الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: الإِطناب
(1)
التعريف
الإِطناب في اللُّغة: يدور حول معنى الإِطالة والإِكثار والطول والكثرة والزيادة عن المعتاد.
يقال لغة: أطْنَبَ النهرُ إذا طال مجراه. وأطنبت الرّيحُ إذا اشتدت مثيرةً غباراً. وأطنبتِ الدّواب، إذا تَبِعَ بعضُها في السّير وطالَ تتابُعُها. وأطْنَب الْعَدَّاء في عَدْوه، إذا بالَغَ فيه وابتعد.
ويقال أيضاً: أطنب الرجل في الكلام أو الوصف أو الأمر، إذا بالَغَ وأكثر وزاد في ذلك.
الإِطناب في اصطلاح البلاغيين: كوْنُ الكلام زائداً عمّا يُمْكن أنْ يُؤَدَّى به من المعاني في معتاد الفصحاء، لفائدة تُقْصَد.
ويقال للمتحدِّث بالكلام الذي فيه إطناب: أطنب في كلامه فهو مُطْنِب.
واحْتُرِز بقيد: "لفائدة تُقْصَدُ" لإِخراج الزيادة في الكلام دون فائدة تُقْصَد لدى البلغاء، وقد يطلق على هذه الزيادة لفظ "الإِسهاب". والزيادةُ في الكلام بلا فائدة تُقْصَد تكون - كما سبق به البيان في الفصل الأوّل من هذه الباب - بالتطويل: كذكر المترادفين، أو بالحشو، وكلاهما أمران مَعِيبان، وأضيف هنا أنّ الحشو قد
يكون حشواً غير مفسد للمعنى، فهو كالتطويل، وقد يكون مفسداً للمعنى وهو حينئذٍ حشوٌ ساقط، وضربوا مثلاً للحشو الساقط بقول المتنبي يتحدّث عن الحياة الدنيا:
وَلَا فَضْلَ فِيها للشَّجَاعَةِ والنّدَى
…
وصَبْرِ الْفَتَى لَولَا لِقَاءُ شَعُوبِ
شَعُوب: اسم علَمٌ على المنيّة.
قالوا: جاءت عبارة "والنّدى" حشْواً مفسداً للمعنى، وذلك لأنَّ الإِنسان إذا أَمِنَ من ملاقاة الموت زاد تعلّقه بالمال، إذْ تعظُم حاجته إليه بدوام الحياة، فلا يكون لديه جُودٌ به، وعندئذٍ يظهر فَضْلُ النَّدَى أي: الجود، بخلاف مترقّب الموت فإنّه يكثر جوده. أمّا الشجاعة فعلَى عكس الندى، لولا توقُّع ملاقاة الموت بها، ولولا الخوف منه، لما تفاضل الناس بها.
ولم يتعرّض العكبري لهذا النَّقْد، بل شرح كلام المتنبي دُونَ تعقيب.
أما الحشو غير المفسد فمنه قول أبي العيال الهذلي:
ذَكَرْتُ أخِي فَعَاوَدَنِي
…
صُدَاعُ الرأْسِ والْوَصَبُ
فجاء ذكر الرأس حشواً غير مفسد، لأنّ الصداع لا يكونُ إلَاّ في الرأس.
وقول أبي عديّ:
نَحْنُ الرّؤوسُ وَمَا الرُّؤُوس إِذَا سَمَتْ
…
في الْمَجْدِ لِلأَقْوَامِ كَالأَذْنَابِ
فجاء ذكر "للأقوام" حشواً غير مفسد، وهكذا.
***
(2)
تقسم الإِطناب
ينقسم الإِطناب إلى قسمين: إطناب بالبسط، وإطناب بالزيادة:
أمّا القسم الأول: وهو "الإِطناب بالْبَسْط" فيكون بتكثير الجمل وبسط المعاني، واستعمالِ كلامٍ طويل يُغْنِي عنه كَلامٌ قصير، دون أنْ تكون فيه ألفاظ زائدة.
أمثلة:
المثال الأول:
قول الله عز وجل في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
في هذه الآية إطنابٌ بالبسط، لتوجيه الأنظار لآيات كونيَّة دالَاّتٍ على طائفةٍ من صفات الله عز وجل، منها شمول علمه، وعظيم قدرته، وكمالُ إرادته، وجليلُ حكمته وإتقانه وإبداعه لمخلوقاته، وعنايته بعباده.
وهذا البسط آتٍ من ذكر طائفة مفصّلة من آياته في كونه، كلُّ واحدة منها تدلُّ على كلٍّ هذه الصفات، فذكرها هو من البسط في إقامة الأدلّة دون زيادةٍ في الألفاظ لدى ذكر كلّ آية منها.
والآيات هي الآيات السبع التاليات:
الأولى: ظاهرة خلق السماوات والأرض.
الثانية: ظاهرة اختلاف اللَّيل والنهار.
الثالثة: ظاهرة الْفُلْكِ التي تجري في الْبَحْر بما يَنْفَعُ النّاس.
الرابعة: ظاهرة الماء الذي يُنْزله الله من السماء فَيُحْيِي به الأرض بعد موتها.
الخامسة: ما بَثَّ اللَّهُ في الأرض مِنْ كلّ دابَّةٍ تَدِبُّ عليها.
السادسة: تَصْرِيفُ الرِّياح بتدبير أَمْرِها وتوجيهها لتحقيق أُمُورٍ جليلة في الكون.
السابعة: تسخير السحاب بين السماء والأرْض.
المثال الثاني:
قول الله عز وجل في سورة (غافر/ 40 مصحف/ 60 نزول) :
{الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ
…
} [الآية: 7] .
إنّ عبارة {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} وَصْفاً للملائكةِ الذين يَحْمِلُون العرش، وللملائكة الذينَ من حول العرش من الإِطناب بالبسط، وذلك لأنَّ إيمانهم معلوم من نصوص سابقة التنزيل، ومن كونهم يُسبّحون بحَمْدِ رَبِّهم.
والغرض البلاغيّ من هذا الإِطناب إظهار شرف الإِيمان، والترغيبُ فيه، والإِشارة إلى أنّ تسبيحهم بحمد ربِّهم ثمرةٌ من ثمراتِ إيمانهم، وليس تسبيحاً جَبْرِياً كتسبيح السماوات والأرض والشجر والجماد، إذن فهم يملكون جهازاً يُفَكّر، وجهازاً يؤمن بالإِرادة.
المثال الثالث:
قول الله عز وجل في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
في هذه الآية إطنابٌ بالبسط، فالْغَرضُ بَيَانُ مُضَاعَفَةِ أجْرِ المنفق في سبيل الله إلى سبعمائة ضعف فما فوق ذلك، وهذا المعنى يُؤَدَّى بعبارة قصيرة، لكِنْ جاء في
الآية مبْسُوطاً، وطريقُ البسط تمثيلُ المنفق لحبَّةٍ واحدةٍ في سبيل الله بزارعِ حبَّةٍ أنبتَتْ سبْعَ سنابلٍ في كلِّ سُنْبُلَةٍ مئَةُ حبَّةٍ.
والغرضُ من هذا الْبَسْطِ إثارةُ مِحْور الطّمع في المخاطبين إذْ يُعْرَضُ لهم الأَجْرُ الموعودُ به على الإِنفاق في سبيل الله في صورة مثالٍ يَشْهَدون نظائره في الظواهر الزراعيّة، ليكون هذا الطمع محرّضاً ذاتيّاً في الأنفس على بَذْلِ الأموال في سبيل الله.
المثال الرابع:
قول الله عز وجل في سورة (فُصّلت/ 41 مصحف/ 61 نزول) :
{وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الذين لَا يُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ} [الآيات: 6 - 7] .
إنّ عبارة {الذين لَا يُؤْتُونَ الزكاة} من الإِطناب، لأنّ المشركين لا يُزَكُّونَ.
والداعي لهذا الإِطناب حثُّ المؤمنين على أداء الزكاة، وتحذيرهم من المنع إذْ أبان الله أنَّهُ من صفات المشركين، وفيه دلالة على أنَّ من آثار الشرك جَفَافَ الرحمة على ذوي الحاجات، فهم لا يشعرون بمشاعر ذوي الحاجات، بخلاف المؤمنين بالله واليوم الآخر، إذ الإِيمان يولّد في قلوبهم خلق الرحمة، وعاطفة حبّ العطاء ومساعدة ذوي الحاجات.
***
وأمّا القسم الثاني: وهو "الإِطناب بالزيادة" فيكون بزيادةٍ في الألفاظ على أصل المعنى الذي يُرادُ بيانه لتحقيق فائدةٍ ما.
فمنه قول الله عز وجل في سورة (القدر/ 97 مصحف/ 25 نزول) :
{تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} [الآية: 4] .
إنّ عبارَة: {والرُّوح} وهو جبريل عليه السلام من الإِطناب بالزيادة، لأنّ جبريل داخلٌ في عموم الملائكة، ولكنّها زيادة ذاتُ فائدة، إذ الغرضُ من تخصيصه
بالذكر بعد دخوله في عموم الملائكة الإِشعارُ بتكريمِهِ وتعظيمِ شأنه، حتَّى كأنَّهُ جنْسٌ خاصٌّ يُعْطَفُ على الملائكة.
* ومنه قول الشاعر "الحسين بن مطير" من الشعراء الذين عاصروا الدولتين الأموية والعبّاسية، يَرْثي "مَعْنَ بْنَ زائدة":
فَيَا قَبْرَ مَعْنٍ أَنْتَ أَوَّلُ حُفْرَةٍ
…
مِنَ الأَرْضِ خُطَّتْ للسَّمَاحَةِ مَوْضِعاً
وَيَا قَبْرَ مَعْنٍ كَيْفَ وَارَيْتَ جُودَةُ
…
وَقَدْ كَانَ مِنْهُ الْبَرُّ والْبَحْرُ مُتْرَعاً
إنَّ قولَهُ: "وَيَا قَبْرَ مَعْنٍ" في البيت الثاني هو من الإِطناب بالزيادة، لفائدة، وطريقته التكرير.
والداعي البلاغي لهذا الإِطناب "التحسُّر".
* ومنه قول "ابْنِ المعتزّ" يَصِفُ فَرَساً:
صبَبْنَا عَلَيْهَا - ظَالِمِينَ - سِيَاطَنَا
…
فَطَارَتْ بِهَا أَيْدٍ سِرَاعٌ وَأَرْجُلُ
إنَّ قولَهُ: "ظالِمِينَ" من الإِطناب بالزيادة لفائدة.
والداعي البلاغي لهذا الإِطناب "الاحتراس" لذلك يسمَّى به، إذْ لو لم يُوجَدْ هذا الاحتراس لتوهَّمَ المتَلَقِّي أنَّ فَرَسَ "ابْنِ المعتز" كان بليداً يَسْتَحِقُّ الضَّرْبَ بالسّياط، فكان قولُهُ ظالِمينَ دافعاً لهذا التوهُّم.
***
(3)
طرائق الزيادات الإِطنابية المفيدة ودواعيها البلاغية.
نظر البلاغيون في الزيادات الكلامية التي يحْصُلُ بها الإِطنابُ المفيد، فرأوا أنَّها تكون في طرائق من القول، جَمَعْتُهَا في (15) طريقة كنتُ في كثير منها متبعاً، وفي بعضها محرّراً ومُصَنِّفاً.
وبحثوا في الدواعي البلاغيّة لاختيار الإِطناب المفيد بهذه الطرائق فتجمَّعَتْ لَدَيْهم نتائج أفادتني في التصنيف والتمثيل.
وأشير هنا إلى أنّ بعض الأمثلة قد تَصْلُح أمثلة لأَكثر من طريقة من الطرائق التالية البالغة خمس عشرة طريقة:
الطريقة الأولى: "الإِيضاح بعد الإِبهام" وذلك بأن يُورِدَ المتكلّم المعنى مُبْهَماً، وبَعْدَ ذلك يُورِدُه مُوَضَّحاً، قال أهل البيان: إذا أردت أن تُبْهِمَ ثم توضِّح فَإنَّكَ تُطنِب.
ووجه حُسْنِ هذه الطريقة مع الفوائد التي تتحصّل بها أن فيها ما يلي:
(1)
إبراز الكلام في مَعْرض الاعتدال الذي يدلُّ عليه الإِيجازُ بالإِبْهام، والإِطنابُ بالإِيضاح، فتكون المحصّلة اعتدالاً.
(2)
إيهَام الْجَمْعِ بين المتنافِيَيْنِ، هما الإِيجاز والإِطناب، إذ الجمع بين المتنافِيَيْن من الأُمور الغريبة المستطرفة المثيرةِ للإِعجاب.
ومن فوائد "الإِيضاح بعد الإِبْهام" الداعيةِ للإِطناب به ما يلي:
(1)
تقديم المعنى الواحد في صورتين مختلفتين إحداهما مبهمة والأخرى موضَّحة، كما تُقَدَّم الحسناءُ في كِلَّةٍ أوَّلاً، وبَعْدَ ذَلِكَ تُعْرَضُ مَجْلُوَّةً إذْ تُرْفَعُ الكِلَّةُ عن وَجْهِها ورَأْسِها ومواطِنِ زينتها، فتنجلي للأعين محاسِنُها.
(2)
تمكين المعنى في نَفْسِ الْمُتَلَقِّي تمكيناً زائداً، لوقوعه بعد استشراف النفس إليه بالإِبْهام.
(3)
تكميل لذّة العلم به، إذْ بدأتْ ناقصةً بالإِبْهام، وكَمُلَتْ بالإِيضاح، فالشيء إذا علم ناقصاً تشوّقت النفس إلى العلم به كاملاً، وحصل لديها ظمأ
لمعرفته، فإذا استكملت النفس معرفته كانت لذّتها أشدّ من حصول العلم به دفعة واحدة.
