الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-154 -
علماء الشام
مع الوزير كمال الدين حسين
لمّا قدم عبد الناصر الشام وخرج الناس (أو أُخرِجوا) لاستقباله كان في طليعة مستقبليه في المطار المشايخ. وكان من بينهم رفيق السباعي، الرجل الذي ترك الطبّ بعدما أكمل دراسته ونال شهادته، ليلزم الشيخ بدر الدين وينقطع لخدمته ويُمضي حياته في صحبته.
فلما مرّ عبد الناصر عليه ناوله ورقة كبيرة، فعجب الرئيس منها وارتاب بها، ودفعها إلى عبد الحميد السرّاج (وكان يمشي معه). فقال له الشيخ: إنها لك لا له، وفيها مطالبنا منك لا منه. قال الرئيس: إنها وصلَت إليّ.
وهذا المشهد معروف هنا (في المملكة) لا يُستنكَر ولا يُستكبر، فما يأتي الناس للسلام على الملك أو الأمير إلاّ ناولوه مثلها. وهذه هي الرقاع التي كانت على عهود الخلفاء، لا سيما العباسيين، وكان لها موظّف كبير يُحصيها ويقرؤها ويرفع خلاصتها إلى الخليفة فيأمر فيها بأمره. ثم ماتت هذه السنّة في سائر البلاد
وبقيَت في المملكة، أحياها مؤسّسها الملك عبد العزيز رحمه الله وتوارثها أبناؤه.
فلما انقضت أيام الزيارة وجاء يوم سفر الرئيس، وكان المشايخ والوجوه في وداعه كما كانوا في استقباله، ومدّ يده يصافح الصفوة المختارة منهم وكان الشيخ رفيق رحمه الله من بينهم، أمسك بيده وأطبق بكفيه عليها (وكان عرض كفّ الشيخ رفيق بعرض كفّيّ الاثنتين معاً) وقال له: ماذا صنعت بطلباتنا؟
لم يُجِب عبد الناصر، ولكن أجابت الأيام. أجابت أفعاله وأفعال عُمّاله ورجاله. وكنّا تحت المطر فوضعونا تحت الميزاب! وكنّا نشكو إذ نمشي في الشمس على الحصى الحارّ فسيّرونا على جمر النار
…
ما زال شيء ممّا كنّا نشكوه بل زاد.
كنّا من قبلُ إن رأينا منكراً ذهبنا إلى الرئيس أو الوزير. كنّا ندخل على الرئيس هاشم بك أو على شكري بك أو على الشيخ تاج متى شئنا، لا يُغلَق في وجوهنا باب ولا يحجزنا بوّاب، فصار رئيسنا الآن في مصر ومَن عندنا تبع له، لا أمر لهم إلاّ من بعد أمره.
لذلك عزمنا على الذهاب إلى مصر.
وكنّا جماعة هم: الشيخ أبو الخير الميداني، شيخنا رئيس رابطة العلماء، ونائبه السيد المكي الكتاني، وصديقنا الدكتور محمد أمين المصري الأستاذ في الجامعة، رحم الله الثلاثة. واثنان من النوّاب في المجلس هما سعيد العبار (وهو صحافي إسلامي) وآخر من حمص أظنّ أن اسمه الطيب الخجا، وأنا. هؤلاء الذين
أذكرهم الآن، ولعلّي نسيت غيرهم مِمّن كانوا معنا.
فلما وصلنا مصر (وإذا قلنا مصر فإنما نعني القاهرة، كما نقول في سوريا «الشام» ونقصد بها دمشق) جلسوا في إدارة شركة الطيران في ميدان الأوبرا، حيث الصنم المقام لإبراهيم باشا الذي خرب «الدرعيّة» وزرع بذور الفساد في الشام، وذهبت مع أحد الإخوان نختار فندقاً مناسباً. فلما عدنا لم نجد المشايخ ولكن وجدنا بطاقة فيها أن السيد مكي ضاق صدره بالانتظار، فذهبوا إلى فندق قريب في منعطف وراء الميدان.
