الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-132 -
بقيّة من حديث الجزائر
هل ترونني أخطأت الصواب حين قطعت سلسلة ذكرياتي وأخذت أنشر مقاطع تدلّ على الأسلوب الذي كنت أكتب به، وعلى اختلاف الأساليب باختلاف المقامات، وتفيد بعرضها القُرّاء وتُريهم صُوَراً للحياة التي كنّا نحياها قبل ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة؟
ليضع هذه الصورة مَن لم يدركها إلى جانب صور الحياة التي يعيشها، ثم يوازن بينهما فيرى خيرهما وشرّهما. لقد كنّا (في الشام خاصة وفي أكثر البلاد عامّة) لا نعيش لأنفسنا بل لنا ولإخواننا، لإخواننا في الدين وفي العروبة، فإن ألمّ بمصر خَطْب أو نزلَت بالعراق نازلة أو أصاب المغرب مصاب أحسّت دمشق ألمه، فواست أو سلّت أو غضبَت فثارت واحتجّت. أمّا فلسطين فكانت قضيّتها قضيّتنا، وكنّا نحن أهلها كما كان أهلوها أهلينا، وما الذي يُبعد شمالي الشام عن جنوبيه وكلُّه عند العرب، وفي الواقع، وعلى مدى التاريخ الطويل، كلّه بلد واحد فيه شعب واحد؟
كانت هذه مشاعر كلّ قطر عربي، بل كلّ صقع مسلم، ولكن
دمشق كانت أشدّ بها إحساساً ولها إدراكاً.
لقد بسطت أمامي لمّا هممت بطرق هذا الموضوع بعض ما كتبت فيه، فوجدت فيه أكثر من ثلاثمئة صفحة مطبوعة، ومثلها أو ما هو قريب منها من الصحف المنشورة، وقريب منها بل ربما زاد عليها مخطوطات، منها صفحات فُقدت وصفحات بَقيَت.
ووجدت خُطَباً ومحاضرات تزيد على المئة. وأكثر الخطب ما كتبتها (وما أشدّ الآن أسفي وحزني على أني ما كتبتها) بل كنت أفكّر فيها وأرتّب أفكاري، ثم أكتب أطراف الأفكار وعناوينها على بطاقة لا تزيد على حجم الكفّ أحملها بيدي وأنا على المنبر، فأنساها تارات فلا أنظر فيها، وإذا عدت إليها لم أعرف ما الذي كتبته فيها، وأرى العنوان ولا أذكر ما كان تحت هذه العنوان. ومنها ما لا أستطيع، صدّقوني، أن أفكّ حروفه فأعرف ما هو لأنني أكتبها بمثل خربشة الدجاج!
أرأيتم آثار أقدام الدجاج على الطين الطري؟ هذه هي الخربشة التي كنت أخربش بها حين أُعِدّ المحاضرة.
* * *
وقد علّمونا أن الكاتب إذا أراد أن يصفو له ذهنه ويجتمع فكره يؤمّ مرابع الجمال ويقصد الرياض وحفافي الحِياض، يستمتع بالأوراد والأزهار، ولكني لم آخذ بهذا الذي علّمونا ولا وجدت منه خيراً. جرّبته فوجدته يفرّق فكري بدلاً من أن يجمعه ويوزّعه على ما أرى حولي بدلاً من أن يركّزه على ما في ذهني. لذلك كان
أكثر ما أكتب أكتبه عندما أضطجع في الفراش وقد أرخى النعاس جسمي وأغلق أجفاني، هنالك يتيقّظ الفكر وينطلق، فأشعل النور لأدوّن فكرة عرضت لي، فإذا نفدَت أطفأته وتمدّدت لأنام، فتأتي فكرة أخرى فأعود إلى النور فأشعله. تأتيني الأفكار مثلما تُقبِل الأمواج على الشاطئ، موجة بعد موجة، وإذا توالت عليّ وتعاقبت طار النوم من عيني، فإما أن أستغني عنه وأبقى ساهراً وأقضي نهاري بعده خاملاً، أو أن أطرد الأفكار وأنام، فإذا أصبحت لم أجد في ذهني منها شيئاً؛ كحلم كنتَ مستغرقاً فيه فلما أفقت تصرّم الحلم، أو صورة على لوحة الرائي قُطع عنها التيّار فلم يبق لها من آثار.
