الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-129 -
الحياة الأدبية قبل نصف قرن (2)
لامني قوم وقالوا إني أخرج من خطّ الذكريات المتّبَع فلا أسلكه، بل أمشي في طريق جديد.
وأنا أعترف بهذا، لأنني لم أُرِد أن أكون كسائق السيارة الذي لا ينظر إلاّ إلى الأمام، بل كراكبها الذي يتلفّت يمنة ويسرة ويرى ما يمرّ به من مشاهد ويصف ما يرى. لست كالجندي المرسَل في مهمّة مستعجَلة فهو يسرع إلى قضائها، بل كالسائح المتمهل الذي يرى ويسمع ليستمتع ويستفيد.
لذلك جئت اليوم أكمل الكلام عن الحياة الأدبية قبل خمسين سنة، ألخّص هذه المقالات التي كتبها عن كل قطر أديبٌ من أبنائه، لا أعدّل فيها ولا أبدّل بل أختصر وألخّص وأروي. إنها صورة نادرة تنفع دارس الأدب، ثم إنها تتّصل بذكرياتي لأنها تعليق على إحدى مقالاتي. وليست صورة شمسية (فوتوغرافية) ترسمها آلة جامدة، بل هي لوحة حيّة يعرضها إنسان يحسّ، فتجيء مترجمة عن نفسيّته كما تجيء مصوّرة للأدب في بلده.
ولا يشكّ أحدٌ أن الحياة الأدبية في تلك الأيام في سوريا
مثلاً وفي لبنان كانت أحفل وأغنى بالثمرات الأدبية من الأدب في الحجاز، وقرأتم مع ذلك أني لم أعُدّ ما صدر عندنا في الشام من آثار دالاًّ على حياة أدبية صحيحة وعدّ الأستاذ الشبكشي (شفاه الله) ما صدر في الحجاز دليلاً قوياً على حياة أدبية صحيحة، مع أنه لا سبيل إلى المعادلة أو المماثلة بين الأدبَين في البلدَين.
ولست في هذه الحلقات ناقداً، بل ناقلاً ما كتب هؤلاء الأدباء من أهل كل بلد عن بلده.
* * *
وهذه المقالة السادسة عن الحياة الأدبية في فلسطين، يقول كاتبها الأستاذ محمد تقيّ الدين النبهاني:
مدارس الأدب في فلسطين مدرستان: مدرسة الشيوخ ومدرسة الشباب. وهذا التقسيم قد يكون طبيعياً، بل قد يكون عاماً لا يمتاز به قطر ولا يستأثر به بلد، غير أنه في فلسطين غيرُه في سواها، فأدب الشيوخ في أكثر الأقطار مطبوع بطابع المحافظة على القديم حتى لدى المجدّدين منهم، وأدب الشباب كَلِفٌ بالجديد حتى لدى المعتدلين من هؤلاء، أما فلسطين
…
إلى أن قال: ترى طائفة من الشيوخ أن الأدب في رفض هذا النحو المألوف لدى العرب وتذهب إلى أن كتب النحو وأسفار البلاغة (من أمثال كتب الجرجاني والقزويني حتى اليازجي، وأسفار ابن هشام وابن مالك حتى الشرتوني والجارم) يجب أن تُحرق وينبغي أن تُمحى وأن تكون لغةُ الصحف والكلامُ العادي
هي الأدبَ الحقّ. فكفى المرء أدباً أن يقرأ حتى لو أخطأ رفع المبتدأ ونصب الحال، ما دام هو أو السامع قد فهم مغزى الكلام
…
وهذا رأي ينادي على نفسه بالخطل.
