الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: الإيجاز
(1)
التعريف
الإِيجاز لغة: اختصار الكلام وتقليل ألفاظه مع بلاغته، يقالُ لغة: أوجز الكلامَ إذا جعله قصيراً ينتهي من نطقه بسرعة.
ويقال: كلامٌ وجيز، أي: خفيفٌ قصير. ويقال: أوْجَزَ في صَلاتِه إذا خفَّفها ولم يُطِلْ فيها.
فالمادّة تدور حول التخفيف والتقصير، وفي الحديث أنَّ رَجُلاً قال للرسول صلى الله عليه وسلم: عِظْنِي وأوجِزْ، أي: قُلْ لي كلاماً خفيفاً قصيراً أحْفَظُهُ عنك فيه موعظةٌ لي.
روى الإِمام أحمد بسنده عن أبي أيّوبَ الأنصاري قال: جاء رجلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: عِظْنِي وأوجز. فقال:
"إِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ فَصَلّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ، ولا تَكَلَّمْ بِكَلامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ غَداً، وأَجْمِع الإِيَاسَ مِمَّا في أيْدِي النَّاسِ".
فوعظه الرسولُ صلى الله عليه وسلم بهذه الفقراتِ الثلاث، وأَوْجَزَ له فيها.
الإِيجاز في اصطلاح البلاغيين: هو التعبير عن المراد بكلامٍ قصير ناقص عن الألفاظ التي يُؤَدَّى بها عادةً في متعارف الناس، مع وفائه بالدّلالة على المقصود.
أو نقول: هو صياغة كلام قصير يدلُّ على معنىً كثير وافٍ بالمقصود، عن طريق اختيار التعبيرات ذات الدَّلالات الكثيرات، كالأمثال والكليّات من الكلمات، أو عن طريق استخدام مجاز الحذف، لتقليل الكلمات المنطوقة، والاستغناء بدلالة القرائن على ما حُذِف، أو عن طريق استخدام ما بني على الإِيجاز في كلام العرب، كالحصر، والعطف، والضمير، والتثنية، والجمع، وأدوات الاستفهام، وأدوات الشرط، وألفاظ العموم، وغير ذلك.
فإذا لم يكن الكلام وافياً بالدّلالة على المقصود كان الإِيجاز فيه إيجازاً مُخِلاًّ، إذ رافق التقصير في الألفاظ تقصيرٌ في المعنى الذي أراد المتكلّم التعبير عنه.
قالوا: ومن أمثلة التعبير بكلام قصير فيه إخلال بأداء المعنى المراد قول "الحارث بن حِلِّزَةَ الْيَشْكُرِي" هو شاعر جاهليّ من أهل بادية العراق، وهو أحد أصحاب المعلّقات:
عِشْ بِجَدٍّ لَا يَضِرْكَ النَّوْكُ مَا أُولِيتَ جَدّا
والْعَيْشُ خَيْرٌ فِي ظِلَالِ النَّوْكِ مِمَّنْ عَاشَ كدّا
بِجَدٍّ: أي: بحظٍّ من الدنيا، كالنعمة والسّعة.
لَا يَضِرْكَ: أي: لا يُنْزِلْ بكَ ضَرَراً، من "ضارَهُ يَضِيرُهُ".
النَّوْكُ: الحماقة من قلة العقل.
قال في البيت الأول: إِذَا كان لك حظٌّ من الدّنيا يُسْعِدُك وكُنْتَ أحْمَق فَعِشْ بحظِّكَ فإنّ حماقَتَك لا تَضِيرُكَ.
وقال في البيت الثاني: والعيشُ مع الحظّ السعيد في ظلال النَّوْك (=الحمق) خَيْرٌ ممَّن عَاشَ عَيْشاً كدّاً مُضْنِياً بعَقْلٍ ورُشْدٍ دُونَ أن يكون محظوظاً بما يُسْعِده في دُنْيا.
لكنّ هذا المعنى الذي أراده لا تدلُّ عليه عبارات البيت الثاني مَهْما تكلّفْنَا في استخراج اللّوازم الذهنيّة، لكثرة المحاذيف فيه، مع عدم وجود قرائن تدلُّ عليها، ولولا البيت الأوَّل لصَعُبَ جدّاً إدْراكُ مُرَادِه، فهُو من الإِيجاز المخلّ.
ولدى إبراز المحاذيف نقول: والعيْشُ بِجَدٍّ في ظلال النَّوْكِ خيرٌ ممن عاش عيشاً كدّاً غير محظوظٍ في ظلال العقل والرُّشد.
ومن أمثلة الإِيجاز المخلّ على ما قالوا قولُ "عُرْوةَ بْنَ الْوَرْدِ بن زيْدٍ العَبْسِي" هو شاعر جاهليّ، كان من فرسان قومه وأجوادهم:
عَجِبْتُ لَهُمْ إِذْ يَقْتُلُونَ نُفُوسَهُمْ
…
وَمَقْتَلُهُمْ عِنْدَ الْوَغَى كَانَ أَعْذَرا
قالُوا: أراد إذْ يقتلونَ نُفُوسَهُمْ في السِّلْم من غَيْرِ حرب، فحذَفَ عبارة:"في السِّلْم" وهذا من الإِيجاز المخلّ.
أقول: لقد استغنى بدَلَالَةِ الشطر المقابل، إذْ قَيَّدَ القتل الّذِى يُعْذَرُ به القتيل بأن يكون عند الوغى، أي: عند الحرب، وهذه قرينةٌ كافية لمثل هذا الحذف، قتَقَابُلُ التضاد ذو دلالة قويّة، وقرينتُه تدلُّ على المحذوف في مقابله بسهولة، وله نظائر في القرآن المجيد.
وذكروا من أمثلة الإِيجاز المخلّ قولَ الشاعر:
أَعَاذِلُ عَاجِلُ مَا أشْتَهِي
…
أحَبُّ مِنَ الأَكْثَرِ الرَّائِش
الرَّائش: بمعنى المعين، والمنعش، والمغني بالمال الوفير.
يريد أن يقول: إنّ عاجل ما يشتهي مع قلّتِه أحبّ إلى نفسه من المؤجل وإنْ كان كثيراً منعشاً مغنياً.
فحذف محاذيف لا تُسْتَخرج إلَاّ بصعوبة، فهو من الإِيجاز المخلّ على ما ذكروا.
***
(2)
تقسيم الإِيجاز
الإِيجاز السّويّ ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: "إِيجَازُ الْقِصَر" وهو الإِيجاز الذي لَا يُعْتَمَدُ فيه على استخدام الحذفِ.
القسم الثاني: "إيجازُ الْحَذْف" وهو الإِيجاز الذي يكون قِصَرُ الكلام فيه بسبب استخدام حذف بعض الكلام اكتفاءً بدلالة القرائِن على ما حُذف.
***
(3)
شرح إيجاز الْقِصَر
سبق بيان أنّ "إيجازَ القِصَر" هُو الإِيجاز الذي لا يُعْتَمَدُ فيه على استخدام الحذف.
ولكن كيف يكون "إيجاز القِصَرِ" هذا؟.
لقد جاء في وصف خاتم المرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: أنَّهُ أُوتِيَ جَوَامعَ الكَلِم، ونجد في أقواله أمثلةً كثيرةً جدّاً ينطبق عليها عنوان "إيجاز الْقِصَر" ألفاظُها قليلة، ومعانيها غزيرة، دون أن يكون فيها ما يدُلُّ على كلام مطويّ محذوف من اللّفظ، مُشارٍ إليه بقرينة من قرائن المقال، أو قرائن الحال، أو الاقتضاء العقلي.
وفي القرآن أمثلة رائعة وكثيرة جدّاً، يَرَى فيها متدبّرو كتاب الله المجيد قِصَراً
في ألفاظها، وثَرْوَةً واسعةً في معانيها ودَلالتها، مع أنَّها لا تطوي في مثانيها محاذيف، بل جاءت ثَرْوَةُ المعاني من منطوق الألفاظ المختارة بعناية فائقة.