وقد أزعج هذا زوجتي لمّا جاءت إليّ من سِتّ وأربعين سنة فحطّم أعصابها وزاد أوصابها، فحملَت وسادتها وفراشها وذهبت تنام في غرفة أخرى. والحقّ معها، فإنّ الذي كنت أصنعه مضطراً يَذهب بحلم الحليم وصبر الصبور، وهو باب من أبواب التعذيب عند الطغاة الجبّارين، يمنعون المعتقَل السجين من المنام، حتى إذا استبدّ به النعاس وأخذ منه بمعاقد الأجفان تركوه ينام فعلاً، فإذا استغرق في النوم أيقظوه. وأنا أسأل الله أن يغفر لي ما صنعت مع أهلي.
فإذا قويَت الفكرة ووضحت لي وثبتت أصولها في ذهني، تركتها ونمت مطمئناً لأنني إذا صحوت وجدتها قد امتدّت جذورها واتّسق ساقها وأورقَت وأثمرَت.
وطالما كانت تستعصي عليّ مسألة وأنا طالب أو تستغلق
عليّ قضية وأنا قاض، فإذا قمت من النوم وجدت حلّ المسألة وانفتاح القضية. ذلك أن الذهن كهذا المِحساب (الذي يدعونه الكمبيوتر)؛ تضع فيه الأصول تم تتركه يعمل فيأتيك هو بما شئت من الفروع.
* * *
رأيت في كتبي المطبوعة وما بقي من مقالاتي المنشورة وفي المخطوط من أوراقي خطباً ومقالات ومحاضرات وتعليقات، لو أنها جُمعت كلها لكان منها كتاب كبير، في أجزاء كثيرة لا في جزء واحد، عنوانه «العرب والنضال للاستقلال» .
عشرات بالجمع، وأقلّ الجمع ثلاث، ثم عشرات ثم عشرات ثالثة، فهذه تسعون مقالة عن نضال سوريا ولديّ أكثر منها. ولقد كتبت نحو ثلثها، بل كتبت قريباً من نصفها عن فلسطين. وقد قرأتم في الحلقة الماضية بعض ما كتبت عن الجزائر، وقرأتم لي في هذه الذكريات من قبل بعض ما كتبت عن العراق وعن الحجاز، وأمامي مقالة كتبتها عن اليمن. أمّا المقالات التي كتبتها عن مصر فكثيرة جداً.
تحتفل الجزائر الآن بأنها قد مرّت ثلاثون سنة على استقلالها، فكان لي أن أشارك ولو من بعيد بهذا الاحتفال كما شاركت بلساني وقلمي من بعيد في النضال، وإن كانت مشاركتي قليلة ضئيلة وكانت لبنة واحدة في هذا الصرح العظيم.
الرئيس الزعيم شكري القوّتلي رحمه الله كان من المناضلين ثائراً مع الثوّار، وبقي مناضلاً وهو رئيس من الرؤساء، وكنّا معشر
الشباب جنوده، نأتمر بأمره ونمشي وراءه. وكانت لي -على ذلك- حظوة عنده ودالّة عليه، لأنه رأى أنه لا مطمع لي من الصلة به، وأني ليس لي طلب أطلبه منه، لا أطلب منصباً ولا مالاً. لذلك كان يسمح لي أن أبيّن له إن رأيت في عمله أو في عمل حكومته ما أظنّه مخالفاً للشرع أو مجانباً طريق الحقّ. وكان الرجل مؤمناً مقيماً للفرائض مجتنباً للكبائر، وإن كان إيمانه إيمان العوامّ، لا يخلو من بعض البدع وبعض الأوهام.