وأنا أعرف مصر من سنة 1928، أمشي فيها وأنا مغمض العينين لا يشتبه عليّ شيء من شوارعها وحاراتها، وأحسب أني جزت ميدان الأوبرا مرة فما أبصرت هذا المنعطف ولا علمت أن فيه فندقاً، فلما بلغناه إذا هو فندق عتيق في حارة ضيقة لا يصلح لنزولنا.
وما هذا هو العجيب، ولكن العجيب أني لمّا وصلت إلى الفندق وجدت الشيخ الميداني قاعداً على طرف السرير، وأمامه ضابط على كتفه نجوم جاثم على ركبتيه، ورأسه على ركبة الشيخ وهو ينشج ويبكي. فلم أعرف من هو ولا ما الذي أبكاه، ولم أدرِ من أين جاء بهذه الدموع، ولعلّه شمّ بصلاً قبل أن يدخل الفندق، ولعلّ هذا من فصول «الرواية» ! كيف وصل هذا الضابط إلينا ومن الذي دلّه علينا؟ ومن أين عرف أن الشيخ أبا الخير معنا وأننا نزلنا ها هنا؟
ثم علمت أن «القوم» لا يدَعون قادماً حتى يُرسلوا إليه من
يكشف سرّه ويعرف خبره، فمن الناس من يستميلونه بتسهيل طرق الملذّات وإرواء الشهوات، ومنهم من يُغوُونه بالعطايا والهدايا، ومنهم من يكون من أهل السياسة فيسلكون به مسالك الكياسة والأطماع بالرياسة، ومنهم ومنهم
…
وكل هؤلاء ما نحن منهم ولا شغل لنا معهم، فكيف يعرفون خبرنا؟
إن عندهم مُخبِرين من كلّ لون من ألوان الناس، فلما علموا بأننا مشايخ وأننا جئنا نزور مصر اختاروا مِمّن يثقون به ضابطاً أهله من المتصوّفة، من الذين يزورون الشام ويعرفون مشايخها وممّن لهم صلة بشيخنا الميداني، فأرسلوه إلينا.
لمّا رأيت الفندق لم يعجبني، وتركوا إليّ أمر اختيار غيره. وكنّا قد انتقينا فندقاً صالحاً في الشارع الذي كان يُدعى شارع فؤاد الأول (ولست أعرف الآن بماذا يُدعى) فذهبنا إليه والضابط معنا. فلما كان من الغد جاءنا مبكّراً، وقد نزع بزّته العسكرية وأزاح عن كتفيه نجومها ولبس ما يلبس جمهور الناس وبقي معنا. فقلت له: كيف تدع عملك لتبقى معنا؟ فقال: إذا جاء الشيخ لم أبالِ بعمل ولا بمنصب ولا بوظيفة لأغتنم صحبته.
ونظر بعضنا في وجوه بعض وعرفنا أنه كاذب. ثم بحثنا عن أمره فعلمنا أن له مرتبة عالية في دوائر الاستخبارات، وأنه إنما أُرسِلَ لتحسّس خبرنا والتجسّس علينا. فلما أمسى المساء بقي معنا وطلب غرفة ينام فيها لئلاّ يفارقنا، وأعجب ما في الأمر أنه نزل في الفندق يأكل ويشرب على حسابنا!
فأقمنا مَن يُخبِر كلّ زائر لنا بحقيقة أمره قبل أن يصل إلينا،
فإذا دخل زائر ولم يعلم قلت له مازحاً: أترى هذا الرجل؟ إياك أن تنطق بكلمة. إنه يشنقك، إنه كولونيل، ضابط كبير له نفوذ عظيم، فإياك إياك أن يسبق لسانك إلى ما لا يريد. وربما قلت لغيره:«ما ينطق من قول إلاّ لديه رقيب عتيد» وأشرت إليه.
فأضعنا عليه بذلك ما أُرسِلَ من أجله، فما استفاد منّا فائدة ولا استطاع أن يعرف عنّا خبراً. وكنّا إذا أردنا أن نتحدّث بشيء تركناه وذهبنا إلى غرفة واحد منّا، وما كان له أن يجرؤ على أن يتبعنا.