وتزعم طائفة أخرى أن الأدب في التضلّع من غرائب الكلِم وأنّ من لم يُحِط علماً بذلك لا يُسمّى أديباً
…
هذان رأيان من آراء الشيوخ، وهما متناقضان. وطائفة معتدلة ولكنها تقصر علمها وتحصر نهضتها في غرف الدرس وحلقات السمر، لم تُخرِج بعدُ ثمرة ولم تقُم بمجهود
…
إلى أن قال: أمّا الشباب ففرقتان: فرقة كان موطن ثقافتها مصر وفرقة رضعَت لبان الأدب في فلسطين ولبنان. فالذين تثقفوا في مصر يرون أن خير طريق لإنهاض الأدب هي الطريق التي تسير فيها جمهرة أدباء مصر، وتعتمد على دراسة النصوص وفهمها ونقدها
…
أما الفرقة الأخرى فهي تقصر الأدب على رقيق الغزَل وبارع الخيال في الكلم وما يبدع من مقالات الصحف السيارة، حتى إنهم ليعدّون رئيس تحرير جريدة أديباً إذا ما أنشأ كلمة في علاج شؤون البلاد.
إلى أن قال: ولا يحزن القارئ من عرض هذه الصورة، فإن الواقع هو هذا الاضطراب في الحياة الأدبية عندنا، ففلسطين كان أدبها معدوماً وكان أدباؤها غير مخلوقين قبل سنين (وعلّل ذلك بأن الأتراك كانوا يتآمرون على الأدب العربي). وختم مقالته بقوله: بَيد أن هذا الاضطراب والاحتكاك يلمع ببرق أمل في النهضة الأدبية ويبشّر بانتظام حياة أدبية بجهد الشباب والمعتدلين من
الشيوخ، وما هي إلاّ لمحة حتى تتغير الحياة غير الحياة، وتظهر رياض الأدب في هذه البلاد العربية وتؤتي أُكُلها ثمراً شهياً.
* * *
المقالة السابعة عن الحياة الأدبية في المغرب بقلم محمد عبد المجيد بن جلون. يقول فيها:
وبعد، فما هي حالة الأدب العربي في المغرب اليوم؟ لقد أجهدت نفسي في أن أصل إلى جواب أطمئنّ إليه عن هذا السؤال، فما وجدت الحقيقة إلاّ في أنها حالة ضعيفة. فما هي الكتب الأدبية بالمعنى الصحيح التي يصدرها المغرب؟ أعفِني بربّك أيها القارئ، فالحقيقة مُرّة وقلبي يضطرب عند ذكرها اضطراباً.
وإذا عدمنا الكتب فلنتساءل عن الصحف. إن كلّ ما يُصدِره المغرب مجلّتان أدبيّتان: الأولى مجلّة «المغرب» للأستاذ محمد الصالح نيسة برباط الفتح، والثانية «المغرب الجديد» للأستاذ محمد المكي الناصري بتطوان. اجتازت الأولى مرحلة أربع سنوات والثانية أتمّت سنتها الأولى من قريب، فما قيمة ما تنشر هاتان المجلّتان؟ أوّلاً يجب أن تعلم أن المجلاّت المصرية طغت عليهما إلى درجة أن إحداهما لا تُباع في فاس لأنها فقدت المشتري بالمرّة، وهما معاً تصدران شهرياً، فلننظر الآن إلى ما في هذه المجموعات.
أما ما يُسمّى بالبحث الأدبي ففيها الكثير، خصوصاً حول الأدب العربي في المغرب قديماً، فهذا البحث الذي يتابع نشره
الأستاذ محمد علال الفاسي على الطريق الحديثة، عن أبي عليّ اليوسي، وبحثه القيّم يبهر القارئ. وهو يكتب الآن بحثاً عن أثر شعر المتنبّي في المغرب بمناسبة ذكراه الألفيّة.
إلى أن قال: أما إن بحثت عما يُسمّى بالإنتاج الأدبي فذلك ما لا تعثر عليه، فليس يدور بخلد المغربي أن يعالج القصّة بل القصّة عنده لهو وعبث يجب أن يضنّ عليه بوقته الثمين. وهنالك شعر قليل، ولكنه نَظْم ليس إلاّ، ذلك أن المغاربة يجهلون الشعر تماماً
…
وما عندهم إلاّ تقليد لما مضى ومعانٍ مفكّكة، وهم ضعفاء الخيال. وهنا أستثني شاعر شبابنا الأستاذ محمد علال الفاسي.