* ومن هذه الطريقة ما يُسَمَّى "التوْشِيعُ".
وهو أن يُؤْتَى في عَجُزِ الكلام بمثنَّىً مُفَسَّرٍ باسْمَيْنِ، ثَانيهما معطوفٌ على الأوَّل مِنْهما، كقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما روى البخاري ومسلم عن أنس قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:
"يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَشِبٌّ مِنْهُ اثْنَانِ: الحرصُ على المال، والحرصُ عَلَى الْعُمْرِ".
وأيضاً عن أبي هريرة:
"لَا يَزَالُ قَلْبُ الكَبِيرِ شَابّاً فِي اثْنَتيْن: في حُبِّ الدّنْيا، وطُولِ الأَمَلَ".
ومن التوشيع قول الشاعر:
وَلَا يُقِيمُ عَلَى ضَيْمٍ يُرَادُ بِهِ
…
إِلَاّ الأَذَلَاّنِ: عَيْرُ الْحَيِّ والْوَتِدُ
ومن التوشيع أيضاً قول الشاعر:
سَقَتْنِيَ فِي لَيْلٍ شَبِيهٍ بِشَعْرِهَا
…
شَبِيهَةَ خَدَّيْها بِغَيْرِ رَقيب
فَمَا زِلْتُ فِي لَيْلَيْنِ: شَعْرٍ وظُلْمَةٍ
…
وَشَمْسَيْنِ: مِنْ خَمْرٍ وَوَجْهِ حَبِيبِ
ومن هذه الطريقة "التفصيل بعد الإِجمال" مثل قول الله عز وجل في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113/ نزول) :
{إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ الله يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [الآية: 36] .
فعبارة: "مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ" تفصيل بعد إجمال.
* ومنها "الإِجمالُ بَعْدَ التفصيل" مثل قول الله عز وجل في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
{فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدي فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام
…
} [الآية: 196] .
جاءت في هذه الآية عبارة: "تِلْكَ عشَرَةٌ كامِلَةٌ" إجمالاً بَعْدَ تفصيل، لرفْع توهُّم أن "الواو" في عبارة "وسَبْعَةٍ إذا رَجَعْتُمْ" هي بمعنى "أو" فتكون الثلاثة داخلة في السبعة، فجاء ذكر الأيّام كلّها مجملةً بعبارة "تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَة".
ومثل قول الله عز وجل في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) :
{وَوَاعَدْنَا موسى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً
…
} [الآية: 142] .
جاءت في هذه الآية عبارة: "فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً" إجمالاً بعد تفصيلٍ لرفع توهُّم أن عبارة: "وأتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ" تَعْنِي كَوْنَ "ثَلَاثِينَ لَيْلَةً" كانَتْ عشرين أُتِمَّتْ بعشرٍ فصارت ثلاثين، فدُفعَ هَذا التوهُّمِ بالإِجمال اللاّحق.
وذكروا من أمثلة الإِيضاح بعد الإِبهام ما يلي:
(1)
قول الله عز وجل:
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الآيات: 1 - 4] .
قالوا: كان يكفي أن يقول: أَلَمْ نَشْرَحْ صَدْرك. ووَضَعْنا وزْرَكَ الذي أنقض ظهرك ورَفَعْنَا ذِكْركَ، لكن إضافة "لَكَ" في موضعَيْن و"عَنْكَ" في موضِعٍ، تُفيد الإِبهام أوّلاً فتَسْتَشْرِفُ النفس للإِيضاح، وتَتَشوَّقُ للتفسير، وبعبارات: "صَدْرَك -
وِزْرَكَ - ذِكْرَكَ" يرتَفعُ الإِبهام ويرتوي ضمأ النفس للمعرفة الذي أثاره التشويق، مع ما في "لَكَ" و"عَنْكَ" من تأكيد وتمكين، لأنّ المقام مقام امتنانٍ سبَقَتْ دواعيه.
ونظيره قول موسى عليه السلام الذي جاءت حكايتُه بقول اللَّهِ عز وجل في سورة (طه/ 20 مصحف/ 45 نزول) :
{اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى * قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لي أَمْرِي} [24 - 26] .
***
الطريقة الثانية: "ذِكْرُ الْخاصِّ بَعْدَ الْعَامّ" ونظيره "ذِكْرُ الْعَامّ بعد الخاصّ".
المراد بالعامّ هنا ما كان شاملاً في معناه لمقابله، لا العام والخاص في مصطلح علم أصول الفقه.
وفائدة ذكر الخاصّ بعد العامّ التنبيه على فضله، حتَّى كأنّه ليْسَ من جنس العامّ أو نوعه، تنزيلاً للتغاير في الوصف منزلة التغايرُ في الذّات.
وفائدة ذكر العامّ بعد الخاصّ التعميم، وجاء إفراد الخاصّ بالذكر اهتماماً بشأنه، مع ما في إدْخاله ضمن العامّ من تأكيد وتكرير ضمناً.
الأمثلة:
المثال الأول:
قول الله عز وجل في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
{حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ} [الآية: 238] .
نلاحظ أنّ الصَّلاة الوسْطى - وهي في أظهر الأقوال صلاةُ الْعَصْر - داخلةٌ في عموم لفظ "لصَّلَوات" لكن خُصَّتْ بالذكْر وعُطِفَتْ على عموم الصلوات اهتماماً بشأنها، وتوجيهاً لتخصيصها بعناية فائقة خاصّة، وهذه فائدة الإِطناب بذكرها، إذْ هي داخلةٌ في عموم لفظ "الصّلوات" الوارد قبلها في النص.
هذا المثال من عطف الخاص على العام.
المثال الثاني:
قول الله عز وجل في سورة (البقرة) أيضاً:
{مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} [الآية: 98] .
إنّ جبريل وميكائيل عليهما السلام داخلان في عموم الملائكة ولكنْ خُصَّ جبريل بالذكر تحذيراً لليهود من معاداتهم له، وضُمَّ إليه ميكائيل لقيامه بوظيفة أرزاق العباد التي بها حياة الأجساد، مقابل قيام جبريل بوظيفة الوحي الذي به حياة القلوب والنفوس.
هذا المثال من عطف الخاصّ على العامّ أيضاً.
المثال الثالث:
قول الله عز وجل في سورة (نوح/ 71 مصحف/ 71 نزول) حكاية لدعاء نوح عليه السلام:
تباراً: أي: هلاكاً.
لقد خَصَّ نوح عليه السلام نفسه بطلب المغفرة من ربّه، وأتْبَعَهُ بطلب المغفرة لوالديه، وأَتْبع ذلك بطلب المغفرة لكلِّ مَنْ دَخَلَ بَيْتَهُ مُؤْمِناً، فَعَمَّم، ومعلومٌ أنَّه ممَّنْ دَخلَ بيتَهُ مُؤْمِناً فأدْخَلَ نفسه في العموم، وأخيراً قال:"وللمؤمنين والمؤمِنَات" ومعلوم أنَّ من دَعَا لهم سابقاً يَدْخلون في عموم المؤمنين أو في عموم المؤمنات، فكأنّه شمَلَهم بالدّعاء الأخير، فأفاد هذا التعميم بعد التخصيص تأكيد الدعاء وتكريره لمن ذُكِرُوا سابقاً.
هذا المثال من ذكر العام بعد الخاصّ.
المثال الرابع:
قول الله عز وجل في سورة (التحريم/ 66 مصحف/ 107 نزول) خطاباً لاثنتين من زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم:
فذكرَ جبريل أوّلاً على سبيل الخصوص وبعد ذلك ذكر عموم الملائكة ومعلومٌ أنَّ جبريل عليه السلام يدخل في عموم الملائكة، لكن جاء إفراد جبريل بالذكر أوّلاً اهتماماً بشأنه، وتعظيماً لمقامه، وإشادة بمكانته عند الله.
***
الطريقة الثالثة: "التكرير" لدَاعٍ بلاغي، كقول عنْتَرة بين شدّاد في بعض روايات معلقته:
يَدْعُونَ عَنْتَرَ وَالرِّمَاحُ كَأَنَّها
…
أَشْطَانُ بِئْرٍ فِي لَبَانِ الأَدْهَمِ
يَدْعُون عَنْتَرَ والسُّيُوفُ كَأنَّهَا
…
لَمْعُ الْبَوَارِقِ في سَحَابٍ مُظْلِمِ
أَشْطَانُ بِئر: أي: حِبَالُهُ الّتي تُعلِّقُ بها الدِّلَاء.
في لَبَانِ الأَدْهَمِ: أي: في صَدْرِ الْفَرَسِ الأدْهم.
فكرّر عبارة "يَدْعون عَنْتَرَ" في البيتين إذْ قَصَد الافتخار بشجاعته، وبطلب الفرسان له في أحرج مواقف القتال.
والدواعي البلاغي للتكرير متعدّدة، فمنها ما يلي:
(1)
تمكين المعنى وتأكيده في نفس المتلقِّي، وزيادة التنبيه على ما ينفي التهمة إذا كان البيان يقتضي ذلك.
(2)
التلذّذ بتكرير عبارات الفخر والإِشادة بالمآثر الحميدة.
(3)
التنفيس عن النفس بعبارات التحسّر والندم أو الحزن، أو الفرح.
(4)
طول الفاصِل في الكلام الذي تدعو الحاجة معه إلى التنبيه بالتكرير.
(5)
المدح أو الذمّ أو الشتيمة.
(6)
التنبيه على تعدُّد المقتضي لذكر العبارة المكرّرة.
(7)
جعل العبارة المكررة فاصلةً في الكلام ذاتَ تأثير فَنِّي جماليّ بديع مستطرف، كأنّها أعلام ترفرف على مفاصيل السّور، أو لوحة مكرَّرة على مقاطع من الطريق.
مع ما فيها من معنىً قد يحتاج تكريراً لتثبيته، أو استثارةِ دافع من دوافع النفس به، أو تهييج عاطفة، كالكليّات العامّة، وكالمعاني التي فيها ترغيب أو ترهيب، أو تحذير أو إنذار، أو تشويقٌ، أو تنديمٌ أو تحْسير، أو نحو ذلك.
(8)
أنْ يكون المكرّر متعلّقاً في الذكر الثاني بغير ما تعلَّقَ به في الذكر الأول، ويسمَّى هذا "ترديداً" ويكثر فيه الداعي الجمالي الفنيّ.
(9)
التعظيم والتهويل.
إلى غير ذلك من دواعي بلاغيّة.
أمثلة:
المثال الأول:
قول الله عز وجل في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول) :
{الله نُورُ السماوات والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِي زُجَاجَةٍ الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ
…
} [الآية: 35] .
جاء في هذه الآية تكريرُ "المصباح" مرَّتَيْن، وتكرير "الزُّجَاجة" مرتَيْن إلَاّ أنّ المكرّر متعلّق في الذكر الثاني بغير ما تعلّق به في الذّكر الأول، فهو ممّا يسمَّى "تَرديداً" ولا يخفى ما في هذا لترديد في الآية من جمالٍ فنِّي بديع.
المثال الثاني:
جاء في سورة (الرحمن/ 55 مصحف/ 97 نزول) تكرير عبارة:
{فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الآية: 13] .
إحدى وثلاثين مرّة خطاباً للإِنْسِ والجنّ المخلوقين للامتحان في ظروف الحياة الدنيا.
فبأَيّ آلاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبان: أي فبأيّ نِعَمِ رَبّكُمَا عَلَيْكُما تُكذِّبان. إنّ نِعَمَ الله على العباد لا يستطيع العباد إحصاءها، ومع كلّ فقرة من فقرات حياتهم بتتابع السّاعات والأوقات تمرُّ على كلِّ فَرْدٍ منْهُمْ نِعَمٌ كثيرة وجليلة، وانصرافه الدائم إلى الاستمتاع بها دون ملاحظة خالقها والمتفضِّل على عباده بها يحتاجُ تذكيراً بها، ليقوم بحقّ اللَّهِ عليه في مقابلها، بالإِيمان والطاعة والْحَمْدِ والشّكر.
ففي هذا التكرير عقب ذكْرِ كُلِّ فقرة من فقرات آيات صفاتِ الله في كونه، المشتملة على بعض نِعَمِه، أو الإِنْذار، بعقابه وعذابه، تنبيهٌ على حاجة العبد المبتَلَى أن يَذْكُرَ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ دَواماً عند كلِّ فقرة من فقرات حياته، ومَوْجَةٍ من موجات نهرها الجاري، لئلَاّ تَجُرَّهُ الغفلات إلى النسيان، فالمعصية، فاجتيال الشياطين لفِكْرِه ونَفْسِه وعَواطِفه، ودفعه إلى السُّبُلِ المزلقة إلى الشقاء، فالعذاب، فنار جهنّم.
فجُعِلَتْ هذه العبارة فاصلة في السّورة، وهذه الفاصلة ذات تأثير فَنِّيّ جماليّ مستطرف، مع ما تشتمل عليه من معنىً يدلُّ على حاجَةِ العباد إلى ذكر نعم الله عليهم مع كلّ موجةٍ من موجات نَهَرِ حياتهم، سواءٌ أكانت ممّا يحبّون أو ممّا يكرهون، ممّا يَطْمَعُون فيه أو ممّا يحذرون منه.
المثال الثالث:
جاء في سورة (المرسلات/ 77 مصحف/ 33 نزول) تكرير عبارة:
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} [الآية: 15] .
تسْعَ مرّات، إنْذاراً للمكذبين بيوم الدّين، وترهيباً من عذاب جهنم الذي سيلاقونه، إذا أصَرُّوا على كفرهم وتكذيبهم وماتوا على ذلك دون توبة.
