الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-141 -
بغداد، المحطّة الأولى
في رحلتنا من أجل فلسطين
لوحة جميلة، فيها صور مدن وناس ومشاهد مختلفات، وفيها من غرائب العادات ما يستهوي النفس ويُثير الرغبة في الاطّلاع، ولكن ثلاثين سنة مرّت عليها محَت خطوطها إلاّ العريضةَ منها، وطمسَت ألوانها إلاّ ملامحَ منها تدلّ عليها.
وهذه الخطوط العريضة وهذه الملامح العامّة هي ما جئت أعرضه عليكم اليوم على استحياء.
رحلة امتدّت حتى عدلَت ربع محيط الأرض، ولكنها بدأت من هذه البادية: بادية الشام التي قطعتها ذاهباً وآيِباً، من دمشق إلى بغداد ثم من بغداد إلى دمشق، مرات لا أحصيها
…
قولوا عشراً، قولوا أربع عشرة، إنكم لا تكونون مبالغين، ولربّما كانت أكثر من ذلك.
إذا انتهيت من مرحلة عُدت فابتدأت من حيث انتهيت، فتكون النهاية بداية والبداية نهاية، والدولاب يدور والعجلة
تمشي، كما تمضي أيام العمر:
يَومٌ يَمُرّ وليلٌ يكِرُّ
…
وفجرٌ يعودُ بيوم جَديدْ
ثم يصير الجديد قديماً والعمر ينقضي بينهما، والأجل يقترب، حتى يأتي على المرء مساء لا صباح له أو صباح ما له من مساء.
نغدو ونروح والبادية لا تحسّ بمن غدا أو راح؛ يتبدّل الناس وهي باقية على ما كانت عليه، حتى يجيء عليها هي أيضاً يوم تُبدَّل فيه الأرض غير الأرض والسماوات، فيموت كل حيّ ويسكن كل متحرّك، ويعود إلى التراب كُلّ ما فوق التراب، ولا يبقى إلاّ وجه ربك ذو الجلال والإكرام. هنالك ينادي المنادي: لِمَنِ المُلْكُ اليوم؟ فيجيب المجيب: لله الواحِدِ القَهّار.
ثم نعود بشراً نخرج من التراب كما بدأنا أوّل مرة من التراب، ويرجع حياً من مات ويصير حاضراً يرى التاريخ الذي كان ماضياً يُروى، ويجتمع البشر في صعيد الحشر، يُساقون جميعاً للحساب بين يدَي ربّ الأرباب.
* * *
إن رأيتموني خرجت عن موضوع الرحلة فلا تثريب عليّ، فإن هذه الرحلة التي خرجتُ إليها هي التي لا بُدّ منها ولا مَعدى لنا عنها، يذكرها العاقل أبداً ويشكر من يذكّره بها، وينساها الأحمق الجاهل ويؤذيه أن يأتي مَن يحدّثه حديثها، أو يسأله ماذا أَعَدّ لها وماذا عمل في دنياه التي جعلها الله مزرعة لها، يحصد كلٌّ ما زرع،
فلا يقطف من الحطب العنب ولا من الشوك الرطَب.
ورُبّ قائل يقول لي: إنك لم تستوفِ الكلام عن المؤتمر؛ لم تصِفْ جلساته ولم تسرد مقرّراته ولم تُفِض في بيان أعماله. وهذا الذي قالوا حقّ، وأنا كتبت منه ما رأيت. كتبت ذكرياتي ولم أكتب تاريخ المؤتمر، كنت فيه ولم أكُن حاضره.
لا تعجبوا من هذا الكلام، فلقد كنت فيه على الهامش أمسّ محيط الدائرة مسّاً، أما الذي كان في مركزها وكان هو قطب المؤتمر، وهو الداعي إليه والساعي لإقامته وهو الذي جمع له المال، وهو الذي يعرف ظواهره ودواخله وباديه وخافيه، فهو رجل اسمه الشيخ محمد محمود الصواف. فاسألوه يُجِبْكم واستكتبوه يكتُبْ لكم، عن المؤتمر وعن الدعوة إلى الإسلام في شباب العراق التي كان له شرف حملها. إن عنده صفحة من تاريخ العراق الحديث، كما أن عند الدكتور معروف الدواليبي صفحة أخرى من تاريخ الشام، فخذوهما منهما وانسخوهما عنهما، قبل أن تفقدوهما وتفتّشوا عنهما فلا تجدوهما.