إلى أن قال: والنهضة المغربية تقوم على أكتاف الشباب، فالشباب الناشئ الذي يقرأ ما يكتبه أفذاذ الشرق قد اعتدلت أفكاره نوعاً من الاعتدال
…
والعقلية المغربية أقرب إلى العلم منها إلى أي شيء آخر، خصوصاً ما في جامعة القرويين من دروس جامعة، مع اعترافنا بما فيها من نقص وما تحتاج إليه من تهذيب.
إلى أن قال: بقي أن نقول إن «القرويين» والمدارس الحكومية والقومية كلها تُحمَد وتُعاب، غير أن أفضل معهد للدرس هو «القرويين» . ولو كان أبناء «الكوليج» و «مولاي إدريس» يشتغلون بالعربية لكانوا أنجب من أبناء القرويين.
* * *
المقالة الثامنة عن الحياة الأدبية في الحجاز أيضاً للأستاذ عبد القدوس الأنصاري. قال فيها:
كانت الحياة الأدبية عندنا فيما قبل الحرب العامّة الماضية تجري على سنن أدباء القرون الوسطى جرياً تقليدياً مَحضاً ميكانيكياً خالصاً، قصائد غزل ورثاء ومدح وهجاء وتطريز وتشجير، ورسائل معذرة وإطراء وعتاب وتواصل وتقاطع. وكانت كل هذه الرسائل وهاتيك القصائد منهوكة القُوى المعنوية، بما تحمله دواماً من أغلال السجع المرهِقة وأثقال المحسِّنات البديعية الجافّة، التي كان لها في الأدب عامّة المقام الأول. أمّا المعاني فهي في الدرجة الثالثة أو الرابعة.
إلى أن قال: فلما وضعَت الحرب أوزارها استيقظ في نفر من ناشئة الحجاز المتعلّمين روح النهوض، وشعروا أن أدبهم قد أخنى عليه التقليد وأفسده داء الجمود.
إلى أن قال: إلى أين نتّجه؟ هنا شاهدنا سببَين ممدودَين إلينا من أقطار العروبة الناهضة، وكل منهما له مغريات: هذا الأدب المصري يجذبنا بنصاعة أسلوبه وقوّة ترتيبه، وهذا الأدب المَهجري يسحرنا بمرونة أسلوبه وبسهولة تعبيره. كان طبيعياً والحالة كذلك أن يحصل انقسام في اتجاه حياتنا الأدبية. ففي المدينة المنورة كان منّا إجماع على اعتناق الأدب المصري أسلوباً وتفكيراً، وفي مكّة وجدّة تمسّكَت طائفة بذيول الأدب المهجري وأخرى اعتنقت الأدب المصري، وكلٌّ سار في اتجاهه يكتب ويفكّر، حتى كان تفاعل فكريّ في الآونة الأخيرة أنتج توحيد مناهج الأدب الحجازي في انتهاج سبيل الأدب المصري وحده.
إلى أن قال: على أن حياتنا الأدبية -بسبب حداثة عهدها
ولكونها نتيجة ثقافة محدودة- فإنها ما تزال في حاجة إلى الإصلاح والتغذية وإلى التنظيم والنضوج. فالاضطراب الفكري والارتجال الكتابي ظاهرتان ما تزالان تلازمانها فيما تنتجه من ثمار. ولقد خطَت حياتنا الأدبية خطوات مباركة في سبيل النشر والتأليف، فمع وجود كثير من العقبات والحواجز قد ظهر في عالَم المطبوعات كتب أدبية حجازية، منها كتاب «أدب الحجاز» وكتاب «آثار المدينة المنورة» ورواية «التوأمان» و «إصلاحات في لغة الكتابة والأدب» و «تاريخ العين الزرقاء» و «حياة سيد العرب» . وفي الحجاز اليوم صحيفة أدبية هي الأولى من نوعها وهي «صوت الحجاز» التي تصدر بمكّة، وهذه الصحيفة هي المنبر الوحيد الذي يتبارى من فوقه حَمَلة الأقلام في الحجاز، وفي نيّة بعض إخواننا من أدباء المدينة وشبابها إنشاء صحيفة في المدينة كصوت الحجاز، نرجو لهم التوفيق.