ومع أنّ كلّ مرّة قد جاءت عقب توجيه إقناع بقانون الجزاء الرَّبّاني، أو إخبارٍ ببعض الأحداث التي تكون قبل يوم القيامة، أو تقديم لقَطَاتٍ من مشاهد الحساب، أو مشاهد الجزاء بالعقاب أو بالثواب، أو تحريكِ سَوْطٍ تهديدي بما سينزل بهم من عذاب أليم، فإنّ تكريرها قد جاء بمثابة فاصلةٍ ذات إيقاعٍ، فهي تُعادُ وتكرّر في السّورة بفنّيّة بديعة، ومضمونُها ممّا يستدعي حال المكذبين تكريره، إذْ فيها تَهْدِيدٌ ووَعيد، وفيهم مكابرةٌ وإصرار على الكُفْرِ عنيد، هم يكرّرون إصرارهم، والعبارة تكرّر تهدْيدِهم بالويل.
الويل: كلمة عذاب، فيها معنى الوعيد بحلول عقاب الله، وورد أنّ كلمة "ويل" اسْمٌ علم على وادٍ في جهنم.
المثال الرابع:
جاء في سورة (القمر/ 54 مصحف/ 37 نزول) تكرير عبارة:
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [الآية: 17] .
أرْبَع مرَّات، لأنها تضمّنَت حثّاً على تَلَقّي القرآن وتدَبّره وتذكّره، فمضمونها يحمل معنًى كلّياً من كُلّيّاتِ التكاليف الدينيّة التي تتطلَّبُ طبائع النفوس تكريرها، لكثرة شرودها عنها، ورغبتها في التفلّتِ من واجباتها.
واختيرت أن تكون هذه العبارة بمثابة فاصلة ذاتِ جمالٍ فنِّي تُتْلَى بَيْنَ فِقَراتٍ من السّورة، فجاءت عقب ذِكْرِ موجز قصة إهلاك قومِ نوح عليه السلام، وعقب ذكر موجز قصة إهلاك عاد قوم هود عليه السلام، وعقب ذكر موجز قصّة إهلاك ثمود قوم صالح عليه السلام، وعقب ذكر موجز قصة إهلاك قوم لوط عليه السلام.
وفي تكريرها عقب عرض موجز كلّ قصة من قصص هؤلاء الأقوام إشارةٌ إلى أنَّهم لو تلَقَّوْا ما أنْزِلَ إليهم من ربّهم عن طريق رسُلهم، وتدبّروه، وَوَضَعُوه في ذاكراتهم، وادَّكَرُوه حيناً فحيناً ما عرّضوا أنفسهم للهلاك الشامل المعجّل في الدنيا، وللعذاب الخالد المؤجّل إلى يوم الدّين.
فمن تنبّه إلى هذه الإِشارة من أمّة رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم اتّعظ بأحوال الأمم السابقة، فاشتغل بحفظ القرآن الميسّر للذّكر، واشتغل بتدبّر معانيه، وادّكَرَ آياتِهِ حيناً فحيناً عند كلّ مناسبة داعية.
المثال الخامس:
جاء في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) تكرير عبارة:
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} [الآيات: 8 - 9] .
ثمانِيَ مرّاتِ، أُولَاهَا جاءَتْ عَقِب بيان تكذيب الذين كذّبوا محمّداً صلى الله عليه وسلم وبما جاء به عن ربّه، ثم جاءت كلُّ مرَّةٍ من المرّات الباقيات عقب عرض قصَّةٍ من قِصَصِ المكذّبين الأولين، فكان لكل مرّةٍ منها داعيتها من القصّة التي جاءت قبلها، فإذْ تعَدَّدَ المقتضي حَسُنَ إعادة ذكر العبارة نفسها.
المثال السادس:
كان "عَمْرو بْنُ هِنْدِ" ملكاً في الحيرَة من ملوك العرب، وكان جبّاراً عنيداً، لا يَرَى في الناس من يُدانيه في الشرف والمنزلة، فأراد أنْ يستذلّ الشاعر "عمرو بن كُلثوم" باتّخاذ أُمِّه وصيفةً لأمّه، فثارت الحميّة في قلب عمرو بن كلثوم، فسَلَّ سيفه وضرب الملك فقتله، وقَرَضَ مُعَلَّقته التي جاءت فيها:
بِأَيِّ مَشِيئَةٍ عَمْروَ بْنَ هِنْدِ
…
نَكُونُ لِقَيْلِكُمْ فِيهَا قَطِينَا
بِأَيِّ مَشِيئةٍ عَمْروَ بْنَ هِنْدٍ
…
تُطِيعُ بِنَا الوُشَاةَ وتَزْدَرينَا
فكرّرَ عبارته: "بأَيِّ مَشيئَةٍ عَمْرَو بْنَ هِنْدٍ" لأنّه في مقامٍ الْفَخْر وإباء الضَّيْم، وبيان عُذْرِه في قتل الملك إذْ أراد الملك إِذْلاله وإهانته.
لِقَيْلِكُم: الْقَيْل: هو الملك دون الملك الأعظم.
قَطِينا: أي: خَدَماً.
ويمكن القياس على هذه الأمثلة مع ملاحظة الداعي البلاغي في كُلٍّ مِنها.
ملاحظة:
توجد تعبيرات يُظَنُّ أنّها من التكرير، ولدى البحث والتدبر والتحرير، يظهر أنها ليست من التكرير، فعلى دارس النصوص ومتدبّرها أن يُمْعِن فيها النظر طويلاً حتَّى لا يُعْطِيَ النّصّ حكْماً ليس هو له.
فمن ذلك ما جاء في سورة (الكافرون) ومنها ما يكون المقصود فيه مختلفاً في الألفاظ المكرّرة، اختلاف أمكنة، أو اختلاف أزمان، أو اختلاف أنواع أو أصناف أو أفراد، إلى غير ذلك.
***
الطريقة الرابعة: "الإِيغال".
الإِيغال في اللّغة: الإِمعان في التعمّق والمبالغة في الابتعاد، يقال لغة: أوْغَلَ في البلاد، إذا ذهب فيها وبالَغَ وأبعد. وأوْغَلَ في السَّيْرِ إذا أسْرَع فيه وابتعد.
والإِيغال عند البلاغيين: هو إضافة أخيرة تأتي في الكلام بعد انتهاء المقصود منه، لكنَّها ذَاتُ فائدة ما، والدّاعي لها قد يكون الاحتياج إلى القافية في الشعر، أو إلى تناظر الفقرات في النثر، أو استغلال حالة طارئة عرضت للمتكلم، أو غَيْرَ ذلك.
* سئل الأصمعي: مَنْ أشعر الناس؟
فقال: مَنْ ينقضي كلامُه قبل انقضاء القافية، فإذا احتاج إلَيْهَا أفادَ بها مَعْنىً.
قيل: نحوُ مَنْ؟
قال: ذو الرّمّة حيث يقول:
قِفِ الْعِيسَ في أَطْلَالِ مَيَّةَ فَاسْأَلِ
…
رُسُوماً كَأَخْلَاقِ الرِّدَاءِ الْمُسَلْسَلِ
فَتَمَّ كلامُهُ بالرّداء، ثم قالَ:"الْمُسَلْسَل" فزاد به شيئاً، ثم قالَ:
أظُنُّ الّذِي يُجْدِي عَلَيْكَ سُؤَالُهَا
…
دُمُوعاً كتَبْذِيرِ الْجُمَانِ الْمُفَصَّلِ
فَتَمَّ كلامُهُ بالجمان، ثم قال:"المفصّل" فزاد شيئاً.
قيل: ونَحْوُ مَنْ؟
قال: الأعشى إذْ يقول:
كَنَاطِحٍ صَخْرَةً يَوْماً لِيَفْلِقَهَا
…
فَلَمْ يَضِرْهَا وَأَوْهَى قَرْنَهُ الْوَعِلُ
فَتَمَّ كَلَامُهُ بِيَضِرْها، فلمّا احتاج إلى القافية قال: وأوهَى قرنَه الْوَعِلُ، فزاد معنىً.
قال السائل: وكيف صار الْوَعِلُ مفضَّلاً على كلِّ ما ينْطَح؟
قال: لأنّه ينحطُّ من قُلّةِ الجبل على قَرْنَيْه فلا يضرُّه.
* ومن الإِيغال قول الخنساء في رثاء أخيها "صَخْر".
وَإِنّ صَخْراً لتأتَمُّ الْهُدَاةُ به
…
كَأنَّهُ عَلَمٌ في رأْسِهِ نارُ
لقد تمّ المقصود بقولها: "كأنّه علم" ولمّا احتاجت إلى القافية أضافة خاتمة مفيدة ذات حُسْن فقالت: "في رأْسِهِ نارُ" فبالغت في بيان أنّه رجلٌ تَأْتَمُّ بِهِ الْهُداة.
* ومنه قول امرئ القيس:
كأَنَّ عُيُونَ الْوَحْشِ حَوْلَ خِبَائِنَا
…
وأَرْحُلِنَا الْجَزْعُ الّذِي لَمْ يُثَقَّبِ
الْجَزْع: خرز يماني فيه سواد وبياض، يشبّه به عُيُون الوحش، قال الأصمعي: الظبيُ، والبقرة إذا كانا حيَّيْنِ فعُيُونُهما كلُّها سُود، فإذا مَاتَا بدا بياضها.
وقد شبَّهَها امرؤ القيس بالْجَزْعِ، لأنّها عُيُونُ ما صَادَ من الوحش، وحَقَّق بزيادته، التَّشْبِيهَ الذي أراده.
* ومنه قول زهير بن أبي سُلْمَى:
كَأَنَّ فُتَاةَ الْعِهْنِ في كُلِّ مَنْزِلٍ
…
نَزَلْنَ بِهِ حَبُّ الْفَنَا لَمْ يُحَطَّمِ
الْعِهْن: الصّوف المصبوغ ألواناً.
الفنا: عِنَبُ الثعلب، نبات له ثمر بعناقيد صغار الحبّ، كحبّ العنب، إذا نضج احمرّ، أو كان مختلط الألوان حمرة وخضرة، وباطن هذا الحبّ أبيض.
لقد تمّ كلامه بقوله "حبُّ الفنا" ولمّا احتاج إلى القافية قال: "لم يُحطَّم" فجاء بزيادة إيغالية مفيدة، قيَّد بِهَا المشبّه به محافظةً على سلامةِ تشبيهه.
* ومنه ما كان هارون الرشيد يُعْجَبُ به، وهو قول "مسلم بن الوليد":
إذَا مَا عَلَتْ مِنَّا ذُؤَابَةُ شَارِبٍ
…
تَمَشَّتْ بِهِ مَشْيَ الْمُقَيَّدِ فِي الْوَحْلِ
ذُؤَابَةُ: الذُّؤابَةُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَعْلَاهُ.
شارب: الشارب الشعر الذي ينبت على الشفة العليا.
أي: إذا عَلَتْ ذُؤابَةُ شَارِب الناشئ من قومِنا جعلته يمشي متبختراً متثاقلاً افتخاراً بمجد قومه.
وكان الرشيد يقول: قاتله الله، أمَا كفاه أن يجعله مقيداً حتى جعله في وحْل.
فعبارة "في الوحل" إيغال.
* وقول الله عز وجل في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول) :
{وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ يسعى قَالَ ياقوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا مَن لَاّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} [الآية: 20 - 21] .
لقد تَمَّ المعنى المقصود ببيَانِ أَنَّهُمْ مُرْسَلُونَ يَدْعُونَ إلى الحق، ولا يسألون الناس أجراً فليس لهم مصلحة لدى من يدعونهم إلى دين الله، وبعد ذلك جاءت جملة:{وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} إيغالاً، فكَوْن هؤلاء المرسلين مهتدين، أي: يسلكون في أعمالهم وأخلاقهم وكلّ تصرّفاتهم سبيل الهداية، دليلٌ على صدقهم، وهذا يدعو إلى اتِّباعهم وعدم رفض دعوتهم.
* وقول الله عز وجل في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) خطاباً لرسوله ويُلْحَقُ به كُلُّ داعٍ إلى الله من بَعْده:
إنّ عبارة {إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ} جاءت إيغالاً لتأكيد كون الصُّمّ لَا يَسْمَعُونَ الدُّعاء.
وفائدة هذا الإِيغال الإِشارةُ إلَى أنَّ الأصَمَّ إذا كان مُواجِهاً لمن يدعوه، كان قادراً على إدْراك أنّه يدعوه، من تحريك فمه وحركات جسده عند التكلّم، لكنه إذا كان مُدْبراً مبتعداً لم يَسْمَعْ صوتاً ولم يُدْرِكْ حركةً دالَّةً عليه. وفيه هنا أيضاً مُراعَاةُ كوْنِ المتحدّث عَنْهم صُمّاً صَمَماً معنوياً بكُفْرِهِمْ وعَدَم إيمانهم، وهؤلاء قد يسمعون بعض سماعٍ دُونَ أَنْ يُؤثّر فيهم حالةَ المواجهة، فإذا وَلَّوْا مُدْبِرين لم يَسْمَعُوا شيئاً، فأفاد هذا الإِيغال معانيَ نفيسة.
* وقول الله عز وجل في سورة (الذاريات/ 51 مصحف/ 67 نزول) :
{وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الآيات: 22 - 23] .
إنّ عبارة: {مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} جاءت إيغالاً بَدِيعاً بعد انتهاء المعنى المقصود، إذ شبَّهَ ضَمَانَ الرزق للعباد الذي يحرّكون أفواههم عليه في طعامهم، بقدرتهم على النطق حينما ينطقون، أي: كما أقدركم الله على إخراج نطقكم من أفواهكم أقدركم على كسب أرزاقكم وإدخالها إلى بطونكم عن طريق أفواهكم.
***
الطريقة الخامسة: "الاعتراض".
الاعتراض في اللّغة: الدّخول بين الشَّيْئَيْن حتى يكون الداخل المعترضُ فاصلاً بينهما، ويُسَّمى "عَارِضاً" أي: حائلاً ومانعاً بينهما، ومنه أُخِذ الاعتراض في البلاغة والنحو.
