الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ
فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ
اعْلَمْ أَنَّ الرَّاكِدَ: قَلِيلٌ، وَكَثِيرٌ، فَالْكَثِيرُ: قُلَّتَانِ، وَالْقَلِيلُ: دُونَهُ. وَالْقُلَّتَانِ: خَمْسُ قِرَبٍ. وَفِي قَدْرِهَا بِالْأَرْطَالِ أَوْجُهٌ. الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: خَمْسُمِائَةِ رَطْلٍ بِالْبَغْدَادِيِّ. وَالثَّانِي: سِتُّمِائَةٍ. قَالَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ. وَاخْتَارَهُ الْقَفَّالُ، وَالْغَزَالِيُّ. وَالثَّالِثُ: أَلْفُ رَطْلٍ. قَالَهُ أَبُو زَيْدٍ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ تَقْرِيبٌ، فَلَا يَضُرُّ نُقْصَانُ الْقَدْرِ الَّذِي لَا يَظْهَرُ بِنُقْصَانِهِ تَفَاوُتٌ فِي التَّغَيُّرِ بِالْقَدْرِ الْمُعَيَّنِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُغَيَّرَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَحْدِيدٌ: فَيَضُرُّ أَيُّ شَيْءٍ نَقَصَ.
قُلْتُ: الْأَشْهَرُ - تَفْرِيعًا عَلَى التَّقْرِيبِ - أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ نَقْصِ رَطْلَيْنِ، وَقِيلَ: ثَلَاثَةٌ وَنَحْوُهَا، وَقِيلَ: مِائَةُ رَطْلٍ. وَإِذَا وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ نَجَاسَةٌ وَشَكَّ: هَلْ هُوَ قُلَّتَانِ، أَمْ لَا؟ فَالَّذِي جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ (الْحَاوِي) وَآخَرُونَ: أَنَّهُ نَجِسٌ، لِتَحَقُّقِ النَّجَاسَةِ. وَلِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِيهِ احْتِمَالَانِ، وَالْمُخْتَارُ، بَلِ الصَّوَابُ: الْجَزْمُ بِطَهَارَتِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَتُهُ، وَشَكَكْنَا فِي نَجَاسَةٍ مُنَجِّسَةٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ النَّجَاسَةِ التَّنْجِيسُ. وَقَدْرُ الْقُلَّتَيْنِ بِالْمِسَاحَةِ: ذِرَاعٌ وَرُبُعٌ طُولًا وَعَرْضًا وَعُمْقًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ الْمَاءُ الْقَلِيلُ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ الْمُؤَثِّرَةِ، تَغَيَّرَ أَمْ لَا. وَأَمَّا غَيْرُ الْمُؤَثِّرَةِ، كَالْمَيْتَةِ الَّتِي لَا نَفْسَ لَهَا سَائِلَةً، وَنَجَاسَةٍ لَا يُدْرِكُهَا طَرْفٌ، وَوُلُوغِ هِرَّةٍ تَنْجُسُ فَمُهَا ثُمَّ غَابَتْ وَاحْتُمِلَ طَهَارَتُهُ، فَلَا يَنْجُسُ عَلَى الْمَذْهَبِ، كَمَا سَبَقَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَسَيَأْتِي الْأُخْرَيَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاخْتَارَ الرُّويَانِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ إِلَّا بِالتَّغَيُّرِ، وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ، الْأَوَّلُ.
وَأَمَّا الْكَثِيرُ، فَيَنْجُسُ بِالتَّغَيُّرِ بِالنَّجَاسَةِ لِلْإِجْمَاعِ، سَوَاءً قَلَّ التَّغَيُّرُ أَمْ كَثُرَ، وَسَوَاءً تَغَيَّرَ الطَّعْمُ أَوِ اللَّوْنُ أَوِ الرَّائِحَةُ، وَكُلُّ هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ هَاهُنَا، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي الطَّاهِرِ. وَسَوَاءً كَانَتِ النَّجَاسَةُ الْمُلَاقِيَةُ مُخَالِطَةً أَمْ مُجَاوِرَةً، وَفِي الْمُجَاوَرَةِ وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهَا لَا تُنَجِّسُهُ.
