الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"
علم المعاني" الباب الخامس: الإِيجاز الإِطناب والمساواة
الفصل الأول: نِسَبُ الكثافة بين الألفاظ والمعاني وملاءمتها لمقتضيات الأحوال
ينقسم الكلام بالنظر إلى المنطوق به، وإلى معانيه من جهة نِسَبِ الكثافة بين كلٍّ منهما في مقابل الآخر إلى ثلاثة أقسامٍ رئيسة سويّة، ويأتي وراءها أقسامٌ أخرى.
* فالأقسام السويّة الثلاثة هي ما يلي:
القسم الأول: الكلام المتّصفُ بالمساواة بين ألفاظه ومعانيه مع مطابقته لمقتضى الحال.
المساواة: هي التطابق التام بين المنطوق من الكلام وبين المراد منه دون زيادة ولا نقصان.
القسم الثاني: الكلام المتّصِفُ بالإِيجاز غير الْمُخِلّ، مع مطابقته لمقتضى الحال.
الإِيجاز: كون الكلام دالاً على معانٍ كثيرة بعبارات قليلة وجيزة دون إخلال بالمراد.
القسم الثالث: الكلام المتّصفُ بالإِطناب لاشتماله على زيادة ذات فائدة، مع مطابقته لمقتضى الحال.
الإِطناب: كون الكلام زائداً عمّا يمكن أن يُؤَدَّى به من المعاني فى معتاد الفصحاء لفائدة تُقْصَد.
ويكون الكلام بليغاً إذ وُضع كُلُّ قِسْمٍ من هذهِ الأقسام فى موضعه الملائم له، ورُوِعيَ فيه مقتَضَى حالِ المتلقّي.
* وأمّا المعيب من الكلام فى هذا الباب فيكون بواحد فأكثر من الوجوه الثلاثة التالية:
الوجه الأول: الإِيجاز المخلّ بالمعنى المقصود بالبيان.
الوجه الثاني: الإِطنابُ بزيادةٍ غير ذات فائدة تُقْصَدُ لدَى أذكياء البلغاء، وقد يطلق عليه لفظ "الإِسهاب" أو لفظ "التطويل".
ويكون الإِطناب غير المفيد بأحد أَمْريْن:
* بالتطويل دون فائدة، وطريقُهُ أن لا يتعيّن الزائد فى الكلام على وجه الخصوص، كأن تُوجد لفظتان مترادفتان تصلح كلُّ منهما لأن تكون هي الزائدة.
* أو بالْحَشْوِ دون فائدة، وطريقه أن يكون الزائد غير المفيد فى الكلام متعيّناً بلفظه، كلمةً فأكثر.
هذا ما توصَّلَتْ إليه أنظار المحققين من أهل البلاغة والأدب حول تقسيمات الكلام من جهة النِّسَبِ العامَّة للكثافة بين الألفاظ والمعاني.
***
مقتضيات استعمال كلٍّ من الأقسام السويَّة
ممّا اتفق عليه أئمة البلاغة والأدب أنّ لكلِّ قِسْمٍ من أقسام الكلام الثلاثة: "المساواة - الإِيجاز - الإِطناب" مقتضياتِ أحوالٍ تُلائمه، ومناسباتٍ تقتضيه، ودواعىَ بلاغَيَّةَ تستدعيه، وموضوعاتٍ يَحْسُن أن يُخْتار لها.
وفيما يلي طائفةٌ من أقوالهم:
(1)
رُوي أنّ الخليل بن أحمد الفراهيدي أحد أئمة اللّغة والأدب قال: "يُخْتَصَرُ الكِتَابُ ليُحْفَظَ، ويُبْسَطُ لِيُفْهَم".
(2)
قيل لأبي عَمْرو بن العلاء "وهو أحد أئمة اللّغة والأدب، وأحد القرّاء ووُصف بأنّه أعلم الناس بالأدب والعربيّة والقرآن والشعر": هل كانت العربُ تُطِيل؟
قال "نعم، كانت تُطِيلُ لِيُسْمَعَ مِنْها، وتُوجِزُ ليُحْفَظَ عنها".
(3)
ورُوي أن جعفر بن يحيى البرمكيّ "أحد الموصوفين بفصاحة المنطق وبلاغة القول" قال:
"متَى كان الإِيجاز أبْلَغَ كانَ الإِكثَارُ عِيّاً، ومتَى كانت الكِفايَةُ بالإِكثار كان الإِيجاز تقصيراً".
(4)
وقال أحد الشعراء يثني على خطباء "إِياد" كما ذكر الجاحظ:
يَرْمُونَ بِالْخُطَبِ الطِّوَالِ وتَارَةً
…
وَحْيَ الْمَلاحِظِ خَشْيَةَ الرُّقَبَاءِ
أي: يخطُبون تارةً خُطَباً طِوالاً، إذا كانت حال المخاطبين تقتضي الإِطالة، ويوجزون خطبهم تارةً أخرى إيجازاً يشبه وحْيَ الملاحظ.
الوحي: الكلام الخفيُّ السّريع.