على أني لن أدع المؤتمر وأسافر قبل أن أذكر بالخير فتية أحسنوا إليّ، فلم يفارقوني ولم يضنّوا عليّ لحظةً أن يؤنِسوني ويُعينوني. كانوا يومئذ فتية كراماً وصاروا الآن أساتذة أعلاماً، لهم كتب ولهم مصنّفات ولهم مآثر ظاهرات، ولهم في الإصلاح أثر وفي الصلاح مكان: عصام العطار وزهير الشاويش وأديب صالح، وصحب لهم مثلهم وإن لم أذكرهم الآن كذكري إياهم.
أمّا عصام فقد عرفتم مكانه مني وصِلَته بي، وأمّا زهير
فليس في المكانة دونه وهو في الصلة مثله. وهو ابنُ نَفْسِه، علّمَها وزكّاها. قرأ الكتب وصحب العلماء، وفتح عينيه على الحياة وأذنيه للعلم، وأمدّته ذاكرة قلّ نظيرها وذكاء ندر مثيله، ثم أقبل على طبع الكتب وتصحيحها والرجوع عند التصحيح إلى أصولها التي أخذ مؤلّفوها منها. فبلغ كلّ منهما ما ترونه منه الآن.
* * *
خرجنا من عمان أنا والأستاذ الصواف يوم الجمعة بعد الصلاة يوم 22/ 1/1954 في سيارة صغيرة لصديق من أصدقاء الصواف. ولئن كان السفر بالطيارة أسرع والسفر بالقطار أمتع، فإنك حين تسافر بالسيارة الصغيرة، ولا سيما إن كانت سيارة رفيق موافق، تحسّ بالحُرّية والانطلاق. تقف السيارة بك متى شئت وتنزل منها متى أردت، لا كراكب الطيارة الذي يمضي طريقه كالمحبوس في غرفة واحدة وكالمصفَّد بالأغلال.
لقد كتبت عن هذه السفرة مقالة طويلة. لكن أين هو الذي يعلم مكان المقالة؟ وأنّى لي الوصول إليها الآن؟ على أن الصور التي أودعتها المقالة ماثلة أمامي والأفكار التي وضعتها فيها محفوظة في ذاكرتي. مشينا في رحلتنا مع خطّ النفط (البترول)، فوجدناهم قد أقاموا محطّات كأنها قُرى صغيرة سَمّوها بحروف مرقّمة بأرقام (H4) و (H5)، ورأينا في المحطّة بيوتاً مثل بيوتهم في بلادهم جمعوا فيها الراحة من أطرافها، ففيها الفراش الوثير، والطعام النافع اللذيذ، والوسائل إلى دفع الحَرّ والقَرّ، والكتب والمجلاّت، والمجامع والملاعب، وفيها كلّ ما يكون في المدينة
الكُبرى. والمرء لا يشعر بالاطمئنان والأمان إلاّ في بيته. ولا أعجب مثل عجبي مِن الذين يَدْعون المرأة إلى الخروج من بيتها، فتجول في الشوارع أو تعمل في المصانع أو تخوض المعارك والمعامع. يقولون لنا محتجّين علينا: هل تريدون للمرأة السجن في دارها؟
ما أجهلكم وما أضأل بالحياة معرفتكم حين تسمّون البيت سجناً! لقد طالما نزلت في رحلاتي الكثيرة بلاداً لم أجد فيها فندقاً آوي إليه أو نُزُلاً أبيت فيه، فشعرت أن البلد كلّه -على سعته- هو السجن إن لم يكن لي فيه دار، وأن الدار، إن كانت داري، هي البلد.
لقد عرف الإنكليز هذه الحقيقة فنقلوا بيوتهم إلى هذه الصحراء، فأقاموها فيها أو أقاموا فيها مثلها حتى لا يحسّوا الغربة عن منازلهم.