وأنا قد دنوت الآن في ذكرياتي من مرحلة الخطر. ذلك أني أذكر الحقّ عن رجال منهم القليل الذي بقي، ومَن ذهب إلى رحمة الله بقي أبناؤه أو إخوانه الذين يريدون أن تكون هذه الذكريات قصائد مدح كمدح الشعراء للخلفاء، ولا يحتملون نقداً ولو كان يسيراً ولو كان حقاً. ولقد ترددت بين أن أسايرهم وأرضيهم بعض الرضا وبين أن أقول كلمة الحقّ ولا أبالي، فآثرت أن أقول كلمة الحقّ. وأستاذنا محمد كرد علي رحمة الله عليه لبث يكتب أكثر من ستّين سنة وجلّ القُرّاء راضٍ عنه مُحِبّ له، فلما نشر مذكّراته وتعرّض فيها لبعض الأحياء أثار عليه نصف الناس وهاجموه وكتبوا عنه، ومن هؤلاء الذين كتبوا عنه الأستاذ أحمد أمين والأستاذ الزيات.
أعود إلى موضوعي: شكري بك رحمه الله أقام أسبوعاً للجزائر، ثم جعل لها احتفالاً كبيراً حضره وجوه الناس. ولقد كُلّفت الخطابة فيه، ولولا الخجل لقلت إن خطبتي كانت هي الخطبة الرئيسية، كما كانت خطبتي في «أسبوع التسلح» ، وربما جاء حديثها.
وكنت قد شرعت من يومئذ أخطب ارتجالاً بعد أن كنت أدون الخطبة تدويناً، وارتجلت خطبتي عن الجزائر. ولكن لمّا أُذيعت الحفلة من الإذاعة السورية تفضل أحد الإخوان فكتب الخطبة وأهداها إليّ مكتوبة، ففرحت بها كأني أُعطيت بها عطيّة، وتمنّيت لو أن مثل هذا الأخ الكريم كتب أمثالها من خطبي، أو لو أن مُحسِناً آخر يستخرج من أشرطة الإذاعة والرائي بعض أحاديثي الآن في برنامجَيّ الاثنَين «نور وهداية» و «مسائل ومشكلات» ، ويكتبها ثم يعرضها عليّ فأنقّحها وأصحّحها وأجعل له شطر أرباحها إذا هي طُبعت لبيعها، أو دعوت الله أن يكون له حظّ من ثوابها إذا نُشرت مجّاناً للثواب (1).
أنشر الآن فقرات من هذه الخطبة لأن فيها مثالاً لأسلوبي في الخطب، ولأنه لم يطّلع عليها واحد في الألف من قُرّاء «الشرق الأوسط» ومن كان قد سمعها منهم قبل أكثر من ثلاثين سنة أنسته مشاغله ومطالب حياته ما كان قد سمعه منها، ولأن فيها وصفاً لما كنّا فيه يومئذ وصوراً من حياتنا.
قلت في أولها لمّا استقبلني الجمهور بتصفيق استمر أكثر من أربع دقائق، وأنا أشير بيدي شاكراً ومسلّماً وراجياً وقف هذا التصفيق (2):
(1) صنعتُ ذلك في كتاب «فتاوى علي الطنطاوي: الجزء الثاني» ؛ أخذت أحاديث من برنامجَي الإذاعة والرائي هذين فكتبتها وبوّبتها ونشرتها. ولها قصة أودعتُها صدر الكتاب فمن شاء رجع إليها هناك (مجاهد).
(2)
انظر مقالة «في افتتاح أسبوع الجزائر» ، وهي في آخر كتاب «هتاف المجد» (مجاهد).
شكراً يا سادتي وعذراً، فإن هذه التحيّة النبيلة، هذا التصفيق الذي ينبعث من القلب هزّة حبّ تحرّك الأعصاب وتُطلِق الأيدي لتستحقّ خطبة من تلك الخطب العبقريات، التي تبدّل نفوساً بنفوس وتحوّل السامعين من حال إلى حال، وتتلاعب بالأفئدة والقلوب، وتسعّر الدم في العروق، وتصبّ العزم في الأعصاب.
وليس عندي الليلة شيء من هذا. ما عندي ما أستحقّ به تحيّتكم، لا لأني شخت وعجزت وغاض بياني وكَلّ لساني، بل لأني مُنعت يا سادتي. أُشهِدكم على أنني مُنعت من أمثال هذه الخطب.
