانت لهم به الأرض.
زعموا أن هذا الجلاء قد أتى بلا تعب وأننا لم نُرجف عليه بِخَيلٍ ولا رِكاب، ولولا أنها جاءت به مصلحة الإنكليز ما جاء! كذبوا والله. أو فليخبروني: أجاهدَت أمّة على ضعفها وقِلّة عددها وعلى كثرة عدوّها وقوّته مثل ما جاهدنا؟ في مصر العزيزة سبعة عشر مليوناً، وفي أندونيسيا سبعون وفي الهند مئة (كان هذا سنة كتابة المقال قبل أربعين سنة)، ونحن أهل الشام لا نعدّ كلّنا -بَدْوُنا وحضَرنا، رجالنا ونساؤنا- أكثر من ثلاثة ملايين، وقد ابتُلينا بفرنسا ذات الطيش والحمق والملايين الأربعين والعدد والآفات. فاسألوا الفرنسيين: هل أرحناهم يوماً واحداً من ميسلون إلى يوم الجلاء؟ أما ثرنا على فرنسا وكسرنا جيوشها في خمسة مواقع؟ سلوا الجنرال ميشو القائد الذي حارب الألمان عند المارْن: أما أباد حملتَه على بكرة أبيها مجاهدون منّا لم يتعلّموا في مدرسة
حربية ولا درسوا فنون القتال، وغنمنا عتادها كلّه فلم يعُد من الحملة بعد معركة المزرعة إلاّ مئتان وخمسون جندياً فقط. سلوا الغوطة عن معارك الزور وعمّا صنع حسن الخراط؟ سلوا النبك وجبالها وحماة وسهولها، وجنرالات الفرنسيين عن بطولة قُوّادنا الأبطال: سعيد العاص وسلطان الأطرش ومحمد الأشمر وعشرات وعشرات، إن لم أعدّهم اليوم فما يجهلهم أحد.
أما ضرب الفرنسيون أقدم مدن الأرض العامرة بالقنابل مرتين في عشرين سنة؟ أما أحرقوا حيّ الميدان وهو ثلث دمشق ودمّروه، فلم ينهض من كبوته إلى اليوم (أي إلى يوم كتابة المقال)؟ أما أضرموا النار في جرمانة والمنيحة (المليحة) وزبدين وداريا وتلّ مسكين ودير سلمان وقُرى أخرى لا يُحصيها من كثرتها العدّ؟
بل سلوا شوارع دمشق وساحاتها عن إضراباتها ومعاركها ومظاهراتها. أما لبثَت في مطلع سنة 1936 خمسين يوماً مُضرِبة لا تجد فيها حانوتاً واحداً مفتوحاً، مقفرة أسواقها كأنها موسكو حين دخلها نابليون؟ فتعطّلَت تجارة التاجر وصناعة الصانع، وعاش هذا الشعب على الخبز، ثم لم يرتفع صوت واحد بشكوى ولم يفكر رجل أو امرأة أو طفل بتذمّر أو ضجر
…
إلى آخر المقال، فالمقال طويل.
* * *
وسيقول بعض القُرّاء لقد تركناك في الهند وباكستان، فما بالك عدت إلى الشام والحديث عن الشام؟
ألا يقطع المرء رحلته ويعود إلى بلده إن شدّه إليها خبر أو دعاه داعٍ؟ وهل أكبر من هذا الخبر، خبر الجلاء في يوم ذكرى الجلاء؟ هذا هو عذري إن قطعت الكلام عن رحلتي ورجعت أتحدّث عن بلدي. على أن هذا الحديث لم يتمّ وله بقايا، سأُدلي بها وأعود إلى الهند وباكستان فأتحدث عنهما.
* * *