* * *
وجعلَت الأيام تمرّ ونحن في الفندق نأكل ونشرب وننام ونفيق، وندفع ثمن الطعام والمنام، ولا نستطيع أن نُنجِز ممّا جئنا له شيئاً، فـ «الريّس» لا نقدر أن نلقاه، والوزير يفرّ منّا ويتوارى عنّا، وكلّ ما صنعناه أن قابلنا وزير المعارف الإقليمي. ونحن نعلم أن عمله محصور في الإقليم الجنوبي، أي في مصر، وأنه لا شأن له بإقليمنا، أي بشامنا.
وإذا كان الرجل قد عاد قديماً من الحيرة بِخُفَّي الإسكافي حُنَين، فنحن لم نعُد بشيء ولا بالخُفّين. وكان حَزُّ ذلك في نفوسنا عميقاً وأثرُه على إخواننا في الشام لمّا عدنا وخبّرناهم به سيئاً.
وسمعنا أن وزير المعارف كمال الدين حسين سيقدم الشام. وهو -كما نمي إلينا- من أقرب هؤلاء الضبّاط إلى الدين، هو وحسين الشافعي. وسمعنا أن بين جوانحه قلباً مؤمناً، إذا ذُكّر
ذَكَر وإذا وُعظ اتّعظ. فبعثنا إليه برقية نطلب منه فيها موعداً نجتمع فيه إليه، فما جاءنا منه جواب. ثم علمنا أن مَن كان حوله من المصريين الموظفين في الشام كتموا برقيتنا عنه وحالوا دون وصولها إليه، فجرّبنا أن نهتف به (أي نكلمه بالهاتف) فما وجدنا إلى ذلك سبيلاً.
وعُقد يومئذ اجتماع أو مهرجان صغير، لست أدري الآن ماهو، في الشعر والشعراء، حضره صديقنا الأستاذ الشاعر ضياء الدين الصابوني، فأعطيته رسالة ليبلغها الوزير فلم يستطع الدنوّ منه، فما كان منه إلاّ أن وقف على طريقه لمّا خرج يعترض سيارته، حتى إذا دنت منه وكادت تدعسه (بالعين لا بالهاء) رفع الورقة بيده، فأمر الوزير بوصوله إليه وأخذَها منه.
بذلك استطعنا إقناع الوزير بأن يضرب لنا موعداً. وكان هذا الموعد، واجتمع له العلماء من أقطار الشام كلها، فجاء ناس من كبار علماء حلب، ومن علماء حمص وحماة وغيرهما من مدائن الشام. وإنه ليحزنني ألاّ أستطيع الآن أن أعدّ أسماءهم، ولعلّ عند ولدي الأستاذ زهير الشاويش علماً بهذه الأسماء فلقد عرفته حافظاً واعياً وضابطاً محقّقاً.
أذكر أن بين من حضر من علماء حلب الأستاذ الشيخ عبدالفتاح أبو غُدّة، ومن حماة الأستاذ الشيخ محمد الحامد، ومن دمشق كثيراً أذكر منهم شيخنا المفتي الطبيب الشيخ أبا اليسر عابدين، وأمين الفتوى صديقنا الشيخ عبد الحكيم المنير، والصديق المجاهد الصدّاع بالحقّ الشيخ عبد القادر العاني، والشيخ الطبيب
رفيق السباعي، وغيرهم مِمّن لا أحصيهم الآن.
اجتمعنا أولاً في دار الإفتاء، وكانت في طريق الصالحية تحت الجسر الأبيض. واتفقوا على أن يفتتح الكلامَ المفتي، ثم أتولّى أنا شرح الأمر. وهذه إحدى المرات التي شرّفني فيها العلماء بأن أتكلم عنهم وأنطق بلسانهم، وإن كنت أقلهم علماً وأدناهم منزلة. أما المرة الأولى فكانت يوم موت المحدّث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني سنة 1935، حين اجتمع علماء سوريا مثل هذا الاجتماع، واختاروني بالإجماع لأنعاه للناس على منبر الجامع الأموي في دمشق.
