الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البديعة المعنوية (19) : الرّجوع
الرّجوع: فنٌّ في مجرَى الكلام يَرْجِع فيه المتكلم إلى كلامه السابق فينقُضُه ويُبْطِله، لداعٍ بلاغي، كالتحسّر، والتحزّن، ودفع توهّمٍ قد يسبق إلى الذهن، واستدراكٍ بقيدٍ، وبيانٍ للمراد من الكلام السابق وغير ذلك.
أمثلة:
المثال الأول: قول "زُهَيْر بن أبي سُلْمَى":
قِفْ بالدِّيَارِ الَّتي لَمْ يَعْفُهَا الْقِدَمُ
…
بَلَى وَغَيَّرَها الأَرْوَاحُ والدِّيَمُ
لَمْ يَعْفُها: أي: لم يَمْحُ آثارها.
الأرْواح: أي: الرّياح، يقال لغة: ريح وجمعها رِيَاح وأَرْواح وأرْيَاح، والريح: الهواء إذا تحرّك.
الدِّيَمُ: جمع "الديمة" وهي المطر الذي يدوم زَمَانُه طويلاً.
نظر زهير إلى ديار مَنْ يُحِبُّ فتواردتْ عليه الذكريات، فتَمَثَّلَتْ صورتُها في نفسه كأنَّها مُشَاهَدَةٌ بعَيْنيه، فوصَفَ الدّيارَ بقوله:"لم يَعْفُهَا الْقِدَمُ" وما لَبِثَ طَوِيلاً حتَّى انجلَتْ تصوُّراتُه النفسيّة، وشاهد الواقع، فلم يَرَ في الدّيار أثراً، فقال:"بَلَى، وغَيَّرَها الأرواح والدّيم".
أي إنّه أراد أن يُعَبِّر عن حالَتِه التي تعرَّض لها في النظرة الأولى ثم في
النظرات التي جاءت بعدها، فصَاغَ كلامه بأسلوب الادّعاء أوّلاً، ونقضِ الادّعاء ثانياً.
المثال الثاني: قول الحماسي "ابْن الطَّثْرِيّة":
ألَيْسَ قِلِيلاً نَظْرَةٌ إِنْ نَظَرْتُهَا
…
إِلَيْكِ وَكلَاّ لَيْسَ مِنْكِ قَلِيلُ
رأى الشاعر أوّلاً أنّ صاحبته إذا سمحت له بنظرة ينظرها إليها فإنّها لا تعطيه إلَاّ عطاءً قليلاً، فأطلق عبارته فقال:"ألَيْسَ قَلِيلاً نَظْرَةٌ إِنْ نَظَرْتُهَا إِلَيْكِ" ولكن تَنَبَّهَ عَقِبَهَا إلَى أنّ القليلَ مِنْهَا بالنسبةِ إلَيْهِ شَيْءٌ كثيرٌ يكَثِّرُه حبُّهُ لها وشوقُه إليها، فاستَدْرَك على نفسه، فنقضَ قولَهُ بأُسلوبِ زَجْرِ نفسه زَجْرِ نفسه على أوّل تفكيره وتعبيرِه فقال:"وَكَلَاّ لَيْسَ مِنْكِ قَليلُ".
كلُّ هذهِ كانت خواطِرَ مارّةً في نفسه، فرأى بأُسْلوبِه الأَدَبيّ أن يُعَبِّر عنها كما هيَ، ويُدَوِّنَها في شِعْرِهِ.
ويُشْبِهُ قولَ هذا الحماس قولُ القائل:
قَلِيلٌ مِنْكَ يَكْفِيني ولَكِنْ
…
قَلِيلُكَ لَا يُقَالُ له قَلِيلُ
ونظيره قولُ المتنبّي من قصِيدَةٍ يُمْدَحُ بها سَيْفَ الدولة:
وَجُودُكَ بِالْمُقَامِ وَلَوْ قَلِيلاً
…
فَمَا فِيمَا تَجُودُ بِهِ قَلِيلُ
قال العكبري: "وهو منقول من قول "أشْجَع":
وقُوفُكَ بالْمَطِيِّ وَلَوْ قَلِيلاً
…
وَهَلْ فِيما تَجُودُ بِهِ قَلِيلُ
وكَقَوْل "إسْحاقَ الموصلي":
إِنَّ مَا قَلَّ مِنْكَ يَكْثُر عِنْدِي
…
وكَثِيرٌ مِمَّنْ تُحِبُّ الْقَلِيلُ
وكقول "إسحاق" أيضاً:
وحَسْبِي قَلِيلٌ مِنْ جَزِيلِ عَطَائِهِ
…
وَهَلْ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ قَلِيلُ
وكَقَوْل الآخر:
وإنَّ قَلِيلاً مِنْكِ لَوْ تَبْذُلِينَهُ
…
شِفَاءٌ، وقُلٌّ لَيْسَ مِنْكِ قَلِيلُ
الْقُلُّ: الشَّيْء القليل.
يُريد أن يقول: القُلُّ الذي لَيْسَ مِنْكِ هو القليل، أمّا مِنْكِ فَقُلُّكِ كثير.
***