الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-149 -
دفاع عن الفضيلة (2)
هذا العنوان لم أضعه اليوم ولا اليوم كتبت هذه المقالة. إنها كُتبت ونُشرت في «الرسالة» يوم 6 شوال 1365هـ، أي من أربعين سنة. ولو كتبتها اليوم لرأيتها مقصّرة لا تصف إلاّ الأقلّ ممّا وصلنا إليه، أي ممّا رأيناه بعدها، أيام الوحدة مع مصر وما بعد أيام الوحدة. وإنْ مدّ الله في الأجل واتسع صدر الأخوَين الناشرَين وصدور القُرّاء، حدّثتهم حديث الخبير الصادق عمّا نراه الآن.
ونعوذ بالله أن يأتي علينا يوم نرى فيه هيّناً سهلاً هذا الذي نراه الآن.
وأنا لا أقصد بلداً بذاته، بل أتكلّم عن جميع البلدان، ومنها ما مسّه طرف من لهب هذه النار أو أصابه لفحة من حرّها أو أذى من دخانها. وإن كانت المملكة هنا لا تزال -بحمد الله- خيراً من غيرها، ولا يزال لواء الدين فيها مرفوعاً وصوته مسموعاً، ولكن على كل صحيح الجسد أن يتخذ أسباب الوقاية من المرض وأن يسأل الله النجاة منه. والدين لا يمنع من الأخذ بأسباب القوّة ومجاراة الأمم في ميدانها، ولا يحول بيننا وبين النافع من نتاج
الفكر ولا من ثمرات الحضارة.
ومن عرف هذه البلاد قبل خمسين سنة كما عرفتها ورأى ما وصلَت إليه الآن، في كلّ ميدان، من غير أن تفرّط في شيء من عقائدها أو تدع كثيراً من فضائلها ومن سلائقها، أدرك أن من أراد الجمع بين التمسّك بالدين الذي يكون به النجاة في الآخرة، وبين أعلى درجات التمدن والحضارة التي يكون بها السموّ والفخار في الدنيا، وجده سهلاً ممكناً.
فتحت عيني على الدنيا والعلماءُ في بلدنا (كما كانوا في أكثر بلاد الإسلام) هم قادة الناس وإليهم مرجع أمرهم، إن اعترضَتهم مشكلة في دنياهم رجعوا إليهم في حلّها، وإن كانت مسألة في دينهم طلبوا منهم حُكمها. لا كلمةَ فوق كلمتهم ولا رأيَ بعد رأيهم، لأنهم صدقوا مع الله وذلّوا بين يديه فأعزّهم الله في الناس حتى صدقوهم ومشوا وراءهم. أرادوا الآخرة فأعطاهم الله الدنيا والآخرة.
عهدنا شيخ العلماء في سوريا، الشيخ بدر الدين الحَسَني، يدخل عليه في غرفته الصغيرة في دار الحديث الأشرفية الباشواتُ والولاة أيام الأتراك، والمفوضون والقُوّاد والجنرالات أيام الفرنسيين، فيخلعون نعالهم عند بابها ويقعدون بين يديه على بساطها، ويستمعون إليه وينفّذون ما يطلبه. وما كان يطلب لنفسه شيئاً منهم، بل كان يعظهم وينصحهم ويحثّهم على ما فيه مصلحة الناس.
ولمّا استولى الجيش على جامع تنكز الكبير وجعلوه في
أيام الشريف فيصل بن الحسين مدرسة عسكرية، ثم ورثه منهم الفرنسيون فأبقوه على حاله، لم يحتَج استرداده منهم إلاّ لمسيرة الشيخ إليه ووراءه تلامذته، وعلى عاتقه ثقل الثمانين التي عاشها وفي صدره نور العلم والإيمان، فما هي إلاّ أن دخله عليهم حتى خرجوا منه وأخلوه.
ثم داخل طائفةً من العلماء حبُّ الدنيا وطلبوا حظوظ نفوسهم قبل طلب رضا ربهم، فوكَلهم الله إلى نفوسهم، وتزاحموا على أبواب الحُكّام فصرف الله عنهم قلوب الناس.