ولعلَّنا بنظرة تحليليَّةٍ مُتَأَنِّيةٍ فاحصة نكتشفُ أَسبْابَ قِصَرِ العباراتِ وغزارة المعاني.
أولاً: من الملاحظ أنَّ مُتَتَبِّعَ الجزئيّات بالبحث والتأمّل يكتشف صفاتها أفراداً، ثمّ بعد أن يجمع في نفسه أو في سجلاّته صفات هذه الجزئيّات يلاحظ أنّها قد تشترك جميعاً في بعض الصفات التي وجدها فيها، فإذا أراد أن يتحدّث عمّا اكتشفه فأمَامَهُ طريقان:
* إمّا أن يفصّل فيذكَر كُلَّ جزئيّة ويعدّد صفاتها، لكنّه في هذا التفصيل سيجد نفسه مضطرّاً أنْ يكرّر بعض هذه الصفات مع ذكر كلّ جزئية، وعندئذٍ يطول معه حبْلُ الكلام طولاً مُمِلاًّ مكروها.
* وإمَّا أن يَلْجأ إلى اختيار عبارة كليّة شاملة موجزة مختصرة قليلة الكلمات تدلُّ على أن جميع الجزئيات التي تَتَبَّعَها وَيَدُلُّ عليها لفظ "كذا" تتّصف بصفة "كذا وكذا".
وهنا نلاحظ أنّ "القِصَرَ" في التعبير قد جاء من جمع الجزئيّات التي تتبَّعَها بلفظ عامٍّ يشملها، ووصفها جميعاً بالوصف الذي رآها تتصف به، فيقول مثلاً دارسُ طبائع بعض الحيوانات:
"الثَّبَاتُ والسَّطو في الأسود، والغدرُ في النمور، والحيلةُ في الثعالب، والهمَّةُ والخيلاء في الخَيْل، والجلَدُ في البغال، والبلادةُ في الحمير".
وبهذا يكون قد أوجز في عباراته، إذْ جمع تفصيلات كثيرات، دون أن يُقَدِّر في كلامِهِ محاذيف، وكانت وسيلته في هذا الإِيجاز استخدام العبارات ذوات الدلالات الكليّات الشاملات.
ثانياً: وقد يجد مُنْشِئ الكلام أنّ ما يُريد الحديث عنه لَهُ صفاتٌ كثيراتٌ يحتاج تفصيلها إلى بيان طويل قد يُكتبُ في صفحات أو كُرَّاساتٍ أو أكثر من ذلك.
ثمّ ينظر في مخْزونات معارفه فيرى صُورةً من صُوَرِ الكَوْنِ مثلاً، أو طائفةً من المعلومات الجزئيّة مجتمعةً في إطارٍ واحدٍ له عنوان خاصٌّ يدلُّ على الْمُحَاطِ به، ويُلَاحِظُ أنّ ما يُرِيدُ الحديث عنه متشابهٌ لهذه الصورة، أو لما أحيط بهذا الإِطار ذي العنوان الخاصّ، فيهتَبِلُها فُرْصَةً يُوفّر بها على نفسه كلاماً طويلاً؛ إذْ يُبيّن أنّ ما يُرِيدُ التحدّث عن صفاته مشابهٌ لهذه الصورة، أو لما أُحيط بهذا الإِطار، ثمّ إنّ المتلقّي يتَتَبَّع تفصيل الصفات عن طريق النظر في العناصر المتشابهة بين المشبَّه والمشبَّهِ به، وهذه إحدى الفوائد الثمينة من ضرب الأمثال.
فإذا قال المتحدّث: لمّا ألقَى الأمريكيون القنبلة الذّرّية على المدينة اليابانية "هيروشيما" صارت هذه المدينة كلُّها كما لو تفجّرتْ ألف ألف قنبلة فنثرت رماداً ودخاناً في الجوّ.
فإنّه قد اختصر تفصيلات المشهد العظيم كلِّه بهذه العبارة التمثيلية.
وبهذا يكون قد أوجز في عبارته، إذ جمع تفصيلات كثيرات، دون أن يُقدِّر في كلامه محاذيف، وكانت وسيلته في هذا الإِيجاز استخدام أسلوب التشبيه وضَرْبِ المثل.
ثالثاً: وقد يجد منشئ الكلام أنّه يحتاج إلى عدد من الكلمات أو العبارات حتَّى تُؤَدِّيَ معنىً مِن المعاني، ثمّ يرى أنّ باستطاعته أن يختار كلمة واحدة، أو عبارةً ما قصيرة، تستدعي بطبيعة معناها لوازم فكريّة، يستطيع المتلقّي أن يكتفي بها عن الكلمات أو العبارات المتعدّدات إذا جاءت بديلاً في الكلام.
عندئذٍ يَعْدِلُ إلى اختيار الكلمة أو العبارة ذات اللّوازم الفكرية، مستغنياً بها عن كلام طويل، ليوجز في كلامه ويجعله قصيراً مع غزارة في معانيه.
فمن الأمثلة نلاحظ أن كلمة "الذِّكْر" المختارة للتعبير بها عن القرآن في كثير من نصوص الكتاب العزيز تُغْنِي بلوازمها الفكريّة عن جملة كلمات أو عبارات تتضمّن المعانيَ التالية "تبليغ القرآن - وجوب تلقيه عن المبلّغ - وجوب فهمه وتدّبره - وجوب حفظه - وجوب جعله حاضراً في الذاكرة ليُرْجَعَ إلى نصوصه عند كلّ مناسبة داعية لمعرفة دين الله وأحكامه".
كلُّ هذه المعاني فهمناها باللُّزوم الذهني، لأنَّهُ لا يكون ذِكْراً دواماً ما لم يكن مسبوقاً بالتبليغ والتلقّي والفهم والتدبّر والحفظ فمن استوفى كلّ هذه الأمور كان القرآن بالنسبة إليه ذكراً، وإلَاّ كان مَتْرُوكاً منسيّاً.
فأغنت كلمة واحدة ذات لوازم ذهنيّة عن عَددٍ من الكلمات أو العبارات، دون أن يُقَدَّرَ في الكلام محاذيف، والوسيلة هنا في هذا الإِيجاز الاستغناءُ بما تُعْطيه اللوازم الفكرية، وحُسْنُ انتقاء الكلمات التي تَدُلُّ على اللوازم الفكريّة المطلوبة.
***
بهذه النظرات التحليليّة استطعنا أن نكشف أسباباً ثلاثةَ نستطيع بوساطتها أن نجعل الكلام قصيراً موجزاً، مع دلالته على معانٍ غزيرة كثيرة، دون الحاجة إلى تقدير محاذيف حُذِفت من منطوق اللّفظ وبقيت مقدّرةً فيه ذهْناً.
وتلخيص هذه الأسباب الثلاثة فيما يلي:
السبب الأوّل: اختيار الألفاظ والتعبيرات الكليّة، ذوات الدلالات العامّاتِ الشاملات.
السبب الثاني: الاستغناء عن التفصيلات الكثيرات بالأمثال والتشبيهات التي تدلُّ فيها الأشباه والنظائر على مقابلاتها، إذْ يدلُّ الممثَّل به الجامع لصُوَرٍ وصفاتٍ ومعَانٍ كثيرة على صُورٍ وصفاتٍ ومَعَانٍ موجودَةٍ في الممثّل له.
السبب الثالث: الاستغناء بما تعطيه اللّوازم الفكريّة لعبارة، عن ذكر كلامٍ ذي دلالات مباشرات تَدُلُّ بالمطابقة على هذه اللَّوازم.
***
أمثلة على "إيجاز الْقِصَر"
المثال الأوّل:
قول الله عز وجل في سورة (الزلزلة/ 99 مصحف/ 93 نزول) :
{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} . [الآيات: 7 - 8]
وصف الرسول صلى الله عليه وسلم هذا القول بأنَّه فَاذٌّ جَامعٌ، فقد روى البخاري عن أبي هريرة أنّ الرَّسول تحدث عن اقتناء الخيل فقسَّمها ثلاثة أقسام، وشرحها، وبعد ذلك سُئِلَ عَنِ الْحمُرِ فقال:
"مَا أُنْزِلَ عَلَيّ فيهَا إلَاّ الآيَةُ الْفَاذَّة الجامِعَة": {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الآيات: 7 - 8] .
