الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب التعريف بترتيب السور
وهل ذلك بتوتيف من الشارع صلى الله عليه وسلم أم هو من فعل الصحابة؟
اعلم أولا أن ترتيب الآيات في سورها وقع بتوقيف صلى الله عليه وسلم وأمره من غير خلاف في هذا بين المسلمين، وإنما اختلف في ترتيب السور على ما هي عليه
وكما ثبت في الإمام مصحف عمان بن عفان رضي الله عنه الذي بعث بنسخة إلى الآفاق، وأطبقت الصحابة على موافقة عثمان في ترتيب سوره وعمله فيه، فذهب مالك، والقاضي أبو بكر بن الطيب. فيما اعتمده واستقر عليه مذهبه من قوليه، والجمهور من العلماء، إلى أن تريب السور إنما وقع باجتهاد الصحابة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوض ذلك إلى أمته بعده، وذهبت طائفة من العلماء إلى أن ذلك إنما
وقع بتوقيفه عدوط وأمره، ولكل من الطائفتين جهات تعلق، وكلا القولين والحمد لله لا يقدح في الدين، ولا يثمر إلا اليقين، فأقول مستعينا بالله سبحانه:
اعلم أن الأمر في ذلك كيفما قدر فلابد من رعي التناسب، والتفات
التواصل والتجاذب، فإن كان بتوقيف منه صلى الله عليه وسلم، فلا مجال للخصم بعد ذلك التحديد الجليل والرسم، وإن كان مما فوض فيه الأمر إلى الأمة بعده فقد أعمل الكل من الصحابة في ذلك جهده، وهم الأعلياء بعلمه، والمسلم لهم في وعيه وفهمه، والعارفون بأسباب نزول الآيات، ومواقع الكلمات، وإنما ألفوا القرآن على ما
كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا قول مالك ضي الله عنه في حكاية بعضهم عنه، ومالك أحد القائلين بأن ترتيب السور اجتهاد من المسلمين كما تقدم عنه، فكيف مادار الأمر، فمنه صلى الله عليه وسلم عرف ترتيب السور، وعلى ما سمعوه منه بنوا
جليل ذلك النظر، فإذاً إنما الخلاف هل ذلك يتوقيف قولي أو بمجرد استناد فعلي بحيث بقى لهم فيه مجال للنظر؟ فهذا موضع الخلاف.
فإن قيل إذَا كانوا قد سمعوا منه صلى الله عليه وسلم استقر عليه ترتيبه ففيم إذاً عملوا الأنظار، وأي مجال بقي لهم بعد للاختيار؟
فالجواب أنا قد روينا في صحيح مسلم عن حذيفة رضى الله عنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح
بالبقرة، فقلت يركع عند المائة؟ ثم مضى، فقلت يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران....... الحديث.
فلما كان صلى الله عليه وسلم ربما فعل هذا إرادة التوسعة على الأمة، وبيانا لجليل تلك النعمة، كان محلا للتوقف حتى استقر النظر على وعى من كان من فعله الأكثر
فهذا محل اجتهادهم في المسألة والله اعلم.
ثم يشهد لما بنينا كتابنا هذا عليه ما روينا في مصنف ابن أبي شيبة عن
أناس من أهل المدينة قال الحكم: أرى منهم أبا جعفر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يقرأ في الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين، فأما سورة الجمعة فيبشر بها المؤمنين
ويحرضهم، وأما صورة المنافقين فيؤيس بها المنافقين ويوبخهم.
وحكى الخطابى أن الصحابة لما اجتمعوا على القرآن، وضعوا سورة القدر
عقيب العلق، واستدلوا بذلك على أن المراد بهاء الكتابة في قوله:(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)
إشارة إلى قوله: اقرأ، قال القاضى أبو بكر بن العربي. وهذا
بديع جدا، قلت: ومن ظن ممن اعتمد القول بأن ترتيب السور اجتهاد من الصحابة
أنهم لم يراعوا في ذلك التناسب والاشتباه فقد سقطت مخاطبته، وإلا فما المراعى
وترتيب النزول غير ملحوظ في ذلك بالقطع، بل هذا معلوم في ترتيب آي اقرآن، الواقع ترتيبها بأمره عليه السلام وتوقيفه بغير خلاف، ألا ترى أن سورة البقرة من المدني
وقد تقدمت سور القرآن بتوقيفه عليه السلام في الصحيح المقطوع به، وتقدم المدني على المكي في ترتيب السور والآي كثير جدا، فإذا سقط تعلق الضمان بترتيب النزول
لم يبق إلى رعي التناسب والاشتباه، وارتباط النظائر والاشباه.
وتدبر بعقلك وضوح ذلك في عدة سور كالأنفال وبراءة، والطلاق والتحريم، والتكوير والانفطار، والضحى وألم نشرح، والفيل وقريش، والمعوذتين إلى غير هذه السور مما لا يتوقف في وضوحه من له أدنى نظر.
وقد مال القاضى أبو محمد عبد الحق بن عطية. رحمه الله في ترتيب
السور إلى القول بالتفصيل.
وهو أن كثيرا من سور القرآن قد كان علم ترتيبها في
أيامه صلى الله عليه وسلم كالسبع الطوال، والحواميم، والمفصل، وأشار كلامه إلى أن مما سوى ذلك
يمكن أن يكون عليه السلام فوض فيه الأمر إلى الأمة بعده، ولم يقطع القاضى أبو محمد في هذا القسم الثاني بشىء.
وظواهر الآثار شاهدة بصحة ما ذهب إليه في أكثر ما نُص عليه، ثم يبقى بعدُ
قليل من السور يمكن فيها جري الخلاف أو يكون وقع، وإذا كان مستند المسألة النقل لم يصعب خلاف غير أهله، على أن ما مهدناه من المراعاة في الترتيب حاصل لا محالة على كل قول، ولنورد هنا بعض ما يشهد بظاهره من الآثار لما قاله القاضى أبو محمد على ما نطنا به فمن ذلك:
قوله عليه السلام: (اقرأوا الزهراوين: البقرة وآل عمران) . في حديث
خرجه مسلم وغيره، وخرج أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران.
وفي مصنف ابن أبى شيبة عن معبد بن خالد. قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبع الطوال في ركعة، وفيه أنه عليه السلام (كان يجمع المفصل في ركعة.
وفي صحيح البخارى عن عبد الرحمن بن زيد قال سمعت عبد الله بن مسعود
يقول في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء: إنهن من العتاق الأولى، وهن من تلادى، فذكرها نسقا كما استقر ترتيبها.
وفي صحيح البخارى أيضا عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق،وقل أعوذ برب الناس..... الحديث.
وفي المصنف عن عمر أنه قرأ في ركعة واحدة ألم تر كيف فعل ربك
بأصحاب الفيل، ولإيلاف قريش، وروى أنهما في مصحف أبى غير مفصول بينهما