وبقيَت طائفة على طريق الحقّ، تطلب العلم لله وتؤدّي فيه حقّ الله، لكن الشرّ قوي من حولها. وازداد أتباعه فشغلوا الناس بالعاجلة ولذّاتها عن الآجلة ومكارهها، وهؤلاء العلماء ثابتون على الحقّ، ولكنهم يقيمون من حولهم جداراً من الكتب والحواشي ويعيشون في برج عاجي، يتنفسون هواء هذا القرن وعقولُهم وتفكيرهم في القرون المَواضي.
ومنهم من هو خَرّاج وَلاّج، عارف بالدنيا وأهلها يدرك ظواهرها وبواطنها، ولكنه يحرص على إرضاء الحكام وموافقة العوامّ، وهذا لا يكاد يأتي منه خير.
ومنهم من جمع خوف الله وجرأة القلب وطلاقة اللسان، فنزل إلى الميدان، يعلّم الجاهل ويقوّم المائل ويصلح الفاسد، ويؤدّي حقّ العلم عليه حين أخذ الله على العلماء أن يبلغوه الناس ولا يكتموه.
ولمّا ابتُلينا بالاحتلال كان الذين قادوا النضال وأوصلوا
بلادهم إلى الاستقلال من هذه الطبقة من المشايخ والعلماء: الأمير عبد القادر الجزائري منهم، وعبد الكريم الخطابي، وعمر المختار، والذين أيقظوا النُّوّام في مصر والشام: جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، والذي فتح للناس باب الجهاد في فلسطين عزّ الدين القسّام، وأمثال هؤلاء.
وكنّا كلّما قام فينا حاكم لا نرضاه أو مرّ بنا عهد لا نحبّه، كان أول من يعمل على إزاحة هذا الحاكم وإنهاء هذا العهد هم علماء الدين وخطباء المساجد وشباب الإسلام. نحن نخوض المعركة وغيرنا يأخذ المغانم:
وإذا تكونُ كريهةٌ أُدعى لها
…
وإذا يُحاسُ الحَيسُ يُدعى جُندُبُ
ثم كَثُرَت الجنادب حتى لحسَت الحَيس كله، وحازت المآدب جميعها وأكلت ثمار الجهاد، والذين جاهدوا ينظرون بعيونهم من بعيد!
في كلّ يوم يقوى أنصار الباطل ويزيدون ويقلّ دعاة الحقّ ويضعفون، وهذه سنّة الله في الكون: الفساد أكثر انتشاراً من الصلاح؛ حبّة برتقال عَفِنة تُفسِد صندوق البرتقال، ومريضٌ واحد ينقل مرضَه إلى مئات الأصحّاء وهم لا ينقلون إليه صحّتهم.
وابتُلينا بالفرنسيين يوم كانوا يُعَدّون السابقين إلى الانطلاق والفسوق في أوربّا، وكانت باريس مباءة المتع ودار اللذّات يقصدها الناس لهذا من الآفاق. وإن كانت فيها السوربون وكان
فيها المجمع العلمي. فمشى إلينا داؤهم وانتقلت إلينا العدوى منهم، ولكن المرض لا تظهر آثاره من أول يوم، بل الجسم -بما أودع الله فيه من وسائل الدفاع- يصاول المرض ويقاوم الداء. فلما كان يوم الجلاء كانت مدّة تفريخ الجرثومة قد انتهت وأيام الحمل بالمرض قد تمّت، فوُلد هذا المولود الخبيث الذي حدّثتكم حديثه، وجاء من بعده إخوة له وأخوات، وكثروا وازدادوا كما يكثر نسل الشياطين و (الميكروبات)، حتى وصلنا إلى الذي أعرف وتعرفون.