الاعتراض اصطلاحاً: أنْ يُؤتَى في أثْنَاءِ الكلام أو بين كلَاميْن متَّصِلَيْن في معناهما بجملة أو أكثر لا محلّ لها من الإِعراب لنكتة بلاغيّة سِوَى دفع الإِيهام.
فإذا كان لدفع الإِيهام فهو من طريقة (الاحتراس = التكميل) الآتي بيانُها إن شاء الله.
ويؤتي بالاعتراض لدواعي بلاغية منها ما يلي:
(1)
التنزيه والتعظيم.
(2)
الدّعاء.
(3)
التنبيه على أمْر، وكذلك الإِشارة إلى أنّ ما وقع به الاعتراض قد حصل مضمونه خلال الزمن الفاصل بين الكلامين المتّصلَيْن.
(4)
التبرُّك.
(5)
التقرير في نفس السامع.
(6)
التصريح بما هو المقصود.
(7)
الاستعطاف.
(8)
انتهاز الفرصة المواتية، والمبادرة لبيان أمْرٍ ذي أهميّة. إلى غير ذلك.
ووجه حُسْن الاعتراض اهْتِبَالُ الْفُرْصَةِ المواتية للإِفادة والبيان، أو التعبير عمّا في النفس، مع مجيئه مجيء غير المترقّب، فيكونُ كالشيء السّارّ الذي يأتي الإِنسانَ من حيْثُ لا يحتسب.
ولحسنه جاء في أرفع الكلام إعجازاً، وجاء في أقوال الفصحاء والبلغاء.
أمثلة:
المثال الأول:
قول الله عز وجل في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول) :
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} [الآية: 57] .
عبارة: "سبحانه" جملة اعتراضية بين كلامين متصلين في معناهما، للمبادرة إلى تنزيه الله عن أن يكون له بنات، والتشنيع على من جعلَهُنّ له بتصوّرهم الفاسد، وأقوالهم الكاذبة.
المثال الثاني:
قول الله عز وجل في سورة (الفتح/ 48 مصحف/ 111 نزول) :
{لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرءيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ
…
} [الآية: 27] .
عبارة: {إنْ شاء الله} جملة اعتراضيّة في أثناء كلام مُتَّصلٍ في معناه، للمبَادرة إلى تعليم المؤمنين أن يقولُوا في كلّ ما يرجون وقوعه أو يريدون إيقاعه مستقبلاً. "إنْ شاء الله" وتعليمهم كيف يكون إدْخال هذا التعليق على مشيئة الله في كلامهم.
المثال الثالث:
قول الله عز وجل في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
إنّ عبارة: {إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين} عبارَةٌ اعتراضيَّة، بين كلامَيْنِ مُتّصلَيْنِ في معناهما، فقوله تعالى:{نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} متّصل بقوله: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} وجاءت العبارة الاعتراضيّة للمبادرة إلى الحثّ على الطهارة واجتناب الأدْبار والتّوبَةِ من إثْمِ إتيانها الذي ربّما كان يفعله بعض الأزواج قبل البيان القرآني.
المثال الرابع:
قول الله عز وجل في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) ضمن عرض قصّة إغراق قوم نوح عليه السلام:
جاءت في هذه الآية ثلاث جُمَلٍ اعتراضيّة بين كلامَيْنِ مُتَّصِلَيْن في معناهما، وهي:"وغِيضَ الماءُ وقُضِيَ الأَمْرُ واسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِي".
هذا الاعتراض بهذه الجمل الثلاث أفاد أنَّ مضمونها قد حَصَل بين زمَنَي القولَيْنِ المتّصلَيْنِ في معناهما: [وَقيل
…
-وقيل
…
] .
ويلاحظ أنّ جملة: {وَقُضِيَ الأمر} اعتراضٌ في اعتراض، إذ الجملتان:{وَغِيضَ المآء} و {واستوت عَلَى الجودي} متصلتان في معناهما، وجاءت {وَقُضِيَ الأمر} معترضة بينهما.
المثال الخامس:
قول الله عز وجل في سورة (الواقعة/ 56 مصحف/ 46 نزول) :
{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الآيات: 75 - 77] .
في هذا اعتراض بين القسم وجوابه بقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ - لَّوْ تَعْلَمُونَ - عَظِيمٌ} للتنبيه على عظم هذا القسم مع الفرصة المواتية.
واعتراضٌ في داخل الجملة المعترضة بين خبر "إنّ" وصفته، بجملة {لَّوْ تَعْلَمُونَ} للتنبيه على أنّ المخاطبين يجهلون عظمة مواقع النجوم.
المثال السادس:
قول العباس بن الأحْنف:
إِنْ تَمَّ ذَا الْهَجْرُ - يَا ظَلُومُ وَلَا تَمَّ -
…
فَمَالِي فِي الْعَيْشَ مِنْ أَرَبِ
ظَلُوم: اسْمُ صاحبته. والأرب: الحاجة.
في هذا البيت اعتراض بين الشرط وجوابه بنداءِ مَنْ يُحِبّ والمبادرة إلى الدعاء بأنْ لَا يتمَّ مضمونُ الشرط، والداعي له المبادرة إلى استعطاف "ظلوم" التي يُحِبُّها، وسؤال الله أن لا يَتِمّ هجرها له، والدافع له في نفسه رغبته في وصلها وخوفه من هجرها.
المثال السابع:
قول عوف بن ملحم الشيباني يشكو كِبَرَهُ وضعفه:
إِنَّ الثَّمَانِينَ - وَبُلِّغْتَها -
…
قَدْ أَحْوَجَتْ سَمْعِي إلَى تُرْجُمانٍ
فجملة: "وَبُلِّغْتَها" جملةٌ اعتراضيةٌ دُعَائية، استغلت فيها المناسبة استغلالاً حسناً ليدعو لمن يخاطبه بطول العمر.
المثال الثامن:
قول أبي الطيّب المتنبّي:
وَخُفُوقُ قَلْبٍ لَوْ رَأَيْتِ لَهِيبَهُ
…
-يَا جَنَّتِي- لَرَأيْتِ فِيهِ جَهَنَّما
قوله: "يا جَنَّتِي" جملة معترضة، والداعي لها الاستعطاف، واستغلال المناسبة ليُجْرِيَ مطابقة بين الجنة وجهنّم.
المثال التاسع:
قول ابن ميّادة:
فَلَا هَجْرُهُ يَبْدُو - وفي اليأسِ راحَةٌ -
…
وَلَا وَصْلُهُ يَبْدُو لَنَا فَنُكارِمهْ
قولُهُ: "وفي اليأْسِ رَاحَةٌ" جملةٌ اعتراضيّة جاءت تعليلاً لأمر من المستغرب أن يكون مطلوباً، وهو إبرامُ الهجر وعدم التردد فيه، إذ المحبُّون لا يطلبونه عادة، فبادر لبيان السبب فجاء بالجملة الاعتراضية، وهي مبادرة حسنة.
***
الطريقة السادسة: "الاحتراس = التكميل".
الاحتراس: أو التكميل: اسمان أُطْلِقا على مسمَّى واحد، هو زيادة إطنابيّةٌ في الكلام يَدْفَع بها المتكلّم إيهاماً اشتمل عليه كلامه.
ويكون هذا الاحتراس حينما يأتي المتكلم بكلام يوهم خلاف ما يُريد، ويأتي بَعْدَه بكلامٍ يدفع به ذلك الإِيهام، ومثل هذا يُوجَد في أرفع الكلم لتحقيق غرضٍ بلاغي، وقد يوجد في كلام أهل الخطب الارتجالية على سبيل التدارك لما جاء في كلامهم ففطنوا إليه فاحترسوا تكميلاً.
أمثلة:
المثال الأول:
قول الله عز وجل لموسى عليه السلام كما جاء في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) :
إنّ عبارة: {تَخْرُجْ بَيْضَآءَ} قَدْ تُوِهمُ أَنَّ بَيَاضَهَا رُبَّمَا كَانَ عَنْ بَرَصٍ، فجاءَت عبارة:{مِنْ غَيْرِ سواء} تَكْمِيلاً احْتراسِيّاً لدَفْعِ هذا الإِيهام.
المثال الثاني:
قول طرفة بن الْعَبْد من قصيدة يمدح بها قتادة بن مسلمة الحنفي، على ما كان منه تجاه قومه، إذْ بذل لهم في سنةٍ أصابتهم:
فَسَقى دِيَارَكَ - غَيْرَ مُفْسِدِها -
…
صَوْبُ الرَّبِيعِ وَدِيمَةٌ تَهْمِي
الصّوب: المطر بقدر ما ينفع ولا يؤذي.
الدّيمة: المطر يدوم زمانهُ في سكون.
تَهْمِي: تسيل.
قوله: {غَيْرَ مُفْسِدِها} تكميل احتراسي، لأنّ سُقْيا الدّيار بمطر كثير قَدْ يفسدها، فدَفع هذا الإِيهام بالاحتراس الذي جاء به.
المثال الثالث:
قول كعب بن سَعْد الغنوي:
حَلِيمٌ إِذَا ما الْحِلْمُ زَيَّنَ أَهْلَهُ
…
مَعَ الْحِلْمِ في عَيْنِ الْعَدُوِّ مَهِيبُ
في هذا البيت احتراسان كمّل بهما الشاعر كلامه: فقوله: "إذا ما الحليم زيّنَ أهله احترس به لدفع توهم أن يكون حمله عن ضعف، وقوله "في عين العدوّ مهيب" احتراسٌ آخر.
***
الطريقة السابعة: "التذييل".
التذييل: تعقيب الجملة بجملة أخرى تشتمل على معناها توكيداً لمنطوقها، أو لمفهومها، وينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: مَا يجري مجرى المثل، وهو ما استقلّ معناه واستغنى عمّا قبله، مثل قول الله تعالى في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول) :
{وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً} [الآية: 81] .
إنّ جملة {إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً} تتضمّن معنى الجملة التي جاءت قبلها، فهي إطناب على طريقة التذييل، وعبارتها ممّا يجري مجْرى المثل، وهي تُؤكّد منطوق الجملة التي جاءت قبلها.
القسم الثاني: مَا لا يجري من التذييل مجرى المثل، وهو ما لا يستقلُّ معناه عمّا قبله، كقول ابن نُبَاتَة السّعْدِي:
لَمْ يُبْقِ جُودُكَ لِي شَيْئاً أُأَمِّلُهُ
…
تَرَكْتَنِي أَصْحَبُ الدُّنْيا بِلَا أَمَلِ
فالشطر الثاني من هذا البيت تذييل أكّدَ مَفْهوم الشطر الأول، وهو ليس مما يجري مجرى المثل.
(1)
قول الله عز وجل في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) خطاباً لرسوله:
{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} [الآية: 34] .
إنّ جملة {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} تذييلٌ يؤكّد منطوق الجملة التي جاءت قبلها، وهي ممّا يجري مجرى المثل.
(2)
قول الله عز وجل في سورة (سبأ/ 34 مصحف/ 58 نزول) :
{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نجازي إِلَاّ الكفور} [الآية: 17] .
إنّ جملة {وَهَلْ نُجَازي إلَاّ الكفُور؟} تذييل يؤكّد مفهوم الجملة التي جاءت قبلها، وهي ممّا لا يجري مجرى المثل، إذ المعنى: لا نجزي مثل هذا الجزاء المعجّل بالعقاب المهلك الشامل للقوم إلَاّ من كان كفوراً.
(3)
قول الحطيئة:
نَزُورُ فَتَىً يُعْطِي على الْحَمْدِ مالَهُ
…
وَمَنْ يُعْطِ أَثْمَانَ الْمَحَامِدِ يُحْمَدِ
الشطر الثاني من هذا البيت تذييلٌ يؤكّد منطوق الشطر الأول منه، وهو مما يَجْري مجرى المثل، فهو تذييل جميل.
(4)
قول أحد الشعراء لمن أعطاه ومنَّ عليه:
أَفْسَدْتَ بِالْمَنِّ مَا أَسْدَيْتَ مِنْ حَسَنٍ
…
لَيْسَ الْكرِيمُ إِذَا أَعْطَى بِمَنَّانِ
الشطر الثاني من هذا البيت تذييل يؤكّد به الشاعر مفهوم الشطر الأوّل منه، وهذا التذييل مما يجري مجرى المثل، فهو إطنابٌ تَذييليٌّ جميل.
(5)
قول أبي الطيّب المتنبّي:
مَا كُلُّ مَا يتمنَّى الْمَرْءُ يُدْرِكُهُ
…
تَجْرِي الرِّيَاحُ بِمَا لَا تَشْتَهِي السُّفُنُ
الشطر الثاني من هذا البيت تذييل أكّدَ به الشاعر منطوق الشطر الأول منه، وقد جرى مثلاً.
قال العكبري: وهو من أحسن الكلام.
(6)
قول زُهَيْر:
تَرَاهُ إِذَا مَا جِئْتَهُ مُتَهَلِّلاً
…
كَأَنَّكَ تُعْطِيه الّذِى أَنْتَ سَائِلُهُ
الشطر الثاني من هذا البيت "تذييل" أكّد به الشاعر منطوق الشطر الأول منه، وهو ليس ممّا يجري مجرى المثل.
(7)
قول الشاعر:
وَلَقَدْ عَلِمْتُ لَتَأْتِيَنَّ مَنِيَّتِي
…
إِنَّ الْمَنَايَا يَا لَا تَطِيشُ سِهَامُهَا
الشطر الثاني من هذا البيت "تذييل" أكّد به الشاعر منطوق الشطر الأول منه، وهو مما يجري مجرى المثل.
***
الطريقة الثامنة: "التتميم".
التتميم: الإِتيان بفضلة مفيدة في كلام لا يوهم خلاف المراد.