ومن الصور التي بقيَت في ذهني إلى الآن أن البدوي الذي رأى السيارة أول مرة فهرب منها وحسب أن الجنّ تسيّرها، والذي كان يجزع من الرادّ (الراديو) الذي تغنّي فيه العفاريت ويرتجف قلبه هلعاً من المحرّك (الموتور) الذي تديره يد مارد لا يُرى، صار يسوق اليوم السيارة التي كان يهرب منها ويُصلِحها هو إن فسدت، ويفكّك أجزاء الرادّ ويجمّعها، ويحرّك (الموتور) ويعرف كيف يدور. عرف الحقيقة فبطل السحر، ورأى الغربيَّ مثلَه فلم يعُد يخشاه ولا يجبن أمامه.
وكنّا نمرّ على مخافر الجيش العربي الأردني. وهم يعيشون في هذه الصحراء بما ورثوه من أخلاق الصحراء، ومن أخلاقها
الصبر والجلَد والاحتمال والصراحة والبعد عن النفاق. ولقد مررنا بأحد المخافر فكلّفونا أن نحمل صرّة صغيرة وقربة فيها ماء. قلنا: لمن هذه؟ قالوا: للولد دهّام. قلنا: وأين هو؟ قالوا: جِدّام (أي قدام). فسرنا ثلاثين كيلاً (كيلومتراً) حتى وجدناه وحده في خيمة قائمة في الصحراء يحرس الحدود، وإلى جانبه على مرمى حجر منه خيمة مثلها تتّصل بها خيمات. وإذا في الصرّة قليل من التمر وفي القربة شيء من الماء، وإذا هو يعيش بهذا التمر وهذا الماء يومه كلّه.
يا أيها القُرّاء، هذه أخلاق الصحراء، فثقوا بأنكم لا تزالون أقوياء ما دمتم متمسّكين بها، تجمعون إلى فضائلها فضيلةَ العلم والمعرفة بأسرار الفكر، فما ضَعُفَ العرب إلاّ حينما فقدوا أخلاق الصحراء.
ولقد وقع مثل ذلك لغيرهم. هذا جيش هاني بعل (هانيبال) القرطاجي (القرطاجنّي) الفينيقي الذي وضع رأسه في رأس روما أيام قوّتها وعظمتها، والذي حاربها فانتصف منها، والذي صنع ما لم يصنعه قبله أحد حين صعد جبال الألب بجنوده ودوابّه وأثقاله فانقضّ عليها من علٍ انقضاضاً. لقد قلّده في ذلك بعد دهر من الزمان نابليون حين صنع مثله، فهبط على النمساويين فظفر ذلك الظفر المؤزّر. فلما استقرّ جنود هاني بعل في إيطاليا وذاقوا نعيم الحضارة سَرَت إليهم رخاوتها ومشى إليهم ضعفها، وأضاعوا أخلاقهم الأولى فغُلبوا على أمرهم.
وقريب من ذلك ما كان سيقع لجنود ابن تاشفين لو أنّهم
عاشوا في الأندلس، ولكن الله نبّهه فعاد بهم من حيث جاء، وعصمهم من فتنة هذه الحضارة الرخوة الضعيفة.
ورحم الله شيخنا الرافعي إذ قال في نشيده الإسلامي الذي لم يُنظَم مثله:
إنما الإسلامُ في الصّحرا امتهَدْ
…
لِيَجيءَ كلُّ مسلمٍ أسدْ
ومن أعجب ما رأيت في هذه الرحلة (وما لا أزال أذكره إلى الآن) أنني سمعت وأنا في قلب الصحراء حديث علي الطنطاوي الذي كان حدّث به في غرفة من دار الإذاعة في شارع جمال باشا في دمشق قبل أسبوعين من ذلك التاريخ. سجّلته في الشام وسمعته بعد ذلك في الصحراء، أفلا تعجبون من ذلك؟
لو قيل لأكبر علماء الأرض قبل مئة سنة إن هذا سيكون لَجُنّ أو لَحَسِبَ القائل مجنوناً. ونحن لو سمعنا بما سيكون من العجائب بعد مئة سنة لصرنا كلّنا مجانين. هذا ونحن في الدنيا، فكيف بما سيكون في الآخرة؟
* * *
ووصلنا الرطبة في آخر النهار. ولقد مررت بالرطبة مرات لست أحصيها، حين ذهبت إلى بغداد أوّل مرة وحين رجعت منها في عطلة الصيف، وحين عدت إليها في السنة التي بعدها مرات ومرات لم أعُد أعرف عددها.