* * *
ولكن تعالوا نحاسب أنفسنا. ألا نحمل شيئاً من وزر هذا الداء؟ ألم نُذهِب قوّتَنا فيما بيننا؟ ألم ننسَ أعداء ديننا من المُلحِدين والمكفّرين (المتسمّين بالمبشّرين) والفاسدين المُفسِدين وأذناب المستعمرين؟ ألم نَدَعْهم كلّهم ونشتغل بمعارك يثيرها تارة ناس من الأعداء يلبسون ثياب الأصدقاء يدخلون بيننا ليفرّقوا جمعنا، ويثيرها ويبعثها تارة أتقياء صالحون، ولكنّ في أبصارهم قِصَراً فلا يرون أبعد من مناخرهم، وفي عقولهم نقصاً فلا يقدّرون عواقب ما يفعلون؟
كم من المجادلات والمناقشات، كم كُتب من الرسائل والمقالات، كم نشأ من الأحقاد والأضغان بسبب صلاة التراويح في الشام مثلاً: هل هي عشرون ركعة أم هي ثمانٍ؟ والصلاة على الرسول بعد الأذان؟ والشيخ الذي كان يُصدِر رسائل «الإصابة» يصيب بها المسلمين وهم يردّون بمثلها وبأشدّ منها عليه وعلى
الصوفية والمتصوّفين؟ ومسائل من أمثالها لا حاجة إلى تعدادها، لأن العقلاء يحيطون علماً بها، والمغفّلين يندفعون فيها، والأعداء يفرحون بها ويضحكون علينا بسببها، ثم يُضرِمون نار الخلاف عليها، ينفخون فيها إن خمدَت ويمدّونها بالحطب إن ضَعُفَت، حتى أزحنا أنفسنا بأنفسنا عن مكان الصدارة، وتخلّينا بأيدينا عن موضع القيادة، فصار أمر المدارس مثلاً (وفيها بناتنا وأبناؤنا) بأيدٍ غير أيدينا، يتولاّها في بعض بلاد المسلمين مَن ليسَت غايته غايتنا ولا منهجه منهج ربّنا، ونفقاتها على الأحوال كلّها منّا!
فهل سمع سامع في الدنيا بأعجب من هذا؟ الأولاد أولادنا والأموال أموالنا، ونحن الكثرة الكاثرة من الأمة، فعلامَ تُنفَق أموالنا على تكفير أولادنا وردّهم خصوماً لنا ولديننا ولأخلاقنا وأعراضنا؟
إنني حين أفكّر في هذا، وبما كان من تقصيرنا وتنازعنا حتى خرج الأمر من أيدينا، أقول: آه آه! أقتلعها من قرارة القلب، فتخرج ومعها لهب ودخان أسىً وحزناً على هذا الذي كان.
* * *
أعود إلى المقالة فأنقل إليكم فقرات منها، لأنها صارت تاريخاً وذكرى ولتروا كيف كنّا نكتب قبل أربعين سنة (1).
جاء في عنوانها أنها كلمة صريحة لله ثم للوطن، شرحت فيها ما كان من عمل الشباب الذين هالهم ما رأوا من فشو التبرّج
(1) المقالة منشورة في كتاب «في سبيل الإصلاح» (مجاهد).
والاختلاط بُعَيدَ الجلاء في دمشق، البلد العربي المسلم، فقاموا يدافعون عن الفضيلة المغلوبة ويردّون إليهم الناس، لأن ديار الشام لا تزال متمسّكة بدينها ولا يزال نساؤها بالحجاب الساتر، ومشت الأمور في طريقها وكادت تصل إلى غايتها، ودُعاة الفجور ينظرون ويتحرّكون.
لولا أن دفعت الغيرة على الأخلاق الإسلامية والسلائق العربية -مع الجهل بأحكام الدين والبعد عن استشارة العلماء المخلصين- بعضَ العامّة إلى الدخول على النساء في السينما وإخراجهن منها، وإلى التجوال في البلد ونصح كل متبرّجة ووعظها وزجرها.
وقد أنكر العلماء والعقلاء ذلك عليهم فكفّوا عنه وأقلعوا، ولكن دعاة الفجور لم يُرضِهم أن تنتصر دمشق للفضيلة وأن تَهدم عليهم عملَهم على رفع الحجاب وإباحة الاختلاط، فاستغلّوا عمل هؤلاء العوامّ وأعلنوا إنكاره، وكبّروه وبالغوا في روايته، وذهبوا يقيمون الدنيا ويُبرِقون البرقيّات ويُرعِدون بالخطب. وما أهون الإبراق والإرعاد، وما أسهل إثارة الشبّان الفاسقين على الستر والحجاب باسم «الحُرّية الشخصية» التي تمتّعهم بما وراء حدود الفضيلة من لذائذ محرمة.