يلاحظ أنّ قيد "في كلام لا يوهم خلاف المراد" قد أضيف هنا للتفريق بين التتميم و"الاحتراس= التكميل" الذي سبق بيانه وشرحه.
أمثلة:
(1)
قول الله عز وجل في سورة (الإنسان/ 76 مصحف/ 98 نزول) يصف الأبرار.
{وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلَا شُكُوراً} [الآيات: 8 - 9] .
قالوا: عبارة: {على حُبِّهِ} جاءَت تتميماً مفيداً حصلت به المبالغة في أنَّهم حريصون جدّاً على إطعام الطعام على الرغم من حبِّهِمْ له، وتعلُّقِ شَهْوَتِهم به، فالإِطعام في هذه الحالة أبلغ في الدلالة على ابتغاء مرضاة الله، وهو بسبب ذلك أعظم أجراً عند الله.
أقول: إنّ عبارة {على حُبِّهِ} قيد لازم لإِدْخال المطعم للطعام في مرتبة الأبرار، وهي فوق مرتبة المتقين الذين يكفيهم أن يطعموا الطعام الواجب عليهم أن يُطْعِموه، ولو كان هذا الطعام غير محبوب لهم.
ونظير هذا الْقَيْدِ القيدُ الذي جاء في الآية (177) من سورة (البقرة) فهو قيد لازم حتى يكون من يؤتي المالَ مرتقياً ببذله إلى مرتبة الأبرار، إذ قدّم عملاً هون من أعمال البرّ، فأعمالُ البرّ توسُّعٌ في الخير زائِدٌ على أعمال التقوى.
(2)
قول الله عز وجل في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول) :
{سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ
…
} [الآية: 1] .
جاءت في هذه الآية كلمة "ليلاً" تتميماً، وذلك لأنّ الإِسراء لا يكون إلَاّ باللَّيْل، وفائدة هذا التتميم الإِشارة إلى قِصَرِ المدّةِ التي حصل فيها الإِسراء ذهاباً وعودة، والإِشارة إلى أنّ لِلّيْلِ خصَائِصَ من نفحاتِ الله وإكراماته التي يفيض بها على بعض عباده.
(3)
قول "زهير بن أبي سُلْمَى" يمدح "هَرِم بْنَ سِنان".
مَنْ يَلْقَ يَوْماً عَلَى عِلَاّتهِ هَرِماً
…
يَلْقَ السَّمَاحَةَ مِنْهُ والنَّدَى خُلُقاً
عَلى عِلَاّتِهِ: أي: عَلى كُلِّ حَالٍ من أحواله، في انشراحه وانقباضه، وسروره وحُزْنه، ويُسْرِه وعُسْرِه.
فقد جاءت عبارة "عَلَى عِلَاّتِهِ" تَتْميماً جميلاً ذا فائدة.
(4)
قول أحد الشعراء:
إِنِّي عَلَى مَا تَرَيْنَ مِنْ كِبَرِي
…
أَعْرِفُ مِنْ أَيْنَ تُؤْكَلُ الكَتِفُ
فقوله: "على مَا تَرَيْنَ من كبري" كلامٌ لم يدفَعْ به إيهاماً، إلَاّ أَنّه زيادة أفادَتْ فائدة حسنة، فهو "تَتْمِيم" تخلّص به من تُهْمَة تأثير كبر السنّ عليه.
(5)
قول المعرّي:
وإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ الأَخِيرَ زَمَانُهُ
…
لآَتٍ بمَا لَمْ تَسْتَطِعْهُ الأَوَائِلُ
فقوله: "وإِنْ كُنْتُ الأَخير زَمَانُهُ" كلامٌ لم يدفع به إيهاماً، إلَاّ أنَّهُ زيادة أفادت التَّنْبيهَ على أنّ المتأخرين قَدْ يأتُونَ بما لم يأت به الْمُتَقدِّمون، وأنّ مقولَةَ: ما تركَ الأوّل للآخِرِ شيئاً مقُولَةٌ غَيْرُ صحيحة، فهذا القول "تتميم" أشار به إلى ردّ مقولة باطلة:
(6)
قول المتنبي في صباه يمدح محمّد بن عُبَيْدِ اللَّهِ العلَويّ:
لَهُ أَيَادٍ إليَّ سَابِقَةٌ
…
أَعُدُّ مِنْهَا وَلَا أُعَدِّدُهَا
أي: له أيادٍ محسناتٌ إليّ، أو سابقةٌ إلي أَعْدُّ بَعْضَها وَلا أستطيعُ أنَّ أُعَدِّدَهَا كُلَّها مُحْصِياً.
فعبارة "ولا أُعَدِّدُها" جاءت زائدة على المقصود من القول، ولم تدفع إيهاماً، لكنَّها زيادة مفيدة أشار بها إلى كثرة أيادي ممدوحة، فهو لكثرتها غير قادِرٍ على أنْ يعدّدها محصياً لها، فالعبارة إذن "تتميم" جميل.
(7)
قول الْحُصَيْن بْنِ الْحُمام:
فَلَسْنَا عَلَى الأَعْقَاب تَدْمَى كُلُومُنَا
…
وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا تَقْطُر الدَّمَا
الشطر الثاني من هذا البيت زائد على المقصود من القول، ولم يدفع إيهاماً، فهو تتميم أكّدَ بِهِ الشاعر أنّه وقومه شجعان يواجهون المقاتلين بصدورهم، ولا يفرّون مُدْبرين، فإذا أصابتهم الكلوم "أي: الجروح" في الحرْب كانت من جهة وجوههم فتتساقط الدماء على أقدامهم، ولم تكن من جهة ظهورهم.
***
الطريق التاسعة: "الطرد والعكس".
الطرد والعكس: هو أن يُؤْتَى بكلامَيْنِ يُقَرِّرُ كُلُّ مِنْها بمنطُوقه مفهوم الثاني منهما.
فهو من الإِطناب ذي الفائدة، وفائدته تأكيد منطوق كلٍّ منهما لمفهوم الآخر.
أمثلة:
(1)
قول الله عز وجل في سورة (التحريم/ 66 مصحف/ 107 نزول) :
إنّ جملة: {لَاّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ} تفيدُ بمنطوقها نفي المعصية عنهم وتفيد بمفهومها إثبات الطاعة لهم.
وإنَّ جملة: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} تُفيدُ بمنطوقها إثبات الطاعة لهم، وَتفيد بمفهومها نفْيَ المعصية عنهم.
(2)
قول الله عز وجل في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول) :
جاء في هذه الآية الأمْرُ بالاسْتئذان في ثلاثة أوقات، وهذا يفيد بمفهومه عدم وجوب الاستئذان في غيرها.
وجاء بعد ذلك رَفْعُ الجناح عن الطواف دون استئذان في غير الأوقات الثلاثة، وهذا يفيد بمفهومه وجوب الاستئذان فيها.
فكان كلٌّ من القولين مقرّراً بمنطوقه مفهوم الثاني منهما، وهو من التأكيد اللطيف.
***
الطريقة العاشرة: "الاستقصاء".
الاستقصاء: هو أن يتناول المتكلّم بيانَ معنىً، فيستقصيَهُ من كلّ جوانبه، آتياً بجميع عوارضه، ولوازمه، بعد أن يستقصي جميع أوصافه الذاتية، حتَّى لا يَتْرُكَ لمَنْ يتناولُهُ بعْدَهُ مقالاً إضافيّاً فيه.
ومن الأمثلة الرائعة للاستقصاء قول الله عز وجل في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) للتحذير من إبطال أثَر الصّدقاتِ بالمنّ والأذى:
نلاحظ في هذه الآية اسْتِقْصَاءَ عجيباً.
إنّ الاقتصار على لفظ "جنَّة" كان كافياً، لكن لم يأت في الآية الاقتصار عليه، بل جاء في تفسير الجنة أنّها من نخيل وأعناب أشرف الأشجار عند العرب، فكشف الله بهذا البيان أنّ المصاب بإحْرَاق الجنة أشدّ وأعظم من كونها مجرّد جنة عاديّة.
وبعده زاد قوله تعالى: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} فصوَّر بهذه الزيادة مبلغ عناية صاحبها بها.
وأضاف بعد ذلك وصفها بقوله: {لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات} فأتَى بكلّ ما يكونُ في الجنان، لإِظهار شدّة حزن صاحبها عليها إذا نزل به إعصار فأحرقها.
وقال بعد ذلك في وصف صاحبها: {وَأَصَابَهُ الكبر} والإِنسان حينما تكبر سنّة يشتد حرصه على بستانه، وينقطع أَمَلُهُ مِن إِعَادَةِ تشجيره والعناية به.
وأتبع ذلك بقوله: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ} فأبان بهذا مبْلَغَ لَهْفَتِه، على جنته، من أجْلِ ذُرّيّتِهِ الضعفاء.
بعد هذا الاستقصاء في وصف الجنّة، ووصف حال صاحبها، ومبلغ تعلّقه بها وحرصه عليها، قال تعالى:
{فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ} والإِعصارُ أشدُّ الظواهر الكونية المهلكة للجنّات، ولم يقتصر على ذكر الإِعصار بل أضاف قولَهُ:{فِيهِ نَارٌ} وهو أعْنَفُ أنواع الأعاصير المهلكة.
وقدّم أخيراً فِقرةَ الختام التي أتمّ بها أحداث المأساة فقال تعالى: {فاحترقت} .
وكان هذا الختام آخر استقصاء صارت به الجنّة البديعة المثمرة رماداً.
كذلك حالُ من يُتْبِعُ صدَقته بالمنّ والأذى.
ما أروع هذا التمثيل وأتقَنَهُ، وأَكْثَرَه تَتبُّعاً واستقصاءً للجزئيات حتى لا مزيد عليها.
أقول: حسْبُ الاستقصاء هذا الشاهد القرآني، لأننا لا نكاد نجد في غير القرآن استقصاءً بديعاً إلَاّ في الْقِصَص المطوّلة.
***
الطريقة الحادية عشرة: "التعليل".
التعليل: زيادةٌ في الكلام عن أصل المعنى الذي يُقْصَدُ التعبير عنه لبيان علّته، أو سببه، أو الدليل على صحته أو نفعه وفائدته.
وفائدة التعليل الشاملِ لبيان العلّة أو السب أو الدليل:
(1)
الإِقناع بصحة الكلام، أو بفائدة العمل بمقتضاه.
(2)
توليد الدافع الذاتي للعمل بمقتضاه.
(3)
زيادة تقرير مضمون الكلام بذكر علته، لأنّ النفوس أكثر استعداداً لتقبل الأخبار أو التكاليف المعلّلة المقرونة ببيان أسبابها وأدلتها، ممّا لو قُدّمت لها الأخبار أو التكاليف مجرّدة من ذلك.
فيكون تطويل الكلام بالتعليل وبيان الدليل إطناباً حسناً مفيداً، ذا أثرٍ في نفوس المتلقّين له.
وغالب ما جاء في القرآن من تعليل قد جاء بمثابة جواب سؤالٍ مقدّر ذهناً غير مذكور في اللّفظ.
أمثلة:
(1)
قول الله عز وجل في سورة (الأنفال/ 8 مصحف/ 88 نزول) :
{ياأيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} [الآية: 45] .
إنّ عبَارَةَ: {لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} هي بمعنى لِتُفْلِحُوا على سبيل الرّجاء.
لقد تَمَّ المطلوب بعبارة {فاثبتوا واذكروا الله كَثِيراً} لَكِنْ جاء التعليل بعدها لتوليد الدافع الذاتي للعمل بهذا المطلوب.
فزيادة التعليل قد كانت إطناباً نافعاً.
(2)
قول الله عز وجل في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول) :
في هذا النصّ اقْتَرن النهي عن الخمر والميسر والأنصاب والأَزْلَامِ ببيان العلّة أو السبب أو الحكمة، لتوليد الدافع الذّاتي لاجتنابها.
فهي:
* رِجْسٌ من عَمَلِ الشيطان.
* واجْتِنَابُها سَبَبٌ يُرْجَى معه الفلاح.
* والشيطان يريد أن يوقع العداوة والبغضاء بين الناس في تعاطيهم الخمرَ والْمَيْسِر، ويُريد أنْ يَصُدَّهم بهما عن ذكر اللَّهِ وعن الصلاة.
هذه الأسباب كافية لأن تجعل ذا اللّب يُحَقِّقُ المطلوب اجتنابُه في النص.
فزيادة التعليل في النصّ قد كانت إطناباً نافعاً.
(3)
قول الله عز وجل في سورة (التين/ 95 مصحف/ 28 نزول) خطاباً للمكذّب بالدّينونة والجزاء:
{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بالدين * أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} [الآيات: 7 - 8] .
جاءت آية {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} دَلِيلاً على الدينونة والجزاء، لأنّ أحكم الحاكمين لا يُمْكِنُ عقلاً أن يُسَوِّيَ بين المسلمين والمجرمين.
(4)
قول الله عز وجل في سورة (العنكبوت/ 29 مصحف/ 85 نزول) :
{وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ الله لَغَنِيٌّ عَنِ العالمين} [الآية: 6] .
أي: ومَنْ جَاهَدَ ابْتِغَاءَ مَرْضاةِ اللَّهِ فإنَّهُ إِنَّمَا يُجَاهِدُ ليُحَقِّقَ لنفسه عند الله ثواباً عظيماً، وهو بجهادِهِ لا يُضِيف إلى مُلْكِ اللَّهِ شيئاً.
هنا يَرِدُ سؤال مُقَدّر: ما السبب في قَصْرِ نفع جهاده على نفسه؟
فجاء الجواب التعليلي بعبارة: {إِنَّ الله لَغَنِيٌّ عَنِ العالمين} ، أي: إنّ الله
قادرٌ على نُصْرة دينه دون مجاهد المجاهدين المؤمنين، لكن ابتلاءهم في الحياة الدنيا اقتضى تكليفهم بالجهاد لنصرة دينه، وتركَ الأمر للأسباب التي وضعها للناس.
