الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البديعة المعنوية (11) : ذكر المتعدّدات مع ذكر ما يتعلّق بكلّ واحد منها
ذكر المتعدّدات مع ذكر ما يتعلّق بكل واحدٍ منها * إمّا لفّ ونشر.. * وإما تقسيم
أمّا اللّفُّ والنّشر: فهو فَنٌّ في المتعدّدات التي يتعلّق بكلّ واحِدٍ منها أَمْرٌ لاحق، فاللّف يُشار به إلى المتعدّد الذي يؤتى به أوّلاً، والنشر يُشار به إلى المتعدّد اللاّحق الذي يتعلّق كلُّ واحد منه بواحد من السابق دون تعيين، أما ذكر المتعددات مع تعيين ما يتعلّق بكلّ واحد منها فهو التقسيم.
فإذا أتى المتكلم بمتعدّدٍ، وبعده جاء بمتعدّد آخر يتعلّق كلّ فرد من أفراده بفرد من أفراد السابق بالتفصيل ودون تعيين سُمِّيَ صَنيعُه هذا "لفَّاً ونشراً".
كأن نقول: "طلعت الشمس وبزع القمر نهاراً وليلاً" - عَمَّ السَّحَابُ والسَّيْلُ السّماءَ والواديَ" - "عاد الْفُرْسَانُ والْجُنْدُ والأَسْرَى مُقَيّدِين ورجالاً ورُكْبَاناً"، أي: فالْفرْسَانُ عادوا ركبانا، والجندْ عادوا مشاة، والأسْرَى جاءوا مقيّدين.
والمتعدّد السابق له وجهان: إمّا أن يأتِي لَفُّهُ مُفَصّلاً، وإمّا أنْ يأْتِيَ لَفُّهُ مُجْمَلاً.
اللّف المفصّل:
إذا جاء لَفُّ المتعدّد السابق مفصّلاً، فالنشر اللاّحق له وجهان:
الوجه الأول: أن يأتي النشر على وفق ترتيب اللَّف، ويُسَمَّى "اللّفَّ والنشر المرتَّبَ".
الوجه الثاني: أن يأتي النشر على غير ترتيب اللّف، ويُسمَّى "اللَّفَّ والنشر غير المرتّب" وقد يُعَبَّر عنه بعبارة "اللّف والنشر الْمُشَوّش".
أولاً: فمن أمثلة اللّف والنشر المرتب ما يلي:
المثال الأوّل: قول الله عز وجل في سورة (القصص/ 28 مصحف/ 49 نزول) :
{وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الآية: 73] .
فقد جاء اللّفُّ بعبارة {جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار} إذْ جُمع اللَّيْلُ والنهار بحرف العطف. وجاء النشر وفق توزيع مرتب، فعبارة:{لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} تتعلّق باللّيل، وعبارة:{وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أي: كسْبَ أرزاقكم، تتعلّق بالنهار، مع الإِشارة بهذا الجمع إلى احتمال أن يسكن بعض الناس في النهار ويبتغي كسب رزقه من فضل الله في اللّيل، لكن هذا خلاف ما هو الأصلح للناس بمقتضى تكوينهم الفطري.
المثال الثاني: قول ابنْ حَيُّوس:
فِعْلُ الْمُدَامِ ولَوْنُهَا وَمَذَاقُهَا
…
فِي مُقْلَتَيْهِ وَوَجْنَتَيْهِ وَرِيقِهِ
الْمُدام: الخمر.
فأورد النشر على ترتيب اللّف، إذْ فِعْلُ الْمُدام في مُقْلَتَيْه إسكار، ولونُها في وجنتيه حُمْرةٌ، ومذاقُها في رِيقِهِ لذّة.
المثال الثالث: قولُ ابن الرومي:
آرَاؤُكُمْ وَوُجُوهُكُمْ وسُيُوفُكُمْ
…
في الْحَادِثَاتِ إِذْ دَجَوْنَ نُجُومُ
فِيها مَعَالِمُ لِلْهُدَى. ومَصَابِحٌ
…
تَجْلُو الدُّجَى والأُخْرَيَاتُ رُجُومُ
دَجَوْنَ: أي: أظْلَمْنَ.
جاء اللّف في قوله: "آراؤُكم ووُجُوهكم وسُيُوفكم" وجاء النشر وفْقَ توزيع مرتب، فقوله:"فيها معالم للهدى" وصفٌ للآراء. وقولُهُ "ومَصَابِح تَجْلُو الدُّجَى" وصف للوجوه. وقوله: "والأخريات رُجُومُ" وصْفٌ للسُّيوف.