إن المرء تعتريه أحياناً حالات يحسّ فيها حلاوة الإيمان ويستشعر الصلة بالله، فيرى كلّ كبير في الدنيا صغيراً وكل صعب سهلاً. ولقد عبّر عن ذلك سلطان العلماء لمّا سأله تلميذه الباجي كيف واجه الملك الأيوبي بما واجهه به، لم ترُعْه عظمة موكبه ولا قوّة جيشه ولا خشية بطشه، فقال له تلك الكلمة الصادقة الباقية:"يا بُنَيّ، تصورت هيبة الله فصار السلطان قُدّامي كالقط"(1).
وما أنا من أمثال العِزّ بن عبد السلام، ولا أنا من العلماء الأعلام ولا من العباد الزهّاد، ولكن الله -كما تقول العامّة- «يضع سرَّه في أضعف خَلْقه» . لقد تصوّرت والله (ولا أزال أذكر إلى الآن ما تصوّرت) أن الموت قد نزل بي وأن القيامة قد قامت وأننا نقف جميعاً في المحشر، وأن الوزير مثلي، كلانا حافٍ عارٍ لا يملك
(1) والقصة في آخر مقالة «شيخ من دمشق» في كتاب «رجال من التاريخ» (مجاهد).
شيئاً ولا يقدر على شيء، قد نادى المنادي: لِمَن المُلك اليوم؟ فكان الجواب: لله الواحد القهار.
ولا تحسبوا أن هذا الشعور يلازمني دائماً. هيهات! ولا أني كثيراً ما أحسّ به. إنما هي نفحات نادرة تهبّ عليّ، كان هذا الموقف واحداً منها.
بدأ شيخنا المفتي الكلام وعرض لرواتب «أرباب الشعائر» ، فخفت أن يتحوّل المجلس عن غايته وأن ننتقل من المطالبة بإصلاح عامّ إلى مصلحة تكاد تكون شخصية، فلم أملك إلاّ أن رفعت صوتي فقلت له: يا سيدي، ما لهذا جئنا. فقال الشيخ أبواليسر: وهذا أيضاً ممّا جئنا له.
وخشيت أن يفلت الأمر من يدي فالتفتّ إلى الحاضرين، وكانوا نحواً من خمسين من كبار علماء سوريا، فقلت لهم: يا إخوان، ألهذا جئتم؟ فصاحوا قائلين: لا، ما جئنا من أجل الرواتب ولكن جئنا مدافعين عن الدين وعن الأخلاق ومطالبين بالإصلاح.
فسكت المفتي وأمسكت أنا بزمام الكلام، فقلت للوزير: هل تعلم سيادتك أننا لسنا هنا أحراراً، كلّ واحد منّا مراقَب يُبعَث إليه من يُحصي عليه حركاته وسكناته، فكيف نعيش مطمئنّين آمنين ألاّ تصيبنا جائحة؟ حتى أنت، إن معك اثنين يراقبانك ويرفعان عنك تقريراً بكل ما تقول أو تفعل.
لمّا قلت هذا وجدت الحاضرين قد دُهشوا، حتى ظنتهم حسبوني جُننت أو أني لم أعُد أدري ما أقول. ثم قلت له: وهذا
التقرير لا يُرفَع إلى سيادة الرئيس، بل إلى ربّ الرئيس وربّ العالَمين، يُعلَن على رؤوس الأشهاد يوم الميعاد، يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا وزارة ولا رياسة. فأرجو ألاّ تهيّئ جواباً يرضينا الآن بل تُعِدّ الجواب لربّ الأرباب يوم الحساب.