كانت الرطبة يومئذ محطّة سيارات ومركزاً للجوازات ولا شيء وراء ذلك، فرأيتها هذه المرة (1954) قد صارت قرية فيها
زرع وفيها بساتين. ولقد حدّثني مدير الناحية عن أماني الحكومة فيها وقال لي: إنك ستراها بعد عشرين سنة أخرى مدينة هي جنّة الصحراء، وستمرّ بها وستكتب عنها. فقلت له: ولكن هل يُقدَّر لي أن أعيش حتى أراها؟ وما أصنع برؤيتها والكتابة عنها وأنا يومئذ شيخ على أبواب السبعين هَمُّه -إن عقل- الاستعداد للقاء ربه والعمل لآخرته؟
هذا ما قلته وكتبته في تلك السنة، وأنا أكتب هذه السطور الآن لا بعد عشرين سنة كما قال المدير، بل بعد ثلاثين، وأنا اليوم لست على أبواب السبعين ولكنني على عتبة الثمانين، فهل عقلت حتى أجعل هَمّي كله الاستعداد للقاء ربي والعمل لآخرتي؟ رَبِّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي، اللهمّ رُدّني إلى صراطك المستقيم واختم لي بالحسنى.
وعدنا نسير وليس مع سيارتنا سيارة أخرى، فهي تضرب وحدها في ظلمات الليل وفي مهامه البادية، ولكننا بحمد الله في أمان.
حتى إذا قارب السحر لمحنا في الأفق مصابيح الرّمادي (ولعلّها هي الأنبار)، ثم وضحَت، ثم ابيضّت حواشي الأفق بالأضواء الساطعة لمشروع مجلس الإعمار الذي كان قائماً يومئذ هنالك. ودخلنا شوارع الرمادي تحت صوب من المطر والريح تعصف فتصيب الوجه والأطراف بمثل لذع السياط، وإذا نحن بفتيان وشُبّان ينبعثون من سواد الليل، وأكثرهم بثياب النوم قد وضعوا المعاطف عليها، هجروا فُرُشهم وعافوا دفء بيوتهم
وخرجوا في هذه الساعة ليحيّونا، أو ليحيّوا (على الصحيح) شيخَهم الصوّاف. وكان هذا المشهد أول ما رأيت من ثمار دعوة الصواف في العراق.
عشت في العراق سنين، فلمست في الشباب فتوّة ونشاطاً وهِمّة وعزيمة وقوّة ورجولة، ولكن لم ألمس فيهم مثل هذا التديّن وهذا الإيمان. ولست أدري كيف سرى الخبر بوصولنا في هذا الليل فاجتمع عشرات من الناس. عشرات؟ لقد أخطأت التعبير، بل إن المجتمعين كانوا أكثر من مئة، هجروا فُرُشهم في هذه الليلة الباردة ليستقبلوا شيخهم ومَن مع شيخهم. فكيف لو وصلنا في رَأْد الضحى أو في أَلَق الأصيل؟ وكيف لو جئنا بلداً كبيراً فيه ناس كثير ولم نأت بليدة صغيرة كالرمادي؟
وأخذونا إلى دار من دورهم فكانت جلسة تعارف وتوجيه وسمر، كانت كشفاً لهذا المنجم الزاخر بالتقى والفضيلة والكرم في هذه النفوس الخيّرة. وودّعتهم وكأنني أودّع أصدقاء أو أبناء عرفَتهم روحي من عشر سنين. وكتبت يومئذ أقول: يا شباب الرمادي وياشيبه، عليكم سلام الله وتحيّاته وبارك الله فيكم.
