الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَرْعٌ:
يُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ النَّفْلِ رَاكِبًا وَمَاشِيًا دَوَامُ السَّفَرِ، فَلَوْ بَلَغَ الْمَنْزِلَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ، اشْتُرِطَ إِتْمَامُهَا إِلَى الْقِبْلَةِ مُتَمَكِّنًا، وَيَنْزِلُ إِنْ كَانَ رَاكِبًا.
وَلَوْ دَخَلَ بَلَدَ إِقَامَتِهِ، فَعَلَيْهِ النُّزُولُ، وَإِتْمَامُ الصَّلَاةِ مُسْتَقْبِلًا بِأَوَّلِ دُخُولِهِ الْبُنْيَانَ، إِلَّا إِذَا جَوَّزْنَا لِلْمُقِيمِ التَّنَفُّلَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَكَذَا لَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ بِقَرْيَةٍ.
وَلَوْ مَرَّ بِقَرْيَةٍ مُجْتَازًا فَلَهُ إِتْمَامُ الصَّلَاةِ رَاكِبًا، فَإِنْ كَانَ لَهُ بِهَا أَهْلٌ، فَهَلْ يَصِيرُ مُقِيمًا بِدُخُولِهَا؟ قَوْلَانِ. إِنْ قُلْنَا: يَصِيرُ، وَجَبَ النُّزُولُ وَالْإِتْمَامُ مُسْتَقْبِلًا؛ قُلْتُ: الْأَظْهَرُ، لَا يَصِيرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحَيْثُ أَمَرْنَاهُ بِالنُّزُولِ، فَذَلِكَ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْبِنَاءِ عَلَى الدَّابَّةِ، فَلَوْ أَمْكَنَ الِاسْتِقْبَالُ، وَإِتْمَامُ الْأَرْكَانِ عَلَيْهَا وَهِيَ وَاقِفَةٌ، جَازَ.
وَيُشْتَرَطُ الِاحْتِرَازُ عَنِ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا. فَلَوْ رَكَّضَ الدَّابَّةَ لِلْحَاجَةِ فَلَا بَأْسَ، وَلَوْ أَجْرَاهَا بِلَا عُذْرٍ أَوْ كَانَ مَاشِيًا، فَعَدَا بِلَا عُذْرٍ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ.
فَصْلٌ
فِي اسْتِقْبَالِ الْمُصَلِّي عَلَى الْأَرْضِ:
وَلَهُ أَحْوَالٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُصَلِّيَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ فَتَصِحَّ الْفَرِيضَةُ وَالنَّافِلَةُ.
قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالنَّفْلُ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْهُ خَارِجَهَا، وَكَذَا الْفَرْضُ إِنْ لَمْ يَرْجُ جَمَاعَةً فَإِنْ رَجَاهَا فَخَارِجُهَا أَفْضَلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ لَهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ أَيَّ جِدَارٍ شَاءَ، وَلَهُ اسْتِقْبَالُ الْبَابِ، إِنْ كَانَ مَرْدُودًا، أَوْ مَفْتُوحًا، وَلَهُ عَتَبَةٌ قَدْرَ ثُلُثَيْ ذِرَاعٍ تَقْرِيبًا. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْعَتَبَةِ، أَنْ تَكُونَ بِقَدْرِ قَامَةِ الْمُصَلِّي طُولًا وَعَرْضًا، وَوَجْهٌ: أَنَّهُ يَكْفِي شُخُوصُهَا بِأَيِّ قَدْرٍ كَانَ.
الْحَالُ الثَّانِي: لَوِ انْهَدَمَتِ الْكَعْبَةُ - وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ - وَبَقِيَ مَوْضِعُهَا عَرْصَةً فَوَقَفَ خَارِجَهَا وَصَلَّى إِلَيْهَا جَازَ. فَإِنْ صَلَّى فِيهَا فَلَهُ حُكْمُ السَّطْحِ.
الْحَالُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَقِفَ عَلَى سَطْحِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ شَاخِصٌ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَإِنْ كَانَ شَاخِصٌ مِنْ نَفْسِ الْكَعْبَةِ فَلَهُ حُكْمُ الْعَتَبَةِ. إِنْ كَانَ ثُلْثَيْ ذِرَاعٍ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِيهِ الْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ.
