الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غَزْو السودَان وَفتح مَدِينَة كاغو ومقتل سلطانها إِسْحَاق سكية رحمه الله
قد تقدم لنا مَا كَانَ من مُفَاوَضَة الْمَنْصُور لحاشيته فِي غَزْو السودَان واستقرار رَأْيهمْ على ذَلِك فَبَقيَ الْمَنْصُور يقدم رجلا وَيُؤَخر أُخْرَى إِلَى أَن كَانَت سنة سبع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة فقوي عزمه واشتغل بتجهيز آلَة الْحَرْب وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْجَيْش من آلَة السّفر ومهماته وَأمر القواد أَن يقومُوا حصص الْقَبَائِل وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من إبل وخيل وبغال وَإِن من أَتَى بجمل ضَعِيف يُعَاقب واشتغل هُوَ بتقويم آلَة الْحَرْب من المدافع والعجلات الَّتِي تحملهَا والبارود والرصاص والكور وتقويم الْخشب واللوح وَالْحَدِيد للغلائط والسفن والفلك والمجاذيف والقلوع والبراميل والروايا لحمل المَاء وَألف النجارون ذَلِك فِي الْبر إِلَى أَن تألف ثمَّ خلعوه وشدوه أحمالا وَاسْتمرّ الْحَال إِلَى أَن استوفى الْمَنْصُور أَمر الْغَزْو فِي ثَلَاث سِنِين ثمَّ أَمر بِإِخْرَاج الْمضَارب والمباني لوادي تانسيفت فَخرجت الْأَحْمَال والأثقال من مراكش فِي الْيَوْم السَّادِس عشر من ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَنزلت العساكر وَضربت أبنيتها خيلا ورجلا وجملتها عشرُون ألفا وَمَعَهُمْ من المعلمين البحرية والطبجية أَلفَانِ فالمجموع اثْنَان وَعِشْرُونَ ألفا وَعقد الْمَنْصُور على ذَلِك الْجَيْش لمَوْلَاهُ الباشا جؤذر وَشد أزره بِجَمَاعَة من أَعْيَان الدولة فَاخْتَارَ مِنْهُم من يعلم نجدته وَيعرف كِفَايَته وتخير من الْإِبِل كل بازل وكوماء وَمن الْخَيل كل عَتيق وجرداء ثمَّ نهضوا فِي زِيّ عَظِيم وهيئة لم ير مثلهَا وَذَلِكَ فِي محرم فاتح سنة تسع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَكتب الْمَنْصُور إِلَى قَاضِي تنبكتو الْفَقِيه الْعَلامَة أبي حَفْص عمر ابْن الشَّيْخ مَحْمُود ابْن عمراء قيت الصنهاجي يَأْمُرهُ بحض النَّاس على الطَّاعَة وَلُزُوم الْجَمَاعَة
وَلما نهضوا من تانسيفت جعلُوا طريقهم على ثنية الكلاوي ثمَّ على درعة ودخلوا القفر والفيافي فقطعوها فِي مائَة مرحلة وَلم يضع لَهُم عقال بعير وَلَا نقص مِنْهُم أحد فنزلوا على مَدِينَة تنبكتو ثغر السودَان فأراحوا بهَا أَيَّامًا
ثمَّ صَارُوا قَاصِدين دَار إِسْحَاق سكية وَلما سمع بقدومهم احتشد أُمَم السودَان وقبائلها وقبائل الملثمين المهادنين لَهُم وَخرج من مَدِينَة كاغو يجر الشوك والمدر يُقَال إِنَّه جمع مائَة ألف مقَاتل وَأَرْبَعَة آلَاف مقَاتل
وَقَالَ الفشتالي وَلم يقنع بالجيوش الَّتِي جمع حَتَّى أضَاف إِلَيْهَا أَشْيَاخ السَّحَرَة وَأهل النفث فِي العقد وأرباب العزائم والسيمياء ظنا مِنْهُ أَن ذَلِك يُغْنِيه شَيْئا وهيهات وَيرْحَم الله أَبَا تَمام إِذْ قَالَ فِيمَا يقرب من هَذَا الْحَال