* * *
وسرنا مع الفرات، وهو يسير إلى جنبنا لا يبالي بنا ولا يلتفت إلينا كما كان يسير منذ ملايين السنين. مَن يعرف عمر الفرات حتى يقدّره بالسنوات؟
رأى في سيره أجناساً من البشر اختلفَت سماتهم وتعدّدَت
لغاتهم، ولكنهم جميعاً يمشون على أرض واحدة، فلم يرَ فيهم ناساً هم أقرب الناس إلى الإنسانية وأحقّهم بوصف البشرية وأسماهم نفساً وأطهرهم قلباً مثل الذين جاؤوا من الصحراء ترفرف فوق رؤوسهم رايات محمد ‘.
ومررنا بالفلّوجة، ورأينا من بعيد الحبّانية ومنازل الإنكليز. وتواردَت على الذهن صور لَمّاعة زاهية للنار التي أضرمها مرة رشيد علي الكيلاني ليحرق بها الاستعمار ويبدّد ظلامه، ولكن رياح الشرّ كانت أقوى من لهيبها فما أسرع ما أطفأتها. ودنونا من بغداد فازداد الشوق إلى بغداد:
وأكثرُ ما يكونُ الشوقُ يوماً
…
إذا دنتِ الخيامُ مِن الخيامِ
ثم دخلنا أرباضها وجزنا بمدينة المنصور وبغداد الحديثة، ثم ولجنا المطار وقد دنت طلائع الفجر. واستيقظَت في نفسي الذكريات التي كانت نائمة في جنباتها، ذكريات أيامي في بغداد. ولقد عشت فيها أكثر من ألف يوم، فلو أن لكل يوم ذكرى لكانت في النفس عنها ألف ذكرى.
وكان المخفر خالياً والمراقب وراء بابه يحتمي به من لذعة البرد في هذه الساعة من الليل، فقرعنا عليه الباب فخرج يتلقّانا بالبِشر والترحاب، لا ترى فيه مراقب مكس (جمرك) وموظف جوازات، بل تلقى (كما تلقى في كل بلد عربي، بل كل بلد مسلم حقاً) مضيفاً كريماً يقابل ضيوفاً أحبّة. وتلك هي سلائق العروبة وتلك هي خلائق المسلم.
وصلنا بغداد ومؤذّن الفجر ينادي «حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح» ، فأسرعنا إلى أقرب مسجد فصلّينا فيه مع الجماعة، وبدأنا أيامنا في بغداد بالقيام بين يدي الله.
وكان التعب والإعياء قد بلغ منّا كلّ مبلغ، وصار أقصى مانتمنّى فندقاً نأوي إليه وفراشاً نطرح أجسادنا عليه، وما معنا من أهل البلد إلاّ الصوّاف، ولكنه لا يكاد يعرف فنادقها. ولا أعرف أنا فنادق الشام، وما حاجة ابن البلد إلى الفنادق حتى يعرفها؟ إنما يعرفها القادمون إليها.
تركت الفندقين الكبيرَين لأن النفقات فيهما لا يحملها كيس نقودي، إن كان الدفع عليّ فأنا أعجز عنها، وإن كان الدفع من المؤتمر فأنا أخشى الله أن أنزل فيهما على حساب المؤتمر.
والفنادق الكبيرة التي عرفتها في البلاد الإسلامية التي زرتها أحسّ حين أجتاز بابها كأنني خرجت من هذا البلد ودخلت بلداً غريباً عليّ لا أعرفه ولا يعرفني؛ فاللسان فيه غير لساني، والعادات غير عاداتي، والمنكَرات في أكثر هذه الفنادق معلَنة بادية، والأسعار محرقة غالية، والشيء الذي تشتريه من السوق بعشرين يُحسَب عليك في الفندق بمئة وعشرين
…
لذلك أنفر منها وأبتعد عنها.
