الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-152 -
معركة دروس الديانة
في المدارس في الشام
لقد نسيت الكثير من ذكرياتي، ولكن ليس كل ما تخطّيته قد نسيته. لقد كنت كالسائح في الأرض، يرى عجائبها ويزور مدنها ويقف على آثارها ويستمتع بجمالها، قد خَطّ له خطاً يمشي في رحلته عليه، فيمرّ على بلد فيقولون له: لو تيامنت قليلاً لرأيت ما تحبّ رؤيته، فيميل إلى اليمين. فإذا رأى ما أعجبه رغب في غيره، فتحوّل عن طريقه واتخذ له طريقاً آخر، وهذا الآخر عدل به إلى ثالث
…
كذلك صنعت في كتابة هذه الذكريات.
بدأت بدايات تركتها بلا نهايات. تكلّمت عن نقلي قاضياً إلى محكمة دمشق ووصفت ما أحدثت في معاملاتها الإدارية، ثم تركتها وشرعت أتكلّم عن المؤتمر الذي حضرته، وهو مؤتمر القدس سنة 1953، ثم فتحت سيرة رحلة المشرق التي مشينا فيها إلى الهند وسنغافورة وآخر أندونيسيا، فلم أكَد أصل إلى كراتشي وأشرع بالحديث عنها حتى حلّت ذكرى الجلاء، فتكلمت عن الجلاء وما جرّه هذا الكلام الذي لم أنتَهِ منه إلى الآن.
وكان قد وقع لي خلال ذلك أحداث كثيرة تستحقّ أن تُدوَّن: منها وضع مشروع قانون الأحوال الشخصية (وهو أول قانون في البلاد العربية كلها شامل لأحكامها جامع لمسائلها)، وسفرتي من أجله إلى مصر وإقامتي فيها، وعودتي خلال هذه السنة إلى دمشق وخوضي معركة الانتخاب فيها.
وما كان في تلك السنة من استلامي أشهراً طويلةً الإشراف على تحرير مجلّة «الرسالة» ، وما كان من المعارك فيها، كمعركة الرافعي والعقّاد بين العريان ومحمود شاكر وسيد قطب، التي شاركت فيها فأصابني من سيد رحمة الله عليه وأصبت منه. ثم معركة «القصص في القرآن» التي أثرتها على خلف الله وأستاذه الشيخ أمين الخولي، الذي وقفت معه من أجلها أمام المحكمة.
وأمور أخرى كثيرة، أنوي أن أعود إليها فأصل ما قطعت منها، وأسأل الله أن يُعينني على ذلك.
وتعليق آخر هو إنصاف للمشرف على طبع كتاب «المعاصرون» لأستاذنا كرد علي واعتذار له. فلقد خطّأته لمّا قال إن الريحانية جنوبي دمشق وأكّدت القول إنها في شماليها عند دوما، فخبّرني ولدي وصهري زوج بنتي، زياد الطباع، أنهما اثنتان: مزرعة في الجنوب تُسمّى «حوش الريحانية» (والحوش عندنا هو المزرعة أو العزبة)، وقرية صغيرة كما قلت أنا في الشمال.
ولذلك تنتهي المباراة بـ «التعادل بلا أهداف» .
* * *
عودة إلى موضوع المدارس: القاعدة عند الحَنَفية أن «الشروع مُلزِم» ؛ فمن شرع في نافلة لم تُفرَض عليه وجب أن يُتِمّها لشروعه بها. وأنا مذهبي في الأصل حنفي، نشأت عليه وتفقّهت فيه، ولكن لا ألتزم به الآن التزاماً كاملاً بل أتبع الدليل الأقوى من الكتاب والسنّة حين أتوثّق من قوّة الدليل.
لذلك أكمل الحديث عن المدارس الحكومية.
لقد مشت هذه المدارس على غير الجادة واتجهَت غير الاتجاه الذي يوجب علينا دينُنا أن نتجه إليه، والمشايخ وأهل الدين دائبون على إنكار منكَرها ومحاولة إصلاحها. حتى إن منهم من يئس منها يوماً من الأيام فدعا إلى مقاطعتها وإخراج الأولاد منها، وفتح مدارس لهم تنشّئهم على ما يريده الشعبُ الذي ينفق على هذه المدارس، وربُّ هذا الشعب الذي يريد منّا أن نتبع دينه الحقّ الذي ننجو به من العذاب يوم القيامة.
وكان ذلك سنة 1343هـ، من أكثر من ستين عاماً، لمّا قام الشيخ علي الدقر والشيخ هاشم الخطيب بما دُعي «نهضة المشايخ» التي سبق الكلام عنها. خرج يومئذ مئات من الأولاد من مدارس الحكومة، وافتتح الشيخان مدرسة ابتدائية في الريحانية، ثم نقلاها إلى مكان المدرسة التجارية التي كان أبي مديرها ولكنهما جعلاها مدرسة ابتدائية.