المثال الرابع: قول الله عز وجل في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول) :
{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} [الآية: 29] .
الْمَحْسُور: المنهوكُ القوى، والّذي لم يَبْقَ معه مالٌ من كثرة الإِنفاق، يقال لُغةً: حَسَر القوم فلاناً، إذا سألوه فأعطاهم حتى لم يَبْقَ معه شيء.
جاء اللَّفُّ المفصَّل هنا في النّهي عن البخل وعن التبذير بعبارة {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} .
وجاء النشر مرتَّباً على وفق ترتيب اللّف، وذلِكَ لأنّ اللَّوْمَ يكون على البخل الذي جاء في العبارة أوّلاً، وإنْهاكَ الْقُوى وخُلُوَّ الْيَدِ من المال يكون بسبب التبذير.
المثال الخامس: ما جاء في سورة (الكهف/ 18 مصحف/ 69 نزول) في قِصَّة موسى والخضر عليهما السلام، ففي عرض القصة جاء ترتيب عرض أحداثها بدءاً بحادثة خرق السفينة، فحادثة قتل الغلام، فحادثه إقامة الجدار.
ولمّا أبان الخضر تأويلَ أعماله التي قام بها لموسى عليه السلام بدأ ببيان سبب خرقه السفينة، فبيان سبب قتله الغلام، فبيان سبب إقامته الجدار.
ثانياً: ومن أمثلة اللّف والنشر غير المرتّب ما يلي:
المثال الأول: قول الله عز وجل في سورة (الضحى/ 93 مصحف/ 11 نزول) لرسوله محمّد صلى الله عليه وسلم:
{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى * وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى * وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فأغنى} [الآيات: 6 - 8] .
هذه الجمل الثلاث تضمَّنَتْ أفكاراً ثلاثة مفصَّلة، فهي لفٌّ مُفَصَّل، وجاء بعدها نَشْرٌ غَيْر مُرَتَّب على وفق ما جاء في هذا اللّف:
فجملة: {فَأَمَّا اليتيم فَلَا تَقْهَرْ} [الآية: 9] ملائمة للجملة الأولى ومتعلّقة بها.
وجُمْلَةُ: {وَأَمَّا السآئل فَلَا تَنْهَرْ} [الآية: 10] ملائمة للجملة الثالثة ومتعلّقة بها.
وجُمْلَةُ: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الآية: 11] ملائمة للجملة الثانية ومتعلّقة بها، لأن معنى:{وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى} ووجَدَكَ جَاهِلاً فعَلَّمَكَ مَسَائل الدّين، وهي النّعمة الكبرى التي أنعم الله بها عليه وعلى الناس، وأتمَّها يوم أنزل على رسوله قوله في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول) :
{
…
اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً
…
} [الآية: 3] .
فالتحديث بِنِعْمَةِ اللَّهِ هو تَبْليغُ هذا الدّين وهدايةُ الناس إليه وتَعُلِيمُهم إيّاه.
والحكمةُ في الترتيب الّذِي جاء في اللّف موافَقَةُ التَّرْتِيبِ الذي حَصَل في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم: فالإِيواءُ من الّيُتْمِ كان أوّلاً، والهدايةُ جَاءَتْ ثانياً قَبْلَ النبوّة وبعدها، والغِنَى جَاء ثالِثاً.
والحكمةُ في الترتيب الذي جاء في النشر على خلاف الترتيب الذي جاء في اللّفّ: أنَّه جاءَ بتكاليف يَحْسُنُ فيها قَرْنُ النظائر بعضها مع بعض، فالنَّهْيُ عن قهر اليتيم يلائمه النهي عن نَهْرِ السائل، وبَعْدَ ذَلِك يَحْسُن الختْمُ بالأمْرِ بتبليغ الدّين والتحديثِ بما أنعم اللَّهُ به على رسوله من عِلْمٍ وهُدى.
المثال الثاني: قول "ابن حيُّوس":
كَيْفَ أَسْلُو وأنْتِ حِقْفٌ وَغُصْنٌ
…
وغَزَالٌ لَحْظاً وَقَدّاً وَرِدْفاً
الحِقْفُ: كثيبُ الرَّمْلِ، يَسْتَحْسِن الأدباء تشبيه الأرْدافِ به.
جاء اللّفّ المفصّل في (حِقْف - غُصْن - غزال) .
وجاء النشر على عكس ترتيب اللَّف، إذ اللّخط للغزال، والْقَدُّ لِلْغُصْنِ، والرِّدْفُ للحِقْف.