جعل الآيتَيْنِ لترابطهما بمثابة الآية الواحدة، ووصفها بأنَّها فَاذَّةٌ، وَبِأَنَّها جامعة.
* أمَّا كونُها فاذّة فمعناه أنَّها منفردة فيما دلّت عليه من معنى، لم يأتِ في القرآن نظيرها بهذا الإِيجاز الجامع.
* وأمّا كونها جامعةً فمعناه أنَّها شاملةٌ عامّةٌ تتناول كُلَّ عَمَلٍ صغيراً كان أو كبيراً خيراً كان أو شرّاً، فهي من جوامع الكلم.
إنّ هذا البيان القرآني على قِصَرِه وقلَّةِ كلماته يَدُلُّ على مَعَانٍ يمكن أن تُفَصَّل وتُشْرَحَ بسِفْرٍ، لما جاء فيها من اختيار الألفاظ ذَواتِ الدلالات العامّات الشاملات.
(1)
كلمة "مَنْ" من ألفاظ العموم، فهي تعطي دلالة كليّة عامَّة تَشْمَلُ كلَّ مكلَّف، وهي اسم شرط جازم.
(2)
وفعل الشرط "يَعْمَل" يشمل كلّ عَمَلٍ إراديٍّ من الأعمال الظاهرة والباطنة.
(3)
وعبارة "مثقال ذرّة" عبارةٌ ذات شمول يبدأ من أصغر الأعمال وأقلّها عدداً، وينطلق دون حدود عِظَماً وعدداً كثيراً.
(4)
وكلُّ من كَلمَتِيْ: "خيراً" و"شرّاً" تمييز على تقدير "من" وهو منكر، فهو يفيد العموم الذي يشملُ كلَّ خير وكلَّ شرّ ظاهر أو باطن.
(5)
وكلمة: "يَرَهُ" التي هي جواب الشرط تدلُّ على حتميّة رؤيَةِ عَمَلِهِ الذي كان عَمِلَهُ في الدنيا، إذْ يراهُ في كتاب أعماله مسجَّلاً بالصُّورة والصوت والخواطر والنّيات.
هذا من أبدع وأعْجَب "إيجاز الْقِصَرِ" وطريقُه اختيار الألفاظ والتعبيرات ذوات الدَّلالات العامَّات الشّاملات.
***
المثال الثاني:
قول الله عز وجل في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
{وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الآية: 179] .
إنّ جملة: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} من أبْدع وأتْقَنِ "إيجَازِ الْقِصَر" الذي لا حَذْف فيه، إنّما فيه حُسْنُ انتقاء الكلمات، مع اتقان الصياغة، فهي على قِصَرِها وقلّةِ ألفاظها تَدُلُّ على معنىً كثيرٍ جِدّاً.
وطريق الإِنجاز فيها اختيار الألفاظ ذوات الدَّلالات العامَّاتِ الشاملات.
وقد اشتغل البلاغيّون في تحليل هذه العبارة القرآنية لاكتشاف عناصر إيجازها البديع المتقَن، ولمقارنتها بما كان لدى فصحاء العرب من عبارة مناظرة كانوا يردّدونها ويعتبرونها من أقصر الْكَلمِ وأوجزه، وهي قولهم:"القتْلُ أنْفَى للقتل".
وأعرض فيما يلي أبرزها مع إضافات تحليليّة من عندي:
(1)
إنّ كلمة "القِصَاص" كلمة عامّة تشمل القتل بالقتل، والقطع بالقطع، والجروح بالجروح، وتدخلُ فيها كُلُّ تفصيلات الجنايات ممّا يتعلّق بذوات الأحياء من الناس، أنفسِهِمْ فما دون ذلك.
(2)
وإنّ كلمة "حياة" تشمل حياة النفس، وحياة كلّ بعْضٍ من أبعاض الجسد الذي إذا انقطع مات، فيكون حاله كحال كلّ الجسد إذا ماتت النفس.
وتنكير لفظ "حياة" يدلُّ على أصل بقاء الحياة للنفس، ويدُلُّ على نوع نفيس من أنواع الحياة يتَمنّاه الأحياء، وهو نوع الحياة الآمنة، التي لا خوف فيها ولا قلَقَ، والذي يتحقّق بتقرير حكم القصاص وتنفيذه، وذلك لأنّ من تُحَدِّثُه نفسُهُ بالعدوان على فردٍ أو أكثر من أفراد المجتمع في كلّ النفس، أو في بعض أعضاء الجسد، فإنَّ خوفه من القصاص يروعُه فيكُفُّ عن ارتكاب الجريمة، وبهذا تَقِلُّ جرائم القتل والقطع والجروح في المجتمع إلى أدنى الحدود، فيعيش أفراد المجتمع مطمئنينَ حياةً آمِنة.
وبالمقارنة بين العبارة القرآنية: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} وبين أوجز عبارة مشابهة كان العرب يردِّدونها، وهي قولهم:"الْقَتْلُ أنْفَى لِلْقَتل" ظهر ما يلي:
(1)
إنّ حروف العبارة القرآنية: {فِي القصاص حَيَاةٌ} أقل من عبارة العرب: "الْقَتْلُ أنْفَى للقتل".
(2)
العبارة القرآنية ذكرت "الْقِصَاصَ" فعمَّت كلَّ ما تُقَابَلُ به الجناية على الأنفس فما دون الأنفس من عقوبة مُمَاثلة، وحدّدَتِ الأمر بأنْ يكون عقوبة لعمل سبق، ودلّت على مبدأ العدل.
أمّا عبارة العرب فقد ذكرت القتل فقط، ولم تقيّده بأن يكون عقوبة، ولم تُشِرْ إلى مبدأ العدل، فهي قاصرة وناقصة.
(3)
العبارة القرآنية نصَّتْ على ثبوت الحياة بتقرير حكم القصاص.
أما عبارة العرب فذكرت نَفْي القتل، وهو لا يَدُلُّ على المعنى الذي يَدُلُّ عليه لفظ "حياة".
(4)
العبارة القرآنية خالية من عيب التكرار، بخلاف الأخرى.
(5)
العبارة القرآنية صريحة في دلالتها على معانيها، مستغنية بكلماتها عن تقدير محاذيف.
بخلاف عبارة "العرب" فهي تحتاج إلى عدّة تقديراتٍ حتى يَستقيم معناها، إذْ لا بُدَّ فيها من ثلاث تقديرات، وهي كما يلي:
"القتلُ" قصَاصاً "أنْفَى من تركه "لِلقَتْلِ" عمْداً وعدواناً.
(6)
في العبارة القرآنية سَلَاسة، لاشتمالها على حروف متلائمة سهلة التتابع في النطق.
أمّا عبارة "العرب" ففيها تكرير حرف القاف المتحرِّك بين ساكنين، وفي هذا ثقل على الناطق.
(7)
في العبارة القرآنية من البديع "الطباق" بين لفظتي: القصاص والحياة.
(8)
العبارة القرآنية خالية من عيب إيهام التناقض، إذْ الموضوع تشريع لا يحتمل مثل هذا الإِيهام الذي قد يَحْسُنُ في موضع آخر، كالمدح والذّمّ.
فظاهر عبارة "القتل أنفى للقتل" متناقض، ولا يستقيم المعنى، إلَاّ بملاحظة المقدَّرات المحذوفة من اللفظ.
إلى غير ذلك من دقائق يكشفها المحلّل الخبير بتحليل دلالات الكلام.
***
المثال الثالث:
قول الله عز وجل لرسول في سورة (الحجر/ 15 مصحف/ 60 نزول) :
{فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} [الآيات: 94 - 95] .