وَلَوْ وَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَتَاعًا، وَاسْتَقْبَلَهُ، لَمْ يَكْفِ، وَلَوِ اسْتَقْبَلَ بَقِيَّةَ حَائِطٍ أَوْ شَجَرَةٍ ثَابِتَةٍ جَازَ، وَلَوْ جَمَعَ تُرَابَ الْعَرْصَةِ وَاسْتَقْبَلَهُ أَوْ حَفَرَ حُفْرَةً وَوَقَفَ فِيهَا، أَوْ وَقَفَ فِي آخِرِ السَّطْحِ، أَوِ الْعَرْصَةِ، وَتَوَجَّهَ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ وَهُوَ مُرْتَفِعٌ عَنْ مَوْقِفِهِ جَازَ.
وَلَوِ اسْتَقْبَلَ حَشِيشًا نَابِتًا عَلَيْهَا أَوْ خَشَبَةً أَوْ عَصًا مَغْرُوزَةً غَيْرَ مُسَمَّرَةٍ، لَمْ يَكْفِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنْ كَانَتِ الْعَصَا مُثَبَّتَةً، أَوْ مُسَمَّرَةً، كَفَتْ قَطْعًا. لَكِنْ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنْ خَرَجَ بَعْضُ بَدَنِهِ عَنْ مُحَاذَاتِهَا، كَانَ عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي، فِيمَنْ خَرَجَ بَعْضُ بَدَنِهِ عَنْ مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ.
قُلْتُ: لَمْ يَجْزِمْ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّهُ يَكُونُ عَلَى ذَلِكَ الْخِلَافِ. بَلْ قَالَ: فِي هَذَا، تَرَدُّدٌ ظَاهِرٌ عِنْدِي.
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ: الْقَطْعُ بِالصِّحَّةِ فِي مَسْأَلَةِ الْعَصَا؛ لِأَنَّهُ يُعَدُّ مُسْتَقْبِلًا، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ طَرَفِ الرُّكْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَالُ الرَّابِعُ: أَنْ يُصَلِّيَ عِنْدَ طَرَفِ رُكْنِ الْكَعْبَةِ، وَبَعْضُ بَدَنِهِ يُحَاذِيهِ، وَبَعْضُهُ يَخْرُجُ عَنْهُ، فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ.
وَلَوْ وَقَفَ الْإِمَامُ بِقُرْبِ الْكَعْبَةِ عِنْدَ الْمَقَامِ، أَوْ غَيْرِهِ، وَوَقَفَ الْقَوْمُ خَلْفَهُ مُسْتَدِيرِينَ بِالْبَيْتِ، جَازَ، وَلَوْ وَقَفُوا
فِي أُخْرَيَاتِ الْمَسْجِدِ، وَامْتَدَّ صَفٌّ طَوِيلٌ، جَازَ، وَإِنْ وَقَفُوا بِقُرْبِهِ، وَامْتَدَّ الصَّفُّ، فَصَلَاةُ الْخَارِجِينَ عَنْ مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ بَاطِلَةٌ.
الْحَالُ الْخَامِسُ: أَنْ يُصَلِّيَ بِمَكَّةَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ. فَإِنْ عَايَنَ الْكَعْبَةَ، كَمَنْ يُصَلِّي عَلَى [جَبَلِ] أَبِي قُبَيْسٍ، صَلَّى إِلَيْهَا، وَلَوْ بَنَى مِحْرَابَهُ عَلَى الْعِيَانِ صَلَّى إِلَيْهِ أَبَدًا، وَلَا يَحْتَاجُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ إِلَى الْمُعَايَنَةِ، وَفِي مَعْنَى الْمُعَايِنِ مَنْ نَشَأَ بِمَكَّةَ وَتَيَقَّنَ إِصَابَةَ الْكَعْبَةِ وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدْهَا حَالَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ لَمْ يُعَايِنْ وَلَا تَيَقَّنِ الْإِصَابَةَ فَلَهُ اعْتِمَادُ الْأَدِلَّةِ وَالْعَمَلِ بِالِاجْتِهَادِ إِنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ حَائِلٌ أَصْلِيٌّ كَالْجَبَلِ، وَكَذَا إِنْ كَانَ الْحَائِلُ طَارِئًا كَالْبِنَاءِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِلْمَشَقَّةِ فِي تَكْلِيفِ الْمُعَايَنَةِ.
الْحَالُ السَّادِسُ: أَنْ يُصَلِّيَ بِالْمَدِينَةِ، فَمِحْرَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَازِلٌ مَنْزِلَةَ الْكَعْبَةِ. فَمَنْ يُعَايِنْهُ، يَسْتَقْبِلْهُ، وَيُسَوِّي مِحْرَابَهُ عَلَيْهِ، بِنَاءً عَلَى الْعِيَانِ، أَوِ الِاسْتِدْلَالِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْكَعْبَةِ، وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ بِالِاجْتِهَادِ بِحَالٍ.