الْمَلَاحِظ: جمع "مَلْحَظ" وهو اللَّحْظُ أو موضعه من العين، واللَّحظ هو النظر بطرف العين مما يلي الصُّدغ، ومن المعروف أن الناس قد يتفاهمون عن طريق اللَّحْظ، وإشاراته خشية الرقباء.
(5)
وقال قائل لبشار بن بُرْد "أحد فحول الشعراء، وقد أدرك الدَّولتين الأُمَويّة والعباسيّة": إِنَّكَ لَتَجيءُ بالشيء الهجين المتفاوت.
قال بشّار: وما ذاك؟
قال: بينما تثير النقع وتخْلَعُ القلوب بقولك:
إِذَا مَا غَضِبْنَا غَضْبَةً مُضَريَّةً
…
هَتَكْنَا حِجَابَ الشَّمْس أَوْ تُمْطِرَ الدَّمَا
إِذَا مَا أَعَرْنَا سَيِّداً مِنْ قَبِيلةٍ
…
ذُرَا مِنْبَرٍ صَلَّى عَلَيْنَا وَسلَّمَا
نَراكَ تقول:
رَبَابَةُ رَبَّةُ الْبَيْتِ
…
تَصُبُّ الْخَلَّ في الزَّيْتِ
لَهَا عَشْرُ دَجَاجَاتٍ
…
وَدِيكٌ حَسَنُ الصَّوْتِ
فقال بشّار:
"لكلِّ وَجْهٌ وَموضع، فالقولُ الأوّل جِدٌّ، والثاني قُلْتُه في "رَبَابَةَ" جاريتي، وَأنَا لا آكُل البيض من السّوق. و"رَبَابَةُ" لها عشْرُ دَجاجات وديك، فهي تجمع لي البيض، فهذا القول عندها أحْسَنُ من (قِفَا نَبْكِ منْ ذِكْرى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ) عندك".
(6)
وقال الزمخشري: "كما يجب على البليغ فى مَظَانِّ الإِجمال أن يُجْمِلَ ويُوجِزَ، فكذلِكَ الواجب عليه فى موارد التفصيل أنْ يُفَصّل ويُشْبِع".
(7)
وقالوا: "لكلّ مقامٍ مقال".
(8)
ومن أمثلة مراعاة مقتضيات الأحوال بكلّ من "المساواة والإِيجاز والإِطناب" ما جاء فيما حكاه الله عز وجل من قصة موسى والخضر عليهما السلام في سورة (الكهف /18 مصحف /69 نزول) :
{قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً * قَالَ ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أمْراً * قَالَ فَإِنِ اتبعتني فَلَا تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً *
فانطلقا حتى إِذَا رَكِبَا فِي السفينة خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً * فانطلقا حتى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً * فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هاذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} . [الآيات: 66 - 78]
* نلاحظ فى هذا النص أنّ الخضر قال لموسى عليهما السلام في بدء الأمر: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} .
هذا كلام مؤكّد مُسَاوٍ للمعنى المقصود بيانه، لا إطناب فيه ولا إيجاز.
* وحين اعترض موسى عليه السلام الاعتراض الأول على الخضر بشأن خرقه السفينة، قال له الخضر:
{أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} .
هذا أيضاً كلامٌ مُؤَكَّدٌ ومُسَاوٍ للمعنى المقصود بيانه، لا إطناب فيه ولا إيجاز.
وحين اعترض موسى عليه السلام الاعتراض الثاني على الخضر بشأن قتله الغلام، قال له الخضر:
{أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} .
فَأَطْنَبَ إذْ أضاف عبارةَ {لَكَ} مع أنَّ هذه الزّيادة لا لزوم لها في الكلام المساوي، فعبارة {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} بأسلوب الخطاب تَدُلُّ على أنّ الخطاب قَدْ وَجَّهَهُ الخضِرُ له، فما الداعي لأنْ يقول لَهُ:{أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ؟} ؟
أقول: إنّ الداعي البلاغي لهذا الإطناب هو أنَّ مُوسَى عليه السلام تصرَّفَ تَصَرُّف من لم يُدْرِكْ أنّ الْخِطَابَ قَدْ كان مُوَجّهاً له فيما سبق، فاعترض، فاقتضى حالُهُ أَنْ يقولَ لَهُ الخضر: إِنّي كُنْتُ وجَّهْتُ الخطابَ لَكَ بأَنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً.
وحين اعترض موسى عليه السلام الاعتراض الثالث على الخضر بشأن إقَامَتِهِ الجدار المائل فى قريَةٍ أَبَى أهْلُها أنْ يُضَيِّفوهُما، قال له الخضر:
{هاذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} .
فأوجز فى كلامِهِ، إذْ طوى من اللّفظ عبارة: لأنَّكَ لم تَسْتَطعْ معِيَ صبراً، وقد انتهت مُدَّة الاتفاق على مصاحبتي.
وبعد أن أبان الخضر لموسى عليهما السلام التأويل الحكيم للأحداثِ التي أجراها بأمْرِ الله أو إذْنه قال له:
{ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 82]
فَأَوْجَزَ في بيانه حتى في كلمة "تَسْتَطعْ" إذْ قال: "تَسْطعْ" بحذف التاء التي بعد السين.