أيُخرِجون النساء من السينما؟ أيعرضون بالنصح للمتبرّجات الكاشفات؟ يا للحدث الأكبر، يا للعدوان على الحُرّية الشخصية التي ضمنها الدستور! أليسَت المرأة حُرّة ولو خرجَت عارية؟ أليس الناس أحراراً ولو فسقوا وفجروا؟ أليس كلّ امرئ حُرّاً ولو نقب مكانه في السفينة فأدخل إليها الماء فأغرقها وأهلها؟
كذلك فهم الحُرّيةَ هؤلاء الجاهلون، أو كذلك أراد لهم هواهم أو شاءت لهم رغباتهم وميولهم أن يفهموها. ودفعوا أكثر الصحفيين، فلبثوا أياماً طوالاً لا كلام لهم إلاّ في الدفاع عن هذه «الحُرّية» ، وأثاروا بعض النوّاب في المجلس، فجرّب كل واحد منهم أن يتعلّم الخطابة في تقديسها. ثم عمدوا إلى فئة من خطباء المساجد حامَوا عن الفضيلة فساقوهم إلى المحاكم سَوق المجرمين، وأدخلوهم السجون من غير مستند إلى قانون من القوانين، وجرعوهم كؤوس الذلّ، حتى صار مَن يذكر السفور بسوء أو يدعو إلى الفضيلة والستر كمن يدعو إلى الخيانة العظمى (1).
وتوارى أنصار الفضيلة من هذه العاصفة الفاجرة الهوجاء.
وحسب أولئك أن الظفر قد تمّ لهم وأن أهل الدين قد انكسروا كسرة لا تُجبَر، فكشفوا القناع وانطلقوا يسرحون وحدهم في الميدان ويمرحون. وكانت النتيجة أن انحطم السدّ فطغى سيل الرذيلة وعمّ، وامتدّ في هاتين السنتين أضعاف ما امتدّ أيام حكم الفرنسيين، وازدادت جرائم التعدّي على العفاف واستفحلَت، حتى رأت المحاكم من يعتدي على عفاف بنته أو أخته، أو على طفل رضيع! وماذا يصنع هذا الوحش الذي أثارت «الحُرّية الشخصية» غرائزه فلم يجد إلاّ البنت والأخت أو الطفل الرضيع؟
ثم ازدادت الجرأة حتى رأينا بعض مجلاّت دمشق تقلّد
(1) وتولّى كِبْر ذلك سعد الله الجابري وكتلتُه، فسوّد به صفحته وأفسد وطنيته.
نظيراتها في مصر فتنشر صور العرايا، فيشتريها الشباب لهذه الصور، لأنه ليس فيها ما يُقرَأ فتُشترى من أجله. ثم امتدّ الشرّ حتى رأيناهم يعملون من الطالبات كشّافات يمشين في الطرقات بمثل لباس المجنّدات في الجيش الأمريكي (ولم نكن قد عرفنا الجيش الإسرائيلي، ولا كانت إسرائيل أزال الله عنّا رجس إسرائيل) بعد أن كانت دمشق لا تحتمل أن ترى الكشّافين الشباب بلباس يرتفع عن الركبتين، وحتى رأيناهم يقيمون معرضاً لأدوات تحضير الدروس التي صنعها المعلمون، فتُترك مدارس البنين كلها (ومنها الثانوية المركزية ببنائها الضخم وأبهائها الواسعة، وهي أصلح مكان للمعارض، وهي التي أقيم فيها معرض دمشق الكبير سنة 1936) وتُختار مدرسة البنات في طريق الصالحية. ثم يُفتتح المعرض بدعوة الرجال لمشاهدة فرقة من البنات (الكشّافات) يغنّين على المسرح ويأتين بحركات رياضية تُبدي للأعين الفاسقة المفتّحة أكثر ما يخفى عادة من أجساد فتيات نواهد، قد انتُقين عمداً أو مصادفة من جميلات الطالبات.