وَفِي مَعْنَى الْمَدِينَةِ، سَائِرُ الْبِقَاعِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا ضَبَطَ الْمِحْرَابَ، وَكَذَا الْمَحَارِيبُ الْمَنْصُوبَةُ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي الطَّرِيقِ الَّتِي هِيَ جَادَّتُهُمْ يَتَعَيَّنُ اسْتِقْبَالُهَا وَلَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ.
وَكَذَا الْقَرْيَةُ الصَّغِيرَةُ، إِذَا نَشَأَ فِيهَا قُرُونٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا اعْتِمَادَ عَلَى عَلَامَةٍ بِطَرِيقٍ يَنْدُرُ مُرُورُ النَّاسِ بِهِ، أَوْ يَسْتَوِي مُرُورُ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ بِهِ أَوْ بِقَرْيَةٍ خَرِبَةٍ، لَا يُدْرَى، بَنَاهَا الْمُسْلِمُونَ أَوِ الْكُفَّارُ؟ بَلْ يَجْتَهِدُ.
ثُمَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعُ الَّتِي مَنَعْنَا الِاجْتِهَادَ فِيهَا فِي الْجِهَةِ، هَلْ يَجُوزُ فِي التَّيَامُنِ وَالتَّيَاسُرِ إِنْ كَانَ مِحْرَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ.
وَلَوْ تَخَيَّلَ حَاذِقٌ فِي مَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ فِيهِ تَيَامُنًا أَوْ تَيَاسُرًا فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَخَيَالُهُ بَاطِلٌ، وَأَمَّا سَائِرُ الْبِلَادِ، فَيَجُوزُ عَلَى الْأَصَحِّ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ، وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ، وَالثَّالِثُ: لَا يَجُوزُ فِي الْكُوفَةِ خَاصَّةً، وَالرَّابِعُ: لَا يَجُوزُ فِي الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، لِكَثْرَةِ مَنْ دَخَلَهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.
الْحَالُ السَّابِعُ: إِذَا كَانَ بِمَوْضِعٍ لَا يَقِينَ فِيهِ.
اعْلَمْ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى يَقِينِ الْقِبْلَةِ، لَا يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ، وَفِيمَنِ اسْتَقْبَلَ حَجَرَ الْكَعْبَةِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهَا، وَجْهَانِ:
الْأَصَحُّ: الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنَ الْبَيْتِ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ بَلْ هُوَ مَظْنُونٌ.
ثُمَّ الْيَقِينُ، قَدْ يَحْصُلُ بِالْمُعَايَنَةِ، وَبِغَيْرِهَا. كَالنَّاشِئِ بِمَكَّةَ، الْعَارِفِ يَقِينًا بِأَمَارَاتٍ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْيَقِينِ، لَا يَجُوزُ اعْتِمَادُ قَوْلِ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا غَيْرُ الْقَادِرِ عَلَى الْيَقِينِ، فَإِنْ وَجَدَ مَنْ يُخْبِرُهُ بِالْقِبْلَةِ عَنْ عِلْمٍ، اعْتَمَدَهُ، وَلَمْ يَجْتَهِدْ، بِشَرْطِ عَدَالَةِ الْمُخْبِرِ، يَسْتَوِي فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ، وَلَا يُقْبَلُ كَافِرٌ قَطْعًا، وَلَا فَاسِقٌ وَلَا صَبِيٌّ، وَلَا مُمَيِّزٌ عَلَى الصَّحِيحِ فِيهِمَا.
ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الْخَبَرُ صَرِيحَ لَفْظٍ، وَقَدْ يَكُونُ دَلَالَةً، كَالْمِحْرَابِ الْمُعْتَمَدِ، وَسَوَاءٌ فِي الْعَمَلِ بِالْخَبَرِ، أَهْلُ الِاجْتِهَادِ وَغَيْرُهُمْ. حَتَّى الْأَعْمَى يَعْتَمِدُ الْمِحْرَابَ إِذَا عَرَفَهُ بِاللَّمْسِ حَيْثُ يَعْتَمِدُهُ الْبَصِيرُ، وَكَذَا الْبَصِيرُ فِي الظُّلْمَةِ.