لا تسرعوا بالعجب، بل فاسمعوا السبب. كان الفرنسيون في كل مكان من بلاد الشام، وكانوا هم السادة وكانوا هم القادة، لهم في كل دائرة مستشار والمستشار هو الحاكم، ولهم في كل قرية جند، وعلى كل أَكَمة قلعة موجّهة مدافعها إلينا لا إلى عدوّنا، وكانت الحكومة في ظاهرها منّا ولكنها في الحقيقة معهم علينا، فكنّا نخطب ونهجم على الحكومة ونثير الشعب على الفرنسيين، فيصفّق لنا الناس ويحملوننا على الأعناق.
فأُجلِيَ الفرنسيون عن ديارنا، وصارت الحكومة منّا ولنا، وصار زعيمنا في النضال رئيسَنا في الحكم، فلم يبقَ لنا ما نخطب فيه، فامتنع علينا الكلام وانقطعَت أرزاقنا!
فقلنا: لئن مُنعنا عن الكلام في شمالي الشام فلنمشِ إلى جنوبيه، إلى الأردن. فكنّا نسبّ غلوب ونطعن على الذين يأتمرون بأمره، فنشتري بذلك إعجاب الناس وتصفيق المستمعين، فطردوا
غلوب وحرّروا البلد، فقطعوا أرزاقنا ومنعونا من الكلام.
فمشينا إلى الحجاز، فكنّا نتكلم على ضيق الحرم وسوء الطرق فنجد من السامعين التقدير والإكبار، فوسّعوا حرم المدينة حتى جعلوه آية في الإبداع، ووضعوا ستمئة مليون ليرة لإصلاح حرم مكّة، ولن تمرّ إلاّ سنوات قليلة حتى ينشأ في مكّة حرم جديد أوسع وأبدع في بنائه من هذا المسجد القديم. وخدموا الحرمَين في هذه السنوات الأربع أكثر ممّا خدمه ملوك المسلمين جميعاً في القرون الثلاثة عشر التي مضت، ووسّعوا الطرق وشرعوا بالإصلاح الشامل، فلم يعُد لنا مجال المقال.
فرحلنا إلى مصر، فكنّا نهمس في بعض الآذان نسبّ فاروقاً ونُظهِر عوراته ونطعن على الإنكليز، وكان لنا في ذلك ميدان، فجاؤوا فطردوا فاروقاً وألحقوا به الإنكليز، وفعلوا الأفاعيل التي ملأ حديثها الدنيا وشغل الناس.
فأين نذهب وماذا نقول؟ وهل يستطيع الأديب أن يعيش بلا أدب ولا لسان؟
(إلى أن قلت): وقفت فيكم يوم أسبوع التسلح على هذا المنبر أستحلفكم وأذكّركم، فما تركتموني أُتِمّ كلامي حتى تزاحمتم على صندوق التبرع، وتدافعتم مقبلين لا لتأخذوا بل لتُعطوا، ووقفتم في الطريق في هذا البرد تحت المطر تنتظرون أن تُفتَح لكم الأبواب لتدخلوا فتُعطوا، وعملتم العجائب.
(إلى أن قلت): لقد آذيتموني في أسبوع التسلّح وفضحتموني،
فإذا كنتم تريدون أن تفضحوني هذه المرة أيضاً فخبّروني من الآن لأريحكم من كلامي وأستريح. وما فائدة الدرس إذا كان المتعلّم أعرفَ به وأسبقَ إليه من المعلّم؟ وإذا كنت أقول لكم «ألف» فتسبقون فتقولون «باء» ، فأقول «باء» فتقولون «تاء»
…
ندعو دمشق للإضراب فتُضرِب دنيا العرب كلها من مراكش إلى الخليج، بل إلى باكستان وأندونيسيا، فلا يبقى لكلامنا معنى!