إنّ جملة {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} موجزةُ العبارة، لكنَّهَا تَدُلُّ على معانٍ كثيرة، وقد ذكرها "ابْنُ أبي الإِصبع" من أمثلة "الإِيجاز" ونبَّهَ على ما في عبارة {فاصدع} من دقائق، فقال:
"المعنى: صَرِّحْ بجميع ما أُوحِي إليك، وبلِّغ كُلَّ ما أُمِرْتَ ببيانه، وإنْ شقَّ بعضُ ذَلِكَ عَلى بعضِ القلوبِ فانْصَدَعَتْ".
وأشار إلى أنّ استعمال {فاصدع} هُنَا هو استعمال على سبيل الاستعارة، ومعلوم أنّ الاستعارة عِمَادُها التشبيه، فشَبَّهَ تأثير التصريح في القلوب الكارهة للبيانات الدّينيَّة، بالضرب على الزجاج الذي يَنْصَدعُ دون أن يتكسَّر ويتفرّق، فتابع قائلاً:
"والمشابهة بينَهُما فيما يؤثِّرُهُ التصريح في القلوب، فيظْهَرُ أثَرُ ذلك على ظاهر الوجوه من القبض والانبساط، وما يلوح عليها من علامات الإِنكار والاستبشار، كما يظهر على ظاهر الزجاجة المصدوعة.
فانظر إلى جليل هذه الاستعارة، وعِظَم إيجازها، وما انطوت عليه من المعاني الكثيرة".
وحُكِيَ أَنّ بعض الأعراب لمّا سمع هذه الآية سَجَدَ، وقال سَجَدْتُ لفصاحة هذا الكلام.
أقول: إنّ إيجاز هذه الجملة القرآنية: "إيجازُ قِصَرٍ" وطريقُه التشبيه الذي جاء بأسلوب الاستعارة، و"إِيجازُ حَذْفٍ" إذْ في العبارة حذفُ المفعول به لفعل "تُؤْمَرُ" والتقدير: فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ أَنْ تُبلِّغَهُ للناس.
***
المثال الرابع:
قول الله عز وجل في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) خطاباً لرسوله فكلّ داع إلى سبيل ربّه:
{خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين} [الآية: 199] .
في هذه الآية إيجاز عجيب، إذْ تتألف من كلمات معدودات، إلَاّ أنّها تدلُّ على معانٍ كثيرة.
وطريق الإِيجاز فيها استخدام التعبيرات الكلية ذوات الدلالات العامّات الشاملات، والاستغناء بما تعطيه اللوازم الفكرية.
وقد شرحْتُ هذا النصّ وآيات ثلاثاً بعده في كتاب "أمثال القرآن وصُور من أدبه الرّفيع" فلا داعي لإِعادة شرحه هنا.
***
المثال الخامس:
قول الله عز وجل في سورة (هود/ 11 مصحف/52 نزول) في عرض لقطات من قصة نوح وقومه:
قالوا في هذه الآية من الإِيجاز ما يعجز البيان عن استيفاء تحليله وشرحه، فقد أمر فيها ربُّنا ونَهَى، وأخبرَ، ونادَى، ونعَتَ، وسمَّى، وأهْلَكَ وأبْقَى، وأسْعَدَ، وأشْقَى، وقصَّ من الأنباء ما حقّق به الغاية القصْوَى من البيان.
وطريق الإِيجاز فيها التعبيرات الكليّة العامّة، والاستغناء بما تعطيه اللوازم الفكريّة.
وقد شرحت هذه الآية في كتاب "نوح عليه السلام وقومه في القرآن المجيد".
***
المثال السادس:
قول الله عز وجل في سورة (النمل/ 27 مصحف/48 نزول) في عرض لقطات من قصة سليمان وجنوده:
قالوا: إنَّ التعبير عن قول النملة قد جمع ثلاثة عشر جنساً من الكلام:
(النداء - الكناية في "أيُّ" - التنبيه في "ها" - التسمية في (النمل) - الأمر - القصة في "مساكنكم - النهي التحذيري - التخصيص في "سليمان" - التعميم في "وجنوده" - الكناية بالضمير في مواضع - العذر في "وهم لا يشعرون" - التأكيد في "لا يحطِمَنَّكُم" - الإِيجاز بالعطف -) .
وفي أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا الإِيجاز الشيء الكثير.
ونجد أيضاً في أقوال فصحاء العرب، وبلغاء الأدباء والكتاب أمثلة كثيرة. وفيما أوردته من أمثلة قرآنية كفاية.
(4)
شرح "إيجاز الحذف"
سبق بيان أنّ "إيجاز الحذف" هو الإِيجاز الذي يكونُ قِصَرُ الكلام فيه بسبب استخدام حذف بعضه، اكتفاءً بدلالة القرائن على ما حُذِف.
إنّ من طبيعة البلغاء والمتحدّثين الأذكياء أن يَحْذِفوا من كلامهم ما يَرَوْن المتَلَقِّيَ له قادراً على إدْراكه بيُسْرٍ وسُهُولة، أو بشيء من التفكير والتأمُّل إذا كان أهلاً لذلك.
والسبب في هذا أنّ الإِسراف في الكلام لا يَليق برَزَانَةِ ورَصَانةِ أهل العقل والفكر الحصيف، بل هو من صفات الثرثارين وأهل الطيش والخفّة، وهو في الغالب من طبائع النساء.
وقد سمَّى "ابن جنيّ" الحذفَ شجاعَةَ العربيّة، وقال:"عبد القاهر الجرجاني": "ما من اسم حُذِفَ في الحالة التي يَنْبَغي أن يُحْذَفَ فيها إلَاّ وحَذْفُهُ أحْسَنُ من ذِكْره".
وأعالج شرح "إيجاز الحذف" من خلال ثلاثة مباحث مع الأمثلة.
المبحث الأول: فوائد الحذف.
المبحث الثاني: شروط الحذف.
المبحث الثالث: أنواع الحذف.
وفيما يلي التفصيل والشرح.
أوّلاً - فوائد الحذف:
ذكر الباحثون في هذا المجال إحدى عشرة فائدة أجْمَعُها في "تِسْع" إذا تحققت واحدة منها فأكثر دون الإِساءة إلى المعنى المراد فالحذف بشروطه عمل بليغ، ومسلك في الكلام رشيد.
الفائدة الأولى: الاختصار اقتصاداً في التعبير، واحترازاً عن البعث، عند تحقُّق المطلوب بظهور المعنى المراد لدى المتلَقِّي، ككَوْن المذكور لا يصلُح إلَاّ للمحذوف، ومنه حذف المبتدأ إذا كان الخبر من الصفات التي لا تصلُحُ إلَاّ لله عز وجل، وككْون المحذوف مشهوراً حتى يكون ذكره وحذفه سواء.
الفائدة الثانية: التَّنْبيهُ على أنّ الوقت مع الحدث لا يتسع للتصريح بالمحذوف من اللفظ، أو أنّ الاشتغال بالتصريح به يُفضي إلى تفويت أمْرٍ مُهِمّ، وتظهر هذه الفائدة كثيراً في باب "التحذير والإِغراء" ومنه ما في قول الله عز وجل في سورة (الشمس/ 91 مصحف/ 26 نزول) المشتمل على قول صالح عليه السلام لقومه:
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ * إِذِ انبعث أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله نَاقَةَ الله وَسُقْيَاهَا} [الآيات: 11 - 13] .
فحذَّرَّهُمْ أن يَمَسُّوا نَاقَةَ الله، فحذَف فِعْلَ التحذير فقال:"نَاقةَ الله" والتقدير: ذَرُوا نَاقَةَ الله.
وأغراهم بأن يحافظوا على شروط سُقْيَاها، فحذف فِعْلَ الإِغراء فقال:"وسُقْيَاها" والتقدير: الزموا سقياها، أو الزموا شروط سقياها.
الفائدة الثالثة: التفخيم والتعظيم، أو التهويل ونحو ذلك، بسبب ما يُحْدِثُه الحذف في نفس المتلقّي من الإِبهام الذي قد يجعل نَفْسَه تقدّر ما شاءت دون حدود، ويَحْسُنُ مثل هذا الحذف في المواضع التي يُراد بها التعجيب والتهويل وأن تذهب النفس في تقدير المحذوف كلَّ مذهب.
