المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌البديعة المعنوية (12) : بدائع متجانسة حول أحوال روابط المعاني - البلاغة العربية - جـ ٢

[عبد الرحمن حبنكة الميداني]

فهرس الكتاب

- ‌علم المعاني" الباب الخامس: الإِيجاز الإِطناب والمساواة

- ‌الفصل الأول: نِسَبُ الكثافة بين الألفاظ والمعاني وملاءمتها لمقتضيات الأحوال

- ‌الفصل الثاني: المساواة بين الألفاظ والمعاني

- ‌الفصل الثالث: الإيجاز

- ‌الفصل الرابع: الإِطناب

- ‌علم البيان" مقدمة عامّة

- ‌مقدمة عامّة

- ‌(1) الباعث والنشأة والتسمية

- ‌(2) تعريفات

- ‌(3) الدلالات الوضعية اللفظية

- ‌علم البيان" الفصل الأول: الكناية والتعريض

- ‌المقولة الأولى: الكناية

- ‌المقولة الثانية: التعريض

- ‌علم البيان" الفصل الثاني: التشبيه والتمثيل

- ‌المقدمة في التعريفات

- ‌المقولة الأولى: التشبيه

- ‌علم البيان" الفصل الثالث: المجاز

- ‌المقدمة

- ‌المقولة الأولى: الاستعارة

- ‌المقولة الثانية: المجاز المرسل

- ‌علم البيان" الفصل الرابع: نظرات تحليلية إلى استخدام الأشباه والنظائر والمجاز في التعبيرات الأدبيّة

- ‌علم البيان" الفصل الخامس: منهج البيان القرآني في التنويع والتكامل وفي حكاية الأقوال والأحداث والقصص

- ‌مقدمة

- ‌المقولة الأولى: منهج البيان القرآني في التنويع والتكامل

- ‌المقولة الثانية: منهج البيان القرآني في حكاية الأقوال والأحداث والقصص

- ‌علم البديع" المقدمة

- ‌(1) البواعث

- ‌(2) تعريفات

- ‌(3) واضع علم البديع

- ‌علم البديع" الفصل الأول: البدائع المشتملة على محسنات جمالية معنوية

- ‌البديعة المعنوية (1) : التورية

- ‌البديعة المعنوية (2) : الطباق

- ‌البديعة المعنوية (3) : مراعاة النظير

- ‌البديعة المعنوية (4) : الإِرصاد

- ‌البديعة المعنوية (5) : حُسْنُ التعليل

- ‌البديعة المعنوية (6) : تأكيد الفكرة بما يشبه تقرير ضدّها

- ‌البديعة المعنوية (7) : تجاهل العارف

- ‌البديعة المعنوية (8) : الهزل الذي يرادُ به الجدّ

- ‌البديعة المعنوية (9) : القول الدّال على المعنى وضدّه ويعبَّر عنه بالتوجيه - وبالإِيهام

