الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البديعة اللفظية (6) : ائتلاف اللّفظ مع اللفظ وائتلاف المعنى مع المعنى
* من المحسّنات البديعيّة اللّفظية أن يكون اللّفظ مع اللّفظ المجاور له في الكلام مؤتَلِفَيْن، وهذا يلزم منه أن تكون الألفاظ في الكلام متآلفة يُلائِمُ بعضُها بعضها.
ومن الائتلاف في الألفاظ أن يُنْتَقَى في النصّ من الكلمات ما يكون من نوعٍ من الكلام واحد، كأن تكون الكلمات من نَوْعِ الغريب، أو من نوع المتَدَاوَل، أو ممّا يلائم العامّة، أَوْ ممّا يلائم الخاصّة، أو ممّا يلائم مخاطبين مُعَيَّنِين ذوي تخصُّصٍ واحدٍ من تخصصات المعارف والعلوم والصناعات والمِهَن.
* ومن المحسّنات البديعيّة اللّفظيّة أنْ تكون ألفاظ الكلام ملائمة للمعنى المراد منها، ومن هذه الملاءمة أن يحكي صوتُ الكلمة صوتاً يوجد فيما دلت عليه، مثل "حفيف" لحركة أوراق الشجر، و"فحيح" لصوت الأفعى، و"صَرْصَر" لصوت الريح الشديدة، والهمز للصوت الذي يصدر عنه إقفال القفل أو تحريك المزلاج في "مؤصدة" و"سلسبيل" لصوت الماء الذي يجري بيسر، و"خرير" للماء النازل في شلاّل، إلى أمثلة كثيرة.
وإذا كان المعنى جزلاً اختيرت له ألفاظٌ جزلَةٌ تُلائمة.
وإذا كان المعنى رقيقاً اختيرت له ألفاظ رقيقة تُلائمه.
وإذا كان المعنى خَشِناً اختيرت له ألفاظ خَشِنةٌ تُلائمه.
وإذا كان المعنى غريباً اختيرت له ألفاظٌ غريبة تُلائمه.
وإذا كان المعنى متداولاً اختيرت له ألفاظٌ متداولة تُلائمه.
وإذا كان المعنى متوسطاً بين الغرابة والتداول اختير له ما يلائمه.
وإذا كان المعنى فخماً اختير له ألفاظ مفخمة تلائمه.
وهكذا، فألفاظ الحب والْغَزَلِ، غير ألفاظ العتاب والتثريب، وألفاظ المدح غير ألفاظ الهجاء.
إنّه ليس من المستحسن في المدح أن يُقالَ: ثَقِيلُ الجود، ولا أن يقال في الغزل: ثقيل الحبّ، أو عنيفُ الهوى، ولا أن يقال في الإِرهاب: لطيف العبور نافذ الإِرادة، إلَاّ في مُخَاطبة لمَّاحي الذكاء، وعلى سبيل الإِشارة، إلى غير ذلك من اختيار ألفاظ غير ملائمة للمعاني الّتي يُرادُ التأثير بها.
أمثلة:
المثال الأول: قول الله عز وجل في سورة (يوسف/ 12 مصحف/ 53 نزول) يحكي ما قال أولاد يعقوب عليه السلام بشأن يوسف عليه السلام:
{قَالُواْ تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حتى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين} [الآية: 85] .
في هذ النّص من الائتلاف جمع اللّفظ الغريب مع اللّفظ الغريب، وبيانُه "الْحَرَضَ" في اللّغة هو الّذِي أضناه الحزْنُ والعشقُ، فهو به شديد المرض، وهذا اللّفظ من الألفاظ الغريبة، وكان من فنيّةِ جمع الغريب مع الغريب اختيار أغرب ألفاظ القسم، وهي "التاء" فإنّها أقَلُّ استعمالاً وأبْعَدُ عن أفْهَام العامة من القسم، بحرف "الباء" أو حرف "الواو"، واختيار أغرب صِيغ الأفْعال التي ترفع الاسم وتنصِبُ الخبر من أخوات "كان" وهو فعل "تفتأ" وكان من الممكن اختيار فعل:"ما تزال" فهو أقرب إلى الأفهام، وأكثر استعمالاً من فعل:"ما تَفْتَأ" وهو بحذف "ما" منه أشدّ غرابة.