كحذف جواب الشرط في قول الله عز وجل في سورة (الزمر/ 39 مصحف/ 59 نزول) :
وتقدير الجواب: لَرَأَوْا شيئاً عظيماً جدّاً تعجز عباراتهم عن وصفه.
وكحذف جواب الشرط أيضاً في قول الله عز وجل في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) :
{وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} [الآية: 27] .
أي: ولو تَرَى إذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ لَرَأَيْتَ مَا هُمْ فيه من الرُّعْبِ وَالكَرْبِ والْحَسْرَةِ والنَّدَمِ شيئاً لا تستطيع وصفه بالعبارة.
الفائدة الرابعة: التخفيف على النُّطْق لكثرة دَوَرَانه في الكلام على الألسنة.
وهذه الفائدة تظهر في حذف أداة النداء، وحذف النون من فعل "يكُن" المجزوم، وحذف ياء المتكلم، وحذف مثل ياء "يَسْرِي" كما قال تعالى:{واللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} وحذف آخر المرخّم في النداء، ونحو ذلك.
الفائدة الخامسة: صيانة المحذوف عن الذكر تشريفاً له.
الفائدة السادسة: صيانة اللّسان عن ذكره فيحذَفُ تحقيراً له وامتهاناً.
الفائدة السابعة: إرادة العموم، مثل قولنا في الفاتحة خطاباً لربِّنا:{وَإيَّاكَ نَسْتَعين} أي: في أمور دنيانا وأُمور أخرانا.
الفائدة الثامنة: مراعاة التَّناظُر في الفاصلة، مثل قول الله عز وجل في سورة (الضُّحى/ 93 مصحف/11 نزول) :
{والضحى * والليل إِذَا سجى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} [الآيات: 1 - 3] .
أي: وما قَلَاكَ.
الفائدة التاسعة: إرادة تحريك النَّفْس وشَغْلِهَا بالإِبهام الذي يتبعه البيان، حتى يكون البيان أوقع وأثبت في النفس.
مثل قول الله عز وجل في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول) :
{
…
وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الآية: 9] .
أي: ولو شاء هدايتكُمْ لسلبكُمُ الاختيار ولجعلكم مجبورين، وإذن لهداكم أجمعين.
قالوا: إنّ مفعول المشيئة والإِرادة بعد الشرط لا يذكر غالباً إلَاّ إذا كان غريباً أو عظيماً.
***
ثانياً - شروط الحذف:
ذكروا شروطاً سبعة لجواز الحذف، منها ما هو بلاغيّ، ومنها ما يدور في فَلَكِ الصناعة النحويّة، ولكِنْ لم يتّضِحْ لي منها بلاغيّاً غير شرطين:
الشرط الأول: أنْ لا يُؤَدّيَ الحذْفُ إلى الجهل بالمقصود، فَيُشْتَرطُ أنْ يُوجَدَ دليلٌ يدلُّ علَى المحذوف، وقد يُعَبَّرُ عنه بالقرائن الدالة.
الشرط الثاني: أنْ لا يَكُونَ المحذوف مُؤكِّداً للمذكُور، إذْ الحذْفُ منافٍ للتأكيد.
والدليل الدّالُّ على المحذوف:
(1)
إمَّا أنْ يكون من قرائن المقال الموجودةِ في السِّبَاق أَوْ في السِّيَاق.
(2)
وإمَّا أن يكون من قرائن الحال.
(3)
وإمّا أن يكون من المفاهيم الفكرية والاقتضاءات العقليَّة، واللّوازم الذهنيّة.
أمثلة:
المثال الأول:
قول الله عز وجل في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول) في عرض لقطة من أحداث يوم الدّين:
{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً
…
} [الآية: 30] .
أي: قالوا: أنْزَلَ رَبُّنَا خَيْراً. إنّ إجابتهم تقتصر على ذكر المفعول به فقط، وهو لفظُ "خيراً" وقد دلَّت قرينة المقال في سباقه على المحذوف.
المثال الثاني:
قول الله عز وجل في سورة (الذاريات/ 51 مصحف/ 67 نزول) :
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} [الآيات: 24 - 25] .
هؤلاء الضيوف كانوا الملائكة الذين بشّروه بغلام عليم من زوجته "سارَة" وأخْبَرُوهُ بأنَّهُمْ ذاهبون لإِهلاك قَوْم لوط.
وقد جرى في تحيّتهم له حذف، وفي رَدّ إبراهيم عليهم حذف أيضاً ودَلَّ على المحذوف قرينة الحال، وتقدير الكلام إذا رَدَدْنا المحذوفات كما يلي:
قالوا: نُسَلِّمُ عليك سَلَاماً.
قال: سَلامٌ عليكم أَنْتُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُون.
وداعي الحذف هنا الإِيجاز والتخفيف لكثرة دوران مثل هذا الاستعمال على الألسنة.
المثال الثالث:
قول الله عز وجل في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول) :
{يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود
…
} [الآية: 1] .
وقوله في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول) :
{وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً} [الآية: 34] .
إنّ العقودَ والْعُهُودَ التزاماتٌ بالقول يُنْشِئُها المتعاقدون والمتعاهدون، وترتبط ذه الالتزامات الإِنشائية بإبرامها بالقول، فكيف يُطالِبُ اللَّهُ عز وجل بالْوَفاء بها وقد استوفَتْ شروط إبرامها؟.
الدّليل العقلي يَهْدِي إلى أنّ المطلوبَ الْوَفَاءُ بمقتضاها، لأنّ العقود والعهود تُبْرَمُ بالأَقوال ثم على مَنْ أبْرَمَها أن يلتزم بمقتضاها.
فالكلام إذن على تقدير: أوفُوا بمقْتَضَى العقود، وأوفوا بمقتَضَى العهد. والدليل الذي دلّ على المحذوف الاقتضاء العقلي.
المثال الرابع:
قول الله عز وجل في سورة (فاطر/ 35 مصحف/ 43 نزول) :
{مَن كَانَ يُرِيدُ العزة فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً
…
} [الآية: 10] .
في هذه العبارة محاذيف يدلُّ عليها النظر الفكري والتأمل، إذ المعنى: من كان يريد العزَّة فلّيُؤْمِنْ بِاللَّهِ، ولْيَطْلُبْهَا مِنْهُ، ولْيَسْلُكْ سَبيل الوصول إليها عن طريق مرضاته، فَلِلَّهِ الْعِزَّة جميعاً.
إنّ جواب الشرط "مَنْ كان يُريدُ العزّة" الذي جاء بصيغة "فلِلَّهِ العزَّةُ جَمِيعاً" يسلتزم عقلاً التوجيه لطَلَبِها عند من يَمْلِكُها، ولمَّا كانَتِ العزَّةُ كلُّها للَّهِ عز وجل فَعَلى مَنْ يُريدُها أنْ يَطْلُبَها منه، وطَلَبُها إِنَّما يكون بالإِيمان به، والإِسلام له، وسلوك السبيل التي ارتضاها لعباده، والعمل بمراضيه، وسؤاله النصر والتأييد، والاستعانة به، وذِكْرِهِ كثيراً.
فالدليل الدالُّ على المحذوف هنا فكريٌّ عقلي.
المثال الخامس:
قول الله عز وجل في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) :
{وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانبجست مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ
…
} [الآية: 160] .
أي: فَضَرَب مُوسَى بِعَصَاهُ الْحَجَر فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَة عَيْناً.
انْبَجَسَتْ: أي: انْفَجَرَتْ.
قَالُوا: الفاء في [فَانْبَجَسَتْ] هي الفاء الفصيحة، إذْ أفْصَحَتْ عن محذوفات في النّص.
أقول: الذي دَلَّ على هذه المحذوفات دليلُ النظر الفكري، والتأمُّل في اللّوازم الذهنيَّة التي تَرْبِط بين الأمْرِ بأن يضرب بعصاه الحجر، وبين حدوث ظاهرةِ تفجُّرِ الْحَجَرِ بالماء، والفاء لم تدلُّ إلَاّ على الترتيب مع التعقيب.