اللّف المجمل:
وإذا جاء لفُّ المتعدّد مجملاً فالنشر بعده مجرّد بيانٍ تفصيليّ للمجمل، ومن أمثلته ما يلي:
المثال الأول: قول الله عز وجل في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
{حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ * فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَآ أَمِنتُمْ فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} [الآيات: 238 - 239] .
جاء اللَّفُّ المجمل في عبارة: {فَإنْ خِفْتُمْ} خطاباً للمؤمنين حالة الحرب.
وبعده جاء النشر المفصّل في عبارة {فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} .
رِجالاً: جَمْع "رَاجل" وهو الماشي على قدميه، خلاف الراكب.
أي: فالرجال منكم يُصَلُّون رجالاً، والرُّكْبَانُ منكُمْ يُصَلُّونَ رُكْباناً على قدر استطاعة كلٍّ مِنْهُم.
المثال الثاني: قول الله عز وجل في سورة (الحج/ 22 مصحف/ 103 نزول) في حكاية قوله لإِبراهيم عليه السلام:
{وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ} [الآية: 27] .
جاء اللّفّ المجمل في عبارة: {وَأَذِّن فِي الناس} خطاباً لإِبراهيم عليه السلام.
وجاء النشر المفصل في عبارة: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ} أي: يأْتِكَ فَرِيقٌ من الْمُلَبّين رجالاً مشاةً على أقدامهم، ويأْتِكَ فريق آخر من الْمُلَبِّين على كُلِّ ضَامِرٍ من الدّواب لطولِ السّير في السّفر إلى البلد الحرام.
المثال الثالث: قول الله عز وجل في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
جاء اللّفّ المجمل في عبارة {وَقَالُوا} أي: وقال اليهود والنصارى.
وجاء النشر المفصل بعد ذلك مع الإِيجاز البالغ فيه، والمعنى: قالَتِ الْيَهُودُ: لَنْ يَدْخُلَ الجنَّةَ إلَاّ من كان من اليهود، وقالت النصارى: لن يدخل الجنّة إلَاّ من كان من النصارى.
ولم يحصل لَبْسٌ في اللّف للعلم بأنَّ كُلاًّ من الفريقين يعتبر الفريق الآخر ضالاًّ ومن أهل النار، وهذا هو المسوّغ للإِجمال في اللّف.
المثال الرابع: قول الأعشى:
يَدَاكَ يَدَا صِدْقٍ فَكَفٌ مُفِيدَةٌ
…
وكَفٌّ إِذَا مَا ضُنَّ بِالْمَالِ تُنْفِقُ
جاء اللّفُّ المجمل في عبارة: [يَدَاكَ يَدا صِدْقٍ] .
وجاء النشر المفصّل في عبارة: [فكفٌّ مُفيدَةٌ وكَفٌّ إذا مَا ضُنَّ بالمالِ تُنْفِقُ] .
***
وأمّا التقسيم: فله إطلاقات ثلاثة:
الإِطلاق الأول للتقسيم:
التقسيم الذي هو كاللّف والنشر: في ذكر متعدّد أوّلاً مفصَّلٍ أو مجمل، وإتباعه بمتعدّد آخر يتعلّق كلّ واحدٍ من أعداده بواحدٍ من المتعدّد السابق، باستثناء
قَيْدٍ واحد، فالتقسيم فيه تعيين كلِّ واحدٍ من المتعدّد اللاّحق بصاحبه من المتعدّد السابق، بخلاف اللّف والنشر إذ القيد فيه أن يكون بدون تعيين، وأن يكون الاعتماد فيه على فهم المتلقّي، وهذا هو الفرق بينها، وللّفّ والنشر مقتضيات أحوال يَحْسُن فيها، وللتقسيم مقتضيات أحوال يَحْسُن فيها، ومن الأحوال الّتي يَحْسُن فيها التقسيم: الأحوالُ الّتي يُراد فيها النّصّ الواضح القاطع للاحتمالات، والأحوال التعليميّة، وأحوال المخاطبين الذين يعْسُر عليهم التوزيع الملائم بين المتعدّدات اللاّحقة والمتعددات السابقة، والأحوالُ التي يحصل فيها اللَّبْسُ لولا التعيين.
ويحسن أن يُسَمَّى هذا التقسيم "تقسيم اللّف والنشر".
أمثلة:
المثال الأوَّل: قول الله عز وجل في سورة (الحاقة/ 69 مصحف/ 78 نزول) :
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية * وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الآيات: 4 - 6] .