وَأَمَّا إِذَا تَرَوَّحَ الْمَاءُ بِجِيفَةٍ مُلْقَاةٍ عَلَى شَطِّ النَّهْرِ، فَلَا يَنْجُسُ، لِعَدَمِ الْمُلَاقَاةِ، وَإِنْ لَاقَى الْكَثِيرُ النَّجَاسَةَ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ لِقِلَّةِ النَّجَاسَةِ وَاسْتِهْلَاكِهَا، لَمْ يَنْجُسْ، وَيُسْتَعْمَلُ جَمِيعُهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَلَى وَجْهٍ يُبَقَّى قَدْرُ النَّجَاسَةِ. وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ لِمُوَافَقَتِهَا الْمَاءَ فِي الْأَوْصَافِ، قُدِّرَ بِمَا يُخَالِفُ، كَمَا سَبَقَ فِي (بَابِ الطَّاهِرِ) . وَأَمَّا إِذَا تَغَيَّرَ بَعْضُهُ، فَالْأَصَحُّ نَجَاسَةُ جَمِيعِ الْمَاءِ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي (الْمُهَذَّبِ) وَغَيْرِهِ. وَفِي وَجْهٍ لَا يَنْجُسُ إِلَّا الْمُتَغَيِّرُ.
قُلْتُ: الْأَصَحُّ مَا قَالَهُ الْقَفَّالُ، وَصَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» وَآخَرُونَ: أَنَّ الْمُتَغَيِّرَ، كَنَجَاسَةٍ جَامِدَةٍ. فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي دُونَ قُلَّتَيْنِ، فَنَجِسٌ وَإِلَّا، فَطَاهِرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ إِنْ زَالَ تَغَيُّرُ الْمُتَغَيِّرِ بِالنَّجَاسَةِ بِنَفْسِهِ، طَهُرَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: لَا يَطْهُرُ. وَهُوَ شَاذٌّ. وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ رَائِحَةُ النَّجَاسَةِ، لِطَرْحِ الْمِسْكِ
فِيهِ، أَوْ طَعْمُهَا، لِطَرْحِ الْخَلِّ، أَوْ لَوْنُهَا، لِطَرْحِ الزَّعْفَرَانِ، لَمْ يَطْهُرْ بِالِاتِّفَاقِ. وَإِنْ ذَهَبَ التَّغَيُّرُ بِطَرْحِ التُّرَابِ، فَقَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا لَا يَطْهُرُ، لِلشَّكِّ فِي زَوَالِ التَّغَيُّرِ. وَإِنْ ذَهَبَ بِالْجِصِّ وَالنُّورَةِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا لَا يَغْلُبُ وَصْفَ التَّغَيُّرِ، فَهُوَ كَالتُّرَابِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: كَالْمِسْكِ. ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْخِلَافُ فِي مَسْأَلَةِ التُّرَابِ إِذَا كَانَ التَّغَيُّرُ بِالرَّائِحَةِ. وَأَمَّا تَغَيُّرُ اللَّوْنِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ التُّرَابُ قَطْعًا. وَالْأُصُولُ الْمُعْتَمَدَةُ سَاكِتَةٌ عَنْ هَذَا التَّفْصِيلِ.