***
ثالثاً - أنواع الحذف:
ذكروا أنّ الحذف ينقسم إلى خمسة أقسام.
القسم الأول: الاقتطاع.
القسم الثاني: الاكتفاء.
القسم الثالث: التضمين.
القسم الرابع: الاحتباك.
القسم الخامس: الاختزال.
وفيما يلي الشرح مع الأمثلة:
شرح القسم الأول: الاقتطاع:
الاقتطاع: هو حذف بعض حروف الكلمة أو ما هو بمثابة الكلمة الواحدة، تخفيفاً على مخارج الحروف، أو لداعي السرعة، أو لأجل القافية في الشعر، أو الفاصلة في النثر، أو التجبُّبِ في النداء، أو نحو ذلك من دواعي بلاغية.
* فمنه حذف نون فعل "يكون" المجزوم، كما جاء في قول الله عز وجل في سورة (القيامة/ 75 مصحف/ 31 نزول) :
{أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى} [الآيات: 36 - 37] .
الأصل: "ألَمْ يَكُنْ" فَحُذِفَت النُّونُ تخفيفاً، وربّما لأغراضٍ أخرى تتصل بأعداد الحروف، أو لغير ذلك.
*ومنه حذف إحدى التاءَيْن المتوالِيَتَيْن في الفعل الوارد على وزن "تَتَفعل" كما جاء في قول الله عز وجل في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) :
{ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الآية: 152] .
تَذَكَّرُون: أصلُها تَتَذكَّرون، فَحُذِفْت إحدى التّاءَيْن تخفيفاً.
وكما جاء في قول الله عز وجل في سورة (عَبَسَ/ 80 مصحف/ 24 نزول) خطاباً لرسوله:
{أَمَّا مَنِ استغنى * فَأَنتَ لَهُ تصدى} [الآيات: 5 - 6] .
تَصَدَّى: أصلُها تتصدَّى، فحذفت إحدى التّاءَيْن تخفيفاً.
* ومنه حذف التاء من استطاع على غير قياس، كما جاء في قول الله عز وجل في سورة (الكهف/ 18 مصحف/ 69 نزول) حكاية لما قال الخضر لموسَى عليهما السلام:
{ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [الآية: 82] .
بعد أن قال له قبل هذا:
{سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [الآية: 78] .
ولعلّه أشار أخيراً بفعل "تَسْطعْ" إلى طبيعة موسى عليه السلام التي تقلُّ فيها استطاعة الصبر، فناسبها تقليل حروف الكلمة.
* ومنه الترخيم في النداء، كما جاء في قول امرئ القيس:
أَفَاطِمُ مَهْلاً بَعْضَ هَذا التَّدَلُّلِ
…
وَإِنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ صَرْمِي فَأَجْمِلي
أي: أَفَاطِمَةُ.
* ومنه حذف آخر الكلمة لمراعاة التناسب في الفواصل، كما جاء في قول الله عز وجل في سورة (الفجر/ 89 مصحف/ 10 نزول) :
{والفجر * وَلَيالٍ عَشْرٍ * والشفع والوتر * والليل إِذَا يَسْرِ} [1 - 4] .
يَسْرِ: أصْلُها يَسْرِي، فَحُذِفَ آخر حرف فيها لمراعاة الفاصلة.
وكذلك قوله تعالى فيها:
{وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد * وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} [الآيات: 9 - 10] .
بِالْوَادِ: أصْلُها "بالوادي" فَحُذِفَتِ الياء لمراعاة الفاصلة.
* ومنه حذف ياء المتكلم، كما جاء في قول الله عز وجل في سورة (القمر/ 54 مصحف/ 37 نزول) :
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [الآية: 21] .
ونُذُرِ: أي: ونُذُرِي، فَحُذِفَتْ ياء المتكلم لمراعاة التناظر في الفواصل.
إلى غير ذلك.
***
شرح القسم الثاني: الاكتفاء:
الاكتفاء: هو أن يقتضي المقام ذِكْرَ شيئَيْنِ بَيْنَهُمَا تَلازُمٌ وارتباط، فَيُكْتَفَى بأَحَدِهما عن الآخر لنكتةٍ بلاغيّة.
ويختصُّ غالباً بالارتباط العطفي.
أمثلة:
المثال الأول:
قول الله عز وجل في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول) :
ففي قوله تَعَالَى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} إيجازٌ بالحذف، على سبيل الاكتفاء، إذِ التَّقْدير: تقيكُمُ الْحَرَّ والْبَرْدَ.
قالوا: وخُصَّ الحرُّ بالذكْرِ لأَنَّ المخاطَبين الأَوَّلِينَ كانوا عَرباً، وبلادُهُمْ حارَّة، والوقاية من الحرّ هي الأهم لدى معظمهم.
أقول: إنَّ من أساليب القرآن تَجْزِئَةَ العناصر الفكريّة على النصوص، وقد جاء فيه الامتنان بالدفء في قوله تعالى في سورة (النحل) أيضاً:
{والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [الآية: 5] .
فتكامل النصّان في الدَّلَالة على الوقاية من الحرّ والبرد.
المثال الثاني:
قول الله عز وجل في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) :
{وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار وَهُوَ السميع العليم} [الآية: 13] .
أي: وله ما سَكَنَ وَمَا تَحَرَّكَ في اللّيلِ والنّهار، لأنّ كلّ ساكنٍ في الوجود هو ذُحَركة ما، فالأمران مُتَلازمان فحصل الاكتفاء بأحدهما عن الآخر.
***
شرح القسم الثالث: التضمين:
التّضمين: هو تضمين كلمة معنى كلمة أُخْرى، وجَعْلُ الكلام بعدها مَبْنيّاً على الكلمة غير المذكورة، كالتعدية بالحرف المناسب لمعناها، فتكون الجملة بهذا التضمين بقوّة جملتين، دلَّ على إحداهما الكلمة المذكورة التي حُذِف ما يَتَعلَّقُ بها، ويُقَدَّرُ معناه ذهْناً، ودَلَّ على الأَخْرَى الكلمةُ التي جاءتْ بعدها المتعلّقةُ بالكلمةِ المحذوفةِ الْمُلاحَظِ مَعْنَاها ذهْناً.
وهذا التضمين فَنٌّ رَفيعٌ من فنون الإِيجاز في البيان، وهو لا يخضع لقواعد
الاستعمالات العربيّة الجامدة التقليديّة، الّتي قد يتقيَّد بها النحاة، بل هو لَمْحٌ ابتكاريٌّ يُلاحظه البَلِيغُ، إذْ يَرى فِعْلَيْنِ مُتَقَاربَيْنِ، أَوْ نَحْوَهُما، وهو يريد استعمالَ كلٍّ منهما في كلامه، وهذا يقتضي منه أن يصوغَهُما في جُمْلَتين، وَيُعْطِيَ كُلاًّ مِنْهُما تعديَتهُ التي تلائمه، لكنَّهُ يرَى ما هو أبْدَعُ من ذلك وأخْصَرُ، وأرفع أسلوباً في أداء بيانيٍّ جميلً، يُحَرِّكُ ذهنَ المتلَقِّي لفهمه، ويُعْجب لمَّاحي الذَّكَاء من البلغاء، وهو أن يختار أحدَ الفعلَيْنِ بفنّيّةٍ، فيذْكُرَهُ بلفْظِه، ثمّ يأتي بما يتعدّى إليه الفعلُ الآخر، أو يَعْمَلُ فيه، فَيَذْكُرُه، ويَحْذِفُ مَعْمُولَ الفِعْل الّذِى ذكّرَهُ، إذا كان له معمول، سواءٌ أكان مفعولاً به، أمْ غير ذلك، ويَسْتَغْنِي بذكر جُملَةٍ واحدةٍ عن جملتين.
ولدى تَحْلِيل التضمين يظهر لنا أنّه صنف من أصناف الحذفِ الّذِي يُتْرَكُ في اللَّفظ ما يَدُلُّ عليه.