***
الطريقة الثانية عشرة: "التفسير".
التفسير: أنْ يُؤْتَى بكلامٍ لَاحقٍ يُفَسَّرُ به كلامٌ سابق لإِزالة ما فيه من لَبْسٍ أو خفاءٍ.
ولمّا كان التفسير زيادة في الكلام مفيدة كان إطناباً حسناً كلَّما اقتضاه الحال، ومن التفسير أن يؤتى بالمرادف الأظهر بعد المرادف الأخفى.
أمثلة
(1)
قول الله عز وجل في سورة (المعارج/ 70 مصحف/ 79 نزول) :
{إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} [الآيات: 19 - 21] .
جاءت الآيتان "20 -21" من هذا النَّصّ مُفَسِّرَتَيْنِ لِمَعْنَى كلمة "هَلُوع" كما قال أبو العالية وغيره من قدماء أهل التفسير.
فالْهَلُوع: هو الذي إذا مسَّهُ الشَّرُّ كان جَزُوعاً، وإذا مَسَّهُ الْخَيْرُ كان منوعاً.
وهذا التفسير لم يضف إلى المعنى الذي دلّت عليه كلمة "هلوع" شيئاً، لكنَّه كان مفيداً إذْ شرح معنى كلمة هلوع، فهو إطناب حسن.
(2)
قول الله عز وجل في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) خطاباً لبني إسرائيل:
يَسُومُونَكُم: أي: يُحَمِّلُونَكُمْ وَيُكَلِّفُونَكُمْ.
سُوءَ العذاب: أي: أشَدَّ العذاب وأكثره مشقةً وظُلْماً.
نلاحظ في هذه الآية أنّ قَوْلَ الله تعالى فيها: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} قد جاء تفسيراً لبعض مضمون قوله: {يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب} فهو إطناب مفيد حَسَن.
ومعنى: {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} يبقون نساءكم على قيد الحياة للتسخير والخدمة.
(3)
قول الله عز وجل في سورة (الممتحنة/ 60 مصحف/ 91 نزول) :
{ياأيها الذين آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الحق
…
} [الآية: 1] .
إنّ عِبَارَةَ: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة} بيانٌ لبعض عناصر اتخاذ أعداء الله وأعداء المؤمنين أولياء، فهو من التفسير الجزئيِّ للموالَاة، وهو يدلُّ على النظير قياساً، وعلى ما هو أشدّ منه من باب أولى.
فهذا التفسير من الإِطناب المفيد الحسن.
(4)
قول الله عز وجل في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) :
{ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين * الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا
…
} [الآيات: 50 - 51] .
إنّ عبارة: {الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} بيانٌ لبعض عناصر الكُفْر وَأسْبَابِه، فَهُوَ من التفسير الجزئي لكلمة {الْكَافِرِين} .
فهذا التفسير من الإِطناب المفيد الْحَسَن.
(5)
قول الله عز وجل في سورة (الصمد) :
{قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ * الله الصمد * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الآيات: 1 - 3] .
قال "محمد بن كعب القرظي": {لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ} تفسيرٌ للصَّمد.
أقول: هو من التفسير الجزئيّ لا من التفسير المطابق.
***
الطريقة الثالثة عشرة: "وضع الاسم الظاهر موضع المضمر".
سبق في الفصل السادس "الخروج عن مقتضى الظاهر" من الباب الثاني "أحوال عناصر الجملة" جوانب مهمّة من وضع الاسم الظاهر موضع الضمير، وما يأتي في بحث "الإِطناب" هنا يُعْتَبرُ مكملاً لما جاء في بحث الخروج عن مقتضى الظاهر، وجاء التكرار لاختلاف الاعتبارات فالبحثان متكاملان.
أصل وضع الضمائر في اللّغة إنّما كان للاختصار، والتقليل من طول الكلام الذي يحصل بذكر الأسماء الظاهرة ابتداءً أو تكراراً.
فيحصل الاكتفاء بأن يكنَّى بالضمائر عن الأسماء الظاهرة، وبها يَقْصُر طول الكلام، وبهذا صار للضمائر في الكلام مواضع يعتبر استعمالها فيها هو الأصل.
ولكن قد تدعو دَوَاعي بلاغيّة لوضع الأسماء الظاهرة في مواضع استعمال الضمائر، وتَحَمُّلِ طُولِ الكلام بهذِه الأسماء الظاهرة، وبهذا دخل استعمال الاسم الظاهر موضع المضمر ضمن طرائق الإِطناب.
ونظر البلاغيّون في الدواعي البلاغيّة لهذا الاستعمال وفوائده فظهرت لهم الدواعي التالية المتضمّنة فوائده:
(1)
إرادة زيادة التقرير والتمكين.
(2)
قصد التعظيم والإِجلال، أو قصد تعظيم الشيء وبيان ارتفاع منزلته.
(3)
قصد الإِهانة والتحقير.
(4)
إرادة إزالة اللّبس إذا كان استعمال الضمير يُفضي إليه.
(5)
تربية المهابة وإدْخال الرّوع على ضمير المتلقي بذكر الاسم الظاهر إذا كان ممّا يقتضي ذلك.
(6)
إرادة تقوية الدافع إلى تنفيذ الأمر وتحقيق الطاعة.
(7)
إرادة التلذّذ بذكر الاسم الظاهر، فالعشّاق يتلذّذون بذكر أسماء من يُحِبون، أو ما يحبّون.
(8)
إرادة التوصل إلى الوصف باستعمال الاسم الظاهر.
(9)
إرادة التنبيه على علة الحكم إذا كان الاسم الظاهر يدلُّ عليها أو يشير إليها.
(10)
إرادة العموم إذا كان الاسم الظاهر يفيده، أو يُذْكَرُ ليُقْرَنَ بما يفيده.
(11)
إرادة الخصوص إذا كان الاسم الظاهر يفيده، أو يُذْكَرُ ليقرن بما يُفيدُه.
(12)
قصد الإِشارة إلى استقلال الجملة، وعدمِ دخولها في حكم سابقتها إذا كان استعمالُ الضمير يفيدُه.
(13)
إرادة مراعاة صورة جمالية في اللّفظ، أو محسّن من محسنات البديع كالجناس والتَّرصيع، إذا كان ذكر الاسم الظاهر يفيد ذلك.
إلى غير ذلك من دَوَاعي مقبولة لدى البلغاء الأذكياء.
أمثلة:
أوّلاً: في النصوص التالية وُضِعَ الاسم الظاهر موضع الضمير لزيادة التقدير والتمكين:
{قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ * الله الصمد} [الإخلاص: 1 - 2] .
"الله" في الآية الثانية.
* {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ} [الإِسراء: 105] .
"بالحقّ" الثانية.
* {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولاكن أَكْثَرَ الناس لَا يَشْكُرُونَ} [غافر: 61] .
"النّاس" الثانية.
* {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 78] .
"الكتاب" الثانية.
* {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله
…
} [آل عمران: 78] .
"الله" الثانية.
***
ثانياً: في النصوص التالية وُضِعَ الاسم الظاهر موضع الضمير لقصد التعظيم والإِجلال، وقَصْد تعظيم الشيء وبيان ارتفاع منزلته:
* {واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] .
* {أولائك حِزْبُ الله أَلَا إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} [المجادلة: 22] .
* {وَقُرْآنَ الفجر إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً} [الإِسراء: 78] .
* {وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ} [الأعراف: 26] .
وضع لفظ "ذلك" بدل الضمير.
* {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ
…
} [الإِنسان: 1] .
كان من الممكن أن يقال: إنّ خلقناه.
ثالثاً: في النصوص التالية وُضِع الاسم الظاهر موضع الضمير لقصد الإِهانة والتحقير:
* {أولائك حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19] .
* {إِنَّ الشيطان كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} [الإِسراء: 53] .
* {فقاتلوا أَوْلِيَاءَ الشيطان إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً} [النساء: 76] .
رابعاً: في النصوص التالية وُضِع الاسم الظاهر موضع الضمير، لإِرادة إزالة اللَّبْسِ إذ استعمال الضمير يفضي إليه:
* {الظآنين بالله ظَنَّ السوء عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء} [الفتح: 6] .
فلو قال: عليهم دائرته لأوهم أنّ الضمير عائد على الله عز وجل.
* {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ استخرجها مِن وِعَآءِ أَخِيهِ} [يوسف: 76] .
فلو قال: ثم استخرجها من وعائه لأوهم أنَّ أخاه استخرجها من وعاء نفسه.
***
خامساً: في النّصوص التالية وُضع الاسم الظاهر موضع الضمير لإرادة تربية المهابة وإدخال الرّوع على ضمير المتلقّي:
* {ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت: 20] .
* {ياأيها الذين آمَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ واتقوا الله إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1] .
* {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ * إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} [النحل: 89 - 99] .
***
سادساً: في النصوص التالية وُضِع الاسم الظاهر موضع الضمير لإرادة تقوية الدافع إلى تنفيذ الأمر وتحقيق الطاعة:
* {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين} [آل عمران: 159] .
* {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا إِنَّ الله لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38] .
* {وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} [آل عمران: 19] .
***
سابعاً: ومن وضع الاسم الظاهر موضع الضمير للتلذّذ بذكر الاسم قول عاشق ليلى:
بِاللَّهِ يَا ظَبَيَاتِ الْقَاعِ قُلْنَ لَنَا
…
لَيْلَايَ مِنْكُنَّ أَمْ لَيْلَى مِنَ الْبَشَرِ
وهذا الغرض هو الذي جعل أبا نواس يقول في خمريّاته:
أَلَا فَاسْقِنِي خَمْراً وَقُلْ لِي: هِيَ الْخَمْرُ
…
وَلَا تَسْقِنِي سِرّاً إِذَا أَمْكَنَ الْجَهْرُ
ثامناً: ومن وضع الاسم الظاهر موضع الضمير بغية التوصّل إلى وصفه ما جاء في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) خطاباً من الله لرسوله:
إذا اعتبرنا أنَّ عِبَارةَ: {فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ النبي الأمي
…
} من جملة ما أُمَرَ اللَّهُ به رسوله أن يقوله للناس، فقد كان الأصل أن يقول: فآمِنُوا باللَّهِ وَبي
…
لكنّ قصد التوصّل إلى وصف الرسول حسَّنَ وضع الاسم الظاهر موضع الضمير.
ويحتمل أن يكون الكلام قد انتهى عند لفظه: {يُمِيت} وأنْ يكونَ الكلام
بَدْءاً من: {فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ
…
} خطاباً مباشراً من اللَّهِ للناس، وهذا هو الأرجح فيما أرى.
***
تاسعاً: في النصوص التالية وُضِع الاسم الظاهر موضع الضمير للتنبيه على علة الحكم:
لم يأت النصّ: فأنزل عليهم، إنما جاء:{فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ} للتَّنْبِيه على أنّ الحكم عليهم بإنْزَالِ الرّجز "= العذاب" كان بسبب ظُلْمِهِمْ الذي ظهرت آثاره بأعمال الفسق الذي كانوا يفسقونه.
* {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظالمون} [الأنعام: 21] .
كان الأصل أن تأتي العبارة بالضمير: إنَّهُمْ لَا يُفْلِحُون، لكنْ جاء الاسم الظاهر {الظالمون} للتنبيه على أن فَلاحهم إنما هو بسبب ظلمهم.
***
عاشراً: ومن وضع الاسم الظاهر موضع الضمير لإِرادة العموم أو إرادة الخصوص ما يلي:
* {وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء} [يوسف: 53]، لم يقل:"إنَّها لأمّارَةٌ بالسُّوء" لأنّه أراد تعميم هذه الصفة على كلّ النُفُوس.
* {أولائك هُمُ الكافرون حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} [النساء: 151]، لم يقل:"واعتدنا لهم" لأنه أراد تعميم استحقاق هذا العذاب على كلّ الكافرين.
* {وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ
…
} [الأحزاب: 50] لم يقل: "إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لَكَ" كما في مقتضى السّياق لئلاّ يُتوهَّمَ قياسُ غيره عليه، فجاء الاسم الظاهر "للنّبِيّ" للتنبيه على أنَّ الحكم خاصٌّ بالنبيّ لكونه نَبِيّاً.
***
أحد عشر: ومن وضع الاسم الظاهر موضع الضمير لقصد الإِشارة إلى استقلال الجملة مُعْظَمُ خواتم الآياتِ التي تنتهي بنحو:
وَبهده الاستقلاليّة تكون الجملة بمثابة قضيّة كليّة لها صفة العموم.
***
اثنا عشر: ومن وضع الاسم الظاهر موضع الضمير لمراعاة صُوَر جماليّة في اللّفظ أو مُحَسِّنٍ من مُحَسِّنَاتِ البديع، قول الله عز وجل:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس * مَلِكِ الناس * إلاه الناس * مِن شَرِّ الوسواس الخناس} [الناس: 1 - 4] .
{عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلَاّ إِنَّ الإنسان ليطغى} [العلق: 5 - 6] .
ملاحظات:
قالوا:
(1)
إعادة الاسم الظاهر بمعناه أحْسَنُ من إعادته بلفظه.
أقول: ليس هذا عامّاً، بل ربّما كانت إعادة بلفظه هي الأحْسَن، كما وجدنا هذا في كثير من نصوص التنزيل.
(2)
إعادة الظاهر في جملة أُخْرى أحْسَنُ منه في الجملة الواحدة.
(3)
إعادة الظاهر بعد طول الفاصل أحسَنُ من الإِضمار، لئلا يشتغل الذهن بالبحث عمّا يعود عليه الضمير.
***
الطريقة الرابعَةَ عشْرة: "التأكيد".