قُلْتُ: بَلْ قَدْ صَرَّحَ الْمَحَامِلِيُّ، وَالْفُورَانِيُّ، وَآخَرُونَ: بِجَرَيَانِ الْخِلَافِ فِي التَّغَيُّرِ بِالصِّفَاتِ الثَّلَاثِ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ ذَلِكَ فِي (شَرْحِ الْمُهَذَّبِ) . وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
النَّجَاسَةُ الَّتِي لَا يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ، كَنُقْطَةِ خَمْرٍ، وَبَوْلٍ يَسِيرَةٍ، لَا تُبْصَرُ لِقِلَّتِهَا وَكَذُبَابَةٍ تَقَعُ عَلَى نَجَاسَةٍ، ثُمَّ تَطِيرُ عَنْهَا، هَلْ يُنَجِّسُ الْمَاءَ وَالثَّوْبَ كَالنَّجَاسَةِ الْمُدْرَكَةِ، أَمْ يُعْفَى عَنْهَا؟ فِيهِ سَبْعُ طُرُقٍ: أَحَدُهَا: يُعْفَى عَنْهَا فِيهِمَا. وَالثَّانِي: لَا. وَالثَّالِثُ: فِيهِمَا قَوْلَانِ. وَالرَّابِعُ: تُنَجِّسُ الْمَاءَ، وَفِي الثَّوْبِ قَوْلَانِ، وَالْخَامِسُ: يُنَجِّسُ الثَّوْبَ، وَفِي الْمَاءِ قَوْلَانِ، وَالسَّادِسُ: يُنَجِّسُ الْمَاءَ دُونَ الثَّوْبِ. وَالسَّابِعُ: عَكْسُهُ. وَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ الْعَفْوَ فِيهِمَا، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ - عِنْدَ الْمُعْظَمِ - خِلَافُهُ.
قُلْتُ: الْمُخْتَارُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ مَا اخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
الْمَاءُ الْقَلِيلُ النَّجِسُ إِذَا كُوثِرَ فَبَلَغَ قُلَّتَيْنِ، نُظِرَ، إِنْ كُوثِرَ بِغَيْرِ الْمَاءِ، لَمْ يَطْهُرْ، بَلْ لَوْ كَمَّلَ الطَّاهِرُ النَّاقِصَ عَنْ قُلَّتَيْنِ بِمَاءِ وَرْدٍ بَلَغَهُمَا بِهِ وَصَارَ مُسْتَهْلَكًا، ثُمَّ وَقَعَ فِيهِ نَجَاسَةٌ، نَجُسَ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ. وَإِنَّمَا لَا تَقْبَلُ النَّجَاسَةَ قُلَّتَانِ مِنَ الْمَاءِ الْمَحْضِ. وَإِنْ كُوثِرَ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، عَادَ مُطَهِّرًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي: هُوَ كَمَاءِ الْوَرْدِ. وَإِنْ كُوثِرَ بِمَاءٍ غَيْرِ مُسْتَعْمَلٍ، طَاهِرٍ أَوْ نَجِسٍ، عَادَ مُطَهِّرًا بِلَا خِلَافٍ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ نَجَاسَةٌ جَامِدَةٌ؟ فِيهِ خِلَافُ التَّبَاعُدِ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ وَلَا تَغَيُّرَ فِيهِ. أَمَّا إِذَا كُوثِرَ فَلَمْ يَبْلُغْهُمَا، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى نَجَاسَتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُكَاثَرُ بِهِ مُطَهِّرًا، وَأَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنَ الْمَوْرُودِ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُورِدَهُ عَلَى النَّجِسِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ نَجَاسَةٌ جَامِدَةٌ فَإِنِ اخْتَلَّ أَحَدُ الشُّرُوطِ، فَنَجِسٌ بِلَا خِلَافٍ. وَلَا يُشْتَرَطُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ فِيمَا إِذَا كُوثِرَ فَبَلَغَ قُلَّتَيْنِ.
قُلْتُ: هَذَا الَّذِي صَحَّحَهُ هُوَ الْأَصَحُّ، وَعِنْدَ الْخُرَاسَانِيِّينَ: وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ: الثَّانِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْمُكَاثَرَةِ الضَّمُّ وَالْجَمْعُ، دُونَ الْخَلْطِ، حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُ الْبَعْضَيْنِ صَافِيًا، وَالْآخَرُ كَدِرًا، وَانْضَمَّا، زَالَتِ النَّجَاسَةُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى الِاخْتِلَاطِ الْمَانِعِ مِنَ التَّمْيِيزِ. وَمَتَى حَكَمْنَا بِالطَّهَارَةِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ فَفُرِّقَ، لَمْ يَضُرَّ، وَهُوَ بَاقٍ عَلَى طَهُورِيَّتِهِ.
