الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البديعة اللفظية (10) : "لزوم مالا يلزم
"
هو فنٌّ في الشعر وفي السجع يلتزم فيه الشاعر أو السَّاجع قبل الحرف الأخير من أبيات قصيدته، أو سجعاته ما لا يلزمه، كأن يكون الحرفان الأخيران متماثلين في كلّ القوافي، أو الثلاثة الأخيرة، أو تكون الكلمات مع ذلك متماثلة الوزن، إلى غير ذلك من التزام ما ليس بلازم في نظام التقفيات.
قال "عبد القاهر الجرجاني": لا يَحْسُ هذا النوع إلَاّ إذا كانت الألفاظ تابعةً للمعاني، فإنَّ المعاني إذا أُرْسِلَتْ عَلى سجيّتِها، وتُرِكَتْ ومَا تُرِيدُ طَلَبَتْ لأنْفُسِها الألفاظ، ولم تكْتَسِ إلَاّ مَا يَلِيقُ بها، فإن كان خلاف ذلك كان كما قال أبُو الطيّب:
إِذَا لَمْ تُشَاهِدْ غَيْرَ حُسْنِ شِيَاتِهَا
…
وَأَعْضَائِهَا فَالْحُسْنُ عَنْكَ مُغَيَّبُ
وقد يقع في كلام بعض المتأخّرين ما حَمَلَ صاحبَه عَلَيْه فَرْطُ شغفة بأمور ترجح إلى ماله اسمٌ في البديع، على أنَّه نَسِيَ أَنَّهُ يتكلَّمُ لِيُفْهِم، ويَقُولُ ليُبين، ويُخَيَّلُ إلَيْه أنّه إذا جَمَعَ عِدَّةً من أقْسام البديع في بيتٍ، فلا ضَيْرَ أن يَقَعَ ما عَنَاهُ فِي عَمْياءِ، وأن يجعلَ السامع يتخبّطُ خبط عَشْواء" هـ.
أمثلة:
(1)
قول الله عز وجل في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) :
{إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [الآيات: 201 - 202] .
إنّ المماثلة بين: "مُبْصِرُون" و"يُقْصِرُون" في الوزن وحرفي الصّاد والراء مع الواو والنون من لزوم ما لا يلزم، وقد جاء حسناً بديعاً، لأنه جاء سلساً غير متكلّف، ولا مجلوب اجتلاباً، وجاء كُلُّ من اللّفظين ملائماً للمعنى المراد منه.
(2)
قول عبد الله بن الزَّبِير الأَسدي في مدح عَمْرو بن عثمان بن عفان رضي الله عنهما:
سَأَشْكُرُ عَمْراً مَا تَراخَتْ مَنِيَّتِي
…
أَيادِيَ لَمْ تُمْنَنْ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ
فَتىً غَيْرُ مَحْجُوب الْغِنَى عَنْ صَدِيقهِ
…
ولا مُظْهرُ الشَّكْوى إذَا النَّعْلُ زلَّتِ
رَأَى خَلَّتِي مِنْ حَيْثُ يَخْفَى مَكَانُهَا
…
فَكَانَتْ قَذَى عَيْنَيْهِ حَتَّى تَجَلَّتِ
لَمْ تُمْنَنْ: أي: لم تنقطع.
رَأَى خَلَّتِي: أي: رأى خَصاصتي وفقري.
قَذَى عَيْنَيْه: القذى جمعٌ مفردُه "الْقَذَاة" وهي ما يتكوَّنُ في العين من رمصٍ وغَمَصٍ وغيرهما.
في هذه الأبيات التزم الشاعر ما لا يلزمه فجعل قبل حرف الروي وهو التاء، حرفاً آخر يكرره مع كلّ القوافي وهو اللاّم المشدّدة.
(3)
قول الحماسي:
إِنَّ الَّتِي زَعَمَتْ فُؤَادَكَ مَلَّهَا
…
خُلِقَتْ هَوَاكَ كمَا خُلِقْتَ هَوىً لَهَا
بَيْضَاءُ بَاكَرَهَا النَّعِيمُ فَصَاغَهَا
…
بِلَبَاقَةٍ فَأَدَقَّها وَأَجَلَّهَا
حَجَبَتْ تَحِيَّتَهَا فَقُلْتُ لِصَاحِبي:
…
مَا كَانَ أَكْثَرَهَا لَنَا وَأَقَلَّهَا
وَإِذَا وَجَدْتَ لَهَا وَسَاوِسَ سَلْوَةٍ
…
شَفَعَ الضَّمِيرُ إلَى الْفُؤادِ فَسَلَّهَا
فالْتَزم اللام المشدّدة قبل حرف الروي الذي هو "هَا".
(4)
قول الفرزدق:
مَنَعَ الْحَيَاةَ مِنَ الرِّجَالِ وَنَفْعَهَا
…
حَدَقٌ تُقَلِّبُها النِّسَاءُ مِرَاضُ
وَكَأَنَّ أَفْئِدَةَ الرِّجَالِ إِذَا رَأَوْا
…
حَدَقَ النِّسَاءِ لِنَبْلِهَا أَغْرَاضُ
***
خاتمة:
رأىْ أبو العلاء المعرّي ما لديه من قدرة شعرية، وثروة لغويّة واسعة، فاهتمّ لهذا الفنّ من فنون البديع، فجمع ما أَمْلَى من شعر فيه، ووضعه في ديوان خاص بعنوان:"لزوم ما لا يلزم" ويُعْرَف باللُّزوميات.
واعتنى المتأخرون بهذا الفنّ اعتناءً بلغ حدّ الإِسراف، ولئن وجدنا فيه ما هو جيّد، ففيه أيضاً الغثُّ السَّمِج.
فلا ينبغي تكلُّفُه، ولا توجيهُ الاهتمام له، لكن إذا جاء تلقائيّاً مُنْساباً على السجيّة كان فنّاً بديعاً.
***