ثم أدركَت الشيخَين علّة الانقسام فبقيَت التجارية للشيخ هاشم وأنشأ «جمعية التهذيب والتعليم» التي تُمِدّها وتسندها، وبقيَت «الجمعية الغرّاء» للشيخ علي وافتتح مدرسة «سعادة الأبناء»
التابعة لها. وكانت هذه المدرسة في المدرسة الأثرية (السميساطية) عند الباب الشمالي للجامع الأموي.
ولكن لم تتمّ مقاطعة المدارس الحكومية ولم تكفِ المدارس التي أنشآها، وعاد أولادنا مضطرّين إلى المدارس الرسمية. وإنما عادوا في الواقع إلى مدارسنا، مدارس الأمّة التي -نحن المسلمين- جمهورُها ومنا الكثرة الكاثرة من أفرادها ونفقتُها من جيوبنا.
واستمرّت المعركة مستترة غالباً وظاهرة حيناً بيننا وبين من يمسك بزمام هذه المدارس ويوجّهها غير الوجهة التي نريدها، وانحصر الخلاف في اثنتين: مسألة الدروس الدينية ومسألة حجاب الطالبات.
ووُفّقنا حيناً؛ فزيدت علوم الدين ساعة أخرى في الأسبوع فصارتا ساعتين وأُدخلت في الامتحان، ولكن الخصوم ما ناموا ولا سكنوا، وظلّوا يعملون في الخفاء ونحن نراجع الحُكّام ونكتب في الصحف ونخطب في المساجد. وقد وجدت بين أوراقي كلمة ممّا كان يُنشَر في الصحف نشرتُها في جريدة «الأيام» عند الأستاذ نصوح بابيل، ولكنني لم أحتفظ بالجريدة كاملة بل بكلمتي وحدها مقصوصةً فلم أعرف تاريخ كتابتها.
وأقدّر أنها نُشرت في أوائل الخمسينيات من هذا القرن الميلادي. أعيدُ نشرَ بعضها هنا لتكون مثالاً لِما كنّا نكتب ودليلاً عليه. وكنت ألوّن الأساليب، فأكتب تارة غضبان متحمّساً ثائراً مثيراً، آمل أن أوقظ هذا الشعب النائم حتى يدع المنام ويسارع
إلى القيام. وأكتب تارة هادئاً أحاول أن أجادل بالتي هي أحسن، وأن أدلي بالحُجّة وحدها من غير أن أوقد من حولها النار أو أن أطير الشرار.
كان عنوان هذه الكلمة «دروس الديانة في المدارس» ، وأولها:
قرأت تصريح وزير المعارف الذي بيّن فيه أن الوزارة لا تفكر في تخفيض عدد ساعات الديانة، بل تبحث زيادة عددها.
وأنا أشكر الأخ الوزير الدكتور عبد الوهاب حومد، ولم أكُن أنتظر منه إلاّ هذا، لذلك تردّدت في تصديق ما نقله الناس عنه من أنه يريد نقص هذه الساعات أو إعفاء الطلاّب من الامتحان في علوم الدين.
وما كتبت هذه الكلمة لمجرّد الشكر بل لأنبّه الوزارة إلى أمر ما أحسبها إلاّ متنبّهة له عارفة به، ولكنها تتغافل عنه. ليس عندنا شيء اسمه علم الديانة ولا يعرفه علماء المسلمين، وليس في مكتبتنا كتب في هذا العلم. إنما الذي عندنا: علم الفقه، وعلم أصول الفقه، وعلم التوحيد، وعلم التجويد، وعلم الحديث، وعلم التفسير، وأشباه ذلك من العلوم التي أُلِّفت فيها آلافٌ وآلافٌ من الكتب وظهر فيها آلاف من العلماء.