لم أقُلها بلساني كما أقولها الآن بل نطق بها قلبي وإيماني. وسرَتْ في جوّ المجلس كهرباء الإيمان، وإن أكُن أنا مطلقها فإن مدّخرتي (أي بطاريتي) صغيرة إن قيست بأمثالها ممّا عند الحاضرين. وما ظنّك بأمثال الشيخ محمد الحامد، والشيخ أبيغدة، والشيخ العاني، والسيد المكي الكتاني، ومَن لا أذكر الآن اسمه ولكن الله يذكره ويشكره؟
إن ذاكرتي بصرية، فكأنني حين أكتب هذا الكلام أتصوّر المجلس الكبير الذي كنّا فيه، وفي الزاوية التي كنت فيها المفتي وفي المقابلة لها الوزير، وكأنني أرى المشايخ وهم يتكلّمون من أماكنهم. وكانت جلسة روحية إيمانية، وسأل الوزير أحد الإخوة المصريين مِمّن كانوا يعملون في سوريا عن بعض ما قلت، فدنا من أذنه يسارّه، فخفت أن يلقي فيها ما يُفسِد به علينا ما جئنا له فقلت له جهراً: يا سيادة الوزير، لا تسمع منه. إنه صديقي، ولكنه هو وأمثاله يغشّونك ويغشّون سيادة الرئيس. الشعب هنا ناقم والأمة تغلي غضباً لله وللأخلاق، وهؤلاء يكذبون عليكم ويكتمون ذلك عنكم.
فأصابه هو ومن معه من هذا الكلام ذهول، لم يعُد يدري معه ماذا يقول. ومرّت ساعتان وعشر دقائق، وهمّ الوزير بالقيام
يريد الانصراف لأن عنده موعداً أحسب أنه كان في رياسة رعاية الشباب، فصاح به السيد مكي: أتذهب إلى من كلّ هَمّه اللعب وتدع علماء المسلمين الذين جاؤوا يحفظون عليك دينك وآخرتك؟ اقعد!
فقعد. وأشهد أني قلّما رأيت مثل السيد مكي الكتاني رحمه الله، في عزّة نفسه وجرأته على الحُكّام وقوّة تأثيره عليهم.
* * *
وذهبنا إلى دارنا بعد انقضاء الاجتماع مع بعض من كان حاضراً، وأذكر أن منهم الأستاذ الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، وأنه قال لي كلاماً خجلت منه لأنه أعطاني فيه ما لا أستحقّه، ولكنه كان دافعاً لي إلى الأمام.
ومشى خبر هذه المقابلة بين الناس، ونسبوا إليّ مناقب ليست لي ومنحوني ألقاباً أتمنّى أن أكون أهلاً لعُشرها. ولكن الشرّ بقي ماشياً في طريقه، ما بدّل الطريق ولا خفّف السرعة ولا خشي أهله العواقب.
والمصيبة أن جمهور الناس ما لهم لسان، وأن أكثر أهل اللسان والأقلام الذين يُسمَع قولهم وتُقرأ كتابتهم من الصحافيين والسياسيين لا يعبّر أكثرُهم عن إرادة الأمة ولا يصدر عن رأيها، وليس الذي يقولونه ويكتبونه هو الذي يصوّر حالها ويعرض حقيقتها. ولطالما مرّت بنا أيام كان البلد الذي نعيش فيه يتزلزل بالمظاهرات وتشتعل فيه النار، ويموت فيه الناس ويُجرَحون ويُمنَع
فيه التجوّل، ثم نقرأ في التقرير الرسمي أو نسمع في الإذاعة الحكومية، أن الأمن شامل والسكينة عامّة والناس كلهم بخير!
والمشايخ عندنا كثر. وأنا أشاركهم الدعوة الإسلامية العامّة التي تجمع وأُجانب في التفصيلات التي قد تفرّق، ثم إني لا أزاحم شيخاً على مشيخته، بل إنها لو عُرضت عليّ لأبيتُها، بل لقد عُرضت عليّ غير مرة فتملّصت منها وابتعدت عنها.
لذلك كنت صديقاً للجميع وكنت أقدر الناس (والحمد لله) على جمعهم. حتى إن الشيخ أمجد الزّهَاوي رحمة الله عليه جاءنا مرة مع الصديق الشيخ محمد محمود الصوّاف، فقابلتهما في الفندق الذي نزلا فيه بعد العصر، فثار عليّ الشيخ الزّهَاوي ثورته المعهودة التي تبعثها الغيرة على دين الله والحماسة في الدعوة إلى الله، وقال: أفندي، إنتو قاعدين ما تعملون شيء. لماذا لا يجتمع العلماء ويُصلحون؟
قلت له: كم مرة اجتمعوا فكان اجتماعهم بأجسامهم وحدها وأرواحُهم متفرّقة، فما أفاد اجتماع. قال: أنت، عليك أنت أن تجمعهم والنجاح على الله. قلت: سأجمعهم لك الليلة إن شاء الله بعد العشاء.