درنا مع الشيخ الصواف نفتّش عن الفندق المناسب، فكلّت أقدامنا من الصعود والنزول وألسنتنا من السؤال والاستفهام. وكنّا في تعب فازددنا تعباً، حتى رضينا من الغنيمة بالإياب وقبلنا أن ندخل كل باب. ورأينا فندقاً هادئاً جميلاً على دجلة اسمه فندق
سومر، دخلته مستأنساً ونمت فيه هانئاً وأصبحت فيه مستريحاً، وسمعت أذان الفجر من جامع السيد سلطان علي الذي قابلْنا فيه شيخَ علماء العراق الشيخ إبراهيم الراوي سنة 1936.
ثم جاؤوا فأخذوني إلى دار الأخوّة الإسلامية في باب المعظم، فإذا دنيا جديدة وإذا ناس غير من عرفت من الناس؛ كأنني كنت في جاهلية وأدركت الإسلام: شباب مؤمنون صالحون إنْ سلَكَ أمثالُهم طرقَ الغواية واللذّة سلكوا هم طرق العبادة والصلاح، يَدَعون هوى نفوسهم لطاعة ربهم، مجالسُهم أنس وحديثهم عبادة وصحبتهم خير وبركة.
أين كان هؤلاء قبل سبع عشرة سنة لمّا كنت أدرّس في العراق؟ كيف كانت هذه النهضة الإسلامية؟ جزى الله الشيخ الصواف الذي يرجع إليه بتوفيق الله وبنعمته الفضل فيها. ولا أحسب أنه يقع في وهم أحد منكم أني أقول هذا مجاملة له أو رغبة فيه أو رهبة منه؟ لا يا سادة، ولكن أقوله شهادة حقّ إن كتمتها كنت مِمّن وصفه الله بأنه آثمٌ قلبُه. على أن أنفع له من ثنائي عليه دعائي له، فجزاه الله خيراً ووفّقه ووفّقني إلى ما يُرضيه، وأكثرَ الدعاة إلى الله وألّف بين قلوبهم، وأذهب الخلف بينهم ونزع الحسد والغِلّ من قلوبهم وحقّق الخير على أيديهم.
كان الشباب الذين يقابلونني يسألونني: أين نزلت؟ فإذا سَمّيت لهم الفندق الذي نزلت فيه فتحوا عيونهم دهشة وقلبوا وجوههم استنكاراً، كأنني أقول منكَراً من القول أو كأنني أخبر عن منكَر من العمل، أو «كأنني أفطرت في رمضان» كما قال
أبوالعتاهية في البيت المشهور الذي بلغ في صدره السحاب وهبط في عجزه حتى توارى في التراب (1). فكنت أسألهم وأستوضحهم فلا يقولون شيئاً، كأن الأمر عندهم أعرف من أن يُعرَّف وأقبح من أن يوصف.
فلما عدت إلى الفندق جعلت أنظر وأدقّق النظر فلا أرى شيئاً من المنكَر، لا أرى ما يخالف الدين أو ينافي الخلق الكريم، وسألت صاحب السيارة ورفيقه الذي جاء معه (وهما من عمان) هل ينكران في هذا الفندق شيئاً؟ قالا: لا. قلت: فمِمّ إذن عَجَبُ الشباب واستنكارهم؟ حتى إذا كان اليوم الثاني وقد عدت بعد صلاة العشاء مبكّراً عن موعد عودتي، فوجدت نزلاء الفندق جميعاً من ذوات الشعر الأشقر ومرتكبات المنكَر، من الكاسيات العاريات، أي من «الأرتيستات» !
ومن طريف ما وقع لي أنني مررت في إحدى قدماتي بغداد لمّا كنت مدرّساً فيها بمخفر الرطبة، فوقفَت سيارة فيها إحدى
(1) صدر البيت: «مات الخليفةُ أيها الثَّقَلان» . وهو بيت مختلَف في نسبته، نَسَبه ابن رشيق القيرواني في «العمدة» إلى أبي العتاهية، ونُسب في غير ذلك من مصادر الأدب إلى شاعر مجهول أو إلى بعض الحمقى، وهو في بعض كتب الأدب في رثاء المهدي وفي أكثرها في رثاء المتوكل. قال أبو هلال العسكري في كتاب «الصناعتين»: لما مات المتوكل أنشد رجلٌ جماعةً: «مات الخليفةُ أيّها الثَّقَلانِ» . فقالوا: هذا أشعر الناس فإنه نعى الخليفة إلى الإنس والجنّ في نصف بيت. ومدّ الناسُ أبصارَهم وأسماعهم إليه فقال: «فكأنني أفطرتُ في رمضان» ، فضحك الناس وصار شُهرة في الحمق (مجاهد).