فَرْعٌ
إِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ الرَّاكِدِ نَجَاسَةٌ جَامِدَةٌ، فَقَوْلَانِ: أَظْهَرَهُمَا وَهُوَ الْقَدِيمُ، أَنَّهُ يَجُوزُ الِاغْتِرَافُ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ، وَلَا يَجِبُ التَّبَاعُدُ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ كُلُّهُ. وَالثَّانِي: الْجَدِيدُ: يَجِبُ أَنْ يَبْعُدَ عَنِ النَّجَاسَةِ بِقَدْرِ قُلَّتَيْنِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكْفِي فِي الْبَحْرِ التَّبَاعُدُ بِشِبْرٍ نَظَرًا إِلَى الْعُمْقِ، بَلْ يَتَبَاعَدُ قَدْرًا لَوْ حُسِبَ مِثْلُهُ فِي الْعُمْقِ وَسَائِرِ الْجَوَانِبِ لَبَلَغَ قُلَّتَيْنِ. فَلَوْ كَانَ الْمَاءُ مُنْبَسِطًا بِلَا عُمْقٍ، تَبَاعَدَ طُولًا وَعَرْضًا قَدْرًا يَبْلُغُ قُلَّتَيْنِ فِي ذَلِكَ الْعُمْقِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَجِبُ أَنْ يَبْعُدَ إِلَى مَوْضِعٍ يَعْلَمُ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَمْ تَنْتَشِرْ إِلَيْهِ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ فَقَطْ، فَعَلَى الْجَدِيدِ: لَا يَجُوزُ الِاغْتِرَافُ مِنْهُ. وَعَلَى الْقَدِيمِ: يَجُوزُ عَلَى الْأَصَحِّ. ثُمَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ عَنْ غَيْرِ تَبَاعُدٍ، مَعَ الْقَطْعِ بِطَهَارَةِ الْجَمِيعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الِاسْتِعْمَالِ مَبْنِيًّا عَلَى خِلَافٍ فِي نَجَاسَتِهِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ، نُقِلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ.
قُلْتُ: هَذَا التَّوَقُّفُ مِنَ الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ عَجَبٌ، فَقَدْ جَزَمَ وَصَرَّحَ بِالِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ جَمَاعَاتٌ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِنَا، مِنْهُمُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَصَاحِبُ (الْحَاوِي) وَالْمَحَامِلِيُّ، وَصَاحِبَا (الشَّامِلِ) وَ (الْبَيَانِ) وَآخَرُونَ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْخُرَاسَانِيِّينَ.
وَقَطَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْخُرَاسَانِيِّينَ عَلَى قَوْلِ التَّبَاعُدِ بِأَنْ يَكُونَ الْمُجْتَنَبُ نَجِسًا، كَذَا قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْبَغَوِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. حَتَّى قَالَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ: لَوْ كَانَ قُلَّتَيْنِ فَقَطْ، كَانَ نَجِسًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَالصَّوَابُ: الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
إِذَا غُمِسَ كُوزٌ مُمْتَلِئٌ مَاءً نَجِسًا فِي مَاءٍ كَثِيرٍ طَاهِرٍ، فَإِنْ كَانَ وَاسِعَ الرَّأْسِ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَعُودُ طَهُورًا، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقَهُ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ. وَإِذَا حَكَمْنَا بِأَنَّهُ طَهُورٌ فِي الصُّورَتَيْنِ، فَهَلْ يَصْلُحُ ذَلِكَ عَلَى الْفَوْرِ، أَمْ لَا بُدَّ مِنْ زَمَانٍ يَزُولُ فِيهِ التَّغَيُّرُ لَوْ كَانَ مُتَغَيِّرًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: الثَّانِي. وَيَكُونُ الزَّمَانُ فِي الضَّيِّقِ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الْوَاسِعِ. فَإِنْ كَانَ مَاءُ الْكُوزِ مُتَغَيِّرًا، فَلَا بُدَّ مِنْ زَوَالِ تَغَيُّرِهِ، وَلَوْ كَانَ الْكُوزُ غَيْرَ مُمْتَلِئٍ، فَمَا دَامَ يَدْخُلُ فِيهِ الْمَاءُ، فَلَا اتِّصَالَ، وَهُوَ عَلَى نَجَاسَتِهِ.