وَقَالَ صَاحِبُ (الْعُدَّةِ) : إِنَّمَا يَعْتَمِدُ الْأَعْمَى عَلَى الْمَسِّ، فِي مِحْرَابٍ رَآهُ قَبْلَ الْعَمَى. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَاهَدَهُ، لَمْ يَعْتَمِدْهُ، وَلَوِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مَوَاضِعُ لَمْسِهَا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَصْبِرُ حَتَّى يُخْبِرَهُ غَيْرُهُ صَرِيحًا.
فَإِنْ خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ وَأَعَادَ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا وَجَدَ مَنْ يُخْبِرُهُ عَنْ عِلْمٍ، وَهُوَ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ قَوْلُهُ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَجِدِ الْعَاجِزُ مَنْ يُخْبِرُهُ فَتَارَةً يَقْدِرُ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَتَارَةً لَا يَقْدِرُ.
فَإِنْ قَدِرَ، لَزِمَهُ وَاسْتَقْبَلَ مَا ظَنَّهُ الْقِبْلَةَ وَلَا يَصِحُّ الِاجْتِهَادُ إِلَّا بِأَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ فِيهَا كُتُبٌ مُصَنَّفَةٌ، وَأَضْعَفُهَا الرِّيَاحُ لِاخْتِلَافِهَا.
وَأَقْوَاهَا الْقُطْبُ، وَهُوَ نَجْمٌ صَغِيرٌ فِي بَنَاتِ نَعْشٍ الصُّغْرَى، بَيْنَ الْفَرْقَدَيْنِ وَالْجَدْيِ إِذَا جَعَلَهُ الْوَاقِفُ خَلْفَ أُذُنِهِ الْيُمْنَى، كَانَ مُسْتَقْبِلًا الْقِبْلَةَ إِنْ كَانَ بِنَاحِيَةِ الْكُوفَةِ وَبَغْدَادَ وَهَمْدَانَ وَقَزْوِينَ وَطَبَرِسْتَانَ وَجُرْجَانَ، وَمَا وَالَاهَا.
وَلَيْسَ لِلْقَادِرِ عَلَى الِاجْتِهَادِ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ. فَإِنْ فَعَلَ وَجَبَ قَضَاءُ الصَّلَاةِ، وَسَوَاءٌ خَافَ خُرُوجَ الْوَقْتِ أَمْ لَمْ يَخَفْهُ.
لَكِنْ إِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ صَلَّى كَيْفَ كَانَ وَتَجِبُ الْإِعَادَةُ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَفِيهِ وَجْهٌ لِابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ يُقَلِّدُ عِنْدَ خَوْفِ الْفَوَاتِ، وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ: يَصْبِرُ إِلَى أَنْ تَظْهَرَ الْقِبْلَةُ، وَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ، وَلَوْ خَفِيَتِ الدَّلَائِلُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ لِغَيْمٍ أَوْ ظُلْمَةٍ أَوْ تُعَارُضِ أَدِلَّةٍ فَثَلَاثَةُ طُرُقٍ؛ أَصَحُّهَا: قَوْلَانِ:
أَظْهَرُهُمَا: لَا يُقَلِّدُ، وَالثَّانِي: يُقَلِّدُ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: يُقَلِّدُ، وَالثَّالِثُ: يُصَلِّي بِلَا تَقْلِيدٍ كَيْفَ كَانَ وَيَقْضِي. فَإِنْ قُلْنَا: يُقَلِّدُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ عَلَى الصَّحِيحِ وَقَوْلِ الْجُمْهُورِ.
قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هَذِهِ الطُّرُقُ إِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ، وَقَبْلَ ضِيقِهِ، يَصْبِرُ، وَلَا يُقَلِّدُ قَطْعًا، لِعَدَمِ الْحَاجَةِ. قَالَ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ مِنَ التَّيَمُّمِ أَوَّلَ الْوَقْتِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِاجْتِهَادِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ تَعَلُّمِ أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ، كَالْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ الْأَدِلَّةَ، وَلَا لَهُ أَهْلِيَّةُ مَعْرِفَتِهَا، وَجَبَ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ مُكَلَّفٍ مُسْلِمٍ عَدْلٍ عَارِفٍ بِالْأَدِلَّةِ، سَوَاءٌ فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ.
وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: لَهُ تَقْلِيدُ صَبِيٍّ مُمَيِّزٍ، وَالتَّقْلِيدُ: قَبُولُ قَوْلِهِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى الِاجْتِهَادِ. فَلَوْ قَالَ بَصِيرٌ: رَأَيْتُ الْقُطْبَ، أَوْ رَأَيْتُ الْخَلْقَ الْعَظِيمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُصَلُّونَ إِلَى هُنَا، كَانَ الْأَخْذُ بِهِ قَبُولَ خَبَرٍ لَا تَقْلِيدًا.