وخلاصة القول أن في الحجاز اليوم حياة أدبية وإحساساً أدبياً زاخرَين بالآمال.
* * *
المقالة التاسعة عن الحياة الأدبية في شرق الأردن (لمّا كتبت هذه المقالة سنة 1355 لم تكن قد أُسِّست المملكة الأردنية الهاشمية، وإنما كانت إمارة شرقيّ الأردن فقط وأميرها هو الأمير عبد الله بن الحسين الهاشمي). جاء في هذه المقالة:
لم تكن بلاد ما وراء الأردن منذ خمسة عشر عاماً إلاّ جزءاً من سوريا لا ينفصل، فهي بلاد فتيّة في تكوينها السياسي وفي نهضتها
الأدبية والاجتماعية. أمّا والمقصود من هذا المقال النهضة الأدبية فلنقتصر عليها، تاركين البحث في السياسة والاجتماع لعلمائهما.
في شرق الأردن حياة أدبية جديدة لم يكن لنا عهد بها، فكان أوّل عمل قامت به الحكومة فتح المدارس الأميرية
…
فتولّد من ذلك روح ويقظة جديدتان. كانت الحياة الأدبية قبل ذلك راكدة والنفوس فاترة، فلم تنبعث إلاّ بتأليف حكومة سموّ الأمير المعظم، عند ذلك دخلَت البلادَ فئةٌ راقية من أدباء الأقطار المجاورة، وخاصة سوريا، فكان دخول هذه الفئة البلاد باعثاً كبيراً على إحياء الأدب العربي وإحداث نهضة فكرية مبارَكة. فكان مثلاً لقصائد الشيخ فؤاد باشا الخطيب، شاعر الثورة، والأستاذ محمد الشريقي وغيرهما من الأدباء الذين رافقوا الثورة العربية أثر كبير في إحياء الآمال في نفوس الأحداث.
ثم بيّن أن الحكومة عملت أيضاً على إرسال البعثات العلمية سنوياً إلى الجامعة الأمريكية في بيروت وغيرها من المعاهد العالية في سوريا وفلسطين. وتنبّه الشعب الأردني إلى فضل الأدب والعلم في نهضات الشعوب
…
كلّ ذلك كان يحدث بينما الصحافة المصرية تغذّي نفوس الأحداث بأدبها الراقي وعلمها الصحيح، ولا أبالغ إذا قلت إنه كان للرسالة خاصة أثر ملموس في إحياء النهضة الفكرية وتشجيع الحياة الأدبية، لإقبال الطلاب على مطالعتها إقبالاً شديداً.
إلى أن قال: ونحن نرى طلائع هذه العوامل في تكوين النهضة الأدبية في قيام فئة قليلة من حَمَلة الأقلام النثرية، كأديب
عباسي والدكتور أبو غنيمة وبشير الشريقي وعبد الحليم عبّاس، وشعرية أمثال مصطفى وهبي التل شاعر النّوَر (أي الغجر) والشيخ رشيد بك وغيرهم من الأدباء الأحداث. لكن شرق الأردن يمتاز عن الأقطار العربية الأخرى بنوع خاصّ من الأدب، أعني به الشعر البدوي
…
والشاعر البدوي شاعران: شاعر راوية يحفظ -على أُمّيته- كَمّية وافرة من القصائد المختلفة ويُلقيها في شتّى المناسبات، كمجالس الشيوخ والأفراح المختلفة من مولد وختان وعرس. وشاعر منشئ مبتكر. وعدد الفئة الأخيرة قليل جداً إذا قيس بالفئة الأولى.
إلى أن قال: وأقتصر هنا على ذكر فريق من الشعراء البدو المخضرَمين، نخصّ منهم بالذكر نمر العدوان، وقصيدته في رثاء زوجه مشهورة تتناقلها الألسنة في كل مكان.
وجاء في المقالة بأمثلة كثيرة من الشعر البدوي وشرحها وفسّرها، ومنها ما يعدل في جودة معناه أبلغ الشعر الفصيح.