- ‌البديعة المعنوية (10) : الاستخدام

- ‌البديعة المعنوية (11) : ذكر المتعدّدات مع ذكر ما يتعلّق بكلّ واحد منها

- ‌البديعة المعنوية (12) : بدائع متجانسة حول أحوال روابط المعاني

- ‌البديعة المعنوية (13) الإِدماج

- ‌البديعة المعنوية (14) : الاستتباع

- ‌البديعة المعنوية (15) : التجريد

- ‌البديعة المعنوية (16) : المزاوجة

- ‌البديعة المعنوية (17) : المشاكلة

- ‌البديعة المعنوية (18) : العكس المعنوي ويسمّى: التبديل

- ‌البديعة المعنوية (19) : الرّجوع

- ‌البديعة المعنوية (20) : المذهب الكلامي

- ‌البديعة المعنوية (21) : المُبَالغة

- ‌البديعة المعنوية (22) : حول التتابع في المفردات والجمل

- ‌البديعة المعنوية (23) : المراوغة: بالمواربة، أو مجاراة ظاهر القول

- ‌البديعة المعنوية (24) : النزاهة

- ‌البديعة المعنوية (25) : نفي الشيء بصيغةٍ تشعر بإثباته، أو نفي الشيء بإيجابه

- ‌البديعة المعنوية (26) : الافتنان

- ‌البديعة المعنوية (27) : حُسْن المراجعة

- ‌البديعة المعنوية (28) : التنكيت

- ‌البديعة المعنوية (29) : الإِرداف

- ‌البديعة المعنوية (30) : الإِبداع

- ‌علم البديع" الفصل الثاني: البدائع المشتملة على محسنات جمالية لفظية

- ‌البديعة اللفظية (1) : "الجناس

- ‌البديعة اللفظية (2) : "السّجْع

- ‌البديعة اللفظية (3) : "الموازنة

- ‌البديعة اللفظية (4) : "ردّ العجز على الصدر

- ‌البديعة اللفظية (5) : "الانسجام

- ‌البديعة اللفظية (6) : ائتلاف اللّفظ مع اللفظ وائتلاف المعنى مع المعنى

- ‌البديعة اللفظية (7) : "التعانق

- ‌البديعة اللفظية (8) : "التفويت

- ‌البديعة اللفظية (9) : "التشريع

- ‌البديعة اللفظية (10) : "لزوم مالا يلزم

- ‌البديعة اللفظية (11) : "القلْب" أو "العكس اللّفظي

- ‌البديعة اللفظية (12) : "الاقتباس

- ‌علم البديع" الفصل الثالث: ملاحق

- ‌المقولة الأولى: السرقات الشعرية وتوافق القرائح

- ‌المقولة الثانية: توجيه العناية في صناعة الكلام الأدبي

- ‌المقولة الثالثة: إعداد كلام أدبيّ في موضوع ما

- ‌خاتمة الكتاب

الفصل: ‌البديعة المعنوية (12) : بدائع متجانسة حول أحوال روابط المعاني

‌البديعة المعنوية (12) : بدائع متجانسة حول أحوال روابط المعاني

بدائع متجانسة حول أحوال روابط المعاني ووجوه اجتماعها وافتراقها وتقسيمها وتَفَرُّعِها

يتناول الكلام هنا الاختيارات البديعة التالية:

(1)

الجمع.

(2)

الجمع والتفريق.

(3)

التقسيم.

(4)

الجمع والتقسيم.

(5)

الجمع مع التفريق والتقسيم.

(6)

التفريع.

البيان:

تتوارد المعاني على فكر المتكلّم فيرى بينها مفردات قضايا قابلة للجمع في قضيّة كُلّيَّةٍ واحدة، فيدعوه الإِيجاز والاقتصاد في التعبير إلى جَمْعِها في قضيةٍ واحدة.

فبدل أن يقول مثلاً:

* الخيلُ تأكُلُ الْخَضِرَ من نبات الأرض والحبّ.

* والبغال تأكُلُ الْخَضِرَ من نبات الأرض والحبّ.

ص: 415

* والحمير تأكُلُ الْخَضِرَ من نبات الأرض والحبّ.

* والإِبل تأكُلُ الْخَضِرَ من نبات الأرض والجبّ.

* والبقر تأكُلُ الْخَضِرَ من نبات الأرض والحبّ.

* والغنم تأكُلُ الْخَضِرَ من نبات الأرض والحبّ.

يقول مثلاً:

* الدوابّ والأنعام تأكُلُ الْخَضِرَ من نبات الأرض والحبّ.

* أو الدواب والأنعام نباتّيّة. أو تأكُلُ النبات.

فيقتصر على جملة واحدةٍ مختصرة يجمع فيها معاني جُمَلٍ عديدة، وهذا مسلك بديعٌ في جَمْعِ الأشباه والنظائر وإعطائها جميعاً حكماً واحداً إذا كانت مُشْتَرِكَةً فيه.

ومن هُنا ظهرت في اللّغات الكلماتُ الكليّة الّتي تندرجُ تَحْتَها أفراد كثيرة يجْمَعُها جامعٌ ما، وهذه الكلمات الكلّيّة تجمع في مفهومها أجناساً وأنواعاً وأصنافاً.

وظهر هذا بوضوح لعلماء المنطق فقسَّمُوا الكليات إلى خمس، هي:

(1)

"الجنس" مثل: جماد، نبات، حيوان.

(2)

"النوع" مثل: إنسان، فرس، غزال.

(3)

"الْفَصْل" مثل: مفكر، ناطق.

