الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة العنكبوت
افتتحت سورة القصص بذكر امتحان بنى إسرائيل بفرعون وابتلائهم بذبح
أبنائهم وصبرهم على عظيم تلك المحنة، ثم ذكر تعالى حسن عاقبتهم وثمرة صبرهم، وانجر مع ذلك بما هو منه، لكن انفصل عن عمومه بالقضية امتحان أم موسى بفراقه حال الطفولة وابتداء الرضاع، وصبرها على أليم ذلك المذاق) حتى رده تعالى إليها أجمل رد وأحسنه، ثم ذكر ابتلاء موسى عليه السلام بأمر القبطي وخروجه خائفا يترقب، وحسن عاقبته وعظيم رحمته، وكل هذا ابتلاء أعقب خيرا، وختم برحمة، ثم بضرب آخر من الابتلاء، أعقب محنة وأورث شرا وسوء فتنة، وهو ابتلاء قارون بماله وافتتانه به "فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ" فحصل
من هذا أن الابتلاء في غالب الأمر سنة، وجرت منه سبحانه في عباده ليميز
الخبيث من الطيب، وهو المنزه عن الافتقار إلى تعرف أحوال العباد بما يبتليهم به، إذ قد علم كون ذلك منهم قبل كونه، إذ هو موجده وخالقه كان خيرا أو شرا، فكيف يغيب عنه أو يفتقر تعالى إلى ما به يتعرف أحوال العباد، أو يتوقف علمه على سبب "ألا يعلم من خلق " (الملك: 14) ولكن هى سنة في عباده ليظهر لبعضهم من بعض عند الفتنة والابتلاء ما لم يكن ليظهر قبل ذلك حتى يشهدوا على أنفسهم وتقوم الحجة عليهم باعترافهم ولا افتقار به تعالى إلى شىء من ذلك.
فلما تضمنت سورة القصص هذا الابتلاء في الخير والشر، وبه وقع افتتاحها
واختتامها هذا، وقد انجر بحكم الإشارة أولا خروج نبينا صلى الله عليه وسلم من بلده ومنشئه ليأخذه عليه السلام بأوفر حظ مما ابتلى به الرسل والأنبياء من مفارقة الوطن وما يحرز لهم الأجر المناسب لعلي درجاتهم عليهم السلام، ثم بشارته صلى الله عليه وسلم آخرا بالعودة
والظفر " إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ "(القصص: 85)، فأعقب سبحانه هذا بقوله معلما للعباد ومنبها أنها سنته فيهم فقال:(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)
أي أحسبوا أن يقع الاكتفاء بمجرد استجابتهم وظاهر إنابتهم ولما يقع امتحانهم بالشدائد والمشقات وضروب الاختبارات: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ)
فإذا وقع الابتلاء فمن فريق يتلقون ذلك تلقى العليم، إن ذلك من عند الله ابتلاء واختبارا يكون تسخيرا لهم وتخليصا، ومن فريق
يقابلون ذلك بمرضاة الشيطان والمسارعة إلى الكفر والخذلان "ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه ".
ثم أتبع سبحانه هذا بذكر حال بعض الناس ممن يدعي الإيمان، فإذا
أصابه أدنى أذى من الكفار صرفه ذلك عن إيمانه، وكان عنده مقاوما
لعذاب الله الصارف لمن عرفه عن الكفر والمخالفة فقال تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ"
فكيف حال هؤلاء في تلقي ما هو أعظم من الفتنة وأشد في المحنة.
ثم أتبع سبحانه ذلك بما به يتأسى الموفق من صبر الأنبياء عليهم السلام
وطول مكابدتهم من قومهم، فذكر نوحا وإبراهيم ولوطا وشعيبا، وخص هؤلاء عليهم السلام بالذكر لأنهم من أعظم الرسل مكابدة وأشدهم ابتلاء، أما نوح عليه السلام، فلبث في قومه كما أخبر الله سبحانه ألف سنة إلا خمسين عاما، وما آمن معه إلا قليل، وأما إبراهيم عليه السلام فرمي بالمنجنيق في النار فكانت عليه بردا وسلاما، وقد نطق الكتاب العزيز بخصوص المذكورين (صلى الله عليهما وسلم وعلى الرسل والأنبياء أجمعين) بضروب من الابتلاءات خصلوا على ثوابها وفازوا من عظيم الرتبة النبوية العليا بأسنى نصابها، ثم ذكر تعالى أخذ المكذبين من أممهم فقال:"فكلا أخذنا بذنبه "(آية: 40)
ثم وصى نبيه عليه السلام وأوضح حجته وتتابع اتساق الكلام إلى آخر السورة.