واتصلت بهم واحداً بعد واحد، من أقصى جماعة السلفية إلى أقصى جماعة الصوفية، ودعوتهم إلى الاجتماع في دار الحديث الأشرفية بعد العشاء، فما تخلّف منهم أحد. وتكلّمت أقدّم إليهم الشيخ أمجد، فتكلّم الشيخ أمجد كلاماً كله إخلاص، ثم تكلّم الشيخ الصوّاف باندفاعه وحماسته وجهارة صوته حتى
توهّمنا أن نار الحماسة قد أُضرِمَت بين جوانحهم وأنهم صاروا مستعدّين للعمل، وقلت لهم: إننا لا نريد من أحد منكم أن يبدّل طريقه أو أن يعمل شيئاً لم يكن من قبلُ يعمله، إنما نريد أن يكون عملنا موحّداً، فإذا نزلَت بالمسلمين نازلة وكّلنا من يوصل إليكم خبرها، فمن أراد أن يعمل عمل ما رآه؛ فالخطيب يخطب على منبره، والمدرّس يعرض للقضية الطارئة في درسه، وصاحب القلم يكتب فيها بقلمه، ومن لم يكن له قلم ولا لسان يحدّث بها إخوانه وأصحابه.
ولعل الذين يتابعون هذه الذكريات يذكرون أنني جمعت العلماء مثل هذا الجمع وأنني قلت لهم مثل هذا الكلام سنة 1937 لمّا رجعت من العراق إلى الشام، وأننا انتخبنا يومئذ لجنة من ثلاثة عملها أن تُبلغ هؤلاء العاملين بما يطرأ على الإسلام والمسلمين، وكان الثلاثة يومئذ هم الشيخ ياسين عرفة، والأستاذ محمد كمال الخطيب، وكاتب هذه السطور. وكلهم اليوم حيّ يُرزَق.
هذا ما كان سنة 1937، أما هذا الاجتماع الذي أتحدّث عنه (سنة 1959) فقد وقّع فيه الحاضرون جميعاً على ميثاق إسلامي يعملون فيه للإسلام ولدفع الشبهات ولتخليص أبنائه من الوقوع بيد أصحابها. ولم نكن نريد سياسة ولا نريد رياسة، ولا نريد كسباً دُنيَوِياً.
وافترقنا بعدما وقّعنا الميثاق، وكانت هذه الجلسة هي الأولى، وكانت هي الأخيرة.
* * *
وعُدنا نجتمع، معشر المشايخ والشباب المسلمين العاملين في الجمعيات الإسلامية، نحاول أن ندفع هذا الفساد الذي حلّ بالبلد وأن نُصلح المدارس وأن ننقّيها ممّا دخل عليها من الفساد والانحراف.
وكان الاجتماع مرة في بيت السيد مكي الكتاني، فقلت لهم: لماذا لا نقيم أسبوعاً ثقافياً يخطب فيه كل مرة ناس منّا، يعرّفون المسلمين بدينهم ويُبعِدونهم عمّا يُفسِد عليهم عقائدهم ويضيع أخلاقهم؟
وكان جدال، ثم اتفقنا على أن نبدأ هذا الموسم في اجتماع في جامع تِنْكز لأنه مسجد كبير يقوم في وسط البلد، ولأنه يطل من هنا على شارع النصر ومن هناك على ساحة المرجة، وله مكبّرات للصوت تُسمَع من في الجانبين. وكان الاتفاق على أن يفتتح الاجتماع المفتي الشيخ أبو اليسر عابدين بكلمة منه وأن أُلقي أنا المحاضرة، وأن يختمها السيد المكي الكتاني، نائب رئيس رابطة العلماء.
وقد قدر الله لهذا الاجتماع أثراً أكبر ممّا كنّا نقدر، وأن يهزّ البلد هزّاً، وأن تتكوّن له ذيول سأتحدّث عنها إن شاء الله فيما يأتي من الحلقات.
* * *