* * *
المقالة العاشرة عن المغرب الأقصى للأستاذ ع. ك. (ولعلّه عبد الله كنون)، يقول فيها:
أما وقد قرأت في مجلّة «الرسالة» الغرّاء مقالة عن الحياة الأدبية في دمشق بقلم علي الطنطاوي وعن الحياة الأدبية في بغداد، إلخ، ورأيت في أكثرها التبرم والتشكّي من ضعف الحياة الأدبية، كلّ في بلده، ومن تصوير مظاهر الضعف في هذه الحياة التي
كادت تُزري بتقدّم البلاد من النواحي الأخرى. أمَا وقد قرأت هذا فيحسن بي أن أضمّ صوتي إلى أخوَيّ الدمشقي والبغدادي وإخوتي الآخرين، فأكتب كلمة عن الحياة الأدبية في المغرب ليعرف القُرّاء أن المغرب قد اغترف غرفة ممّا غرفت منه دمشق وبغداد.
إلى أن قال: إذا نظرنا إلى المغرب الحديث وأردنا أن نسبر غور الحياة الفكرية والعلمية والأدبية بمسبر نعرف به مدى ما بلغته من الرقيّ أو الانحطاط، من القوة أو الضعف، من النهوض أو الجمود، إذا أمعنّا النظر استطعنا أن نخرج بنتيجة لا تُرضي. تلك النتيجة هي -في صراحة- أن المغرب الأقصى يتخبّط في ديجور من الجهل قاس، وفي بساطة فكر مفرطة، وفي خمود وجمود لم يسبق لهما مثيل في عصوره التاريخية.
إذا تساءلنا: هل هناك حركة فكرية أو علمية تسود المغرب الأقصى حتى يجني من ورائها ما يزيح به هذه الظلمة التي تغمره من أقصاه إلى أقصاه؟ لم نجد إلاّ كلّية القرويين التي أنجبَت فطاحل علماء المغرب. نخرج بالنتيجة الآتية، وهي أن الحركة التي نبتغي البحث عنها وعن مظاهرها هي شيء لم يوجد حتى الآن، غير أن هناك شبح حركة علمية تغذّيها كلية القرويين ونظامها الجديد، ولكن على حال مشوَّهة لا تُرضي، ولن تُرضي إذا بقيَت الحال كما نرى. فإذا ما أطلقنا عليها «حركة علمية» فقد عرّضنا أنفسنا لظلم الحقيقة والتاريخ.
إلى أن قال: أمّا الحياة الأدبية فليست أحسن حالاً من الحياة العلمية، بل إننا نجدها أضعف منها وأحطّ بكثير ولم نجد هناك
مايُطلَق عليه اسم الحياة الأدبية
…
فهذه المطابع الشرقية تظهر علينا من حين لآخر بعشرات الكتب الجديدة، الأدبية والعلمية، بأقلام أدباء شرقيين وخاصة في مصر، فأين هي آثار المطابع المغربية من ذاك؟
وأين هي المجهودات الأدبية للأدباء المغاربة أمام مجهود الشرقيين على العموم والمصريين على الخصوص؟ فهذا العالَم العربي يطلع علينا كل يوم بمئات الصحف والمجلاّت الأدبية والعلمية فيظهر فيها من المقدرة على البحث الأدبي والإنتاج العلمي ما ينبئنا بقوّة حياته الأدبية وبلوغها أوج الكمال، فأين هي الصحف والمجلاّت المغربية الأدبية؟ وأين هو إنتاج المغاربة الأدبي وبحثهم العلمي؟ وهذه الأندية الأدبية في الشرق تُخرِج لنا كلّ يوم محاضرات قيّمة تغذّي بها الأفكار، فأين هي الأندية المغربية وأين هي آثارها؟
ثم بحث في أسباب هذا الضعف، فتبيّن له أن السبب الأول هو الضعف في التعليم، وبيّن أن المغرب ليس فيه من المعاهد التي تغذّي الحركة الأدبية إلا كلّية القرويين (جامع القرويين) التي يتكفّل برنامجها الجديد بتخريج أدباء بل أساتذة في الأدب العربي، وهم الذين تخرّجوا في القسم العالي الأدبي، وهؤلاء يمكن أن نعلّق عليهم الأمل في بعث حركة أدبية في المغرب. والثاني هو الصحافة.