(السَّيْف أصدق إنباء من الْكتب
…
فِي حَده الْحَد بَين الْجد واللعب)
(بيض الصفائح لَا سود الصحائف فِي
…
متونهن جلاء الشَّك والريب)
(وَالْعلم فِي شهب الأرماح لامعة
…
بَين الخميسين لَا فِي السَّبْعَة الشهب)
(أَيْن الرِّوَايَة بل أَيْن النُّجُوم وَمَا
…
صاغوه من زخرف فِيهَا وَمن كذب)
(تخرصا وأحاديثا ملفقة
…
لَيست بنبع إِذا عدت وَلَا غرب)
وَلما تقَارب الْجَمْعَانِ عبأ الباشا جؤذر عساكره وَتقدم للحرب فدارت بهم عَسَاكِر السودَان من كل جِهَة وعقلوا أَرجُلهم مَعَ الْإِبِل وصبروا مَعَ الضُّحَى إِلَى الْعَصْر وَكَانَت سِلَاحهمْ إِنَّمَا هِيَ الحرشان الصغار والرماح وَالسُّيُوف وَلم تكن عِنْدهم هَذِه المدافع فَلم تغن حرشانهم ورماحهم مَعَ البارود شَيْئا وَلما كَانَ آخر النَّهَار هبت ريح النَّصْر وَانْهَزَمَ السودَان فَوَلوا الأدبار وَحقّ عَلَيْهِم الْبَوَار وحكمت فِي رقابهم سيوف جؤذر وجنده حَتَّى كَانَ السودَان ينادون نَحن مُسلمُونَ نَحن إخْوَانكُمْ فِي الدّين وَالسُّيُوف عاملة فيهم وجند جؤذر يقتلُون ويسلبون فِي كل وَجه وفر إِسْحَاق فِي شرذمة من قومه وَلم يدْخل قلعة ملكه وَتقدم جؤذر فَدَخلَهَا واحتوى على مَا فِيهَا من الْأَمْوَال وَالْمَتَاع وَكَانَ ذَلِك منتصف جُمَادَى الأولى من سنة تسع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَيُقَال إِن جؤذرا لم يدْخل مَدِينَة كاغو وَإِنَّمَا تحصن بهَا إِسْحَاق فحاصره جؤذر فِيهَا وَكتب إِلَى الْمَنْصُور بِخَبَر الْفَتْح وَبعث إِلَيْهِ بهدية فِيهَا عشرَة آلَاف مِثْقَال ذَهَبا ومائتان من خِيَار الرَّقِيق وَغير ذَلِك وامتدت العساكر المنصورة فِي بِلَاد آل سكية تعيث وتفسد وَتَسْبِي وتغنم إِلَى أَن راسل إِسْحَاق الباشا جؤذرا فِي تَقْرِير الصُّلْح على مَال معِين يَدْفَعهُ الْآن وضريبة يُؤَدِّيهَا كل سنة
فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك على مشورة الْمَنْصُور وإمضائه إِيَّاه ثمَّ كتب إِلَى الْمَنْصُور بذلك وَكَانَت العساكر قد أصابتها الْحمى ووخامة تِلْكَ الأَرْض فاتفق رَأْي الْأُمَرَاء على الرُّجُوع وَالْإِقَامَة بتنبكتو إِلَى أَن يَأْتِي جَوَاب الْمَنْصُور فَرَجَعُوا وَأخذ جؤذر فِي إنْشَاء الغلائط والسفن وتركيبها وَلما أكملها دَفعهَا فِي النّيل وَلما بلغ الْمَنْصُور خبر الصُّلْح قَامَ وَقعد وَقوم عسكرا خَفِيفا وَبعث بِهِ مَعَ مَمْلُوكه الآخر مَحْمُود باشا وَهُوَ أَخُو جؤذر وقلده أَمر العساكر كلهَا وعزل جؤذرا عَنْهَا وَأمر مَحْمُودًا أَن يبقيه مَعَه وَكتب إِلَى أُمَرَاء الْعَسْكَر يعاتبهم يوبخهم على مَا فَعَلُوهُ مَعَ إِسْحَاق من الصُّلْح ويؤكد عَلَيْهِم فِي الرُّجُوع إِلَى بِلَاده واتباعه حَيْثُمَا توجه وَلَو عبر النّيل