الأصل في الكلام لتأدية المعنى المراد أنْ لا تزيد كلماتهُ عمَّا يُؤَدّي أصل المعنى، فإذا زادت عمّا يؤدّي أصل المعنى المقصود بالبيان لغرض يُقْصَدُ لدى البلغاء كان ذلك إطناباً مفيداً، كلّما دعت الحاجة إليه، كأن تكون الزيادة معه يقتضيها حال المتلقّي للكلام، أو حال المعبّر عما في نفسه، كعاشق، أو فرِحٍ أو حزين.
ومن الزيادات في الكلام عن أصل المعنى المقصود بالبيان إضافةُ المؤكّداتِ إليه مراعاةً لحال من يُوَجِّه له.
وقد سبق في الفصل الثالث من الباب الأول "مدخل إلى علم المعاني" بيان التأكيد وعدمه في الجملة الخبرية، وبيان مؤكّدات الإِسناد الخبري.
ونبحث هنا التأكيد من جهة كون الألفاظ الدالة عليه زوائد تجعل الكلام الذي أضيفت إليه يندرج في قسم الإِطناب.
والتأكيد هنا يشْمَلُ تأكيد المفرد، وتأكيد الجملتين الخبريّة والإِنشائية.
وأُبيّنُ هنا أنّ من يُوجَّهُ له الكلام، إذا كانت حاله لا تقتضي تأكيداً، كانت إضافة المؤكّدات إلى الكلام الموجّه له إسهاباً وتطويلاً لا داعِيَ له، وكان الكلام الموجّه له غير بليغ، إذ الكلام البليغ هو المطابق لمقتضى الحال.
ومن المستحسن هنا أن أُوجز عرْضَ المؤكّدات، والدواعِيَ البلاغيّة للتأكيد وأحيل مع هذا على ما سبق في الباب الأوّل من الكتاب.
إجمال المؤكّدات:
نظر البلاغيّون في المؤكّدات عند علماء العربيّة فقسّموها إلى الأقسام السّتَّة التالية:
القسم الأول: الزوائد من الحروف والكلمات التي يؤتَى بها للتوكيد.
(1)
منها "أحرف الصلة" وهي حروف تُزاد للتأكيد، وهي:"إِنْ - أَنْ - مَا - مِنْ - الباء" مثل: "مَا إنْ فعلْتُ مَا تكره - لمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِير - أكْرَمْتُكَ مِنْ غَيْرِ مَا مَعْرِفَة - مَا جَاءَنَا مِنْ أَحَدٍ - مَا أَنَا بمُهمِلٍ - أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ".
قالوا: وتُزَاد "مِنْ" في النفي خاصَّة، لتأكيده وتعميمه، مثل:{مَا جَاءَنَا من بَشِيرٍ ولَا نَذِير} . [المائدة: 19]
ونظير النفي الاستفهام، مثل:{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غير الله} [فاطر: 3]- {وتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيد} [ق: 30] .
وتزاد الباء لتأكيد النفي، وتزاد أيضاً لتأكيد الإِيجاب، مثل:
* {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] : أي: أليس اللَّهُ كافياً عبْدَهُ.
* قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "بِحَسْبِ أصْحَابي الْقَتْل" أي: يكفيهم.
* {وَكَفَى باللَّهِ نصيراً} [النساء: 45] أي: وكَفى اللَّهُ نَصِيراً.
وتُزاد "مَا" بعد "إذا" مثل: {وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} [التوبة: 124] أي: وإِذَا أنزلت سورة
…
وتزادُ كَافَةً عَنْ عمل الرفع، وهي المتصلة بـ "قَلَّ" و"طَالَ" و"كَثُر" فتقولُ: قلَّمَا، وَطَالَ ما، وكثُر مَا، وتفيد التأكيد، وما هنا كفّت الفعل عن طلب الفاعل. وتُزَادُ كَافّةً عن عمل النصب والرفع، وهي المتصلة بـ "إِنَّ" وأخواتها "إنّما - أنَّما - ليتما
…
". وتزاد كافةً عن عمل الجرّ، وهي التي تتصل بأحرف جرّ، أو بظروف، فالأحرف التي تتصل بها هي: "رُبّ - الكاف - الباء - مِنْ"
فيقال: "رُبّما - كَمَا - بِمَا - مِمّا" وتتصل بظرفين: هما: "بعد - بين" فيقال: "بَعْدَما - بينما". وقد تُزاد بين المضاف والمضاف إليه، مثل:"من غيرِ ما مَعْرِفَة".
وأكثر ما تزاد "إِنْ" بعد "ما" النافية، مثل:"مَا إِنْ فَعَلْتُ هذا" وقد تُزَادُ بَعْدَ "مَا" الموصولة الاسمية، وبعد "ما" التي بمعنى حين، مثل قول جابر بنِ رَأْلَان:
وَرَجِّ الْفَتَى لِلْخَيْرِ مَا إِنْ رَأَيْتَهُ
…
عَلَى السِّنِّ خَيْراً لَا يَزَالُ يَزِيدُ
وقد تُزادُ بعد "ألَا" الاستفتاحيّة.
وَتُزَادُ "أَنْ" بعد "لمَّا" الحينيّة، مثل:{فَلَمَّا أَنْ جَاءَ البشير} [يوسف: 96] .
وقد تزاد بين الكاف الجارّة ومجرورها، مثل قول كَعْب بن أرقم اليشكري:
ويَوْماً تُوافِينَا بِوَجْهٍ مُقَسَّمٍ
…
كَأنْ ظَبْيَةٍ تَعْطُو إِلَى وَارِقِ السَّلَم
وقد تزاد بين فعل الْقَسَمِ وحرف "لو" مثل: أُقْسِمُ أَنْ لَوْ جَاءنَي البشير لأُكَافِئنَّه.
وَتُزَادُ "مِنْ" فتُفِيد التوكيد، أو التنصيص على العموم، أو تأكيد التنصيص على العموم، ولا تكون زائدة إلَاّ بثلاثة شروط:
الأوّل: أن يسبقَها نفيٌ، أو نَهْيٌ، أو استفهامٌ بحرف "هل".
الثاني: أن يكون مجرورها نكرة.
الثالث: أن يكون مجرورها إمَّا فاعلاً، مثل {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ} [الأنبياء: 2] .
وإمّا مفعولاً، مثل:{هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} [مريم: 98] .
وَإمّا مُبْتدأً، مثل:{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله} [فاطر: 3] .
(2)
وقد يُزادُ للتأكيد فعل "كان" وفعل "أصبح" قالوا: ومن زيادة فعل "كان" ما جاء في قول الله عز وجل: {قَالُوا: كَيْفَ نُكلِّمُ مَنْ كانَ في الْمَهْدِ صَبِيّاً} [مريم: 29]
أي: كيف تكلّم صبيّاً في المهد، فجاء تأكيد هذا الوصف بِزيادة فعل "كان".
(3)
وقد يزاد للتأكيد لفظ "أَمَا" بمعنى "حقّاً" مثل: "أَمَا إِنَّه رَجُلٌ عاقل".
(4)
ويزادُ للتأكيد حرفا الاستقبال، وهما:"السين - وسوف" إذْ هما لتأكيد معنى الاستقبال في الفعل المضارع.
(5)
ومن المؤكّدات الأحرف المشبّهة بالفعل: "إِنَّ - أَنَّ - كَأَنَّ - لَكِنَّ - لَيْتَ - لَعَلَّ".
* فحرفا "إِنَّ - وأَنَّ" لتأكيد الجملة الخبريّة.
* وحرف "كَأَنَّ" للتشبيه مع التأكيد.
* وحرف "لَكِنَّ" للاستدراك مع التأكيد.
* وحرف "لَيْتَ" للتّمَنِّي مع التأكيد.
* وحرف "لَعَلَّ" للترجّي مع التأكيد.
(6)
ومن المؤكدات: "لام الابتداء" وهي اللام التي تفيد توكيد مضمون الجملة، وتخليص المضارع للحال، وتدخل على صدر الجملة الاسميّة، والفعل المضارع، والفعل الذي لا يتصرّف.
ومن لام الابتداء اللاّم المزحلقة عن صدر الجملة الاسميّة فتدخل على خبر "إنّ" أو معمول خبرها، أو على اسم "إنّ" إذا كان متأخّراً عن الخبر، وعلى ضمير الفصل.
وتأتي اللام زائدة للتوكيد كقول رؤبة بن العجاج:
أُمُّ الْحُلَيْسِ لَعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ
…
تَرْضَى مِنَ اللَّحْمِ بِعَظْمِ الرَّقَبَهْ
(7)
ومن المؤكّدات "ضمير الشأن" و"ضمير الفصل".
(8)
ومن المؤكّدات حرف "قد" و"أمَّا" الشرطية للدلالة على الشرط مع التأكيد.
(9)
ومن المؤكّدات "نونا التأكيد الثقيلة والخفيفة".
(10)
ومن المؤكّدات "لَنْ" لتأكيد النفي في المستقبل و"لَمَّا" لتأكيد النفي في الماضي.
(11)
قالوا: وفي "ألا" و"أما" الاستفتاحيتان معنى التأكيد.
وفي "هاء" التنبيهِ التنبيهُ مع التأكيد، وقد تأتي "يا" للتنبيه مع التأكيد، وصورتها صورة "يا" التي ينادى بها.
(12)
وما يُقْسَمُ به من حروف أو أفعال أو أسماء هي مؤكدات تضاف في الكلام للتأكيد، وكذلك اللام الواقعة في جواب القسم.
(13)
ومن المؤكدات "لا" النافية للجنس.
القسم الثاني: "التوكيد اللفظي":
ويكون بإعادة المؤكَّدِ بلفظه أو بمرادفه، سواءٌ أكان اسماً ظاهراً، أمْ ضميراً، أم فعلاً، أم حرفاً، أم جملةً.
وفائدة التوكيد اللّفظي تقرير المؤكَّد لَدَى من يُوجَّه له الكلام، وتمكينه في نفسه، وإزالةُ ما لديه من شُبَهٍ حوله، مثل:{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [المؤمنون: 36] ومن التأكيد بالمرادف قول الله عز وجل: {أمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق: 17] .
القسم الثالث: "التوكيد المعنوي":
ويكون بذكر ألفاظ "النفس - أو العين - أو كُلّ - أو جميع - أو عامّة - أو كِلَا - أو كلتا".
ويشترط للتأكيد بها أن تضاف إلى ضمير يناسب المؤكَّدَ، مثل:"جاء خالد نفسه - حضر رئيسا البلدين أنفسهما - اجتمعت الضَّرَّتَان كلتاهما - فسجَدَ الملائكة كُلُّهُم أَجْمَعُون".
ويقوَّى التوكيد المعنوي بالكلمات المؤكّدة التالية:
(1)
"أجمع" يؤتَى بها بعد كلمة "كلّه" مثل: "جاء القطيع كلُّه أجمع".
(2)
"جَمْعَاء" يؤتَى بها بعد كلمة "كلّها" مثل: "حضرت القبيلة كلُّها جمعاء".
(3)
"أجمعون" يؤتى بها بعد كلمة "كلّهم" مثل: "جاهد القوم كلُّهم أَجْمَعُون".
(4)
"جُمَع" يؤتى بها بعد كلمة "كلُّهُن" مثل: "نجح طالبات المدرسة كُلُّهُنَّ جُمَع".
وقد يؤكد بهذه الكلمات دون أن يتقدَّمَهُنَّ لفظ "كُلّ".
القسم الرابع: "تأكيد الفعل بمصدره".
ويكون بما يُسَمَّى "المفعول المطلق" وهو عوضٌ عن تكرار الفعل مرتين.
وفائدته رفع توهم المجاز في الفعل، ومنه قول الله عز وجل:{وَكلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تكليماً} [النساء: 164] أي تكليماً حقيقيّاً، لا تكليماً مجازيّاً.
القسم الخامس: "الحال المؤكّدة".
وهي الحال التي يُسْتفاد معناها بدونها، وهي ثلاثة أنواع:
النوع الأول: الحال المؤكّدة لعاملها، وتكون:
(1)
من لفظ العامل، مثل:{وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} [النساء: 79] .
(2)
أو من معنى العامل، مثل:"مشَى الرَّجُل سَيْراً".
النوع الثاني: الحال المؤكّدة لصاحبها، مثل قول الله عز وجل:{وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً} [يونس: 99] .
النوع الثالث: الحال المؤكّدة لمضمون جملة، مثل ما جاء في قول الله تعالى:{هاذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً} . [الأعراف: 73] .
والعامل في هذه الحال المؤكدة لمضمون جملة محذوفٌ مقدّر ذهناً بما يلائم الكلام في الجملة.
القسم السادس: صيغ المبالغة التي يؤتى بها للتأكيد، مثل:"غَفّار - شكور - رحيم - جبّار - قهّار" إلى غير ذلك من صيغ المبالغة القياسية والسماعية.
***
دواعي التأكيد:
للتأكيد دواعي كثيرة، منها ما يلي:
(1)
حالة الإِنكار لدى من يُوجّه له الكلام، وتزداد المؤكِّدات بحسب قُوَّة الإِنكار.
(2)
حالة الشّكّ والتردّد لدى من يُوجّه له الكلام، وتزداد المؤكدات بحسب قوة الشك والتردّد.
(3)
تنزيل غير المنكر وغير الشاك منزلة أحدهما، إذا ظهرت عليه علامات الإِنكار أو الشك، أو لم يعمل بمقتضى علمه بحسب ما لديه من ذلك.
(4)
دفع توهم المجاز.
(5)
تقرير الكلام وتمكينه وتثبيته، مراعاة لمضمون الكلام الذي تتطلب طبيعته تقريراً وتمكيناً، أو مراعاة لحال من يوجّه له الكلام.
إلى غير ذلك من دواعي بلاغية، كالترغيب، والترهيب، والإِطماع.