وبيّن أثر الصحافة في الأدب وفضلها عليه، ثم قال: المغرب الأقصى من جملة الشعوب التي لم تَحظَ حتى الآن بصحيفة أدبية
أو علمية سوى جريدة «السعادة» ، لسان الحكومة الرسمي وناشرة أخبارها ومقرراتها. ويرجع هذا السبق الصحفي في المغرب إلى القانون الجائر الذي وُضع للصحافة في المغرب (إن صحّ لنا أن نسمّيه قانوناً). وهذا القانون يمنع إصدار جريدة أو مجلّة عربية إلاّ بعد الإذن من الصدر الأعظم (رئيس الوزارة)، وله الرجوع عن هذا الإذن في أيّ وقت شاء، ولرئيس الجيش الأعلى أيضاً تقديم تقرير بمنع الصحيفة فينفَّذ أمره بلا استثناء.
وقد أُنشئت صحف في منطقة النفوذ الإسباني فطوردَت في منطقة النفوذ الفرنسي، ذلك أن المستعمرين قسموا المغرب إلى ثلاث مناطق: المنطقة السلطانية أو منطقة النفوذ الفرنسي، المنطقة الخليجية أو منطقة النفوذ الإسباني، المنطقة الدولية. نعم، هناك مجلّة علمية تصدر شهرياً في تطوان باسم «المغرب الجديد» نعلّق عليها الآمال في بعض الحياة الأدبية في المغرب. أمّا مجلّة «المغرب» التي تصدر شهرياً في رباط الفتح فليس يعنيها من الناحية الأدبية والعلمية شيء، وإنما يهمّها الخبز والتعليم على حدّ تعبيرها.
والسبب الثالث المشروعات الأدبية. وقد بيّن أن بعض الأدباء حاولوا أن يخطوا بالمغرب خطوة في هذا السبيل، فكان من آثارهم حفل الذكرى الأربعين لخالد الذكر أحمد شوقي بك، وحفل الذكرى الألفيّة لأبي الطيّب المتنبّي (أقيمت في فاس في 25 رمضان الماضي، أي سنة 1354). وهي خطوة حميدة في هذا الباب، غير أن هذا العمل الضئيل لا يكفي في بعث الحركة الأدبية وإيقاظها.
والسبب الرابع لضعف الحياة الأدبية هو البخل على الأدب، أعني عدم وجود الناشرين لهذا الأدب الذي نودّ أن يُبعَث. فمن دواعي النشاط الأدبي أن يجد الأديب (الذي يقف قسطاً من حياته على تأليف كتاب أو نظم ديوان) ناشراً يُبرِز مجهوداته إلى الوجود ويُخرِجها إلى الناس، ليعرفوا مقدار عمله وليكون ذلك مشجّعاً على المضيّ في سبيله. والمغاربة مع شديد الأسف ليس فيهم مَن يُشفِق على هذه الحياة الأدبية وينظر إليها بعين العطف والحنان فيقف قسطاً من ماله على نشر الكتب الأدبية والدواوين الشعرية أو يقدّم جائزة مثلاً لمن يؤلّف كتاباً في الأدب، مع أن فيهم الأغنياء الذين يستهلكون ثروتهم في شهواتهم فقط. إلى أن قال: فهذا شاعر الشباب الأستاذ محمد علال الفاسي يودّ أن ينشر ديوانه «روض الملك» ، ولكن أين هو الناشر؟
هذه جملة الأسباب التي تُعين على ضعف الحياة الأدبية في المغرب، أجملنا القول فيها إجمالاً لنعلّل فقط هذا الضعف المزري في حياتنا الأدبية، وليظهر للقارئ السبب الداعي لخمود الحركة الأدبية في المغرب.