ثم امتدّ الشرّ حتى رأيناهم يفتحون نادياً في قانونه أن العضو يجيء مع زوجته أو ابنته غير المتزوجة، وحتى شهدنا النفر الشيوعيين العُزّاب المستهترين الساكنين في المقاهي الخبيثة والخمّارات، أصحاب تلك البرقية الوقحة المعروفة، يتسلّمون شؤون المعارف ويسلّطون على الشباب والشابّات، فيبتدعون نظام المرشدات. وإنه لَنظام الضالاّت المُضِلاّت! ويسنّون الاختلاط في الحفلات، وينقلون دار المعلّمات من مكانها القديم المستور إلى دارة (فيلا) جديدة في شارع مُحدَث في ظاهر البلد مكشوفة
من جهاتها الأربع، لها طُنُف وشرفات دائرة بها، وأسرّة الطالبات تظهر من الطريق، فإذا نهضنَ من النوم رآهن مَن يمشي في الشارع بثياب المنام! ثم يدفعون خِرّيجات دور المعلّمات فيعملن حفلة خيرية، فلا يجدن لها مكاناً في دمشق إلاّ
…
مرقص العباسية! ويطبعن في البطاقة أنه سيغنّي فيها فلان من فَسَقة المغنّين وترقص فلانة الراقصة المحترفة رقصاً بلدياً.
ثم
…
ثم ماذا؟ الله وحده يعلم ماذا يكون أيضاً، وإلى أين نسير، وإلى أين المصير. (هذا ما قلته يومئذ وقد عشنا حتى رأينا ماذا كان بعد هذا. وسيأتي حديثه إن شاء الله).
وقد نزلَت هذه الضربات على وجه الفضيلة متلاحقة متتابعة، لا تصحو من واحدة حتى تحسّ بالأخرى، وهم يريدون منّا مع ذلك أن نسكت ولا نقول شيئاً لئلاّ نشوّه -كما زعموا- جمال العهد الوطني.
كلاّ؛ إن العهد الوطني هو الذي تنتصر فيه الفضيلة ويسود الحقّ ويُحفَظ العفاف. كلاّ ولا كرامة! إنها أعراض بناتنا وأخواتنا، ولو كانت غير الأعراض لهاوَدْناكم عليها، ولكن لا هوادة في العِرض ولا في الدين.
إنها حياة هذه الأمة؛ لا تحيا أمّة بلا أخلاق. أفئن قامت فئة من العامّة بما لا يُرضى عنه وانتهكَت الحرمة التي تزعمونها لحرمكم الذي تدعونه، وهي السينما، وتجاوزَت على حياء الفاضلات «المطهّرات» من النساء المتبرّجات! نسكت كلنا عن نصرة الفضيلة إلى يوم القيامة؟
(إلى أن قلت): ثم ما هذه الحُرّية التي طبّلتم لها وزمّرتم وهوّلتم وعظّمتم، وجعلتم الاعتداء عليها كفراً بدين الحضارة وإلحاداً بشرعة الديمقراطية؟ أهي حُرّية المرأة أن تكشف ما تريد من جسمها متى أرادت وأين شاءت؟ أهي حرية ناظر المدرسة أن يحوّل مدرسته إلى ماخور؟ أهي حُرّية الفسوق والعصيان؟ أهذه هي الحُرّية المقدَّسة عندكم؟
إنكم يا أيها السادة بين أمرين: إما أنكم تقولون ما لا تفهمون، وإما أنكم تسترون بهذه الأسماء الحلوة أغراض نفوسكم ورغبات أجسادكم. وإلا فخبّروني: أيّ أمة تصنع مثل هذا الصنيع؟ العرب؟ إن العرب أغيَرُ الناس على الأعراض، وإن كلمة العِرض في لسانهم لا تقابلها كلمة في ألسُن الأمم تُترجَم بها. المسلمون؟ إن الإسلام أمر بِغَضّ البصر وستر العورة ولَعَن الناظر إليها والمنظور. الفرنسيون؟ إن الفرنسيين يكشفون أفخاذ الشباب في الملعب، فعلامَ تكشفونها أنتم في سوق الحميدية وهو للبيع والشراء وفيه الرجال والنساء؟ وهو كالموسكي في مصر والشورجة في بغداد. إن الفرنسيين يُنشئون بيوتاً للهو واللذّة وبيوتاً للعلم، وأنتم جعلتم بيوت العلم بيوت لذّة ولهو! وإن الفرنسيين كانوا يسترون سيقان الجند، فلما استلمتم أنتم الجيش كشفتم عن أفخاذهم! الروس؟ إن الروس فصلوا بين الجنسَين في المدارس لمّا رأوا بالتجرِبة أن الاختلاط لا يأتي بخير، وأنتم تسعون الآن بكل طريق لجمع الجنسين في المدارس.