تجمعها كلها كلمة «الدين» كما تجمع كلمة «الرياضيات» في المدارس بين الحساب والهندسة بأنواعها الجبر والمثلّثات، وكما تجمع كلمة «الطبيعيات» بين الفيزياء والكيمياء والتاريخ الطبيعي وعلم النبات وعلم الحيوان. ولو قلنا لمدرّس الرياضيات أعطيناك
ساعة في الأسبوع أو ساعتين لتدريس هذه المادّة لصُعق من دهشته وقال: وماذا أصنع بساعتين؟ هل أدرّس فيهما الحساب أم الهندسة أم الجبر، أم ماذا؟ وكلّ علم من هذه العلوم يحتاج إلى أكثر منها؟ فكيف نطالب مدرّس الدين أن يوسع ساعتين لهذه العلوم كلها؟
وسيضحك كثير من «التقدميين» من هذه المقابلة، لأنهم تعوّدوا أن يروا الدين دائماً في المرتبة الثانية، ولأنهم رُبّوا على احترام هذه العلوم وتقديمها. ولكن هل هذه هو الواقع، أم أنهم هم المخطئون؟
الصحيح أنهم هم المخطئون. وأيسر دليل على خطئهم أنهم يحكمون على الدين من غير معرفة به أو اطّلاع عليه. ولو حلّلتَ ما في نفوس هؤلاء الإخوان لوجدت أنه ليس للدين في نفوسهم إلاّ صورة مشوّهة، رسمها فيها بعض من عرفوا من جهلة المشايخ ومن سخفاء العامّة الذين يدّعون التدين والصلاح. ولقد صرّح لي بهذا الأستاذ ساطع الحصري في حديث طويل كان بيني وبينه، حيث كان يسكن في مصر في شارع شريف باشا سنة 1947، بحضور الأخ الأستاذ نهاد القاسم، ونشرتُه في يومه.
ونحن نُقِرّ بهذه المبادئ الغربية التي تقول بفصل الدين عن العلم، والدين عن السياسة. إنها صحيحة بلا شكّ، لكن بشرط أن نفهم معناها عند مَن وضعوها. إن الغربيين الذين وضعوا هذه المبادئ يقصدون بالدين ما يحدّد صلة الإنسان بالله فقط. ومن هنا قالوا:«الدين لله والوطن للجميع» . ونحن نقول مقالتهم ونفصل بين الدين الذي هو الصلاة والصيام، أي العبادات، وبين السياسة
والعلم. إن العبادات لا تتبدّل ولا تتغير بتغير السياسة وتبدّل نظريات العلم.
ولكن الإسلام ليس ديناً فقط يحدّد صلة الإنسان بالله، بل هو دين وتشريع وقانون دولي وأخلاق، وهو يحدّد صلة الأفراد بعضهم ببعض، وصلة الأفراد بالدولة، وصلة الدولة بالدول الأخرى، ويرسم طريق الأخلاق والسلوك.
فالإسلام إذن ليس ديناً فقط لتنطبق عليه هذه القواعد، بل هو نظام كامل للحياة لا يشابهه دين من الأديان التي يتبعها البشر.
والعلوم الإسلامية -بناء على هذا الأساس- قسمان: قسم منها للدين فقط كالعبادات، وهذا للمسلمين وحدهم، وقسم هو من الثقافة العامّة، كَفَهْم القرآن الذي هو النصّ البياني الأوّل في اللغة العربية، ودراسة الفقه الإسلامي في المعاملات على اعتباره مصدراً تشريعياً في العالَم كلّه، قديمه وحديثه، بكثرة نظرياته الحقوقية وعُمقها، ولأن غير المسلمين من أمم أوربّا تدرسه أوفى دراسة في كلّيات الحقوق فيها وتعرف قدره، وتهتمّ بنصوص الآيات والأحاديث من الناحية البيانية، وما إلى ذلك من العلوم الإسلامية التي يجب أن يدرسها -في رأيي- المسلم من الطلاب وغير المسلم، للبيان والبلاغة، وللخلق، وللثقافة.
وهذه كلّها أمور نشترك فيها جميعاً، لأنها تراث عامّ لا يختلف فيه مسلم عن نصراني، ولأن أعلام النصارى وفصحاءهم وأهل البيان فيهم، كاليازجيين والبستانيين وفارس الخوري وبشارة الخوري الشاعر وأمثالهم، ما بلغوا هذه المنزلة في الأدب التي
تقصر دونها الهمم إلاّ لأنهم درسوا القرآن والحديث وأخذوا من بيانهما. وما ضرّ الأستاذ فارس بك أنه مطّلع على الثقافة الإسلامية أكثر من كثير من أهلها، بل نفعه ذلك وزاده رفعة بين الناس.
فلماذا لا يدرس الطلاب جميعاً هذه العلوم؟ لا ما يتعلّق منها بالدين الإسلامي وبالعبادات، فهذا للمسلمين وحدهم. بل ما يتصل منها بهذه الثقافة اللغوية والعقلية. وإذا كان الطلاّب المسيحيون يكرهون أن يقرؤوها على المشايخ في درس الدين فإن في غير المشايخ، وإن في غير العرب، من يستطيع أن يُقرِئهم هذه العلوم، لأنهم أدركوا نفعها وقدروها قدرها فاهتمّوا بها وأقبلوا عليها وأتقنوها.