(4)

العرض الخاص" مثل: ضاحك، كاتب.

(5)

"العرض العام" مثل: ماشٍ، آكل، شارب.

ويأتي تحت تقسيم علماء المنطق كليّات أخرى هي أصناف، وأقسام، وفئات، ونحو هذه الألفاظ الَّتي تُطْلَقُ على أفراد متعدّدة يجمعها جامعٌ ما، ففي نوع الإِنسان نجد أصنافاً كثيرة، مثل: العربي، الأروبّي، الفارسي، وهكذا في

ص: 416

كلِّ كلّيّ نجد أصنافاً وأقساماً وفئات، هي في ذاتها كليّات مندرجةٌ في الكليّات الأكبر منها، والأكثر عَدَدَ أفراد، وتتنازل وتتصاغر دوائر الكليّات حتى أصغرها.

والألفاظ الدّالّة على مَعَاني كليّة عند الأديب قد تكون دلالَتُها على سبيل الحقيقة، أو على سبيل المجاز، أو على سبيل الادّعاء لداعٍ بلاغيٍّ.

وتوجد أمام المتكلّم الأديب في هذا المجال أحوال متعدّدة، ووجوه من الكلام مختلفة، ومتفاضلة فيما بينها بلاغيّاً وفنيّاً، وعليه أن يختار ما يراه منها أكثر ملاءمة لمقتضى أحوال المتَلَقِّين.

ومن هذه الوجوه ما سبق بيانه في مبحث "اللَّف والنشر" وتابعه مبحث "التقسيم".

ومن هذه الوجوه ما يأتي بيانُه وتفصيلُه هُنا، ولتحديد المعالم بوضوح أَعْرِضُ الحالات، والأسلوبَ البديع الذي يَحْسُنُ اختياره في كُلٍّ منها:

الحالة الأولى:

أن يجتمع مُعَيَّنَان أو صِنْفَان أو نوعان أو جنسان أو أَيُّ مختلفين فأكثر في حكم واحدٍ، وفي هذه الحالة يكون من الإِيجاز من جهة، ومن بديع الكلام من جهة أخرى، صياغَةُ تعبير واحد مختصر، تُذْكَرُ فيه المختلفات إمّا بأفرادها إذا كان كلّ فردٍ منها مُعَيَّنَاً، وإمّا بلفظ كُلّيّ يَجْمَعُها إذا لم يكن للمتكلّم غرضٌ في تعيين الأشخاص، أو كان الأفراد غير محصورين، وكان الغرض تعميم الحكم على كلّ الأفراد.

وهذا مَا يُطْلَقُ عليه في فن البديع "الجمعُ في الحكم".

أمثلة:

لمثال الأول: قول الله عز وجل في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول) :

ص: 417

{ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الآية: 90] .

هذه الأصناف المتعدّدة: "الخمر - الْمَيْسِر - الأنْصَاب - الأزلام" جُمِعَتْ في حكم واحد وهو كونُهَا رِجْساً معنويّاً، وكون الله قد أمر المؤمنين باجْتِنَابِها.

المثال الثاني: قول "أبي العتاهيَة".

إِنَّ الشّبَابَ والْفَراغَ والْجِدَةَ

مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أيُّ مَفْسَدَةٍ

الْجِدَة: السّعة في امتلاك المال، مصدر "وَجَدَ" وُجْداً وجِدَةً إذا صار ذا مالٍ.

فاجتمعت هذه الثلاثة في كونها مَفْسَدَةً، فأعطيت في بديع القول حكماً واحداً.

المثال الثالث: قول ابن الرومي:

أرَاؤُكُمْ وَوُجُوهُكُمْ وَسُيُوفُكُمْ

في الْحَادِثَاتِ إِذَا دَجَوْنَ نُجوم

فجمع آراء الممدوحين ووجُوهَهُم وسُيُوفَهُمْ في حكم واحد، وهو كونها كالنجوم في الحادثات المظلمات.

والأمثلة القرآنية على الجمع في الحكم كثيرة.

***

الحالة الثانية:

أن يكون بعضُ ما يَنْطَبقُ عليه اللَّفظ الْكُلّيُّ من أفراد له حُكْمٌ خَاصٌّ به، وبعضُهُ الآخَرُ لَهُ حُكْمٌ آخَرُ.

