الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة عامّة
(1) الباعث والنشأة والتسمية
* مُمَارِسُ صناعة الكلام قولاً وكتابةً يُلاحظُ أَنَّ اللُّغَاتِ جَمِيعَها بحَسَب أوضاعها اللّغويّة، الّتِي جَرَى فيها وضْعُ كُلّ كلمة أو عبارة لتدلَّ على معنىً من المعاني، مهما اتَّسَعَتْ فإنَّها لا تكفِي للدَّلَالة على المعاني التي تُدْرِكها الأذهان، والدَّلالَةِ على المشاعر التي تُحِسُّ بِها النفوس.
ومع أنّ اللّغة العربية أوسع اللُّغَاتِ العالميّة وأثراها في الدلالة على المعاني الفكرية والمشاعر النفسيّة، فإنَّ هذا الحكم يشملها، إذا نظرنا إلى حدود الأوضاع اللّغوية للكلمات وللعبارات.
* والذاكرة الإنسانيّة مهما عظمت قدرتها على استيعاب المفردات اللّغويّة مقرونةً بدلالاتها على المعاني التي وُضِعَتْ لها، ومَهْمَا عَظُمت قُدرَتُها على استدعاء ما تحتاج من هذه المفردات عند الحاجة إليها، للدلالة بها على ما تُرِيد التعبير عنه من المعاني، لا تستطيع أن تستوعبَ وتحفظ كُلَّ مفردات اللّغة، ولا تستطيع أن تستذكر دواماً كُلَّ ما تحتاج إليه من المفردات والتعبيراتِ اللُّغوية، لتقدمها إلى أداة التعبير باللّسان أو بالقلم عند الحاجة.
* لكِنَّ الإِنسان قد أتاهُ الله عز وجل قُدْرَةً فَائِقَةً عَلى التعبير عمّا يريد من معانٍ ذهنيّة، ومَشاعر نفْسِيّةٍ عَنْ طُرُق أُخْرى غير طريق الأوضاع اللّغويّة الّتي وُضعت بها المفردات والعبادات لتدُلَّ دلالةً مباشرةً عليها، فَهُوَ يحتال للتعبير عمّا يريد التعبير عنه من خلال ما تُسعفه به ذاكرتُه من مفرداتٍ وعبارات بواحد فأكثر من الطُّرُق التالية:
الطريق الأول: طريق التَّشْبيه والتمثيل، واستخدام النظير ليَدُلَّ على نظيره.
الطريق الثاني: طريق اللّوازم الفكريّة الّتي تُدْرِكُها الأذهان لدَى إدْراكِ أشياء تستدعيها باللُّزُوم الذّهني، فيَذْكُر الألفاظ الدالّة على هذه الأشياء مشيراً بِهَا إلى لوازمها الذهنيّة، كطول الثوب الّذي يستَدْعي باللُّزُوم الذّهْنِي طُولَ لابسه، وكَرُؤْيَةِ النجوم رؤيَةً واضِحةً الَّتِي تَسْتدعي باللُّزوم الذهني كونَ هذه الرُّؤْيَة حاصلةً في اللّيل، وهذا ما يُسمَّى بالكناية.
الطريق الثالث: طَرِيقُ ذكر أشياء يُنَبّه ذِكْرُهَا عَلى أشباهها، أو أضدادها، أو ما يخالفها، فيكون ذكرُها مشيراً بتعريض إلى تِلْكَ الأشباه أو الأضداد أو المخالفات، وهذا ما يُسمَّى بالتعريض.
الطريق الرابع: طريق استخدام لفْظٍ مكان لفظ آخر صالحٍ لأنْ يَدُلَّ على معناه لعلاقة بينهما، وهذا ما يُسَمَّى بالمجاز.
وفتحت هذه الحيل التعبيرية آفاقاً واسعة جدّاً لانتفاء صُورٍ جماليّة لَا تُحْصَى، يتحقَّق بها الغرضان المهمّان من أغراض الكلام وهما:
الغرض الأوّل: إفْهامُ المتلَقِّي ما يُريد المتكلّم التعبير عنه.
الغرض الثاني: إمتاعُه بصُورٍ جماليّة يشتمل عليها الكلام، ولهذا الإِمتاع تأثيرٌ في النفوس، وقد يكون وسيلة لقبول المضمون الفكري الذي دلَّ عليه الكلام، ولاعتقاده، وللعمل بمقتضاه.
* وممّا سبق بيانُه في علم المعاني عرفنا أنّه علم تناول بحث الكلمة المفردة، وبحث الجملة الخبرية، والجملة الإِنشائية، وأقسام كلٍّ منهما، وأغراض توجيه الكلام، وبحث الْقَصْرِ ومَا يتعلَّقُ به، وبحث الفصل والوصل بين المفردات والجمل، وبحث "المساواة والإِيجاز والإِطناب" وكلُّ هذه البحوث تدور في فَلَك الأوضاع اللُّغَويّة بوجه عامّ.
لكنّ التعبير عن المراد لا يقتصر على ما يدلُّ عليه الكلام بحسب أوضاعه اللّغوية ذات الدلالات المباشرات، بل يتجاوزه إلى تعبيرات أُخْرى كما سبَق إيضاحه آنفاً حَوْل الطُّرُق الأربعة التي سبق ذكْرُ أصولها العامّة.
وقد اهتم علماء البلاغة بشرح وتفصيل هذه الطرق الأربعة، في دراسة واسعة وضعوها ضمن إطار عِلْمٍ أسْمَوهُ "عِلْم البيان" إذْ تبرُزُ في هذه الطُّرق مَهاراتُ المتكلّمين في الإِبانة عمّا يريدون التعبير عنه، مقرونةً هذه الإِبانة بصُوَرٍ جماليةٍ ذات تأثير في النفوسِ، وإمتاعٍ للأذهان، ورِياضةٍ بديعة للأفكار.
البيان: هو في اللغة الوضوح والظهور، يقال لغة: بَانَ الشيْءُ بياناً إذا اتَّضَح وظهر.
واضع هذا العلم:
ذكروا أنّ أوّل من دوّن مسائل علْم البيان أبو عبيدة "مَعْمَرُ بن المثنَّى" في كتابه: "مجاز القرآن". وتبعه "الجاحظ". ثم "ابْنُ المعتزّ". ثُمَّ "قُدَامَةُ بْنُ جعفر". ثُمَّ "أبو هِلَال العسكري". ثم جاء الشيخ "عبد القاهر الجرجاني"،