(إلى أن قلت): لو كان مقامي الليلة في القاهرة أو بغداد لوجدت مشقّة في عرض صورة الحياة في الجزائر اليوم، لأن القوم هناك لم يجرّبوا فرنسا ولم يعرفوا منها إلاّ وجهها الثاني. فرنسا ذات وجهين: الوجه الذي يتمثّل فيه أدب الحُرّية وتتمثّل فيه مباحث علماء القانون وأعيان الفكر، والوجه الحقيقي الذي قابلَتكم به في ميسلون ثم في الغوطة التي كانت خضراء فجعلوها حمراء من مُهرَق الدماء.
فاذكروا ما كان في الثورة وانشروا صورتها في أذهانكم، وكبّروها مئة مرة تروا صورة الجزائر في هذه الأيام. أعرضُ عليكم لوحة صغيرة من لوحات الثورة كنت كتبت فيها قصّة نُشرت في مصر من ثماني وعشرين سنة (نُشرت في الزهراء سنة 1928)، ولكني لن أعرض القصّة بل الحادثة التي بنيتها عليها.
كنت يوماً في «بَسّيمة» في أواخر الثورة. وبسيمة جنّة من الجنان في وادي برَدى، هي جارة لنبع الفيجة الذي يسقي دمشق. وكان فيها الأمير الشابّ البطل عِزّ الدين الجزائري سبط شيخ الجهاد وبطل الجزائر الأمير عبد القادر، وكان في عدد قليل من
المجاهدين، فكانت تخرج له الحملة الضخمة من الجنود معها السلاح والعتاد، فيربط لهم فم الوادي فيصيد جنودها ويهزمها ويردّها، فتعدو فرنسا على القرى الآمنة تنتقم -لعجزها- منها، فتسوق البُرآء من أهلها إلى الموت وتُذيقهم العذاب قبله ألواناً، وتهدم البيوت وتنهب الأموال
…
كبّروا هذه الصورة ألف مرة تروا أمامكم صور الجزائر اليوم.
لكن الجزائر اليوم أوعى منّا يومئذ، لقد تقدّم بها الزمان. إن الجزائر تقف صفاً واحداً، لقد ذابت الأحزاب كلها في «جبهة التحرير» واجتمعَت القوى كلها في جيش التحرير.
تصوّروا مئة واد كوادي بسّيمة، وفي كل واد منها ووراء كلّ صخرة فيها مجاهدون من جيش التحرير. في كل مكان، في الوعور وفي أصلاد الجبال، يعيشون مع الصخر حيث لا تصبر جِمال الفَلا ووحوش البيد، فكيف بالشُّقْر المخنَّثين مِمّن قذفت حانات باريس يضربهم الثوار ولكنهم لا يرونهم، كالأُسد تعرف أنها في آجامها ولكن مَن يراها؟ لا لأنها تخاف فتهرب بل لأنها تُخاف فيُهرَب منها.
لقد عرفنا هذا أيام الثورة السورية، يوم كانت فرنسا لا تحكم إلاّ على بعض دمشق، وأكثرُ دمشق مع الغوطة بأيدي الثوّار. وكان في وسط العقيبة حصن (استحكام) فرنسي فيه ضابط باريزي أشقر ناعم، كأن رجولته خطأ مطبعي في سجل الحياة أو كأنه أنثى متخفّية في ثياب رجل، أَحَبّ أن يرى صورة حسن الخرّاط (أحد أبطال الثورة، الذي كتبت عنه قصّة لم تتمّ في مجلّة «الناقد»
سنة 1930) فجاءه أحد ظرفاء الحيّ بصورة عنتر التي تُعلَّق في القهوات، فلما نظر إلى الصورة ورأى سواداً كالليل وعينين تتّقدان كعينَي الصقر وشاربَين كساريتَي المركب (وكذلك كانوا يصوّرون عنتر) انخرط بطنه وأصابه الزُّحار (الديزنطاريا) فحُمل من فوره إلى المستشفى.
كذلك -يا سادة- يلقى هؤلاء المجاهدون مئات الألوف من جنود المستعمرين، ولذلك يتعاقب النصر فيهم وتتوالى الهزائم على عدوّهم. لقد تعلّموا درساً جيّداً في حروب الهند الصينية التي نكّست أعلامَ فرنسا وقضت على ما بقي من أسطورة بطولتها.