وقد يترك التأكيد مع إنكار من يوجّه له الكلام لداعٍ بلاغيّ آخر أقوى، كأن يكون الكلام مقترناً بأدلّة قوية ظاهرة لو تأمّلها لرجع عن إنكاره.
أمثلة:
المثال الأول:
في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول) ضرب الله مثلاً قصة أصحاب القرية التي جاءها المرسلون (ذكروا أنها أنطاكية) قال الله عز وجل:
دَلَّ هذَا عَلَى أنَّ الْمُرْسَلَيْنِ الاثنْين قالَا لأصْحَاب القرية: نَحْنُ رسُولَانِ إليكم، فكذّبُوهما.
فأرْسَلَ اللَّهُ إلَيْهِمْ مُرْسَلاً ثَالِثاً، قال الله تعالى:
{فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فقالوا إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ}
هنا نلاحظ أنّ إنكارَهُمْ ناسَبَهُ أَنْ يُؤَكَّدَ لَهُمُ الكلام، فاقترنت عبارتهم:{إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ} بمؤكِّدَين: الجملة الاسمية، وحرف "إنَّ" وقد نلاحظ في تقديم المعمول {إليكم} مع التخصيص أو الاهتمام معنى التأكيد.
فكان موقف أصحاب القرية ما أبانه الله بقوله:
فاقتضى هذا الإِصرار على الإِنكار والتكذيب، أن يزيد الرُّسُل بيانَهُمْ تأكيداً، قال الله عز وجل:
{قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَآ إِلَاّ البلاغ المبين} [يس: 16 - 17] .
فأضَافُوا إلى المؤكّدات السابقات تَأْكيداً بالْقَسَمِ: {رَبُّنَا يَعْلَمُ} وباللاّم المزحلقة، الّتي هي لام الابتداء، زُحْلِقَتْ إلى خبرَ "إنّ" فهي الداخلة على "مُرْسَلُون".
فتكاثرتْ نِسْبَةُ المؤكّدات بحسب الإِمعان في التكذيب والإِنكار.
المثال الثاني:
في عرض لقطات من قصة نوح عليه السلام وقومه في سورة (المؤمنون/ 23 مصحف/ 74 نزول) أبان الله عز وجل أنّ نوحاً سأل ربَّه أن ينْصُرَهُ فقال: {رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ}
فأوحى الله إليه أن يصْنَعَ الفلْكَ، حتَّى إذا أتَّمَهَا وَجَاءَ أَمْرُ اللَّهِ فَإنّ عليه أولاً: أنْ يَسْلُكَ فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَجَميعَ أَهْلِهِ باسْتِثْنَاءِ مَنْ سَبَقَ عَلَيْه قَوْلُ اللَّهِ بأنَّهُ من المهلكين بسبب كفره، وإنّ عليه ثانياً أنْ لا يسأَلَ رَبَّهُ في رفْعِ عَذَاب الْهَلَاكِ عَنْ قَوْمِهِ.
ولمّا كان قَلْبُ نوح الحليم الرحيم من طبيعته أن يتحرّكَ بعاطفة نَحْو قومه، فلَرُبّما سألَ رَبَّهُ أن يرفع العذاب عنهم أو يؤخره، كانت حالته تستدعي تأكيد القضاء الرّبّانيّ بإغراقهم، حتَّى لَا يكون لدى نوح أمَلٌ بخلاف ذلك، فقال الله تعالى له:{وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} [المؤمنون: 27]
فأكَّدَ له قرار إغراقهم بحرف التأكيد "إنَّ" مراعاةً لحالته القلبيَّة الحليمة الرّحيمة.
المثال الثالث:
* وفي إطماع الله عبادَه أكَّدَ لهم أنّه تَوَّابٌ رَحِيمٌ، فقال تعالى في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
فأكَّدَ بِصِيغَتَيْنِ مِنْ صيغ المبالغة وبالجملة الاسميّة.
* وفي معرض بيان توبة اللَّهِ على آدم عليه السلام، وإطماعاً لكلّ التائبين من بعده قال الله عز وجل في سورة (البقرة) أيضاً:
{فتلقىءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم}
فأكَّدَ بالمؤكدات التالية: "إِنَّ - والجملة الاسميّة - وضمير الفصل - وصيغتي المبالغة".
***
الطريقة الخامسة عشرة: "زيادة بعض التوابع في الكلام".
قد تزادُ بعض التوابع في الكلام دون أن يكون وجودها مؤدّياً شيئاً من المعاني الأصليّة المقصودة بالبيان، لكنَّ زيادتها في الكلام مفيدة فائدة تُقْصَدُ لدى البلغاء، فتكون هذه الزيادة من الإِطناب البليغ، إذا دعت الحاجةُ إليها.
أمّا إذا كان المعنى المقصود بالبيان لا يتحقّق إلَاّ بذكرها في الكلام، فإنّ ذكرها لا يكون زيادةً أصلاً، ولا يكون به الكلام داخلاً تحت عنوان الإِطناب.
وظاهر أَنَّ الزيادة إذا لم تكن ذات فائدةٍ تُقْصَدُ لدى البلغاء كانت إسهاباً وَتطويلاً غير بليغ.
وهذه التوابع: هي "الصفة - البدل - عطف البيان - عطف النسق".
ويلاحظ في الدواعي البلاغية لزيادة التوابع في الكلام ما يلي:
الداعي الأول: التأكيد.
الداعي الثاني: التوضيح ودفع الاشتباه.
الداعي الثالث: المدح، أو الذَّم.
الداعي الرابع: التفجّع.
الداعي الخامس: إرادة التعريض بغير المذكور.
إلى غير ذلك مما يزيد على المعاني الأصليّة المقصودة بالبيان. فالزيادة بذكر بعض التوابع لتحقيق غرضٍ بلاغي هي من الإِطناب المفيد البليغ.
أمثلة:
(1)
قول الله عز وجل في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 12 نزول) :
{إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ والربانيون والأحبار بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ
…
} [الآية: 44] .
جاء في هذه الآية وصْفُ النبيين بعبارة {الذين أَسْلَمُواْ} وهذا الوصف من الأوصَاف التي تضمَّنَهَا كوْنُهُمْ نَبِيّين، فَهُو زيادة، لكنّها زيادة مفيدة، وفائدتُها إظهارُ شَرَفِ التطبيق الإِسلاميّ وعظمِ مكانته عند الله، والتَّعْريضُ باليهود المخالفين لما كان عليه أنبياؤُهم، وبيان أنّ النّبيّ لا يُعْفَى من التطبيقات الإسلامية.
(2)
عبارة "أَعَوذُ باللَّهِ من الشَّيْطَانِ الرجيم" جاء فيها وصف الشيطان بأنه رجيم، مع أنّ ذكر كلمة الشيطان تدلُّ على أنّه مطرودٌ من رحمة الله، ومرجوم بكلّ مذمّة، لكنّ ذكر كلمة رجيم ذو فائدة، وفائدتُه تكرير التذكير بطرد اللَّهِ له، للتّنفير من تسويلاته ووساوسه، وشَحْنِ النفس بمعاداته، وعَدَمِ اتّباع خُطُواته.
(3)
قول الله عز وجل في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول) :
{وَقَالَ الله لَا تَتَّخِذُواْ إلاهين اثنين إِنَّمَا هُوَ إلاه وَاحِدٌ فَإيَّايَ فارهبون} [الآية: 51] .
جاء وصف لفظ: {إلاهين} بكلمة {اثنين} مع أنّ التثنِيَة تَدُلُّ على هذا الوصف، فما الفائدة من هذه الزيادة لتكون إطناباً بليغاً؟
أقول: إنّ كلمة {إلهين} قد تُوهِمُ أنّ صنفان أو نوعان من الآلهة، كإلهَيْن مخلوقين، أو حادثين، أو قديمَيْن أو نحو ذلك، فجاء الوصف بكلمة {اثْنَين} لإِفادة النَّهْي عَنْ مُجرّد جعل المعبود اثنين بأيّةِ صورة من الصُّور، وجاءت عبارة {إِنَّمَا هُوَ إلاه وَاحِدٌ} للدّلالة على بطلان تعدّد الآلهة اثنين فصاعداً.
(4)
قول الله عز وجل في سورة (الحاقة/ 69 مصحف/ 78 نزول) :
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة} [الآيات: 13 - 15] .
جاء في هذا النصّ وصف النفحة بأنها واحدة، ووصف الدكَّةِ بأنّها واحدة، وقد يقول قائل: أليست كلمة "نفخة" وكلمة "دكَّة" تدلُّ على كونها واحدة.
والجواب: أنّ كلمة "نفخة" وكذلك "دكَّة" ونظائرهما استعمال قد يُراد به الجنس، وهو يَصْدُقُ بالواحد من الجنس فأكثر، ودفعاً لهذا الاحتمال الذي قد يدلُّ عليه مثل هذا الاستعمال جاء الوصف مُحَدِّداً بأنَّ النفخة واحدةٌ عدداً، وبأنّ الدَّكَّةَ واحدةٌ عدداً، فهذه الزيادة من الإِطناب البليغ.
(5)
قول الله عز وجل في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) :
جاء في هذه الآية وَصْفُ كلمة [طَائِرٍ] بعبارة: [يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ] وقد يقول قائل ما فائدة هذا الوصف مع أنَّ من المعروف أنَّ الطائر يَطيرُ بجناحيه؟
والجواب: أنّ كلمة: "طَائر" عامّةٌ في كُلِّ ما يرتَفعُ إلى الأعلى، وقد يُطْلَق مجازاً على الذي يسير بسرعة على الأرض، وقد أطلق هذا اللفظ في القرآن مراداً به العمل الذي يطير عن الذي عمله بمجرّد فعله له، وهذا في قول الله تعالى في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول) :
{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} [الآيات: 13 - 14] .
فدفعاً لتوهُّم إرادة كلِّ ما يمكن إطلاق لفظ "طَائِر" عَلَيهِ حقيقة أو مجازاً، وللنصّ على أنّ المراد الحيوان الذي يطير بجناحيه، جاء في الآية الوصف بأنّه يطير بجناحيه، فهو من الإِطناب البليغ.
(6)
قول الله عز وجل في سورة (الفاتحة) :
{اهدنا الصراط المستقيم * صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضآلين} [الآيات: 6 - 7] .
إنّ عبارة {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بدَلٌ من عبارة {الصراط المستقيم} وهذا البدل هو من الإِطناب البليغ، إذْ لا يتوقَّفُ عليه أصل المعنى، لكنَّهُ ذو فائدة جليلة، وهي بيان أنَّ الصراط المستقيم هو صراط كلّ الذين أنعم الله عليهم في كُلّ الأُمَم سواءٌ أكانُوا رُسُلاً أم غير رُسُل.
(7)
قول الله عز وجل في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112) :
{جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لِّلنَّاسِ
…
} [الآية: 97] .
إنّ عبارة {البيت الحرام} هي عطف بيان، وقد زيد في الكلام للمدح وبيان حرمة الكعبة، فهو إطنابٌ مفيد.
ملاحظة:
ذكروا من الأمثلة ما جاء في قول الله عز وجل في سورة (الحج/ 22 مصحف/ 103 نزول) :
قالوا: إنّ وصف {القلوب} بعبارة: {الّتي في الصُّدُور} هو من الإِطناب.
أقول: إِنَّ الْقَلْبَ أُطْلِقَ في الْقُرْآنِ على القوّة المدركة للمعارف، وأُطْلِقَ على مواطِنِ الإِرادة والعواطف، أو مراكز التأثُّرِ بها.
فالقوة المدركة للمعارف هي في الدماغ، وهو في الرأس، أمَّا مواطن ظهور الرَّغبات، والعواطف والانفعالات، ومَرَاكزُ حركة عواطف الإِيمان والكفر، وحركة الإِرادات للأعمال، فهي في القلوب الّتي في الصدور، وهذه القلوب التي في الصدور قد يحصل لديها عَمَىً، فتخالِفُ ما أدركته الأذهان من الحق، لانطماس بصيرتها بالأهواء والشهوات، فيكون من آثار ذلك كفرٌ وحركة إراداتٍ نحو أفعال الشرّ، وهذا هو الْعَمَى الحقيقي الذي يُصَاب به أهل الكفر والضلال.
إنّ قُواهم المدْركة الذهنية قد لا تكون عمياء، لكنّ مراكز ظهور وحركةِ إرادتهم وعواطفهم ورغباتهم هي العمياء، وهذه في الصدور لا في الرؤوس.
وبهذا التحليل يكون وصف (القلوب) بعبارة: (التي في الصدور) قيداً لازماً في هذا المقام، ولا يتمُّ المعنى المقصود إلَاّ به، فهو ليس من الإِطناب أصلاً، بل الجملة تدخل تحت عنوان "المساواة".
أمّا نَفْيُ العمَى عَن الأبْصار في عبارة: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأبصار} فالمراد منه نَفْيُ الْعَمَى الدَّافعِ إلى الكفر والضلال، إذِ الكلام في الآية جَارٍ في الْمَساق، وهذا حقٌّ، والواقع المشاهد يُؤَيِّده فكثيرٌ منَ الذين كُفَّتْ أَبْصَارُهُم عن النظر هم من
أكثر الناس إيماناً وهدايةً واستقامةً على صراط الهداية، ولَمْ يؤثّر عليهم حِرْمَانُهُمْ مِنْ نعمة الْبَصَر تأثيراً سَلْبِيّاً تُجَاهَ الْحَقّ والخير والفضيلة وفعل الصالحات.
فالعَمى الحقيقيُّ الصارف عن السعادة الخالدة هو عَمَى القُلُوبِ الَّتِي في الصُّدُور.
وأمّا عَمَى الأذهان والأفكار فهو مَرَضٌ يَرْفع المسؤوليَّة عن المكلَّف، ويُدْخِلُه في صنف الْبُلْهِ أو المجانين.
***