وفي هذه الحالة يكون من الإِيجاز في التعبير من جهة، ومن بديع الكلام من جهةٍ أخرى، ذِكْرُ اللّفظ الْكُلِّي للدّلالة به على أنَّ أفْراده يجمعها معنىً جامعٌ، وبعد ذلك يُفرَّقُ في الحكم، فيُعْطَى لكلّ قِسْمٍ حُكْمُهُ الخاصّ به.

ص: 418

وهذا ما يُطْلَقُ عليه في البديع: "التفريق في الحكم".

أمثلة:

المثال الأول: قول الله عز وجل في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) بشأن يوم القيامة:

{يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَاّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [الآية: 105] .

لَا تَكَلَّم: أي: لَا تَتَكَلَّم.

ففي هذه الآية تفريق في الحكم بين بعض النفوس وبعضها الآخر، بعد كونها داخلةً في عموم كلمة "نفس" التي هي كُلّيٌّ يشمل كلَّ فرْدٍ ذي نفس من خَلْقِ الله عز وجل مسؤولة عن اختياراتها.

المثال الثاني: قول "الوطواط":

مَا نَوالُ الْغَمَامِ وَقْتَ رَبِيعٍ

كَنَوالِ الأَمِيرِ يَوْمَ سخَاءِ

فنوال الأَمِيرِ بَدْرَةُ عَيْنٍ

ونوالُ الْغَمَامِ قَطْرَةُ مَاءِ

فبعد أن ذكر النوال الذي هو لفظٌ كُلّيٌّ يَجْمع في أفراده نَوالَ الأمير حين يعطي، ونوال الغمام حين يمطر، فرَّقَ في الحكم، فأبان أنّ نوال الأمير بَدْرَةُ عَيْن، أي: كيس مملوءٌ ذهباً، وأنَّ نوال الغمام قطرة ماء.

المثال الثالث: قول "صَفِيّ الدّين الْحِلّي" في ممدوحه:

فَجُودُ كَفَّيْهِ لَمْ تُقْلِعْ سَحَائِبُهُ

عَنِ الْعِبَادِ وَجُودُ السُّحْبِ لَم يَدُمِ

المثال الرّابع: قول "المتنبّي" يخاطِبُ سَيْفُ الدّولة، وهو من لطيف "التفريق في الحكم" لاقترانه بالاستدلال بالنظير:

فَإِنْ تَفُقِ الأَنَامَ وأَنْتَ مِنْهُمْ

فَإِنَّ الْمِسْكَ بَعْضُ دَمِ الغَزَال

***

ص: 419

الحالة الثالثة:

أن تكون وحدات المعنى الْكُلّي الذي دلّ عليه المتكلم بعبارة ما، تجتمع في حكم وتفترق في حكم آخر يَلْمَحُه أديبٌ فطِن بفطنته البلاغيَّة، فيسوق تعبيره الأدبي البديع دالَاّ بِه على حُصُول الاجتماع من جهة الحكم الجامع، وحصول الافتراق من جهة الحكم المختلف.

وهذا ما يُطْلَقُ عليه في البديع "الجمع مع التفريق".

وإذا كانت جهة التفريق جهةَ تفاضل في نسبة الصفة لا جهة وجود الصفة وعدمها، فقد يطلقون عليه في البديع "جمع المؤتلف والمختلف" وهذا فيما أرى تدقيق لا لزوم له، ويُمثّلُون لهذا بقول الله عز وجل في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) بشأن داود وابنه سليمان عليهما السلام:

{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً

} [الآيات: 78 - 79] .

ففي هذا النّص تسويَةٌ بين داود وسُليمان بأنّ الله آتاهما حُكْماً وعلماً، وتفضِيلٌ لسليمان في تفهيمه الحكم الأكثر تحقيقاً للعدل في القضيّة الّتي جاء بيانها في النّصّ وقضى فيها داود بقضاء استدرك عليه فيه ابْنُه سليمان وكان صغير السّنّ.

أمثلة:

المثال الأول: قول الله عز وجل في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/50 نزول) :

{وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ الليل وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الآية: 12] .

أبانَ هذا النّصّ أنّ اللَّيْلِ والنَّهَارَ قد اجْتَمَعَا فِي كَوْنهما آيَتين من آيات الله عز وجل في كونه (هذه جهة اجتماع) .