وهكذا رأينا أن من حُسْن الاختيار في نظم الكلام اختيارَ الألفاظ المتلائمة في الغرابة، توخّياً لحسن الجوار كما يُجْمَعُ في الحفل من الناس كلّ صنف من صنفه.
المثال الثاني: قول الله عز وجل في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول) :
ألفاظ هذه الآية كُلُّها مُتَداوَلة لا غرابة في كلمة منها، فكانت متلائمة حسنة التجاور.
المثال الثالث: قول الله عز وجل في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) :
{وَلَا تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النار} [الآية: 113] .
في هذا النصّ تلاؤمٌ بديعٌ بين اللّفظ والمعنى المراد، وبيانُه أنَّ الرُّكُونَ إلى الذين ظَلَمُو نوْعٌ من الميْلِ إليهم والاعتماد عليهم، دون انغماس معهم في الظلم، فلاءم هذا المعنى أن يُخْتَارَ في بيان العقاب لفظ {فَتَمَسَّكُمُ النار} لأنّ المسّ فيه معنى ملاصقة النار دون الانغماس فيها.
أي: فعذاب من يركَنُ إلى الظالمين هو من نوع عذاب الظالمين، لكنَّهُ دُونه في الكيف والكَمّ، إنّه للراكنين مسّ، لكنّه للظالمين انغماسٌ وحريق.
المثال الرابع: قول الله عز وجل في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
{لَا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت
…
} [الآية: 286] .
جاء في هذا النصّ تلاؤم بين اللّفظ المختار والمعنى المراد به، إذْ جاء فيه التفريق بين ما يدلُّ على فعل الحسنات وما يدلُّ على فِعْلِ السيئات، فاختير فيه فعلُ
"كَسَبَ" الذي يُسْتَعْمَل في مكاسب الحياة الدنيا من مالٍ وغيره مراداً به فعل الحسنات والخيرات، لأنها ثَرْوَةٌ يَدَّخرها الإِنسان، فتنفَعُهُ في دنياه وأخراه، وإنْ شقَّ فعلُهَا على نفسه.
واختير فيه فعلُ "اكْتَسَب" الذي فيه معنى تَكَلُّف حَمْل الْعِبْء مراداً به فعلُ السّيئات والمعاصي والآثام، لأنّها أوزارٌ وأحمالٌ ثقيلة تأتيه بأنواعٍ من العذاب في دنياه وأُخراه، وإِنْ جلَبَتْ له لَذَّةٌ عاجلة، وهانَ فِعْلُها على نفسه.
المثال الخامس: قول الله عز وجل في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) بشأن إدخال أهل جهنّم فيها:
{فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ والغاوون * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الآيات: 94 - 95] .
جاء في هذا النصّ اختيار لفظ [كُبْكِبُوا] ملائماً تماماً للمعنى المراد منه، وذلك لأنّ فعل:"كَبّ" يَدُلُّ على المرّة الواحدة، والمعنيّون لا يُجْمَعُونَ ويُكَبُّونَ كبَّةٌ واحدة. أمّا فعل:[كَبْكَبَ] فهو يَدُلُّ على معنى الكبّ المتكرّر المتتابع، وهو أمْرٌ تدلُّ عليه الصيغة الّتي فيها تكرير للحروف كدلالة "الوسوسة" على التكرير، ودلالة "السلسلة" على تتابع الحلقات، ودلالة "الصلصلة" على تكرار الصوت، كصَوت الجرس.
إنّ الكَبْكَبَةَ الجماعيّة المتكرّرة أَدلُّ على الإِهانة، وأكثر ملاءمةً للمعنى المراد.
المثال السادس: قول الله عز وجل في سورة [طه/ 20 مصحف/ 45 نزول) :
{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا
…
} [الآية: 132] .
جاء في النّصّ اختيار كلمة [اصْطَبِرْ] ملائماً للمعنى المراد، وهو تَكَلُّف الصَّبْر، بمغالبة النفس.