وَلَوِ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ اجْتِهَادُ مُجْتَهِدَيْنِ، قَلَّدَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْأَوْلَى تَقْلِيدُ الْأَوْثَقِ وَالْأَعْلَمِ، وَقِيلَ: يَجِبُ ذَلِكَ.
وَقِيلَ: يُصَلِّي مَرَّتَيْنِ إِلَى الْجِهَتَيْنِ، وَأَمَّا الْمُتَمَكِّنُ مَنْ تَعَلَّمَ أَدِلَّةَ الْقِبْلَةِ فَيُبْنَى عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ أَمْ عَيْنٍ؟ وَالْأَصَحُّ: فَرْضُ عَيْنٍ.
قُلْتُ: الْمُخْتَارُ مَا قَالَهُ غَيْرُهُ؛ أَنَّهُ إِنْ أَرَادَ سَفَرًا فَفَرْضُ عَيْنٍ؛ لِعُمُومِ حَاجَةِ الْمُسَافِرِ إِلَيْهَا، وَكَثْرَةِ الِاشْتِبَاهِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَفَرْضُ كِفَايَةٍ، إِذَا لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ السَّلَفَ أَلْزَمُوا آحَادَ النَّاسِ بِذَلِكَ، بِخِلَافِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَشُرُوطِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ، صَلَّى بِالتَّقْلِيدِ، وَلَا يَقْضِي كَالْأَعْمَى، وَإِنْ قُلْنَا: فَرْضُ عَيْنٍ، لَمْ يَجُزِ التَّقْلِيدُ.
فَإِنْ قَلَّدَ قَضَى لِتَقْصِيرِهِ، وَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ عَنِ التَّعَلُّمِ، فَهُوَ كَالْعَالَمِ إِذَا تَحَيَّرَ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِيهِ.
فَرْعٌ:
الْمُصَلِّي بِالِاجْتِهَادِ إِذَا ظَهَرَ لَهُ الْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ لَهُ أَحْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَظْهَرَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ، أَعْرَضَ عَنْهُ وَاعْتَمَدَ الْجِهَةَ الَّتِي يَعْلَمُهَا أَوْ يَظُنُّهَا الْآنَ.
وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ بَلْ ظَنَّ أَنَّ الصَّوَابَ جِهَةً أُخْرَى؛ فَإِنْ كَانَ دَلِيلُ الِاجْتِهَادِ الثَّانِي عِنْدَهُ أَوْضَحَ مِنَ الْأَوَّلِ الْآنَ، اعْتَمَدَ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَوْضَحَ اعْتَمَدَهُ، وَإِنْ تَسَاوَيَا فَلَهُ الْخِيَارُ فِيهِمَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: يُصَلِّي إِلَى الْجِهَتَيْنِ مَرَّتَيْنِ.
الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَظْهَرَ الْخَطَأُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ. فَإِنْ تَيَقَّنَهُ، وَجَبَتِ الْإِعَادَةُ عَلَى الْأَظْهَرِ، سَوَاءٌ تَيَقَّنَ الصَّوَابَ أَيْضًا، أَمْ لَا.
وَقِيلَ: الْقَوْلَانِ إِذَا تَيَقَّنَ الْخَطَأَ، وَتَيَقَّنَ الصَّوَابَ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنِ الصَّوَابَ فَلَا إِعَادَةَ قَطْعًا.
وَالْمَذْهَبُ: الْأَوَّلُ، وَلَوْ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ الَّذِي قَلَّدَهُ الْأَعْمَى، فَهُوَ كَتَيَقُّنِ خَطَأِ الْمُجْتَهِدِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنِ الْخَطَأَ بَلْ ظَنَّهُ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ.
فَلَوْ صَلَّى أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ إِلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ بِاجْتِهَادَاتٍ فَلَا إِعَادَةَ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَعَلَى وَجْهٍ شَاذٍّ: يَجِبُ إِعَادَةُ الْأَرْبَعِ.
وَقِيلَ: يَجِبُ إِعَادَةُ غَيْرِ الْأَخِيرَةِ، وَيَجْرِي هَذَا الْخِلَافُ، سَوَاءٌ أَوْجَبْنَا تَجْدِيدَ الِاجْتِهَادِ، أَمْ لَمْ نُوجِبْهُ فَفَعَلَهُ.
الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَظْهَرَ الْخَطَأُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَظْهَرُ الصَّوَابُ مُقْتَرِنًا بِظُهُورِ الْخَطَأِ. فَإِنْ كَانَ الْخَطَأُ مُتَيَقَّنًا،
بَنَيْنَاهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَيَقُّنِ الْخَطَأِ بَعْدَ الْفَرَاغِ. فَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ: وَقِيلَ: قَوْلَانِ.
أَصَحُّهُمَا: يَنْحَرِفُ إِلَى جِهَةِ الصَّوَابِ، وَيُتِمُّ صَلَاتَهُ، وَالثَّانِي: تَبْطُلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْخَطَأُ مُتَيَقَّنًا، بَلْ مَظْنُونًا، فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، أَوِ الْقَوْلَيْنِ، الْأَصَحُّ: يَنْحَرِفُ، وَيَبْنِي، وَعَلَى هَذَا: الْأَصَحُّ لَوْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ إِلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ بِاجْتِهَادَاتٍ فَلَا إِعَادَةَ كَالصَّلَوَاتِ، وَخَصَّ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) الْوَجْهَيْنِ بِمَا إِذَا كَانَ الدَّلِيلُ الثَّانِي أَوْضَحَ مِنَ الْأَوَّلِ. قَالَ: فَإِنِ اسْتَوَيَا تَمَّمَ صَلَاتَهُ إِلَى الْجِهَةِ الْأُولَى وَلَا إِعَادَةَ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَظْهَرَ الصَّوَابُ مَعَ الْخَطَأِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الصَّوَابِ بِالِاجْتِهَادِ عَلَى الْقُرْبِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ عَلَى الْقُرْبِ فَهَلْ يَنْحَرِفُ وَيَبْنِي أَمْ يَسْتَأْنِفُ؟ فِيهِ خِلَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الضَّرْبِ الْأَوَّلِ وَأَوْلَى بِالِاسْتِئْنَافِ.
قُلْتُ: الصَّوَابُ هُنَا وُجُوبُ الِاسْتِئْنَافِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مِثَالُهُ: عَرَفَ أَنَّ قِبْلَتَهُ يَسَارَ الْمَشْرِقِ فَذَهَبَ الْغَيْمُ وَظَهَرَ كَوْكَبٌ قَرِيبٌ مِنَ الْأُفُقِ هُوَ مُسْتَقْبِلُهُ، فَعَلِمَ الْخَطَأَ يَقِينًا وَلَمْ يَعْلَمِ الصَّوَابَ؛ إِذْ يُحْتَمَلُ كَوْنُ الْكَوْكَبِ فِي الْمَشْرِقِ وَيُحْتَمَلُ الْمَغْرِبِ.
لَكِنْ يُعْرَفُ الصَّوَابُ عَلَى قُرْبٍ فَإِنَّهُ يَرْتَفِعُ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ مَشْرِقٌ، أَوْ يَنْحَطُّ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ مَغْرِبٌ وَيَعْرِفُ بِهِ الْقِبْلَةَ، وَقَدْ يَعْجِزُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ يُطْبِقَ الْغَيْمُ عَقِبَ الْكَوْكَبِ.
فَرْعٌ.
[فِي الْمَطْلُوبِ بِالِاجْتِهَادِ]
قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: جِهَةُ الْكَعْبَةِ، وَأَظْهَرُهُمَا: عَيْنُهَا. اتَّفَقَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْقَفَّالُ عَلَى تَصْحِيحِهِ وَلَوْ ظَهَرَ الْخَطَأُ فِي التَّيَامُنِ أَوِ التَّيَاسُرِ، فَإِنْ كَانَ
ظُهُورُهُ بِالِاجْتِهَادِ، وَظَهَرَ بَعْدَ الْفَرَاغِ، لَمْ يُؤَثِّرْ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَائِهَا انْحَرَفَ وَأَتَمَّهَا قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ ظُهُورٌ بِالْيَقِينِ، وَقُلْنَا: الْفَرْضُ جِهَةُ الْكَعْبَةِ، فَكَذَلِكَ.