ص: 420

وأنّ آية اللّيل آيةُ مَحْوٍ، أي: إزالةُ سبب رؤية ذوي الأبصار للأشياء، وهو الضوء، أمّا آية النهار فهي آيَةُ إبصار، أي: آيَةُ إيجادِ سبب رؤية ذوي الأبصار للأشياء (وهذه جهة افتراق) .

وفي هذا النصّ من البديع أيضاً "لَفٌ ونَشْر":

فاللّفُّ في ذكر اللَّيْلِ والنهار، والنشرُ في بيان الحكمة من النهار، وهي أن يبتغي الناس أرزاقهم وحاجاتهم من فضل الله، بقوله تعالى:{لِتَبْتَغُواْ مِنْ فَضْلِه} . وفي بيان الحكمة من التعاقُب بين اللَّيْل والنهار، وهي أن يَعْلَمَ الناس عدد السنين والحساب، عن طريق ما يجري فيهما من تغيّرات سببه حركة الأرض حول نفسها وحول الشمس، بإشارة قوله تعالى:{وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} .

المثال الثاني: قول "رشيد الدّين الوطواط".

فَوَجْهُكَ كَالنَّارِ فِي ضَوْئِها

وقَلْبِيَ كالنَّارِ في حَرِّهَا

فَجَمع بين قلبه ووَجْهِ محبُوبه في أنَّهما يُشْبهان النار.

وفرّقَ بينهما في وجه الشَّبَه، فوجْهُ محبوبه يشبه النار في ضوئها، وقلب الشاعر يشبه النّار في حرّها.

المثال الثالث: قول البحتري من قصيدة يمدح بها "أبا صقر" ويتغزّل في أوّلها:

وَلَمَّا الْتَقَيْنَا "والنَّقَا" مَوْعِدٌ لَنَا

تَعَجَّبَ رَائِي الدُّرِّ حُسْناً وَلَا قِطُهْ

فَمِنِ لُؤْلُؤٍ تَجْلُوهُ عِنْدَ ابْتِسَامِهَا

وَمِنْ لُؤْلُؤٍ عِنْدَ الْحَدِيثِ تُسَاقِطُهْ

تُسَاقِطه: تتابع إسقاطه.

فجمع بين كلامها وأسنانها في أنَّهما يُشْبهَانِ الدُّرَّ.

ص: 421

وفرّقَ بينهما بأنّ لؤلؤ أسنانها تَجْلُوه عند ابتسامها، أمّا لؤلؤ كَلَامِهَا فتُتَابِعُ إِسقاطه من فمها ليلتقطه سَمْع من تحدّثه.

***

الحالة الرابعة:

أنّ يكون المعنى الْكُلّي الذي دَلَّ عليه المتكلّم الأديب بعبارة ماذا أقسام، يَحْسُن لديه فنّياً أن يبيّنها، ويرى أنّ لها حكماً واحداً، ويرى فنّيّاً أن يُبَيّن اجتماعها فيه، فيعبّر عن الأمرين معاً بكلامٍ واحدٍ، فَيُقَسِّم أوّلاً ويجمع ثانياً، أو يَجْمَعُ أوّلاً ويُقَسِّمُ ثانياً.

وهذا ما يُطْلَق عليه في البديع "الجمع مع التقسيم".

أمثلة:

المثال الأول: قول الله عز وجل في سورة (فاطر/ 35 مصحف/ 43 نزول) الّذي سبق الاستشهاد به في التقسيم بشأن أمّةِ محمد صلى الله عليه وسلم خير أُمَّة أُخْرِجت للناس:

{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير} [الآية: 32] .

جاء الجمع في هذه الآية ببيان أنّ أمّة محمد صلى الله عليه وسلم هي الأمَّة الّتي اصطفاها الله وأَوْرَثَها الكتاب الجامع للكتب الرّبّانيّة السابقة وهو القرآن.

وجاء التقسيم ببيان أنّ هذه الأمّة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

* قسم ظالم لنفسه بالمعاصي مع صدق الإِيمان والإِسلام.

* وقسم مقتصد بفعل الواجبات وترك المحرمات دون توسُّع في النوافل والقربات، وهذه درجة سقف التقوى.