هؤلاء البنات، فلما جاء الموظف يدوّن اسمها ونعتها وجد في الجواز أن مهنتها «أرتيست» (ومعنى الكلمة الحرفي «فنّانة»)، فما عرف كيف يقرؤها، فسأل زميلاً له أكبر منه، عراقياً عربياً أصيلاً، كيف يكتب الكلمة، فقال له: أكتب «قحبة» !
أعود إلى حديث الفندق. لمّا رأيت هؤلاء سألت فعلمت أنه يكاد يكون مخصّصاً لهذا الصنف من البنات، وأنهن ينَمنَ حين أقوم لصلاة الفجر ويَقُمن بعد صلاة الظهر، لذلك لا أراهن. فذهبت إلى الشيخ الصواف فقلت له: تدري أين أنزلتني؟ فلما خبّرته كان عجبه أشدّ من عجبي. وفهمت لماذا كان الشباب إذا سألوني أين نزلت يُدهَشون من سماع الجواب: الشيخ الطنطاوي يُنزله الشيخ الصوّاف بين القِحاب!
وكان عديلي الشيخ ماجد الخطيب رحمه الله يسكن يومئذ بغداد، وزوجته شقيقة زوجتي وبيني وبينها رضاع فهي لا تحتجب مني. وكان أخوه الأستاذ محمد كمال يكرّر دعوتي لأنزل في الدار فكنت آبى خشية الإزعاج، فلما رأيت ما رأيت قبلت الدعوة وتركت الفندق وذهبت إلى الدار.
* * *
جدّدَت لي هذه الرجعة إلى بغداد ذكرى أيامي فيها. قابلت إخواناً لي وتلاميذ، منهم من بقي على العهد وقليل منهم تنكّر لي ونسي صحبتي. وممّن لم أجد له عهداً طالبٌ كان أديباً وكان يَنْظم الشعر، وكنت أخصّه برعايتي وأدلّه على طريق النبوغ في الأدب، فلما عدت صار عميد إحدى الكلّيات. ودُعيت إلى إلقاء
محاضرة في هذه الكلّية، فلم يُرِد أن يقدّمني إلى السامعين على العادة في مثل هذا الموقف، وأحسست كأنه كره أن يعترف أمامهم بأنه كان تلميذي.
فكان جوابي على ذلك أنني بدأت المحاضرة بحمد الله على أنْ جعل من تلاميذي الذين كانوا يقعدون أمامي مَن صار أستاذاً كبيراً أو عميداً في كلّية أو قاضياً في محكمة، وأن منهم فلاناً. وأشرت إليه ليعلم الناس جميعاً أنه كان من تلاميذي.
ما أردت من ذلك التعالي عليه ولا أردت الفخر بأنني درّسته، وليس ذلك من شِيَمي، ولكني وجدته لا يزال بحاجة إلى درس آخر من الدروس التي كنت ألقيها عليه وعلى إخوانه، فألقيت عليه هذا الدرس في الوفاء وفي كرم الأخلاق.
وكنت في محاضرة ألقيها في بهو أمانة العاصمة في بغداد، فدخل شيخ كبير وقال للناس: لقد تركت فراش المرض وجئت تحيّةً لفلان (يعنيني).
هذا الشيخ هو نابغة الموسيقى العربية الذي اعترف له مؤتمر الموسيقى الأول الذي عُقد في القاهرة سنة 1932 (على أغلب الظنّ) بالصدارة فيها، هذا الذي كان أحسن من يقرأ (يغنّي) المقام العراقي، والذي سمعت أنه زاد على المقامات العراقية الموروثة أحد عشر مقاماً جديداً. ذلكم هو الأستاذ القبانجي، رحمة الله عليه.
* * *