ينهزم الفرنسيون في كلّ معركة في الجزائر، ولكن البطولة الفرنسية لا تنهزم! البطولة التي أدهشوا بها الدنيا سنة 1870 أمام بسمارك، وسنة 1914 أمام غليوم، وسنة 1939 أمام هتلر، وبينهما سنة 1925 أمام حسن الخرّاط وأبطال الثورة السورية! تبدو هذه البطولة في القرى الآمنة، وعلى المدنيين المسالمين وعلى النساء والأطفال، وتعود من هناك معقوداً بنواصيها الغار لأنها انتصرَت على الأطفال، ولأنها ظفرَت بالنساء بنار المدافع والرشاشات!
إنهم يمحون القرى محواً ويُبيدُون أهلها إبادة. وتحت يدي وصف لما جرى في قرية سكيكدة في إقليم المقلع في الجزائر، لم يكتبه عربي جزائري ولكني قرأته لكاتب فرنسي في جريدة فرنسية؛ جاء هذا الصحفي الفرنسي القرية عقب ضربها فلم يجد فيها حياً واحداً، ووجد الكلاب تنبح نباحاً يقطع نياط القلوب
تبحث عن أصحابها خلال الأنقاض، ولو استطاعت البكاء لبكت في هذه المأساة دماً.
لقد رقّت قلوب الكلاب ولم ترقّ قلوب المستعمرين، لقد صارت الكلاب أكثرَ إنسانية من قوم روسو وموسّه ولامارتين.
إنهم كلّما انهزموا انتقموا من القرى، فيطوّقون القرية ثم يأخذون الرجال فيعذّبونهم (كما يفعل اليوم الأنذال المسوخ من جند ما يُدعى بدولة إسرائيل). يبتدعون طرقاً في التعذيب لا تعرفها الأبالسة، ويذبحون الأطفال أمام آبائهم ويعتدون على نسائهم أمامهم، ثم يقتلونهم جميعاً.
أخذ المجاهدون أصابع من الديناميت من منجم العالية فدُمّرت القرية كلها وأُبيدَ أهلها. وكانت خصومة (خناقة) بين خبّاز فرنسي ورجل من العرب في قرية ابن غانم، فصيّروها قضية ثورة وجهاد، وسُعِي بها إلى المستعمرين فأبيدت القرية كلها بالمدافع.
وقُتل رئيس الشرطة في قسنطينة فقتل ابنُه ستّة من العرب بالسلاح الرسمي وجرح أربعة، فاختارت السلطات المستعمرة ثلاثة عشر من كبار أهل البلد، منهم الأديب المعروف مدير جريدة «الشعلة» وعضو جمعية العلماء أحمد رضا حوحو ومنهم نواب في المجلس البلدي، وساقوهم مشياً إلى المعتقل. ثم رأوا أن الاعتقال والتحقيق أمر متعِب فقتلوهم جميعاً بلا محاكمة ولا تحقيق!
يا سادتي، إن المصائب حينما تكبر يعجز الفكر عن تصوّرها،
وأنا أخشى أن تمرّ بكم هذه الأخبار فلا تعرضوا في أذهانكم تفاصيلها. إن اللصّ ينزل على دار من الدور فتصيح المرأة ويبكي الطفل ويرتاع الجيران، وإن النار تشبّ في غرفة من الغرف فيضطرب الحيّ وتُزلزَل المنطقة كلها، وما هي إلاّ نار تنطفئ أو لصّ ينهزم.
فتصوّروا ما يصيب هؤلاء الناس حينما تفاجئهم وسط الليل وهم آمنون في دورهم المدافعُ ترجّ بهم الأرض، والطياراتُ تصبّ عليهم الحمم، والدبّابات قد صارت وسط دورهم والجند قد دخلوا بسلاحهم إلى غرف نومهم، فيطيش الرجل عن أهله ويُقتَل الأب أمام بناته، ويُنال من البنت بحضرة أبيها والمرأة بعين زوجها.
وإن هرب المرء لحقه الموت. وأين المهرب من النار وقد تفتّحَت أبوابها من كل جانب؟ وإن أفلت ولد من الموت عاش باليتم حياة ليست خيراً من الموت، وإن نجَت امرأة عاشت تتجرّع حزنها على زوجها وولدها، وقاست مرارة الحاجة وذلّ السؤال.