* وقسم سابق في الخيرات بإذن الله، وأهل هذا القسم إمّا أبرار، وإمّا محسنون، وجاء في القرآن تكريمهم باسم "عباد الرّحمن".

ص: 422

المثال الثاني: قول المتنبي يذكر الواقعة التي وقعت بين سيف الدّولة والرّوم في جمادى الأولى سنة (339هـ) :

حَتَّى أَقَامَ عَلَى أَرْبَاضِ خَرْشَنَةٍ

تَشْقَى بِهِ الرُّومُ والصُّلْبَانُ والْبِيَعُ

للسَّبْيِ مَا نَكَحُوا والْقَتْلِ مَا وَلَدُوا

وَالنَّهْبِ مَا جَمَعُوا وَالنَّارِ مَا زَرَعُوا

عَلَى أَرْباضِ خَرْشَنَةٍ: أَرْبَاض: جَمْعُ "رَبَض" والرَّبضُ ما حول المدينةِ من العمارة. وخَرْشَنَة: اسم بلَدٍ من بلاد الرُّوم.

البِيَعُ: جَمْعُ "البِيعَة" وهي معْبَدُ النصارى.

جاء الجمع في البيت الأول ببيان شقاء الرّوم بإقامة سيف الدولة وجيشه على أرباض "خَرْشَنَة".

وجاء التقسيم في البيت الثاني ببيان أنّ نساءهم للسَّبْي، ورجالَهم للقتل، وأموالهم المنقولة للنّهب، وما زَرَعُوا للنار تأكُلُها.

المثال الثالث: قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:

قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا ضَرَّوا عَدُوّهُمُ

أَوْ حَاوَلُوا النَّفْع في أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوا

سَجِيَّةٌ تِلْكَ مِنْهُمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ

إِنَّ الْخَلَائِقَ فَاعْلَمْ شَرُّهَا الْبِدَعُ

جاء في البيت الأول تَقْسيمُ صفات من يمدحهم حسان، فهم بالنسبة إلى عدُوّهم يضرّونَهُم إذا حاربوهم، وبالنسبة إلى أشياعهم ينفعونَهُمْ إذا حاولوا نفعهم.

وجاء في البيت الثاني جمع الْوَصْفَيْن بأنَّهما سجيَّةٌ ثابتة من سجاياهم الأصلية غير المتكلَّفة تكلُّفاً مصطنعاً لأمر عارض، إذ هو يرى أن الخلائق المبتدعة المحدَثة التي لا تكون ثمرة سجايا ثابتة هي شرّ الخلائق، إذ تكون مدفوعة بأغرَاضٍ غير شريفة، ومنها النفاق.

***

ص: 423

الحالة الخامسة:

أن يكون المعنى الكلّيُّ الذي دلَّ عليه المتكلّم الأديب بعبارة ما، ذا أقسام يَحْسُنُ في نفسه فنيّاً أن يبيّنها، ولها حكْمٌ واحد يريد أن يُبَيّنَ اجْتماعها فيه، وبين وحداتها أو أقسامها افتراق في أمْرٍ آخَرَ يَرَى فَنِّيّاً أن يبيّنَهُ أيضاً، فيعَبِّر عن كلّ هذه الأمور الثلاثة في كلامه.

وهذا ما يُطْلَق عليه في البديع: "الجمع مع التفريق والتقسيم".

المثال الأول: قول الله عز وجل في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) بشأن اليوم الآخر:

{ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَاّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَاّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ..} [الآيات: 103 - 105] .

في هذا البيان جَمْعُ كُلِّ النَّفْسِ بأنّها لَا تتكلَّم يوم القيامة إلَاّ بإذن الله.

ويتابع النص فيقول الله تعالى:

{فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} .

في هذا البيان تفريق في الْحُكْم، ففريق شَقِيٌّ وفَريقٌ سعيد.

ويتابع النص فيقول اله تعالى:

{فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلَاّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [الآيات: 106 - 107] .

في هذا بيان وشرح حال القسم الأوّل، وهم أهل الشقاوة.

ويتابع النصّ فيقول الله تعالى:

{وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلَاّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [الآية: 108] .

في هذا بيانُ وشرح حال القسم الثاني، وهم أهل السعادة.