فالفعلُ المذكور يَدُلُّ بحسب تَعْدِيَتِهِ العربيَّةِ على معموله المحذوف، والمعمول المذكور مع قرائن النصّ يدُلُّ على عامِلِه المحذوف، ويَنْتُجُ عن ذلك أداءٌ مُوجَزٌ بليغ، اعتمد على أسلوبٍ بيانِيٍّ ذكيّ.
ولا بُدّ أن نُدْرِك أنَّ مثل هذا الإِجراء البيانيّ لا يستقيم بين كلِّ فعلَيْنِ أو ما يَعْمَلُ عمَلَهُما، حتَّى يُطَبَّقَ بغباء، سواءٌ استقام الآداءُ البيانيّ أمْ لم يستَقِم، بل يحتاج من البليغ رؤيَةً فَنّيَّةً بَيَانيَّة، يَصِلُ بها إلَى أنَّهُ لو استخدم هذا الأسلوب في جُمْلَتِه لأدركه الْبُلَغَاءُ والأَذكياء، دون إعنات ذهْنِيّ، ويُدْرِكُه الآخَرُون بالتَّدَبُّر والتأمُّل.
فمثلاً: أُرِيدُ أنْ أقولَ: جَلَسْتُ عَلى فِراشي، وأَمَلْتُ جِسْمِيَ إلى مُتَّكَئِي، فأخْتَصرُ الكلام فأقُولُ: جَلَسْتُ إلى مُتَّكَئِي.
ومثل هذا الإِيجاز القائم على الحذف والإِيصال، أُسْلوبٌ ينهجُه بُلَغاءُ الْعَرب، وتقدير الكلام: جَلَسْتُ مائلاً إلى مُتَّكَئِي.
أمثلة:
المثال الأول:
قول الله عز وجل في سورة (الإِنسان/ 76 مصحف/ 98 نزول) :
{إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} [الآيات: 5 - 6] .
إنّ فعل: "يَشْرَبُ" يُعَدَّى لغةً بحرف "مِنْ" لكنّه جاء في النّصّ هنا متعدّياً بحرف "الباء" فَلِماذا؟
بالتأمُّل يظهر لنا أنّ فِعْلَ "يشرب" ضُمِّنَ معنَى فِعْلِ: "يتلَذّذ" أو "يَرْتَوِي" الذي يُعَدَّى بحرف "الباء" فَعُدّي تعديته، والتقدير: عيناً يَشْرَبُ منها مُتَلذّذاً بها عبادُ الله، فأغنى "يَشْرَبُ بها" عن عبارة: يشربُ منها ويتلّذذ بما يشرب عباد الله.
الفعلُ المذكور دلَّ على معناه بصريح العبارة، وحرف الجرّ "الباء" دلَّ على الفعل المحذوف الذي ضُمِّنَ الْفِعْلُ المذكور معناه، فأغنت جُمْلةٌ عن جُمْلَتَيْن، وعبارةٌ عن عبارتين، وهذا من روائع الإِيجار في القرآن المجيد.
المثال الثاني:
قول الله عز وجل في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ
…
.} [الآية: 187] .
كَلِمَةُ "الرَّفَثِ" مَصْدَرُ "رَفِثَ يَرْفَثُ رَفَثاً" أي: صَرَّحَ بكلامٍ يتعلَّقَ بالجماعِ ومُقدّماته، أو فعَلَ ما يتَّصِل بذلك.
وأصل الرفَث لا يَتَعدَّى لغة بحرف "إلَى" لكنّه ضُمِّنَ مَعْنَى فِعْلِ "أَفْضَى" فَعُدِّيَ تعديتَه، يُقَالَ: أَفْضَى إلى زوجته، أي: أزال ما بَيْنهما من الفضاء فالتصقَ بها، وهو كناية عن الجماع.
وتقدير الكلام: أُحِلّ لَكُمْ ليلةَ الصّيام الرَّفَثُ بالحديث مع نسائكم مُقَدِّمَةً مُنَاسِبَةً يكونُ بَعْدَها الإِفضاء إليّهن وجماعُهُنَّ، والله بهذا يُعَلِّم الأزواج أدب المعاشرة باستخدام المقدمات قبل الإِفضاء والمعاشرة الزوجيّة.
المثال الثالث:
قول الله عز وجل في سورة (النازعات/ 79 مصحف/ 81 نزول) :
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بالواد المقدس طُوًى * اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى * فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أَن تزكى * وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ فتخشى} [الآيات: 15 - 19] .
هَلْ لَكَ إلَى أَنْ تَزَكَّى؟ : عبارة: "هَلْ لَكَ" وخبَرٌ مقدَّم والمبتدأ محذوف تقديره: "هَلْ لَكَ رَغْبَةٌ" وكلمةُ "رغْبَة" تُعَدَّى بحرفِ "في" لا بحرف "إلَى" لكن ضُمّنَت معنى فعل "أدعو" فَعُدّيَتْ تَعْدِيته، والتقدير: هَلْ لَكَ رَغْبَةٌ في أن أَدْعُوَك إلَى أن تَزَكَّى؟
المثال الرابع:
قول الله عز وجل في سورة (الشورى/ 42 مصحف/ 62 نزول) :
{وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الآية: 25] .
إنّ فعل "يَقْبَلُ" يتعدَّى لغة بحرف "من" فيقال: قَبِل الله منه توبته.
ولكنْ عُدّيَ هنا بحرف "عَنْ" لأنَّه ضُمِّنَ معنى فِعْلِ "عَفَا" أو "صَفَحَ" فَعُدِّي تعديته، والتقدير: وهو الذي يَقْبَلُ التوبَةَ من عباده إذْ يَعْفُو ويَصْفَحُ عنهم.
المثال الخامس:
قول الله عز وجل في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) بشأن منافقي العرب:
{وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [الآية: 14] .
إنَّ فعل "خَلَا" يأتي في اللّغة للدّلالة على معنَى انفراد الإِنسان في خَلْوَة، لا يكون معه فيها أحَدٌ، فيقولون: خلا الرجل، ورُبَّما قالُوا: خلا بنَفْسِه، فإذا أرادوا بيان أنّ الخلوة حصلَتْ مَعَ فريقٍ آخر قالوا: خَلَا به، أو خلا معه، ولَا يُعَدَّى فِعْلُ "خَلا" بحرف "إلى" بحسب أصل الاستعمال.
فكيف نُفَسِّر هذه التعدية؟
أقول: إنَّ فعل "خلا" ضُمّن معنى فعل "رجَعَ" فَعُدِّي تَعْدِيته، والتقدير: وإذا خَلَوْا راجِعينَ إلى شياطينهم قالوا لهم: إنّا معكم إنَّما نَحْنُ مستهزئون بالمؤمنين.
المثال السادس:
قول الله عز وجل في سورة (ص/ 38 مصحف/ 38 نزول) في حكاية فتوى داود عليه السلام للفريقين الّذَيْنِ تَسَوَّروا عليه المحراب:
{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ
…
} [الآية: 24] .
إنّ كلمة "سُؤَال" لا تُعَدَّى بحرف "إلَى" ولكنّها ضُمّنَت معنى الجمْع والضّمّ فعدّيَتْ بحرْفِ "إلى" والتقدير: لقد ظلمك بسؤال نَعْجَتِكَ ضامّاً إيَّاها إلى نعاجه.
قال ابن تيمية.
"والعرب تُضمّن الفعل معنى الفعل، وتُعَدِّيه تعديته، ومن هنا غلط من جعل بعض الحروف تقوم مقام بعض، كما يقولون في قوله:{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ} أي: مع نعاجه و {وَمَنْ أَنْصَارِي إلَى الله} أي: مع الله، ونحو ذلك.
والتحقيق ما قاله نحاة البصرة من التضمين، فسؤال النعجة يتضمّن جمعها وضَمَّها إلى نعاجه، وكذلك قوله:{وَإِنْ كادوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 73]
ضُمِّنَ مَعْنَى "يُزِيغُونك" و"يَصُدُّونَكَ" وكذلك قوله: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأنبياء: 77] ضُمّنَ معنى "نَجَّيْنَاه" و"خَلَّصْنَاهُ" وَكَذَلِكَ قوله: {يَشْرَبُ بِهَا عِبادُ الله} [الانسان: 6] ضُمِّنَ "يَرْوَى بها" ونظائره كثيرة.