هذا ما يجري اليوم في الجزائر.
لقد سُنّ فيها قانون فاجر، لو صدر مثله عن جنكيز أو عن قبائل الهون في ذلك الزمن البعيد لقال التاريخ: إنهم تأخّروا عن زمانهم وانحطّوا عن رتبة أمثالهم، فكيف وقد أصدره الفرنسيون، أحفاد من نادوا بحرّية المساكين في قرن العشرين؟ قانون يسوغ لجنود فرنسا، حتى الأخلاط منهم (الفرقة الأجنبية) الذين هم حثالة كلّ أمة، أن يدخلوا ما شاؤوا من الدور فيما شاؤوا من ساعات
الليل أو النهار، فجأة بلا إنذار، بحجّة التفتيش عن المجاهدين. وتصوّروا ما يكون من سرقات وما يكون من فجور. ونحن العرب قد نصبر على كل شيء ولكن لا نصبر على المساس بالعرض، وهذه حقيقة لا تفهمها فرنسا لأنه ليس في لغة فرنسا كلمة تُترجَم بها كلمة العرض، لأنهم ليس لهم أعراض.
فهل تستطيعون أن تأكلوا وتشربوا، وتلهوا وتلعبوا، وتغنّوا وتطربوا، وإخوانكم في الجزائر يقاسون هذه الأهوال؟ لو كان في الطريق قطّة تموء من الألم أو كان عند الجيران عامل يضرب بالمطرقة لما قدرتم على المنام. أفتنامون وفي الجزائر إخوة لكم يهتفون بكم وينتظرون العون منكم؟ أتنامون والمدافع تضرب من حولكم؟
إن في الجزائر إخوة لكم يعيشون في الموت ويموتون في الحياة.
لا أريد أن تنشروا المناديل وتستدرّوا الدموع، ولا أريد أن تصعّدوا الزفرات وتنفثوا الآهات. لا، فليس إخوانكم هناك هلكى يستَجْدون الدمع، بل هم بحمد الله أبطال يطلبون المدد. إنهم أقوياء بالله ثم بكم، فإن نصرتموهم اليوم بأموالكم طهّروا الجزائر من أرجاس الاستعمار، ثم جاؤوا يعينونكم على تطهير القدس من نجس إسرائيل.
إن فرنسا تعرفهم وتعرف بطولتهم؛ إن كلّ نصر نالته فرنسا خلال القرن الذي مضى من صنع أيديهم هم، وهذه حقيقة يُقِرّ بها تاريخ فرنسا. إن معركة «المارْن» التي يجعلها الفرنسيون مدار
فخرهم ومسار ذكرهم إنما كسبها الجنود الجزائريون.
(إلى أن قلت): كان الجزائريون في هذه الحرب الأخيرة في فم المدفع وكانوا في وجه النار، وبذلوا لقضية الحلفاء مالم يبذل مثلَه شعب. إنهم تدرّبوا في جيش فرنسا، ولكن ليس لفرنسا عليهم فضل فقد دفعوا أجرة التدريب. ما دفعوا مليوناً وربع مليون فرنك، لا يا سادة، بل مليوناً وربع مليون روح بشرية سيق أصحابها لإزهاقها جبراً من أجل فرنسا. لقد جاؤوا اليوم يتقاضون بعض هذا الدين.
إن الفرنسيين يخشون المجاهدين لأنهم عرفوهم، ونحن لم نعُد نخشى فرنسا لأننا عرفناها!
يا أهل الشام، هذا «أسبوع الجزائر». الجزائر تناديكم: المجاهد الذي نفدت ذخيرته وأحاط به أعداؤه وتلقّفَته نيرانهم يسقط وهو يهتف بكم ويناديكم. المرأة التي أرادوها على الخَنا وأبَت إلاّ العفاف وفقدت من حولها النصير تفكّر فيكم وتناديكم. الطفل الذي خرج من المأساة وحيداً قد نجا بأعجوبة من أعاجيب القدر يمشي يتعثّر جائعاً ويمدّ يده من وراء حُجُب الصحارى والبيد يناديكم.