ص: 424

فظهر بهذا التحليل في النصّ "الجمع مع التفريق والتقسيم".

المثال الثاني: قول "ابن شَرَف القيرواني" يمدح أميراً:

لِمُخْتَلِفِي الْحَاجَاتِ جَمْعٌ بِبَابِهِ

فَهَذَا لَهُ فَنٌّ وَهذا لَهُ فَنُّ

فَلِلْخَامِلِ الْعُلْيَا وَلِلْمُعْدِمِ الْغِنَى

ولِلْمُذْنِبِ الْعُتْبَى ولِلْخَائِفِ الأَمْنُ

لقد جمع في حكم واحد، وهو أن مختلفي الحاجات مجتمعون في باب الأمير.

وفرَّقَ بين المجتمعين بأن كلّ واحد له فَنٌّ مخالفٌ لفنّ غيره.

وقسَّمَ في البيت الثاني:

* فأبان أنّ خَامِلَ الذِّكْرِ ينال من الأمير إعلاء شأنه.

* وأن الْمُعْدِمِ طالبَ المال يَنَالُ من الأمير الغنى.

* وأن المذنِبَ الذي يرجو رفع العتب عنه ينال العتْبَى، أي: الرضا.

* وأنّ الخائف الذي يرجو الأمن ينال من الأمير الأمْنَ.

***

الحالة السادسة:

أن يرى المتكلّم الأديب أنّ المعنى الذي يُعبّر عنه بعبارةٍ ما يتفرَّعُ عنه معنىً آخر، ويرى فَنِّيّاً أَنَّ من البديع في القول أن يُعبّر عمّا لَاحظهُ على سبيل التخيُّل أو الادّعاء.

ومعلومٌ أنّ كون الشيء فرعاً لشيءٍ آخر ينتج عن ارتباطه به ارتباط الفرع بالأَصْل.

والمتكلّم الأديب يَبْنِي على ما تَصَّور، فيفرِّعُ فِكْرَةً عَنْ فِكْرَة، ويبنيها عليها، كما يكون الولد فرعاً لأبويه، وكما تكون أغصانُ الشجرة ونواميها فروعاً لساقها وجذرها.

وهذا ما يطْلَقُ عليه في البديع: "التَّفْريع".

ص: 425

ومن الأمثلة على التفريع قول "الكميت" يمدح آل البيت:

أَحْلَامُكُمْ لِسَقَام الْجَهْلِ شافِيَةٌ

كمَا دِمَاؤكُمُ تَشْفِي مِنَ الْكَلَبِ

ففرّع على الحكم الأول الذي جاء في الشطر الأول، الحكْمَ الذي جاءَ في الشطر الثاني، وأوضح منه قولي ممثّلاً للتفريع:

تَعَلَّمَ الْغَيْثُ مِنْكَ الْجُودَ مُنْهَمِلاً

فَكَيْفَ لَا تُرْتَجَى عِنْدَ الْمُلِمَّاتِ

واللَّيْثُ يَحْلُمُ أَنْ يَلْقَاكَ قَائِدَهُ

فَهَلْ لِبَأْسِكَ نِدٌّ فِي الْبُطُولَاتِ

* ومن التفريع قول الله عز وجل في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :

{فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} [الآية: 59] .

أي: فتفرع على فسقهم عن طاعة الله بتبديل القول الذي قيل هم معاقبتُهم بإنزالِ الرّجز (=العذاب) من السماء عليهم.

* وقول الله عز وجل فيها أيضاً بشأن مزاعم اليهود:

{وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلَاّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الآية: 80] .

أي: أتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فيتفرّعَ عند أَنْ لا يُخْلِفَ الله عهده؟.

* وقول الله عز وجل في سورة (طه/ 20 مصحف/ 45 نزول) حكاية لما قال موسى عليه السلام لسحرة فرعون:

{قَالَ لَهُمْ موسى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افترى} [الآية: 61] .

أي: لا تفتروا على الله كذباً بأعْمَال السِّحْر الّتِي تخدعون بها أعْيُنَ الناس فيستأصِلَكُمُ بعذَابٍ شديد، والمعنى أنّ هذا الاستئصال يتفرَّعُ عن افترائكُمْ على الله كَذِباً.

ص: 426