هل تعرفون ماذا يُسمّى الذي يجمع الجنسين من غير عقد زواج؟ لا أوجّه هذا الحديث للمسلم وحده، بل لكل من قال أنا
عربي، لأن من صفات العربي التي تقوم عليها عروبته الشهامة والغيرة على الأعراض. ومن ادّعى العربية ولم تكن له على العِرض غيرة ولم يغضب لحُرَمه فهو كذّاب دَعِيّ ليس بعربي.
وسيقول عني ناس من القُرّاء: هذا رجل معروف بالدعوة إلى الرجعية فلا تسمعوا له، إنه يريد أن يعود بنا إلى الوراء ونحن نريد أن نتقدّم إلى الأمام.
وهذا كلام لا يُناقَش، إنما يُناقَش كلام مؤيَّد بحُجّة، إنما يُسمَع اعتراض قائم على منطق، إنما يُقرَع الدليل بالدليل. فهل في هذا الكلام حُجّة أو منطق أو دليل؟ أنا أدعو إلى مناظرتي كلَّ مخالف لي، على أن يكون في رأسه عقل وفي يده قلم أو في فمه لسان. أمّا الذين حفظوا كلمات فهم يردّدونها كالببغاوات لا يحاولون فهمها، فلا شأن لي معهم ولا وقوف لي عليهم.
يقولون «رجعية» . فما الرجعية؟ هي الرجوع إلى الماضي، أي إلى أخلاقه وعاداته (فما يمكن أن يُرجَع إلى زمان مضى). فهل الرجوع إلى مثل أخلاق المسلمين الأوائل نفع أو ضرر؟ وهل يكون الداعي إلى تلك الأخلاق مُصلِحاً أو مفسداً؟ هذه هي الرجعية عندنا؛ الرجوع إلى الدين.
أفترجع فرنسا إلى دينها، أي إلى كاثوليكيتها، ويظفر الحزب الديني فيها بأكثر مقاعد المجلس النيابي، فلا يُنكِر عليها أحد ولا يتّهمها أحد بالتأخّر ولا يصفها بالجمود؟ (اذكروا أن المقالة منشورة سنة 1946) ونطلب نحن العودة إلى ديننا الحقّ فيقول السفهاء إننا متأخّرون جامدون؟ لا؛ هذا كثير. هذا كُفر بالمنطق وتعطيل للفكر. هذا شيء نستحيي منه أن يكون فينا من يقوله.
ونحن إذ ننتقد شيئاً نبيّن أضراره، فبيّنوا أنتم منافعه، حتى إذا وجدنا المنافع أكثر أخذنا به ولو حملنا معه شيئاً من الضرر. ونحن نعلم أنه ليس في الدنيا خير محض ولا شرّ محض، وأن الخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للناس ولكن إثمهما أكبر من نفعهما، فلذلك حُرّما.