وَإِنْ قُلْنَا: عَيْنُهَا، فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ، وَالِاسْتِئْنَافِ فِي الْأَثْنَاءِ الْقَوْلَانِ. قَالَ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) وَغَيْرُهُ: وَلَا يُسْتَيْقَنُ الْخَطَأُ فِي الِانْحِرَافِ مَعَ الْبُعْدِ عَنْ مَكَّةَ، وَإِنَّمَا يُظَنُّ، وَمَعَ الْقُرْبِ يُمْكِنُ التَّيَقُّنُ وَالظَّنُّ، وَهَذَا كُلُّهُ كَالتَّوَسُّطِ بَيْنَ اخْتِلَافٍ أَطْلَقَهُ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ: أَنَّهُ هَلْ يُتَيَقَّنُ الْخَطَأُ فِي الِانْحِرَافِ مِنْ غَيْرِ مُعَايَنَةِ الْكَعْبَةِ، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْقُرْبِ مِنْ مَكَّةَ وَالْبُعْدِ؟ فَقَالُوا: قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا بِالْمُعَايَنَةِ، وَقَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ: يَتَصَوَّرُ.
فَرْعٌ:
إِذَا صَلَّى بِاجْتِهَادٍ ثُمَّ أَرَادَ فَرِيضَةً أُخْرَى حَاضِرَةً أَوْ فَائِتَةً، وَجَبَ إِعَادَةُ الِاجْتِهَادِ عَلَى الْأَصَحِّ. ثُمَّ قِيلَ الْوَجْهَانِ، إِذَا لَمْ يُفَارِقْ مَوْضِعَهُ. فَإِنْ فَارَقَهُ وَجَبَ إِعَادَتُهُ قَطْعًا كَالتَّيَمُّمِ.
وَلَكِنَّ الْفَرْقَ ظَاهِرٌ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ الِاجْتِهَادِ لِلنَّافِلَةِ قَطْعًا وَلَوْ رَأَى اجْتِهَادَ رَجُلَيْنِ إِلَى جِهَتَيْنِ، عَمِلَ كُلٌّ بِاجْتِهَادِهِ، وَلَا يَقْتَدِي بِصَاحِبِهِ، وَلَوِ اجْتَهَدَ جَمَاعَةٌ، وَاتَّفَقَ اجْتِهَادُهُمْ فَأَمَّهُمْ أَحَدُهُمْ، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ مَأْمُومٍ لَزِمَهُ الْمُفَارَقَةُ، وَيَنْحَرِفُ إِلَى الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ، وَهَلْ لَهُ الْبِنَاءُ، أَمْ عَلَيْهِ الِاسْتِئْنَافُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ فِي تَغَيُّرِ الِاجْتِهَادِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، وَهَلْ هُوَ مُفَارِقٌ بِعُذْرٍ، أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ لِتَرْكِهِ كَمَالَ الْبَحْثِ؟ وَجْهَانِ:
قُلْتُ: الْأَصَحُّ الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْإِمَامِ انْحَرَفَ إِلَى الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ بَانِيًا أَوْ مُسْتَأْنِفًا، عَلَى الْخِلَافِ، وَيُفَارِقُهُ الْمَأْمُومُونُ، وَلَوِ اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ رَجُلَيْنِ فِي التَّيَامُنِ، وَالتَّيَاسُرِ،
وَالْجِهَةِ الْوَاحِدَةِ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا عَلَى الْمُجْتَهِدِ رِعَايَةَ ذَلِكَ، فَهُوَ كَالِاخْتِلَافِ فِي الْجِهَةِ، فَلَا يَقْتَدِي أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَإِلَّا فَلَا بَأْسَ، وَلَوْ شَرَعَ الْمُقَلِّدُ فِي الصَّلَاةِ بِالتَّقْلِيدِ فَقَالَ لَهُ عَدْلٌ أَخْطَأَ بِكَ فُلَانُ فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ عَنِ اجْتِهَادٍ. فَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْأَوَّلِ أَرْجَحَ عِنْدِهِ لِزِيَادَةِ عَدَالَتِهِ أَوْ هِدَايَتِهِ لِلْأَدِلَّةِ أَوْ مِثْلِهِ، أَوْ لَمْ يَعْرِفْ هَلْ هُوَ مِثْلُهُ أَمْ لَا؟ لَمْ يَجِبِ الْعَمَلُ بِقَوْلِ الثَّانِي، وَهَلْ تَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ؟ يَبْنِي عَلَى أَنَّ الْمُقَلِّدَ إِذَا وَجَدَ مُجْتَهِدَيْنِ، هَلْ يَجِبُ الْأَخْذُ بِأَعْلَمِهِمَا، أَمْ يَتَخَيَّرُ؟ فَإِنْ قُلْنَا: بِالْأَوَّلِ لَمْ يَجُزْ وَإِلَّا فَفِيهِ خِلَافٌ.