إِلَى العدوة الْأُخْرَى وَخرج مَحْمُود باشا فِيمَن عين لَهُ من الْعَسْكَر فِي زمَان الْحر فِي وَقت لَا يقدر على الْحَرَكَة فِيهِ إِلَّا القطا الكدري وَقطع القفر فِي خمسين مرحلة أَمر لم يسمع بِمثلِهِ وَنزل بالعساكر على ظَاهر تنبكتو على رَأس سنة الْألف فأراح بهَا ثَلَاثًا ثمَّ شحن الغلائط والسفن والفلك بالرؤساء والملاحين ووجوه الْجند فَسَارُوا فِي النّيل وَسَار السوَاد الْأَعْظَم فِي الْبر إِلَى أَن نزلُوا على مَدِينَة كاغو قَاعِدَة ملك إِسْحَاق سكية وَكَانَ إِسْحَاق لما رجعت عَنهُ العساكر إِلَى تنبكتو احتشد أُمَم السودَان المجاورين لَهُ وتذامروا وأصفقوا مَعَه على الْمَوْت فَلَمَّا بلغه رُجُوع العساكر إِلَى كاغو قصدهم فِي جموعه وَلما التقى الْجَمْعَانِ لم يكن إِلَّا مِقْدَار فوَاق نَاقَة حَتَّى انهزم السودَان من سَماع رعد المدافع والمهاريس وارتفاع القنابل فِي الجو وهدير الطبول وتبعتهم العساكر يقتلُون وَيَأْسِرُونَ إِلَى أَن غشيهم ظلم اللَّيْل وَرَجَعُوا بالغنائم والسبي فاستراحوا ثَلَاثًا ثمَّ أَمر مَحْمُود أَخَاهُ جؤذرا أَن يُقيم بِمَدِينَة كاغو عَامِرًا لَهَا وَيتْرك مَعَه عددا من الْعَسْكَر يكون ردْءًا لَهُم وَسَار هُوَ فِي اتِّبَاع إِسْحَاق إِلَى أَن لحقه بِبَعْض الْجِهَات فأوقع بِهِ وقْعَة شنعاء وفر فِي فل من قومه فَعبر النّيل إِلَى العدوة الْأُخْرَى وَتَبعهُ مَحْمُود فَعبر النّيل بعساكره فِي السفن وَسَار خَلفه إِلَى أَن لحقه فأوقع بِهِ وقْعَة ثَالِثَة احتوى فِيهَا على مَا مَعَه من المَال والحريم وَدخل إِسْحَاق القفر فَهَلَك فِيهِ ثمَّ كَانَت لمحمود وقْعَة أُخْرَى مَعَ أَخِيه الَّذِي كَانَ ينازعه فِي
الْملك فَإِنَّهُ قَامَ بعد مهلك أَخِيه وَجمع الجموع وزحف إِلَى مَحْمُود باشا فَنَهَضَ إِلَيْهِ مَحْمُود فَهَزَمَهُ وَقَتله فِيمَن مَعَه من جنده وَأَتْبَاعه وتمهدت لَهُ الْبِلَاد وَاسْتولى عَلَيْهَا اسْتِيلَاء كليا وَكتب بِخَبَر الْفَتْح إِلَى الْمَنْصُور
وَلما بلغه هَذَا الْفَتْح وَصورته كَانَ عِنْده ذَلِك الْيَوْم عيدا من الأعياد أخرج فِيهِ الصَّدقَات وَأعْتق الرّقاب وَأقَام مهرجانا عَظِيما بِظَاهِر الحضرة خرج لَهُ عَامَّة النَّاس للفرجة والنزهة وزينت الْأَسْوَاق وأخرجت المدافع بالنفط وتسابقت الْخُيُول وَأطْعم الْمَنْصُور النَّاس عدَّة أَيَّام ونظم الشُّعَرَاء قصائدهم وَرفعُوا أمداحهم وَأَجَازَهُمْ بِمَا تحدث النَّاس بِهِ دهرا وَكتب بِخَبَر الْفَتْح وَصورته نسخ وجهت إِلَى جَمِيع الْآفَاق وَكَانَ مِمَّا قيل فِي ذَلِك من الشّعْر مَا أنْشدهُ الْكَاتِب أَبُو فَارس عبد الْعَزِيز الفشتالي فَقَالَ
(جَيش الصَّباح على الدجا متدفق
…
فبياض ذَا السوَاد ذَلِك يمحق)
(وَكَأَنَّهُ رايات عسكرك الَّتِي
…
طلعت على السودَان بيضًا تخفق)
(لاحت وأفقهم لَيَال كُله
…
كعمود صبح فِي الدجا يتألق)