أقول هذا ليعلموا أننا لا نريد من العناية بدرس الدين وإدخاله في الامتحانات الخاصّة والعامّة أن نضطرّهم إلى ما يكرهون، ولا نريد أن نحتال عليهم لنُجبِرهم على الدخول في الإسلام. وهذا الذي أقوله كلام صريح ظاهر ليس له خبيء باطن، ما فيه إلاّ ما تدلّ عليه ألفاظه. أمّا هؤلاء الذين يَدْعون أنفسهم بالتقدميين، والذين ربّاهم الأجانب، والذين يرون في انتشار الإسلام «بعبعاً» كالذي كان يُخوَّف به الأطفال، ويخشون اسمه ولا يريدون الاقتراب منه لأن أعداء الإسلام صوّروه لهم على غير حقيقته أو لأن بعض الجهلة من المنسوبين إليه قد أعانوا هؤلاء الأعداء على ما يريدون
…
والمقالة طويلة.
* * *
وبقيَت المعركة مستمرة، وكانت سِجالاً بيننا وبينهم، ولكننا
نتقدّم خطوتين فيؤخّروننا بعدهما أربعاً. نسهر الليل نضع بأيدينا حجراً على حجر لنقيم الجدار، فإذا طلع النهار جاء مَن يحمل المعاول الكبار ليهدم ما بنينا. وقديماً قالوا:
متى يَبلغُ البُنيانُ يوماً تمامَه
…
إذا كنتَ تبنيهِ وغيرُك يَهدِمُ؟
هذا إذا كان الهادم واحداً، ولكننا كنّا أمام مئات. لا يهدمون بأيديهم كما نبني بأيدينا، ولكنهم يهدمون بالمعاول، بل بالبارود والقنابل.
وكلّما مرّ علينا يومٌ بكينا فيه منه جاء بعده غدٌ بكينا فيه عليه؛ كالذي كان مع اليهود وأنصار اليهود في فلسطين: نرفض الأمر في الحيف علينا والمضرّة بنا، ثم يأتي بعده ما هو أشدّ ضرراً وأنكى فينا أثراً فنتمنى لو كان الأول قد دام!
حتى إذا كانت الوحدة مع مصر انهدم السدّ فبلغ السيل الزُّبى (1) وجاوز الحزام الطبِيّين (2)، وبلعنا السكّين على الحدّين، فكادت تضيع العقيدة كلها في غمرة الدعوة الرعناء إلى الاشتراكية. وما هذه الدعوة إلاّ قشرة تُغطّى بها الشيوعية، وما الشيوعية إلاّ أخت الصهيونية، اللون مختلف ولكن النسَب واحد. أما رأيتم أختين من أب واحد، بيضاء وسوداء، لأن الأمهات مختلفات؟
ودأبنا على مراجعة الحُكّام في الشام، حتى إننا ذهبنا مرة
(1) الزّبى جمع زُبْية، وهي الحفرة تُحفَر في الجبل لصيد الوحوش.
(2)
و «بلغ الحزام الطبيين» أي أن حزام الدابة زاح عن بطنها فتعرّض راكبها للسقوط.
ونحن مجموعة من المشايخ إلى وزير المعارف الإقليمي (أي وزير الإقليم الشمالي أيام الوحدة)، وكان صديقنا الشاعر البليغ، الذي عرفته صغيراً فكان نابغة ألمعياً، وعرفته كبيراً فكان أديباً عبقرياً، هو الأستاذ أمجد الطرابلسي.
فقلت له (فيما قلت): كنّا نراجع في مثل هذا المكان المندوب (أي مندوب المفوّض السامي) الفرنسي أو مَن أقامه المندوب ليفكّر برأسه وينطق بلسانه ويحقّق له ما يريد، وإنني لأزدري نفسي إذا كنت سأقول لأمجد الطرابلسي ما كنت أقوله لذلك الفرنسي أو لمن يمثّل الفرنسي.
لقد وجدنا من أمجد ومن غيره من إخوتنا الاستجابة والتأييد، ولكنهم لم يكونوا يملكون من الأمر إلاّ أقلّه.
لمّا سمعنا نبأ الثورة في مصر وانقضاء عهد فاروق الذي كانت تصل إلينا أخباره تفوح منها رائحة لا تطيب في أنوفنا ونسمع عنه ما لا ترضاه سلائقنا وأخلاقنا، لمّا سمعنا بأن عهده انقضى وأنه بدأ عهد جديد يُراد منه تقويم المعوجّ وإصلاح الفاسد، هتفنا وفرحنا. ثم ذهبنا مرة (وقد أشرت إلى ذلك من قبل) وفداً عربياً مشتركاً للقاء عبد الناصر وحثّه على تأييد ثورة الجزائر، وقد لفّنا بلسانه وسحرنا بحلاوة بيانه وأسكرَنا بوعوده.
ولمّا كانت الوحدة وجاء الشام أول مرة ماجت دمشق لمقدمه واستقبلَته استقبالاً ما حظي به إلاّ قليل مِمّن زارها في تاريخها الطويل.
* * *