* * *
المقالة الحادية عشرة عن الحياة الأدبية في تونس. وضعوا في أعلاها جملة من مقالتي هي قولي: "يجب أن يصف أدباء كلّ قطر من الأقطار الحياة الأدبية في قطرهم ومبلغ قوّتها أو ضعفها، لنتعاون جميعاً على علاجها ومداواتها". وفيها:
الكلام عن الحياة الأدبية في تونس يشمل الكلام عنها من
ناحيتين مختلفتين، فإن كان المراد بالحياة الأدبية كثرة المشتغلين بالأدب والمهتمّين بالحديث عن رجاله والمُقبِلين على مجالسه ونواديه والمطالعين لكتبه ومجلاّته، ففي تونس حياة أدبية لا بأس بها. أمّا إذا أردنا الإنتاج الأدبي والمجهود الفردي لخدمة الأدب بواسطة التأليف والنشر، فتونس ليس لها حياة أدبية تليق بمكانتها التاريخية ومركزها الجغرافي في إفريقيا الشمالية
…
إلى أن قال: أمّا الشعر فهناك في تونس شعراء كثيرون ودواوين شعرية مطبوعة، كديوان خزندار وديوان سعيد أبوبكر وديوان مصطفى آغا، ومجموعة للأدب التونسي المعاصر في أربعة أجزاء جمعها زين العابدين السنوسي صاحب مجلّة «العالَم العربي» وترجم فيها لما يزيد على ثلاثين شاعراً واتخذ من شعرهم منتخَبات. ولكن الشعر التونسي في مجموعه لم يبلغ من القوّة والابتكار والاستقلال الفكري والمميزات الفردية وظهور الشخصيات القوية ما يجعله يقوى على تحمّل المقارنة بالشعر العالي أو أن يُنعَت بالأدب الرفيع. ومن سوء حظّ تونس أن الفرد الوحيد الذي استطاع أن يعلو بشعره إلى مكانة الشعر الراقي ويضاهي به أنبغ شعراء العرب قد مات في العام الماضي في ريعان الشباب، وبكته تونس في حفلة رائعة اشترك فيها كثير من أبناء العربية (يريد أبا القاسم الشابي).
والشعر التونسي المعاصر يسيطر عليه تقريباً الشعراء الشيوخ، وهم الذين يقتفون فنون الشعر القديم. أمّا الشعراء الشباب فيغلب على شعرهم الميل إلى التجديد في المعاني والأغراض، وحتى الأوزان والأساليب. ولكن الذي يُعاب عليهم هو غَلَبة أسلوب
الجرائد ومواضيعها على أدبهم، وفقرُ شعرهم من المعاني القوية والصور الشعرية، واحتياجُهم الثقافة العامّة القائمة على سعة الاطلاع والإحاطة بتاريخ الحركات الأدبية والفكرية في مختلف العصور. ويُعاب عليهم أيضاً هذا النوع من الأدب الباكي الذليل، فلا يكاد أحدهم يجدّ في نظم الشعر حتى تراه ينظم في البؤس وتوابعه ويتشاءم من كلّ شيء في الحياة. ونحن نقبل هذا النوع من الكهول والشيوخ الذين دخلوا معركة الحياة وتمرّسوا بآفاتها، ولكننا نرفضه من الشباب لأن الشباب أمل وعزيمة وحبّ للغلبة والكفاح.
وفي تونس الكتابة كثيرة، فأية كتابة عندنا وأيّ كتاب؟ نقول في الجواب: يوجد عندنا الكاتب الاجتماعي والمؤرّخ والصحفي، وقد نُشر في تونس هذه السنوات الأخيرة كتب بعضها في التاريخ ككتب الأساتذة حسن حسني عبد الوهاب وعثمان الكعاك وأحمد توفيق المدني، وبعضها في الأدب والاجتماع ككتاب أبي القاسم الشابي عن الخيال الشعري وكتاب الطاهر الحداد عن المرأة وكتاب محمد المرزوقي عن مسائل من الفنّ والجمال.
وهناك خمس صحف أسبوعية وجريدتان يوميّتان ومجلّة أدبية لم يستطع صاحبها أن ينفخ فيها الحياة، فهي تُحتضر منذ سنوات. وعدا ذلك فليس في تونس من يمثّل تمثيلاً مشرّفاً أدب القصّة والمسرح وأدب الأطفال والأدب القومي، وكذلك الناحية النقدية والعلمية في الأدب، وتاريخ تونس لمّا يكتب.
إلى أن قال: أمّا المعاهد الثانوية والعالية فهناك جامع الزيتونة الأعظم، والمدرسة الصادقية، والمدرسة العليا للآداب
واللغة العربية. أمّا جامع الزيتونة فهو حصن العربية الأشمّ، وهو بمثابة الأزهر في مصر، وخريجوه الصفوة من العلماء والحُكّام والقُضاة، وهم الطبقة الوحيدة ذات الثقافة العربية المحضة. أمّا المدرسة الصادقية ومدرسة اللغة والآداب العربية فإن الدراسة تقع فيهما باللسانَين، وربما غلبت فيهما الثقافة الفرنسية على العربية. وفي هاتين المدرستين تخرّج جلّ كبار موظفي الإدارة الفرنسية ومترجميها، وعن طريقهما سافرَت البعثات التي تتكوّن اليوم منها نخبة طيّبة من الأطباء والمحامين والمهندسين. ولكن أطباءنا ومحامينا ومثقَّفينا قلّما يكتبون أو يؤلّفون بالعربية، وكم كنّا نودّ لو أن دكاترتنا كانوا كدكاترة مصر الذين قامت على سواعد أكثرهم نهضة مصر العلمية والأدبية.
أمّا المؤسّسات الأدبية فهناك الجمعية الخلدونية، وهي أقدم المؤسّسات التونسية، ثم جمعية قدماء تلامذة المدرسة الصادقية، وأخيراً جمعية الكُتّاب والمؤلّفين. فأما الخلدونية وقدماء الصادقية فأغلب نشاطهما منصرف إلى تنظيم المسامرات الأدبية والعلمية وإقامة الحفلات لإحياء ذكرى نوابغ الأمة العربية في القديم والحديث. وأمّا جمعية المؤلّفين والكتّاب التونسيين فإنها افتتحَت أعمالها بإقامة حفلة ذكرى الشاعر العبقري المرحوم أبي القاسم الشابي، ثم لم تفعل بعدها شيئاً إلى الآن.
ثم بيّن أسباب هذا الركود فحصرها في سببَين: الأوّل قِلّة القُرّاء في الأوساط الشعبية نظراً للأُمّية الغالبة على السواد، ثم جهْل كثير من الشباب بلغته القومية أو مصادر معارفه التي لا تسمح له بالاستفادة من الأدب والصحف الجدّية (يعني غلبة معرفته باللغة
الفرنسية على إلمامه باللغة العربية). الثاني عدم وجود مَن يأخذ بيد الأديب إذا هو أراد أن يُنتِج وينشر.
إلى أن قال: والخلاصة أن الأدب في تونس لا يعدو كونَه رواية من الروايات، ولا يوجد الأديب المحترف، وإن وُجد الصحافي والمؤلف فإنه يقاسي الأمرّين من فقدان الناشر والقارئ بالعربية. وليس هناك من المشجّعات للأديب ما يجعله دائم الإنتاج والعمل، فلا مكافآت ولا جوائز، ولا مجلاّت لنشر آرائه، ولا حُرّية لمن أراد أن يفكّر باستقلال. والأصوات التي ارتفعَت في تونس وترقّب منها كلّ مخلص أن تكون في يوم من الأيام مدوّية في العالَم العربي خرست وصمتت لتكاتف هذه العوامل عليها.
* * *
لقد خرجت عن الموضوع الأصلي للذكريات لأقدّم للقراء هذه الصورة الشاملة التي يستخلصونها من هذه المقالات للأدب العربي قبل خمسين سنة، لعلّ بعض طلبة الدراسات العالية يُعِدّ أحدهم رسالة للماجستير أو الدكتوراة في هذا الموضوع، فيأخذ هذه المقالات ويتوسّع فيها ويترجم لمن وردت أسماؤهم خلال سطورها، وتكون مفتاحاً له يفتح له باب هذا الموضوعُ فيكون منه -إن شاء الله- دراسة شاملة، ومقابلة بين ما كان عليه الأدب في هذه البلاد وما انتهى إليه الآن.
* * *