(نشرت لتطوي مِنْهُ لَيْلًا دامسا
…
أضحى بسيفك ذِي الفقار يمزق)
(أرسلتهن جوائحا وجوارحا
…
فِي كل مخلبها غراب ينعق)
(وسرت فَكَانَ دليلهن إِلَيْهِم
…
مشحوذ عزمك والسنان الْأَزْرَق)
(لهي اللَّيَالِي قد جلى أحلاكها
…
نور النُّبُوَّة من جبينك يشرق)
(صعِقَتْ بِهن رعود نارك صعقة
…
رجت لصيحتها الْعرَاق وجلق)
(سحقا لإسحاق الشقي وَحزبه
…
فَلَقَد غَدا بِالسَّيْفِ وَهُوَ مطوق)
(رام النجَاة وَكَيف ذَاك وَخَلفه
…
من جَيش جؤذرك الغضنفر فيلق)
(جَيش أواخره ببابك سيله
…
عرم وأوله بكاغو محدق)
(لم يشعروا إِلَّا وأسوار الردى
…
ضربت عَلَيْهِم من قناك وَخَنْدَق)
(كتب الْإِلَه على عداتك أَنهم
…
قنص لسهمك غربوا أَو شرقوا)
(ضلت مُلُوك ساجلوك على الْعلَا
…
سفها وشأوك فِي الْعلَا لَا يلْحق)
(أَن يشبهوك وَلَا شَبيه يرى لكم
…
فِي الْخلق أَيْن من اللجين الزئبق)
(بشر مُلُوك الأَرْض أَنَّك فاتح
…
بالمشرفي على الولا مَا غلقوا)
(وبقاصل لَك ذِي الفقار مفرق
…
مَا جَمَعُوهُ وجامع مَا فرقوا)
(دَامَت طيور السعد وَهِي غوارد
…
بالمشتهى لَك والمسرة تنطق)
(مَا دَامَ أصل علاك فِي صحف الثنا
…
أصل الفخار وكل غَيْرك مُلْحق)
والمشتهى والمسرة بستانان للمنصور ورى بهما هَذَا الشَّاعِر وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِمَا وَكَانَ مَحْمُود باشا لما استوسق لَهُ الْأَمر هُنَالك بعث بِنصْف جَيْشه إِلَى الْمَنْصُور مَعَ هَدِيَّة عَظِيم فِيهَا من الذَّخَائِر مَا لَا يُحْصى من ذَلِك ألف ومائتان من متخير الرَّقِيق الْجَوَارِي والغلمان وَأَرْبَعُونَ حملا من التبر وَأَرْبَعَة سروج ذَهَبا خَالِصا وأحمال كَثِيرَة من اليانبور وقطوط الغالية وَغير ذَلِك وَلما وافت الْمَنْصُور سر بذلك سُرُورًا عَظِيما وَأمر بِعَمَل المفرحات فِي بِلَاد الْمغرب وبتزيين الْأَسْوَاق غدْوَة وَعَشِيَّة ثَلَاثَة أَيَّام ووفدت عَلَيْهِ الْوُفُود من كل نَاحيَة مهنئين لَهُ بِمَا منحه الله من الظفر والنصر وانتظمت الممالك السودانية فِي سلك طَاعَته مَا بَين الْبَحْر الْمُحِيط من أقْصَى الْمغرب إِلَى بِلَاد برنو المتاخمة لبلاد النّوبَة المتاخمة لصعيد مصر قَالَ الفشتالي فكلمة الْمَنْصُور نافدة فِيمَا بَين بِلَاد النّوبَة إِلَى الْبَحْر الْمُحِيط من نَاحيَة الْمغرب وَهَذَا ملك ضخم وسلطان فخم لم يكن لمن قبله وَالله يُؤْتِي ملكه من يَشَاء وَلما فتح الله عَلَيْهِ ممالك الْبِلَاد السودانية حمل إِلَيْهِ من التبر مَا يعيى الحاسبين ويحير الناظرين حَتَّى كَانَ الْمَنْصُور لَا يُعْطي فِي الرَّوَاتِب إِلَّا النضار الصافي وَالدِّينَار الوافي وَكَانَ بِبَابِهِ كل يَوْم أَربع عشرَة مائَة مطرقة لضرب الدِّينَار الوافي دون مَا هُوَ معد لغير ذَلِك من صوغ الأقراط والحلى وَشبه ذَلِك وَلأَجل هَذَا لقب بالذهبي لفيضان الذَّهَب فِي أَيَّامه والأمور كلهَا بيد الله