ولو اختير لفظ "اصْبِر" لما استفيد هذا المعنى.
إلى غير ذلك من أمثلة كثيرة.
***
خاتمة:
لذَوّاقِي التلاؤم والائتلاف بين الكلمات من كبار البلغاء حِسٌّ أدبّي رفيع، قد لا يرقى إليه غيرهم من محبّي الأدب، وعُشّاقِ الكلام البليغ من شعرٍ أو نثر.
وأذكر بهذه المناسبة ما رواه الواحدي في شرح ديوان المتنبّي أنّ المتنبّي لمّا أنشد سيف الدولة قولَهُ فيه:
وَقَفْتَ وَمَا فِي الْمَوْتِ شَكٌّ لِوَاقِفٍ
…
كَأَنَّكَ فِي جَفْنِ الرَّدَى وهْوَ نَائِمُ
تَمُرُّ بِكَ الأَبْطَالُ كَلْمَى حَزِينَةً
…
وَوَجْهُكَ وَضَّاحٌ وَثَغْرُكَ بَاسِمُ
أنْكر عليه سيفُ الدولة تطبيق عَجُزَي الْبَيْتَيْن علَى صَدْرَيهما، وقال له: كان ينبغي أن تَجْعَلَ عَجُزَ الثانِي عَجُزَ الأوّل، والعكس، وأنْتَ في هذا مثْلُ امرئ القيس في قوله:
كَأَنِّيَ لَمْ أَرْكَبْ جَوَاداً لِلّذَّةٍ
…
وَلَمْ أتَبَطَّنْ كاعِباً ذَاتَ خَلْخَالِ
وَلَمْ أَسْبَأِ الرَّاحَ الْكُمَيْتَ وَلَمْ أَقُلْ
…
لِخَيْلِيَ كُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إِجْفَالِ
قال سيف الدولة: وَوَجْهُ الكلام على ما قالَهُ الْعُلَماءُ بالشِّعر، أَنْ يكُونَ عَجُزُ البيتِ الأول للثاني، وعَجُزُ البيت الثاني للأوّل، ليكون ركُوبُ الْخَيْلِ مَعَ الأَمْرِ لِلْخَيْلِ بالْكَرّ، ويكونَ سَبَاءُ الْخَمْر مَعَ تَبَطُّنِ الْكَاعِب.
فقال أبو الطيّب: "إنْ صَحَّ أَنَ الّذِي اسْتدرك على امرئ القيس هذا أعْلَمُ منه
بالشعر فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطَأْتُ أنا، ومولانا الأمير يعلَمُ أنّ الثوب لا يَعْرفُه البزّاز معرفة الحائك، لأنَّ البزّاز لا يعرف إلَا جملته، والحائك يعْرِفُ جُمْلَتَهُ وتفْصيله، لأنّه أخْرجه من الغزليّة إلى الثوبيّة، وإنَّما قَرَنَ امْرُؤُ القيس لذّة النساء بلذّةِ الرُّكُوب للصيْد، وقرنَ السماحة في شراء الْخَمْر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء.
وأنَا لمّا ذكَرْتُ الموتَ في أوّل البيت أتبعتُهُ بذكْرِ الرَّدَى لتجانسه، ولمّا كان وجْهُ المنهزم لا يخْلُو من أن يكونَ عَبُوساً، وعينُهُ من أن تكون باكية، قُلْتُ:"وَوَجْهُكَ وضّاحٌ وثَغْرُكَ باسِم" لأجْمَعَ بَيْنَ الأضداد في المعنى.. ".
أقول:
لقد أدرك المتنبّي بما لديه من ذوقٍ فنّيّ رفيع لدقائق الجمال في قَرْنِ الأشباه والنظائر والأضداد، أنّ قرن الأضدّاد الفكرية في تتابع اللّوحة البيانية، أجْمَلُ وأكثر تأثيراً في النفس من قرن الأشباه والنظائر بعضها ببعض، لأنّ تخاطرُ الأضداد في الأذهان أقربُ من تخاطر الأشباه والنظائر.
***