جاء المتعدّد الأول مُفَصَّلاً، وجاء المتعدّد اللاّحق المتصل به والتابع له مفصّلاً مُعَيَّناً، لأمن اللّبس.
المثال الثاني: قول الله عز وجل في سورة (الانشقاق/ 84 مصحف/ 83 نزول) :
جاء المتعدّد الأوّل مجملاً بعبارة: {ياأيها الإنسان
…
} .
وجاء تقسيمه وأحكام كلّ قسم بعبارة: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} وعبارة: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ} .
المثال الثالث: قول الله عز وجل في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) :
جاء المتعدّد الأول مُفَصَّلاً بعبارة: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} .
وجاء تقسيمه وبيان أحكام كلِّ قسم على التعيين بعبارة:
{فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} وعبارة: {وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ
…
} .
والأمثلة من القرآن على هذا كثيرة.
المثال الرابع: قول أبي تمّام في بيان منهج الدعوة إلى قبول الإِسلام أو القتال بالسيف:
فَمَا هُوَ إِلَاّ الْوَحْيُ أَوْ حَدُّ مُرْهَفٍ
…
تُمِيلُ ظُبَاهُ أَخْدعَيْ كُلِّ مَائِلِ
فَهَذَا دَوَاءُ الدَّاءِ مِنْ كُلِّ عَالِمٍ
…
وهَذَا دَواءُ الدَّاءِ من كلّ جَاهِلِ
الوحي: أي القرآن المجيد، وبيان الرسول صلى الله عليه وسلم.
أو حَدُّ مُرْهَفٍ: أي: أَو حدُّ سيفٍ مرهف. المرهف الْمَسْنُون ذو الشفرة الرقيقة.
ظُبَاهُ: الظُّبَةُ حَدُّ السيف والسّنان والخِنْجَرِ ونَحْوها وجَمْعُها "ظُباً" و"ظُبَاة" و"ظُِبُون".
أخْدَعَيْ كُلِّ مائل: الأَخْدَعُ أحد عرقَيْنِ في جانِبَي الْعُنقُ، وهما الأخداعان..
جاء المتعدد الموصوف مفصّلاً بقسمي: "الوحي" و"حدّ مرهف".
وجاء تعيين ما يتعلق بالقسم الأول بعبارة: "فهذا دواء الداء من كل عالم".
وجاء تعيين ما يتعلق بالقسم الثاني بعبارة: "وهذا دواء الداء من كلّ جاهل".
***
الإِطلاق الثاني للتقسيم:
أن تُذْكَرَ متعدّدات ويُذْكَر إلى جانب كلِّ واحدٍ منها ما يَتَعَلَّقُ به، ويحسُن أن يسمَّى التقسيم "التقسيم المذيَّل".
ومن الأمثلة على هذا الإِطلاق ما يلي:
المثال الأول: ما رواه مسلم وغيره عن أبي مَالِكِ الأشعريّ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:
"الطَّهُورُ شَطْرُ الإِيمان، والْحَمْدُ للَّهِ تَمْلأُ المِيزَانَ، وسبحان اللَّهِ والحَمْدُ للَّهِ تَمْلآنِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ، والصَّلاةُ نور، والصَّدَقَةُ بُرْهانٌ، والصَّبْرُ ضِيَاءٌ، والقُرْآن حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْك، كُلُّ النَّاسِ يغدُوا فَبَائِعٌ نَفْسَهُ: فمُعْتِقُها أوْ مُوبِقُهَا".
جاء في هذا الحديث وفق هذا الإِطلاق أقْسَامُ سبْعَة، آخرها:"والقرآن حُجَّةٌ لَكَ أو عَلَيْكَ".
أمَّا عبارة: "كُلُّ الناس يَغْدُو فَبَائعُ نَفْسَه: فَمُعْتِقُها أو مُوبِقُهَا". فتَصْلُحُ مثالاً للإِطلاق الأول للتقسيم، والمتعدّد الأوّل منه جاء مجملاً، والمتعدّ التالي المتعلّق به جاء مُفَصّلاً، أي: فَقِسْمٌ مُعْتِقُ نفسه من النار بالعمل الصالح وقسم مُوْبِقٌ نفسه أي: مهلكها ومعرّضها للعذاب بالنار بما يكتسب من معاصي وآثام.
المثال الثاني: قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
"أَحْسِنْ إلَى مَنْ شِئْتَ تكُنْ أَمِيرَهُ، واسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْتَ تَكُنْ نَظِيرَه، واحْتَجْ إلى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَسِيرَهُ".
المثال الثالث: قول أبي الطيّب المتنبيّ:
سَأَطْلُبُ حَقِّي بالقَنَا وَمَشَايخٍ
…
كَأَنَّهُمُ مِنْ طُولِ ما الَثَمُوا مُرْدُ
ثِقَالٍ إِذا لَاقَوْا خِفَافٍ إذَا دُعُوا
…
كَثيرٍ إِذا شَدُّوا قَلِيلٍ إذا عُدُّوا
الْتَثَمُوا: أي: وَضَعُوا اللّثَامَ على وجُوههم، فيظهرون كأنَّهُمْ مُرْد.
إذَا دُعوا: أي: إذا دُعُوا لمناصرته في قتال.
إذا شَدُّوا: أي: أقبلوا محاربين مقاتلين، يقال شَدَّ في الحرب، إذا أقبل بقوة.
المثال الرابع: قول المتنبي أيضاً يصف حسناءه:
بَدَتْ قَمراً وَمَالَتْ خُوطَ بَانٍ
…
وَفَاحَتْ عَنْبراً ورَنَتْ غَزَالاً
خُوطَ بَانٍ: الْخوطُ: الغُصْنُ الناعم اللّين. والْبَانُ: شجر سبط القوام لين، ورقه كوَرَقِ الصفصاف، واحدته "بَانَة".
رَنَتْ: أي: أدامت النظر مع سكون الطرف.
***
الإِطلاق الثالث للتقسيم:
هو التقسيم الذي تُسْتَوفَى به أقسام الشيء الموجودة في الواقع، أو تُسْتَوْفَى به الأقسام العقلية، ويَحْسُنُ أن يُسَمَّى هذا "التقسيم المستوفي".
أمثلة:
المثال الأول: قول "أبي تمّام".
إِن يَعْلَمُوا الْخَيْرَ يُخْفُوهُ وإِن عَلِمُوا
…
شَرّاً أَذَاعُوا وَإِنْ لَمْ يَعْلموا كَذَبُوا
المثال الثاني: قول الله عز وجل في سورة (الروم/ 30 مصحف/ 84 نزول) :
{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً
…
} [الآية: 24] .
فجاء في هذه الآية استيفاء أقسام الغاية من ظاهرة البرق، إذْ ليس في رؤية البرق إلَاّ الخوف من الصواعق، والطّمع في الأمطار، ولا ثالث لهذين القسمين بالنسبة إلى الرّائين من عامّة الناس.
المثال الثالث: قول الله عز وجل في سورة (فاطر/ 35 مصحف/ 43 نزول) :
إنّ واقع حال المؤمنين المسلمين لا يخلو أحدهم من أن يكون واحداً من هؤلاء الأقسام الثلاثة: إمّا ظالم لنفسه بالمعاصي، وإمّا مقتصد بفعل الواجبات وترك المحرّمات، وإمّا سابقٌ في الخيرات بإذن الله بأعمال البر وأعمال الإِحسان، وهذه القسمة واقعيّة وعقليّة.
المثال الرابع: قول الله عز وجل في سورة (الواقعة/ 56 مصحف/ 46 نزول) بشأن أقسام الناس يوم القيامة:
أزواجاً ثلاثة: أي أصنافاً ثلاثة.
فالناس يوم القيامة يُفْرَزُون إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأوّل: الكافرون، وهم أصحابُ المشأمة.
القسم الثاني: المؤمنون غير السابقين، وهم أصحاب الميمنة.
القسم الثالث: المؤمنون السّابقون، ذوو الدرجات العليّة.
وقد ذكر النصّ أصحاب الميمنة أوّلاً، وبعدهم أصحاب المشأمة، ثم فرز السابقين من أصحاب الميمنة تمييزاً لهم وإعلاءً لمكانتهم.
المثال الخامس: قول الله عز وجل في سورة (الشورى/ 42 مصحف/ 62 نزول) :
هذا النصّ استوفَى اقسامَ أحوالِ مَنْ يُولَدُ لهم مواليد أو يُحْرَمُونَ منها مع اتّخاذهم أسباب الإِنجاب، فهي أربعة أقسام لا خامس لها، وفق القسمة العقلية والواقعيّة.
فإمّا أن تكون الذّرّية من الإِناث، وإمّا أن تكون من الذكور، وإمّا أن تكون من الصنفين، وإمّا أن يكون الإِنسان عقيماً لا يُنْجب.
والأمثلة من القرآن على هذا الإِطلاق الثالث من التقسيم كثيرة، فمنها ما جاء في سورة (مريم) الآية (64) وسورة (الطور) الآية (35) وسورة (المزّمل) الآية (20) .
***