تناديكم أمجاد الماضي وآمال المستقبل. العروبة تناديكم والأُخُوّة، والكعبة التي تتوجّهون إليها والأرض والسماوات، فاسمعوا النداء. نداء الأرض الحُرّة التي أراد أن يستعبدها الظالمون، نداء العرض المصون الذي يعدو عليه الظالمون، نداء الدين والفضيلة والشرف والإنسانية.
هذا أوان الثأر فاثأروا لميسلون، اثأروا لضحايا الغوطة والجبل، اثأروا لدمشق التي ضربها هؤلاء المستعمرون بالمدافع مرتين في ربع قرن فدمّروا أجمل أحيائها وقتلوا زهرة أبنائها.
وبعد يا أيها السادة، فلقد افتتحت هذا الحديث بذكر الأمير عزّ الدين الجزائري، فدعوني أختمه بذكر جدّه الأمير عبد القادر الجزائري، هذا المجاهد البطل الذي بسط يديه على الجزائر خمس عشرة سنة يحكمها وحده، بيدٍ تحمل المصحف وتؤسّس على التقوى الحكومة الحُرّة العادلة، ويدٍ تحمل المسدس وتدفع عن البلاد القُوى المعتدية الظالمة. فلمّا نخر سوس الخيانة في أساس هذا الصرح واضطُرّ إلى الهدنة أرادوه على أن يسلّم مصحفه ومسدسه، وكان أبداً يصحب مصحفه لا يفارق جيبه أو خيمته، وكان أبداً يحمل مسدسه لا يُنزِله عن عاتقه، فأبى أن يسلّم سلاحه وقال: لن أدع المعلّمين في فرنسا يقولون لتلاميذهم وهم يزورون المتحف: انظروا، هذا هو مسدس عبد القادر.
وبذلت المتاحف الفرنسية النفائس لتحظى بهما فلم تصل إليهما، ولكني أنا وصلت إليهما. هذا هو مصحف الأمير عبدالقادر وهذا مسدس الأمير عبد القادر، هذا الذي كانت تنطلق الرصاصة منه فتنفتح من بعدها عشرات الآلاف من البنادق، في تلك المعارك الطاحنة التي لا يزال التاريخ مشدوهاً من خبرها، هذا الذي أبى الأمير أن يسلّمه لفرنسا يسلّمه حفيده الأمير سعيد لأسبوع الجزائر.
لمّا شرفني فخامة الرئيس فكلّفني الكلام في هذا الاحتفال
فكّرت في شيء له قيمة معنوية أفاجئ به الناس ليُطرَح للمزايدة (لا لليانصيب، فاليانصيب حرام قطعاً). فقصدت الأمير سعيداً ففتح لي صندوق مخلفات جده الأمير عبد القادر وخيّرني أن أحمل منها ما أشاء، فحملت المصحف والمسدس وجئت بهما.
إن الأمير سعيداً ليس بالرجل الغني، وإني أقول لكم -إذا كان يسمح- أن أملاكه مرهونة وأنه يستطيع أن يبيع هذه المخلفات إلى المتاحف الفرنسية بنصف مليون ليرة، ولكن الأمير سعيداً الذي يتحرق شوقاً إلى الذهاب إلى الجزائر ليجاهد مع المجاهدين وهو ابن ثمانين، لا يبيع مخلفات جدّه لفرنسا ولو دفعت له فيها عشرة ملايين. لقد تبرع بهما الأمير سعيد لأسبوع الجزائر.
ولو كانت هذه الحفلة للتبرع لافتتحت المزايدة الآن، ولكن اللجنة لم ترَ التبرع في الحفلة، لذلك أضعهما بين يديها، وأرجو أن ينتهي بهما الطريق إلى يد أمينة لا يتسرّبان منها إلى بلد أجنبي، بل إلى متحف عربي أو إلى قادة جيش التحرير، يُهدَيان إليهم ليطلقوا آخر طلقة وراء الاستعمار الراحل بالمسدس الذي أُطلقت منه أول طلقة في وجه الاستعمار الداخل.
* * *