قُلْتُ: الصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَرْجَحَ، فَهُوَ كَتَغَيُّرِ اجْتِهَادِ الْبَصِيرِ، فَيَنْحَرِفُ، وَيَجِئُ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ يَبْنِي، أَمْ يَسْتَأْنِفُ؟ وَلَوْ قَالَ لَهُ الْمُجْتَهِدُ الثَّانِي بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ، لَمْ يَلْزَمِ الْإِعَادَةَ قَطْعًا وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَرْجَحَ، كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ.
الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يُخْبِرَ عَنْ عِلْمٍ وَمُعَايَنَةٍ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْأَوَّلِ أَقْوَى عِنْدِهِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، أَنْ يَقُولَ لِلْأَعْمَى: أَنْتَ مُصَلٍّ إِلَى الشَّمْسِ، وَالْأَعْمَى يَعْلَمُ أَنَّ قِبْلَتَهُ إِلَى غَيْرِ الشَّمْسِ، فَيَلْزَمُ الِاسْتِئْنَافَ عَلَى الْأَظْهَرِ.
وَلَوْ قَالَ الثَّانِي: أَنْتَ عَلَى الْخَطَأِ قَطْعًا، وَجَبَ قَبُولُهُ قَطْعًا، وَسَوَاءٌ أَخْبَرَهُ هَذَا الْقَاطِعُ بِالْخَطَأِ عَنِ الصَّوَابِ، مُتَيَقِّنًا أَوْ مُجْتَهِدًا، يَجِبُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ تَقْلِيدَ الْأَوَّلِ بَطَلَ بِقَطْعِ هَذَا.
وَكُلُّ الْمَذْكُورِ فِي الْحَالَيْنِ، مَفْرُوضٌ فِيمَا إِذَا أَخْبَرَ الثَّانِي بِالْخَطَأِ وَالصَّوَابِ جَمِيعًا. فَإِنْ أَخْبَرَهُ عَنِ الْخَطَأِ وَحْدَهُ، عَلَى صُورَةٍ يَجِبُ قَبُولُهَا، وَلَمْ يُخْبِرْ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ بِالصَّوَابِ، فَهُوَ كَاخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْفَرْعِ.
الْبَابُ الرَّابِعُ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ.
الصَّلَاةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَرْكَانٍ وَسُنَنٍ تُسَمَّى أَبْعَاضًا، وَسُنَنٍ لَا تُسَمَّى أَبْعَاضًا.
فَالْأَرْكَانُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا، سَبْعَةَ عَشَرَ.
النِّيَّةُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَالْقِيَامُ، وَالْقِرَاءَةُ، وَالرُّكُوعُ، وَالطُّمَأْنِينَةُ فِيهِ، وَالِاعْتِدَالُ، وَالطُّمَأْنِينَةُ فِيهِ، وَالسُّجُودُ، وَالطَّمَأْنِينَةُ فِيهِ، وَالْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَالطُّمَأْنِينَةُ فِيهِ، وَالْقُعُودُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، وَالتَّشَهُّدُ فِيهِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ وَالسَّلَامُ، وَتَرْتِيبُهَا هَكَذَا.
وَمَنْ فَرَضَ فِيهَا الْمُوَالَاةَ، وَنِيَّةَ الْخُرُوجِ أَلْحَقَهُمَا بِالْأَرْكَانِ، وَضَمَّ صَاحِبُ (التَّلْخِيصِ) وَالْقَفَّالُ، إِلَى الْأَرْكَانِ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ، وَمِنَ الْأَصْحَابِ، مَنْ جَعَلَ نِيَّةَ الصَّلَاةِ شَرْطًا، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا رُكْنٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَأَمَّا الْأِبْعَاضُ، فَسِتَّةٌ.
أَحَدُهَا: الْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ، وَفِي الْوَتْرِ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالثَّانِي: الْقِيَامُ لِلْقُنُوتِ، وَالثَّالِثُ: التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ، وَالرَّابِعُ: الْجُلُوسُ لَهُ، وَالْخَامِسُ: الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، إِذَا قُلْنَا تُسَنُّ، وَالصَّلَاةُ عَلَى آلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ إِذَا قُلْنَا هِيَ سُنَّةٌ فِيهِمَا، وَأَمَّا السُّنَنُ الَّتِي لَيْسَتْ أَبْعَاضًا، فَمَا يُشْرَعُ سِوَى مَا قَدَّمْنَاهُ.