قُلْتُ: إِلَّا أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنَ الَّذِي فِيهِ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ مَا سَبَقَ فِي الْمُكَاثَرَةِ.
قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَصَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) : وَلَوْ كَانَ مَاءُ الْكُوزِ طَاهِرًا، فَغَمَسَهُ فِي مَاءٍ نَجِسٍ يَنْقُصُ عَنِ الْقُلَّتَيْنِ بِقَدْرِ مَاءِ الْكُوزِ، فَهَلْ يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ النَّجِسِ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
مَاءُ الْبِئْرِ كَغَيْرِهِ فِي قَبُولِ النَّجَاسَةِ وَزَوَالِهَا، فَإِنْ كَانَ قَلِيلًا وَتَنَجَّسَ بِوُقُوعِ نَجَاسَةٍ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْزَحَ لِيَنْبُعَ الْمَاءُ الطَّهُورُ بَعْدَهُ، لِأَنَّهُ وَإِنْ نُزِحَ، فَقَعْرُ الْبِئْرِ يَبْقَى نَجِسًا، وَقَدْ تَنَجَّسَ جُدْرَانُ الْبِئْرِ أَيْضًا، بِالنَّزْحِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ لِيَزْدَادَ فَيَبْلُغَ حَدَّ الْكَثْرَةِ. وَإِنْ كَانَ نَبْعُهَا قَلِيلًا لَا تُتَوَقَّعُ كَثْرَتُهُ، صُبَّ فِيهَا مَاءٌ لِيَبْلُغَ الْكَثْرَةَ، وَيَزُولَ التَّغَيُّرُ إِنْ كَانَ تَغَيَّرَ. وَطَرِيقُ زَوَالِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاتِّفَاقِ وَالْخِلَافِ. وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ كَثِيرًا طَاهِرًا، وَتَفَتَّتْ فِيهِ شَيْءٌ نَجِسٌ، كَفَأْرَةٍ تَمَعَّطَ شَعْرُهَا، فَقَدْ يَبْقَى عَلَى طَهُورِيَّتِهِ لِكَثْرَتِهِ، وَعَدَمِ التَّغَيُّرِ، لَكِنْ يَتَعَذَّرُ اسْتِعْمَالُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَنْزَحُ دَلْوًا إِلَّا وَفِيهِ شَيْءٌ مِنَ النَّجَاسَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَقَى الْمَاءُ كُلُّهُ، لِيَخْرُجَ الشَّعْرُ مِنْهُ. فَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ فَوَّارَةً، وَتَعَذَّرَ نَزْحُ الْجَمِيعِ، نُزِحَ مَا يَغْلُبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الشَّعْرَ خَرَجَ كُلُّهُ مَعَهُ، فَمَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْبِئْرِ وَمَا يَحْدُثُ، طَهُورٌ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَيْقَنِ النَّجَاسَةِ، وَلَا مَظْنُونِهَا، وَلَا يَضُرُّ احْتِمَالُ بَقَاءِ الشَّعْرِ.
فَإِنْ تَحَقَّقَ شَعْرًا بَعْدَ ذَلِكَ، حُكِمَ بِهِ. فَأَمَّا قَبْلَ النَّزْحِ إِلَى الْحَدِّ الْمَذْكُورِ، إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو كُلُّ دَلْوٍ عَنْ شَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَةِ، لَكِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْهُ، فَفِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ الْقَوْلَانِ فِي تَقَابُلِ الْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الشَّعْرِ تَفْرِيعٌ عَلَى نَجَاسَتِهِ بِالْمَوْتِ. فَإِنْ لَمْ تُنَجِّسْهُ، فُرِضَتِ الْمَسْأَلَةُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَجْزَاءِ.