الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البديعة المعنوية (22) : حول التتابع في المفردات والجمل
يتناول الكلام هنا الاختيارات البديعة التالية:
(1)
الاطّراد.
(2)
الترتيب.
(3)
الترقّي والتدلّي.
(4)
حُسْنُ النَّسَق.
(5)
التعديد - أو "حُسْنُ التعديد".
نظر علماء البديع إلى عناصر جمالية معنوية تتعلّق بتتابع المفردات والجمل في الكلام الواحد، فوضعُوا لما اكتشفوه منها أسماءً.
أوّلاً - الاطّراد:
قالوا: من البديع أن يذكر المتكلّم آباءَ من يَتَحَدَّثُ عنه متسلسلة على وفق الترتيب الطبيعيّ الذي هُوَلَهُمْ، في سلسلة نَسَبِهم، بدءاً من الجدّ الأعلى وتنازلاً إلى الأب المباشر، أو بالعكس، إذا كان له غرضٌ بذكرهم، وسمّوا هذا "الاطّراد" وهذه التسمية ملائمة للمعنى اللّغوي للكلمة، فالاطّراد في اللّغة: التتابُع والتسلسل، يُقَالُ: اطَّرَدَ النَّهْرُ، إذا تتابع جَرَيانُ مائة، واطَّرَدَ الكلامُ أو الحديثُ، إذا جرَى مجرى واحداً متَّسِقاً.
ومخالفة الاطّراد هذا لَا تَحْسُن إلَاّ لنكتَةٍ بلاغية يُريد المتكلم بها الإِشارة إليها.
فالاطّراد يُلائم السّلسلة الفكريّة الطبيعيّة لدى المتلَقِّي.
أمثلة:
المثال الأول: قول الله عز وجل في سورة (يوسف/ 12 مصحف/ 53 نزول) حكاية لما قال يوسف عليه السلام لصاحبيه في السّجن:
{
…
إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَاّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ * واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَيْءٍ ذلك مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى الناس ولاكن أَكْثَرَ الناس لَا يَشْكُرُونَ} [الآيات: 37 - 38] .
بَدَأَ يُوسُفُ عليه السلام بِذِكْرِ جَدِّهِ العالي إبراهيم أوّلاً، لأنّه الأوَّلُ من آبائِهِ الأقربين الّذينَ حَمَلُوا الملّةَ الّتي يدعو صاحِبَيْهِ في السَّجْن لاتِّبَاعِهَا، فذكر بعده ابْنَ إبراهيم المباشر إسْحاق، فذكَرَ يعقوبَ بن إسْحاق، ويعقوبُ هو الأَبُ المباشر ليوسفَ عليهم السلام.
المثال الثاني: قول الرسول صلى الله عليه وسلم حينَ سُئِلَ عن أكْرم الناس: "الكريم ابْن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم".
المثال الثالث: قول الشاعر:
إنْ يَقْتُلُوكَ فَقَدْ ثَلَلْتَ عُرُوشَهُمْ
…
بعُتَيْبَة بْنِ الحَارِثِ بنِ شِهَابِ
ثَلَلْتَ عرُوشَهُم: أي: أذهبت سلطانهم، ويُقَالُ: ثَلَّ الدارَ إذا هَدَمَها.
المثال الرابع: قول "دُريد بن الصِّمة":
قَتَلْنَا بِعَبْدِ اللَّهِ خَيْرَ لِدَاتِهِ
…
ذُؤَابَ بْنَ أسْماءَ بْنِ زَيْدِ بْنِ قَارِبِ
لِدَاتِه: نظرائِه في السّن، لِدَةُ الإِنسان مَنْ وُلِدَ مَعَهُ في وقت واحد.
***
ثانياً - الترتيب:
وقالوا: من البديع إذا أراد المتكلّم أن يَذْكُر أوصافاً متعدّدة لموصوف بها واحد، أن يذكرها على وفق ترتيبها الطبيعيّ، دون إخلال، ما لم يَدْعُ داعٍ بلاغيٌّ آخر يَحْرِصُ المتكلّم أن يشير إليه بمخالفة الترتيب الطبيعي، وسمّوا ذكر الأوصاف المتعدّدة متتابعةً على وفق ترتيبها الطبيعيّ "ترتيباً".
أمثلة:
المثال الأول: قول الله عز وجل في سورة (غافر/ 40 مصحف/ 60 نزول) :
جاء في الآية ذِكْرُ أطْوَارِ خلْقِ الإِنسان وفق ترتيبها الطبيعي، وهو أمرٌ مستحسنٌ بديع.
المثال الثاني: قول الله عز وجل في سورة (الشمس/ 91 مصحف/ 26 نزول) :
جاء ترتيب الأحداث في هذا النصّ وفق ترتيبها في الواقع الذي حدَثَ، وهو أمرٌ مستحسن بديع.
المثال الثالث: قول الله عز وجل في سورة (الرعد/ 13 مصحف/ 96 نزول) :
{أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي
النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} [الآية: 17] .
جار الترتيب في هذه الآيَة وفق ترتيب الأحداث في الواقع وهو أمْرٌ مستحسنٌ بديع.
***
ثالثاً: الترقّي والتدلّي:
وقالوا: من البديع لدى ذكر المتعدّدات من جنس أو نوع أو صنف واحد، إذا كان بينها تفاضل في الدَّرَجات أو المراتب، أن تُذْكر إمَّا من الأدنى إلى الأعلى ترقّياً، أو من الأعلى إلى الأدنى تدلّياً، ما لم يدْعُ داعٍ بلاغي آخر يحرص المتكلّم أن يشير إليه بمخالفة هذا النظام، كمراعاة رؤوس الآي، وكالتنويع في نصوص متعدّدة.
ووضعوا للالتزام بهذا النظام عنوان: "الترقّي والتَّدَلّي".
أمثلة:
المثال الأول: قول الله عز وجل في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) بشأن معبودات المشركين من الأصنام:
جاء في هذه الآية الْبَدْءُ بالأَدْنَى لغرض الترقّي، إذ الْيَدُ أشرفُ من الرّجل، والْعَيْنُ أشرفُ من الْيَدِ، والسَّمْعُ أشرفُ من الْبَصَر، فالأعمى يستغني بالسَّمْع لتحصيل المعارف الكثيرة، لكن الأصَمَّ البصير دونه في ذلك.
المثال الثاني: قول الله عز وجل في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول) :
جاء في هذه الآية الْبَدْءُ بالأعلَى الأدَلِّ على قُدْرَةِ الرَّبّ الخالق، وهو المشي على البطن دون أرجل، فَالأدنَى وهو المشْيُ على رجلين، فالأدنَى وهو المشيُ على أرْبَع، لغرض الأَخْذِ بنظام التدلّي.
***
رابعاً - حُسْنُ النّسَق:
وقالوا: من البديع في الجمل المتتالية الّتي جاء بعضُها معطوفاً على بعضٍ أن تكون فيما بينها متلاحمة تلاحماً سليماً مستحسناً، وأن تكون كلُّ واحدة منها قابلةً لأن تستقلَّ بنفسها لو أُفْرِدَتْ وسَمَّوا هذا "حُسْنَ النَّسَق".
أمثلة:
المثال الأول: قول الله عز وجل في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) في عرض لوحة من قصة نوح عليه السلام وقومه:
إنَّ جُمَل هذه الآية معطوفٌ بعضها على بعضٍ بواو عطف النسق على الترتيب الذي تقتضيه البلاغة.
* فقد جاء فيه البدء بالأهمّ، الذي هو انحسار الماء عن الأرض، المتوقف عليه غاية مطلوب أهل السفينة، الذين يترقَّبُونَ الْخلاصَ من سِجْنِها.
* وبعده جاء. بيان انقطاع مدَد الماء من السماء، الذي يتوقف عليه كمال المطلوب.
* وبعدهما جاء الإِخبار بذهاب الماء بعد الأَمْر بِالبَلْعِ والإِقلاع.
* وبعد ذلك جاء بيان انقضاء الأمر كلّه الّذي من أجله حدَثَ الطوفان العظيم، وهو هلاك الكافرين ونجاة نوح والذين آمنوا معه.
* وبعد ذلك جاء بيان استواء السفينة على جبل الجودي، الذي وقع فعلاً بعد أن قُضِي الأمر.
* وأخيراً جاء الختم بإعلان طَرْدِ الكافرين بعبارة: [وقِيلَ: بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمين] للإِشارة إلى أنّ مَنْ أُبْعِدَ من الرَّحْمَةِ هُمُ الكافرونَ فقط.
المثال الثاني: قول الله عز وجل في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) :
جُمَلٌ ثَلَاثٌ قالها موسى لأخيه هارون تتضَمَّن مَرْسوم تعيين من ثلاث موادّ متلاحمة متفاصلة:
المادة الأُولى: اخْلُفْنِي في قَوْمي.
المادة الثانية: وأصْلِحْ: (أي: في إدارتك وخلافَتِكَ لي) .
المادة الثالثة: وَلَا تَتبعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِين (أي: مَهْما كانت كثرتهم، فاحْزِمْ أمْرَك ولا تتَّبِعْهُمْ مدارياً لهم) .
أقول:
ويمكن أن نُدْخِلَ تحت عنوان "حُسْنِ النَّسَق" ما يتضمّن مراعاة حالة أنفس المتلَقِّين، لدى ملاحظة المشهد الذي يعرضه المتكلّم في الصورة الكلاميّة.
فمن حسن النَّسَق أنْ تكون الصورة الكلاميّة مطابقة لواقع حال المتلَقِّي لدى
إدراكه المشهد في الواقع، ومن الأمثلة على هذا قول الله عز وجل في سورة (الغاشية/ 88 مصحف/ 68 نزول) :
{أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السمآء كَيْفَ رُفِعَتْ * وإلى الجبال كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأرض كَيْفَ سُطِحَتْ} [الآيات: 17 - 20] .
أْقُلُ هُنَا ما سَبَقَ أن كتبتُه في كتابي: "أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع"، إذْ أعالج في هذا النصّ من جوانبه الأدبيّة فنّيَّةَ تَرْتِيب جُمَله فقط.
قد يهدف ترتيب الجمل القرآنيّة إلى عَرْضِ لَوْحَةٍ فَنِّيَّةٍ مِنْ لَوْحَاتِ مَا خَلَق اللَّهُ في كونه، حتَّى كأَنَّها رسْمٌ قَدْ رُوعيَتْ فيه كلُّ الشّروط الفنّيّة الْتي تُراعَى في الرّسُوم والصُّورِ الرفيعة، فتَبْدُو الصورةُ مثالاً مطابقاً لحركة تَتَابُعِ المشْهَد في نَفْسِ المشاهد.
تصَوَّرْ أَنَّكَ جالِسٌ في باديَةٍ في خَيْمَةٍ، كَوَاحدٍ من عُرْبانِ البادية، وَأمَامَكَ سَهْلٌ مُمْتَدٌّ، وبعْدَه سِلْسِلة جبالٍ متتابعة، ومرَّتْ قافلةُ جمالٍ في هذا السهل بينَكَ وبيْنَ الجبال.
فكيف تتنقَّلُ نَفْسُك في هذا المشهد، بعْدَ هذا الحدَثِ المتحرّك المثير، وهو قافِلةُ الجمال؟.
لقد تَمثَّلْتُ هذه الصورة، فَوجَدْتُ أَنَّنِي أتَنقَّلُ في متابَعَتِهَا مُرَكّزاً علَى بُؤْرَةِ المشهد مرحلةً فمرحلةً على الوجه التالي:
اللّقْطَةُ الأولى: صورة قافلة الجمال السائرة، إذْ كانت أوّل لافتٍ لنظري، بسبب الحركة، وغرابَةِ المشهد، ورغبة النفس في متابَعةِ مُشاهدته قَبْلَ أن يغيبَ عن النظر، فكانَتْ في حِسِّي هي بُؤْرَة المشْهَد البارزة، وما سواها كانَ أرضيَّةً لها.
اللقطة الثانية: صورةُ السَّمَاءِ مِنْ جهة الأفق الْبَعِيدِ ورَاءَ القافلة، إذْ شَبِعَتْ نَفْسِي من مُتَابعةِ التركيز على قافلة الجمال، فتركْتُها، وجَعلْتُها أرضيَّة الصورة،
وانتقَلْتُ للتأمُّل في السّماء، فكانت السماء في حسِّي هي بُؤرَة المشهد البارزة، وتَوجَّهَ بصَري للتَّرْكيزِ على السماء، بحثاً وتأمُّلاً، حتَّى إذا شَبِعْتُ من ذلك ظهَرَتْ فِي شُعُورِي لقطةٌ أخرى.
اللقطة الثالثة: هي صورة الجبال المتتابعة، إذْ أَخَذَتْ تَبْرُزُ في حِسِّي، فتكونُ بُؤْرَةَ المشهد، وتوجّه بصري للتركيز على الجبال بحثاً وتأمُّلاً فيها.
وأدركْتُ أنّ من طبيعة النفوس لدى مُشَاهَدةِ مشهد متعدّد العناصر، أن تبدأ بالمتحرّك لأنّه أكثر إثارةً، ثُمّ تنتقل إلى أعْلَى المشهد، ثمّ تتدلّى شيئاً فشيئاً حتّى أدناه.
ولمّا شَبِعْتُ من التأمُّلِ في الجبال ظهرت في شُعوري اللّقطة الَّتي وراءها.
اللقطة الرابعة: هي صورة الأرض المنبسطة الممتدّة أمامي كأنّها السَّطْحُ، أخَذَتْ تَبْرُزُ في حِسّي، فتكونُ بُؤْرَةَ المشهد، وتوجّه بصري للتركيز على الأرض بحثاً وتأمُّلاً فيها.
عندئذٍ عَلِمْتُ الحكمة التي دعَتْ إلى ترتيب الجمل القرآنية، من سورة (الغاشية) في الآيات من (17 - 20) وما فيها من تصوير كلاميّ مُتَابعٍ لحركة النَّفْس لدى مُشاهَدَةِ مثلِ هذه اللّوحة التي عرضها النصّ.
وقُلْتُ في نفسي: إنّها بهذا الترتيب تقدّمُ لوحةً فنّيَّة، تُطابقُ ما يَحْدُثُ لِمُشَاهدٍ واقعٍ في مثل هذا المشهد.
إنّ العليم الحكيم الخبير يقدّم هذه اللّوحة الفنيَّة، ليلفت نَظَر الْمُشاهِدِ من خلالها إلى إدراكِ طائفةٍ من صفاتِ الخالق جل جلاله، الّتي تدلُّ عليها آياتُ هذا المشهد البديع، ومنها أنَّه عليم حكيم قدير بديع السماوات والأرض، قد أتْقَنَ كلَّ شيءٍ صُنْعاً.
***
خامساً - التعديد أو (حُسْنُ التعديد) :
وقالوا: من البديع في الألفاظ المفردة المتتالية أن يؤتى بها على سياق واحد، دون أن يكون بينها ما يَشِذُّ ويَنْبُو عن الذوق الأدبيّ الرّفيع، في دلالتها وفي ألفاظها، وأكثر ما يوجد هذا في الصفات المتتاليات.
وسمّوا إيقاعَها على سياق واحد متلائم: "التعديد" والأحسن أن يُسمَّى "حُسْنَ التعديد".
أمثلة:
المثال الأول: قول الله عز وجل في سورة (الحشر/ 59 مصحف/ 101 نزول) :
فجاء البَدْءُ بذكر اسم "الْمَلِك" إذ هُو مَالِكُ كُلِّ شيء وذو السلطان على كلّ شيء، والبدءُ به هو الملائم في السّياق بعد بيان اسمه (الله) ويبان أنّه لا إله بحقٍّ إلَاّ هو، وجاء بعد "الْمَلِك" اسمان من أسماء الله الحسنى متلائمان يتطلَّبهما السياق وهُمَا "القدُّوس" و"السّلَام" فمعنى القدّوس: الْمُنزَّه عن صفات النقص الّتي لا تليق بالرَّبّ الخالق المعبود. ومعنى السّلَام: ذو السلامة من كلّ نقص في ذاته وصفاته وأفعاله، فهما متلائمان، وبعد التنزيه يستدعي السياق إثبات صفات الكمال له، وأوَّلُها شُمُولُ علمه كُلَّ شيء، وأنّه يعْلَمُ كلّ شيء علماً يقينيّاً لا يُخَالطه أدنى شَكّ، والاسم الملائم لهذا "المؤمن" وبعد شمول علمه كلَّ شيء يستَدْعي الفكر إثبات هَيْمَنَتِه بقدرته وسلطانه على كُلِّ ما سواه مما هو خالق له، وممّا سيخلقه، فجاء الاسم الملائم وهو "المهيمن" ومن هيمنته بقدرته وسلطانه، أنْ يكون قويّاً ذا قوّة غالبة، لا يستطيع معارضٌ أن يعارضها، فجاء الاسم الملائم
لهذا هو "العزيز" إذْ معناه القويّ الغالب، ومن عزّته أَنْ يكون إذا أراد شيئاً فعله بالْجَبْرِ، ضدّ أيّةِ قُوَّةٍ لها إرادةٌ معارضة، من خلقه الذين منحهم الإِرادات الحرَّة وسخَّرَ لَهُمْ في كونه بعض المسخّرات، والاسم الدالّ على هذا هو "الجبّار" ويُدْرِكُ الذهن أن من جَمَعَ الصفات السابقات لا بُدَّ أن يكون أكْبَر منْ كُلِّ كبيرٍ في الْوُجُود، وأن يكون عالماً بهذه الصفة من صفاته، فجاء الاسم الدَّالُّ على هذه الحقيقة "المتكَبِّر" أي: الْمُثْبِت لنفسه أنّه أكبر من كلّ كبير إثباتاً مؤكّداً.
المثال الثاني: قول الله عز وجل في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) في وصف المؤمنين الذين اشترى منهم أنفسهم بأنّ لهم الجنّة يُقَاتِلُون في سبيل الله فيقتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ:
وبالتأمُّل نُلاحِظُ أَنَّ هذِهِ الصِّفَاتِ المذكورات لخيار المؤمنين متعانقاتٌ تَعَانُقاً متلائماً يَسْتَدْعي سابقُها تالِيَهَا لدى التحليل الذهني.
فالتوبة هي المطلوب الأوّل من الصفات، لأنّها بمثابة تنظيف الدار قبل جلْبِ الأثاث إليها، وبعد التوبة تأتي العبادة، وأوّلُ عناصر العبادة الْحَمْد، فالسّياحة بمعنى إطلاق الفكر في آياتِ الله وآلائه فكثرة الركوع والسُّجُودِ في الصلوات لله عز وجل، فالقيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالمحافظة على حدود الله عند كلّ عَمَلٍ لله فيه حُكْمٌ شَرْعِي ذو حَدٍّ من الحلال والحرام.
وهكذا جاءت مفردات الصفات مُنْسَابَةً متلائمة على سياق واحد لا تنافر فيه ولا شذوذ.
المثال الثالث: قول الله عز وجل في سورة (الأحزاب/ 33 مصحف/ 90 نزول) :
من الملاحظ في هذه المتعدّدات الانسيابيّةُ والتَّلاؤُمُ والتعانُقُ المتدرّج.
الإِسلام هو يقدِّمُه الظاهر أوّلاً، وهل هو أثر إيمانٍ أم لَا؟ فيأتي التدقيق عن الإِيمان ثانياً، وبعدهما يُنْظَرُ إلَى التزام الطاعة المعبَّرِ عنه بالّقُنُوت، فالقانت هو المطيعُ الخاضع، فيأتي البحث عن الصّدْقِ في الطَّاعة، أي: عن سلامة النيّة في ابتغاء مرضاة الله، فالتوسُّع في أعْمالِ البرّ فوقَ فِعْلِ الواجبات وترك المحرّمات، ويأتي في مقدّمته الصّبر، فَخُشُوعُ الْقَلْب لذكر الله، فبذلُ الصَّدَقَاتِ فَوْقَ الزكاة والنَّفَقَةِ الواجبةِ، فالصومُ زيادةً على الصوم المفروض، فالمحافظةُ التامّة على الفروج، فالذّكْرُ الكَثِيرُ لله عز وجل.
***