إنه لا بدّ في كل مناظرة من مبادئ يتّفق عليها الطرفان ليعودا إليها ويرتكزا عليها، وما المنطق إلاّ ردّ الفروع إلى هذه الأصول. فإذا كان المتناظران مختلفَين في كلّ شيء، يرى هذا أن العفاف نافع فيقول الآخر بل هو ضارّ، ويدّعي هذا أن اتّباع الدين واجب فيقول الآخر إنه ممنوع، ويرى هذا العمل على منع الفجور ويرى ذاك العمل على نشر الفجور، فكيف يمكن أن يكون بينهما كلام؟
فلنتّفق أولاً على الأصول: هل العفاف وقَصْرُ الاتصال الجنسي على المشروع منه خير أم هو شرّ؟ هل قيام المرأة على تربية أولادها بنفسها وإخلاصها لزوجها وبيتها خير أم هو شرّ؟ هل مراقبة الله وخوفه وتمسّك كل امرئ بفضائل دينه خير أم شر؟
هذه ثلاث مسائل أطلب الجواب عليها. وإنه ليكون غروراً مني وازدراء للخصوم وللقُرّاء إذا افترضت أنهم يرون هذه الأمور شراً، فحاولت إقامة البراهين على أنها خير، وأتعبت نفسي والقُرّاء في إثبات هذا الأمر الذي أظنّه ثابتاً عند العقلاء جميعاً. وإني أؤجّل هذا الإثبات إلى حين الحاجة إليه وأبني المناظرة على هذه الأسس الثلاثة.
فتفضّلوا قولوا: هل هذا الذي أوصلتمونا إليه يحفظ علينا عفافنا أم هو يضيّعه علينا؟ هل يعمر بيوتنا أم يخربها على رؤوسنا؟ هل يُرضي ربّنا أم يُسخِطه علينا؟ هل يجعلنا أمة قوية أم هو يذهب بقوتنا؟
وإذا سلّمنا جدلاً بأن من الخير مشاركة الطالبات الطلاب في أفراح الجلاء، فهل يُشترط في هذه المشاركة أن يكشفن سيقانهن وأفخاذهن، وأن يُنتخب لذلك الجميلات منهن لا النابغات ولا الذكيات، وإذا لبسن الثياب الطويلة والجوارب الساترة أيبَطل رواء الاحتفاء وتَذهب بهجته؟ أم أنتم تريدون النظر إلى أفخاذهن بحُجّة المشاركة في أعياد الجلاء؟ وإذا حَسُن أن نقوّي بالرياضة أجساد الطالبات فهل يُشترط لهذه التقوية أن يختلطن بالرجال؟
لا والله. أحلفها يميناً غَموساً وأضعها في عنقي؛ إنكم لا تريدون الصحّة ولا الرياضة ولا المشاركة بالعيد، إنما تريدون التلذّذ بمرأى أجساد بناتنا باسم العيد والرياضة والصحّة. إنكم لصوص أعراض. ولكن ليس الحقّ عليكم؛ الحقّ علينا نحن آباء الطالبات والطلاّب. فنحن عميان لا نبصر، خُرس لا ننطق، حمير لا نغار. وإذا استمرّت هذه الحال فليس أمامنا إلاّ اللعنة التي نزلت على بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم.
اللهمّ لقد بلّغت، اللهمّ لقد أنكرت المنكَر، اللهمّ لا تُنزل علينا لعنتك ولا تُحْلِلْ بنا غضبك.
* * *
وبعد، فهذا نصّ المقالة بعد أن مسّتها يد الزيات رحمه الله، فليّنت من قسوتها وفلَّتْ من حدّها. صارت الآن ملكاً للتاريخ بعد أن مضى على نشرها أربعون سنة، قرأها الناس في كل بلد كانت تصل إليه «الرسالة» وتُقرأ الآن في كلّ بلد فيه مجموعات «الرسالة». خرجت من نطاق الأدب الذي يقول فيه الناقد: ليت الكاتب قال كذا أو سكت عن كذا، ودخلت في التاريخ. والمؤرّخ لا يُقال له: أحسنت فيما قلت أو أسأت، ولكن يُقال: صدقت فيه أو كذبت.
والذي رأيناه بعدها يهوّن علينا ما شكوناه فيها. وإن مدّ الله في العمر أوردتُ ما بقي في ذهني من خبره، وإنه -مع الأسف- خبر يؤلم الصديق المؤمن ويسرّ العدو الفاسق، والشكوى لله من قبلُ ومن بعد.
أما الذي نالني بسببها من أذى الألسنة والأقلام ومن بطش الرؤساء والحُكّام، فأحتسب ثوابه عند الله، وأرجو أن يتقبّل الله دعوات أهل الخير التي دعوا لي بها لمّا قرؤوها.
* * *