المثال السابع:
قول الله عز وجل في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) :
اثّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ: أي: تَثَاقَلْتُمْ مائِلينَ أَوْ مُخلِدين إلى الأرض، فعُدِّيت كلمة "اثَّاقَلْتُم" بحرف "إلى" لأنها ضُمّنَت معْنَى كلمة "أخلد" أو "مَالَ".
انظر طائفة من الأمثلة الأخرى في كتابي "قواعد التدبّر الأمثل لكتاب الله عز وجل".
***
شرح القسم الرابع: الاحتباك:
الاحتباك: هو أن يُحْذَفَ من الأوائل ما جاء نظيره أو مقابلة في الأواخر، ويُحْذَفَ من الأواخر ما جاء نظيره أو مقابلة في الأوائل.
ومأخذ هذه التسمية من الْحَبْك، وهو الشدّ والإِحكام، وتحسين أثر الصنعة في الثوب، فَحَبْكُ الثوب هو سَدُّ ما بين خيوطه من الْفُرَج وشَدُّهُ وإحكامه إحكاماً يمنع عنه الْخَلَل، مع الْحُسْنِ والرونق.
وبيان أخذ هذه التسمية من حَبْكِ الثوب أنّ مواضع الحذف من الكلام شُبِّهَتْ بالْفُرَجِ بين الخيوط، فلمّا أدْركها المتدبر البصير بصياغة الكلام، الماهر بإحكام روابطه، وأدْرك مقابلاتها، تنبّه إلى ملء الفُرَج بأمثال مقابلاتها، كما يفعل الحائل حينما يُجْري حبكاً مُحْكماً في الثوب الذي ينسجه.
يقال لغة: حبَكَ الثوبَ، وحَبّكَه، واحْتَبَكَهُ إذا أجاد نسجه وأتقنه، وحَبكَ الحبْلَ، إذا شدَّ فتله. وحبَكَ الثوب، إذا ثنَى طرفَه وخاطه.
أمثلة:
المثال الأول:
قول الله عز وجل في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) :
نُلاحظ في هذه الآية حَذْفاً مِنَ الأَوَائل لدلالة ما في الأواخر، وحذْفاً من الأواخِرِ لِدَلَالَةِ مَا فِي الأوائل، وهذا من بدائع القرآن وإيجازه الرائع.
إنّ إبراز المحاذيف يتطلّب منا أن نقول:
{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ} مُؤْمِنَةٌ {تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وَ} فئة {وأخرى كَافِرَةٌ} تُقَاتِلُ فِي سبيل الطّاغوت {يَرَوْنَهُمْ
…
} إلى آخره.
فتحقّق "الاحتباك" بدلالة ما في الأوائل على المحذوف من الأواخر، ودلالة ما في الأواخر على المحذوف من الأوائل.
المثال الثاني:
قول الله عز وجل في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) :
قالوا: أي: خَلَطُوا عَمَلاً صَالحاً بِسَيِّئٍ وعملاً آخَرَ سيّئاً بصالح.
أقول: مثل هذا التقدير ليس أمراً لازماً في هذا الشاهد، بل الأولى - فيما أَرَى - فهمُهُ على الوجه التالي:
{وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا} أي: جَمَعُوا جمعاً مختلطاً أَعَمْالاً مختلفة "عملاً صالحاً وآخر سَيّئاً".
والمعنى أنّهم يعملون عملاً صالحاً، ويعملون بعده عملاً سيّئاً، وهكذا دواليك، فهذا المعنى التتابعي الذي يجمع في صحائفهم خليطاً غير متجانس لا يؤدّيه تقدير: خلطوا عملاً صالحاً بسيِّئ وعملاً آخر سيّئاً بصالح.
المثال الثالث:
قول الله عز وجل في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) حكاية لَما خاطب به موسى عليه السلام عند تكليمه:
{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء
…
} [الآية: 12] .
التقدير: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} تَدْخُلْ غَيْرَ بيضاء. وأَخْرِجْهَا {تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء} .
فدلَّ لفظ "بيضاء" في الأواخر على عبارة "غير بيضاء" المحذوفة من الأوائل، ودلَّتْ عبارة "وَأَدْخِلْ" في الأوائل على عبارة "وأخرجها" المحذوفة من الأواخر، فتمّ الاحتباك.
***
شرح القسم الخامس: الاختزال:
الاختزال: هو كلُّ حذف في الكلام لا يدخل في واحد من الأقسام الأربعة السابقة "الاقتطاع - الاكتفاء - التضمين - الاحتباك".
وقد تتبّع البلاغيون والنحويّون والمفسّرون هذا الحذف المسمّى بالاختزال فوجدوا أنَّهُ يَشْمَلُ حذف الاسم، والفعل، والحرف، وحذف جملةٍ، أو عدّةِ جملٍ، وحذفَ كلام طويل في قصّةٍ ذات أحداث كثيرة.
وتتبعوا الأمثلة بالتفصيل فوجدوا أمثلةً من كلّ ما يلي:
(1)
حذف المضاف، وهو كثير جدّاً في القرآن، حتّى عَدَّ "ابن جنّي" منه زُهاءَ ألف موضع.
(2)
حذف المضاف إليه.
(3)
حذف المبتدأ.
(4)
حذف الخبر.
(5)
حذف الموصوف.
(6)
حذف الصفة.
(7)
حذف المعطوف عليه.
(8)
حذف المعطوف مع العاطف.
(9)
حذف المبدَلِ منه.
(10)
حذف الفاعل.
(11)
حذف المفعول به.
(12)
حذف الحال.
(13)
حذف المنَادى.
(14)
حذف العائد.
(15)
حذف الموصول.
(16)
حذف الفعل.
(17)
حذف الحرف.
(18)
حذف أكثر من كلمة، وقد تَبْلغ جملاً كثيرة، وأحداثاً طويلةً من قصة.
وإذْ يطول بي هنا ذكر الأمثلة مع شرحها وتحليلها، فإني اقتصر الآن على طائفة يسيرة منها، وأُحِيلُ القارئ على ما فَصَّلْتُ في القاعدة الرابعة عشرة، من كتابي:"قواعد التدبُّر الأمثل لكتاب الله عز وجل" وعلى كتاب "الإِشارة إلى الإِيجاز في بعض أنواع المجاز" للشيخ "عزّ الدين بن عبد السلام" وعلى ما جاء في كتاب "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" لابن هشام، في الباب الخامس منه، فقد فصل في أواخره القول في الحذف.
أقول: إنّ المهمّ في الدراسة البلاغيّة لظاهرة "الحذف" اكتشاف الداعي البلاغي له في الكلام، والتنبيهُ عليه.
أمثلة:
(1)
قول الله عز وجل في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول) :
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَآ أَكَلَ السبع إِلَاّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب
…
} [الآية: 3] .
أي: حُرِّمَ عليكم أَكْلُ هذِهِ المذكورات، وهذا من حذف الاسم المضاف.
(2)
وقول الله عز وجل في سورة (الروم/ 30 مصحف/ 84 نزول) بشأن الروم إذْ غُلِبوا من قبل الفرس وبيان أنهم سَيَغْلِبُون:
{لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ
…
} [الآية: 4] .
أي: للَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلِ الْغَلَبِ وَمِنْ بَعْدِ الْغَلَبِ، وهذا من حذف المضاف إليه.
(3)
وقول الله عز وجل في سورة (الكهف/ 18 مصحف/ 69 نزول) في حكاية بيان الخضر لموسى عليهما السلام أسباب أعماله التي استنكرها:
أي يأخُذُ كُلَّ سفينةٍ غَيْرِ مَعِيبَةِ غَصْباً، بدليل قوله: فأرَدْتُ أنْ أعيبها. وهذا من حذف الصفة.
وهكذا
…
.
***