إنّ مقتضى الحال بعد انتهاء أجل المصاحبة، إذْ لم يلتزم موسَى عليه السلام بشروطها، أنْ يكون الكلامُ مُوجزاً جدّاً، إذْ لا داعِيَ للإِطناب ولا للمساواة، ومِثْلُ موسى عليه السلام يكفيه من الكلام عبارة:"هَذا فِرَاقُ بيني وَبَيْنِكَ" فهو الخبير بإخلاله بشروط المصاحبة المتَّفق عليها.
***
مجالات استعمال الأقسام السّوية
ذكر أساطين الأَدب، وبُلَغاء الناس وفُطناؤهم طائفةً من مجالَات القول التي يَحْسُنُ فيها استعمال كلٍّ من أقسام الكلام الثلاثة:
"المساواة - الإِيجاز - الإِطناب".
وفيما يلي عرضٌ مفَصَّلٌ لبعض هذه المجالات:
أوّلاً:
ممّا هُو مُتّفَقٌ عليه لزوم اختيار أسلوب "المساواة" بَيْنَ الألفاظ والمعاني، حتَّى تكونَ الأَلفاظ كالقوالب للمعاني دون زيادة ولا نقصان، في عِدَّةِ مجالَاتٍ من مجالات القول، منها ما يلي:
(1)
مُتُونُ العلوم المحرَّرة.
(2)
نُصُوصُ الموادّ القانونيَّة والتشريعيَّة.
(3)
نُصُوص المعاهدات بين الدُّول.
(4)
القرارات والمراسيم.
(5)
بيانات أحكام الدين، ومطالب الشريعة المحدّدة.
(6)
بيانات الحقوق والواجبات.
إلى غير ذلك مما يشبه هذه المجالات.
***
ثانياً:
واستحسن الأدباء والبلغاء والعلماء "الإِيجاز" فى طائفة من مجالات القول، منها ما يلي:
(1)
الكتب الصادرة عن الملوك والرؤساء إلى الولاة والعمّال، ولا سيما في أوقات الحروب، وفى الشدائد والأزمات.
(2)
الأوامر والنواهي السُّلطانية.
(3)
كتب السلاطين بطلب الخراج وجباية الأموال وتدبير الأعمال.
(4)
كتب الوعد والوعيد.
(5)
الشكر على النِّعَمِ التي تُهْدَى، الْعَوَارِفِ الّتي تُسْدَى.
(6)
الاستعطاف وشكوى الحال.
(7)
استجداء حُسْنِ النظر وشُمولِ الْعِناية.
(8)
الاعتذار، والتنصُّل من تُهْمة الذّنْب وتَبِعَاته.
(9)
العتاب بين المحبّين والأصحاب.
(10)
مخاطبة الأذكياء الذين يكفيهم اللَّمْحُ، وتُقْنعهم الإِشارة.
(11)
المواطن التي يَحْسُنُ فيها الرّمز لإِخفاء المقاصد عن غير من يوجّه له القول، من رقباء أو ذوي فضول.
إلى غير هذه المجالات ممّا يُشْبهها.
***
ثالثاً:
واستحسنَ الأدباء والبلغاء وذوو التجارب "الإِطناب" وبسط الكلام والإِسهاب فيه، فى عدّة مجالات من القول، منها ما يلي:
(1)
الحاجة إلى الإِقناع في مشكلات القضايا الفكرية، وفي تعليم مسائل العلوم الدقيقة الخفيَّة الصعبة الفهم.
(2)
الوعظ بالترغيب والترهيب، والتحسين والتزيين، والتنفير، والتقبيح، وسَوْق الأمثال والقصص.
(3)
الخطب فى الحماسة، وفى إثارة مشاعر الحبّ أو الكراهية، وفي استجلاب الرضا، أو استثارة الغضب، وذلك لأنّ تحريك العواطف واستثارتها يحتاج إطناباً، وبياناً مفصّلاً مبسوطاً.
(4)
كتابة التاريخ وتدوين الحوادث.
(5)
الْخُطَبُ في الصلح بين المتخاصِمين، لإِصلاح ذات البين، وتهديم ما في النفوس من ضغائن.
(6)
بعض مجالات المدح لمستحقّيه، بغيةَ دفع الممدوح للاستزادة من الخير، والالتزام بالبعد عمّا يُوجَّهُ لفاعله أو تاركه الذّمّ بسببه.
(7)
تعبيرات العشاق والمحبّين عن مشاعرهم وأشواقهم.
(8)
تعبيرات ذوي الأحزان والآلام عن مشاعرهم.
(9)
كتب الصكوك والعقود في البيوع والمداينات ونحوها، إذ ينبغي فيها التفصيل الدقيق، لأمن الخلاف والتلاعب.
***
وفي الفصول الثلاثة التالية شرح وتفصيل لأقسام الكلام السويّة التالية: "المساواة، والإِيجاز، والإِطناب".
***