الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقولة الأولى: منهج البيان القرآني في التنويع والتكامل
(1)
التنويع في أساليب البيان القرآني
يلاحِظُ الأديب ذو الحسّ الأدبيّ المرهف التنويعَ العجيبَ البَدِيع في أساليب الأداء البيانيّ القرآنيّ، حتَّى في عَرْض الأقسام أو الأنواع الّتي تدخُلُ في مَقْسِمٍ واحِدٍ، أو جنْسٍ واحد، أو تدخُل تحت عنوانٍ واحد، إيثاراً للجمال الْفَنّيِ بالتنويع الْمُجَدِّد لِتَنْبِيهِ الفكر، أو إيثاراً للتّجديد في الإِبداع الاختياريّ، مع كلّ نَوْعٍ أَوْ قِسْمٍ أو صِنْف، فمِنْ شأن التجديد تحريكُ الذهن في مُخْتَلِفَاتٍ من الأساليب، والتمكينُ من وضْعِ أفكارٍ وأغراضٍ بيانيّةٍ وتَرْبويّة في ظلال النَّصّ، تُكْتَشف حيناً بعد حين، كلّما تكرّرَتْ قراءة النّص، أو تكرّر سَمَاعُه، مع إعطاء النّصِّ في موضوعه تفرُّداً بصياغته الكليّة، كتفرُّد كلِّ مخلوقٍ من مخلوقات الله عز وجل بهَيْكلٍ وسِمَاتٍ خاصّةٍ تميّزه عن غيره من أفراد جنسه، ونوعه، وصنفه، مراعاةً للإِبداع الاختياريّ في الأفراد، والأصناف، والأنواع، والأجناس، وربّما في كُلّ جزءٍ من أجزاء الفرد الواحد.
وقد يَقْتَرِنُ بإيثار الجمال الفنّيِّ غَرَضٌ بيانيٌّ آخر، كاخْتيار الأُسْلُوب الأَكثرِ مُلاءمةً للْقِسْم أو النَّوعِ أو الصِّنْفِ أو الْفَرْدِ الذي جرَى التنويعُ في الأسلوب عنْد ذكْرِه، أو الأُسْلُوبِ الأكثرِ مضامينَ فكريّةً يُرادُ الدَّلَالَة عَلَيْها مَعَ ذِكْرِهِ، أو الأَكْثرِ بَلاغةً وإيجازاً واقتصاداً في العِبارَةِ بالنّسبةِ إلَى مَضَاميِنه الفكريّةِ الّتي يُرادُ بَيَانُهَا، إلى غير ذلك من أغراض.
والْغَفْلَةُ عن مُلاحَظَةِ هذا التنويع في أساليب الأداء البياني، تَجْعَلُ المتدبّرَ لكلام الله عز وجل لا يُدْرِكُ الترابُطَ الفِكْريَّ في موضُوع النَّصّ، فَيَفْهَمُه وحَدَاتٍ مُجَزَّآتٍ غَيْرَ مُتَرابِطاتٍ، وتَنِدُّ عنْه بسبب ذلك روائِعُ مَفَاهِيمَ، وقَدْ يَقَعُ في أغَالِيطَ، إذْ يُحَاوِلُ أنْ يَنْتَزِعَ ارتِبَاطاً منْ قَريبٍ أَوْ بَعيدٍ لأدْنَى مُنَاسبَةٍ، أوْ شُبْهَةِ مُنَاسَبَةٍ، أوْ يخْتَرِعَ منْ عنده أُموراً لا أصْلَ لها ولا دليلَ عليها.
وفيما يلي طائفة من الأمثلة على ظاهرة التنويع في أساليب الأداء البيانيّ في القرآن:
المثال الأول:
عرَضَ القرآن المجيد ما كان في غزوة الأحزاب من المنافقين وضعفاء الإِيمان الذين في قلوبهم مرض، من أقوال وأعمال، هي مظاهر لما في قلوبهم، فقال الله عز وجل في سورة (الأحزاب/ 33 مصحف/ 90 نزول) :
{وَإِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلَاّ غُرُوراً} [الآية: 12] .
هذا قِسْمٌ ممّا كان منْهم جاء بأسْلُوب: {وَإِذْ يَقُولُ} بإِذْ الظَّرْفِيَّة، أي: واذْكُرْ إذْ، وبالفعل المضارع {يَقُول} الذي يَدُلُّ على أنّ المقالة دارَتْ على الألسنة حتَّى شاعتْ، فقالها المنافقون، وقالَها تأثّراً بهمُ الّذين في قُلوبهم مرضٌ دُونَ النفاق، وهو مرضُ ضعيفِ الإِيمان.
* أمّا القسم الثاني ممّا كان منهم فقد جاء أسلوب عرضه كما يلي:
{وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ ياأهل يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فارجعوا
…
} [الآية: 13] .
فجاء بأسلوب: {وَإِذَ قَالَ} بإذْ الظرفيّة، أي: واذْكُرْ إِذْ، وبالفعل الماضي {قَالَ} الّذِي يَدُلُّ عَلى أَنَّ هذه المقالة قد قِيلَتْ منْ طائفةٍ منْهم، ثُمَّ لم تتكرّر، ولَمْ تَدُرْ عَلى الأَلْسِنة.
* وأمّا القسم الثالث ممّا كان منهم فقد جاء أُسْلوب عرضه كما يلي:
{وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النبي يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَاّ فِرَاراً} [الأحزاب: 13] .
فجاء بأسْلوب: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ} بصيغة الفعل المضارع، للدلالة على تكرار الاستئذان من أفراد هذا الفريق، أو على الإِلحاح به، ولم يأتِ على النَّسَق السابق من استعمال كلمة {إذْ} قبله، لأنَّ حالتهم هذه كانت مستمرّة لا تستدعي التذكير بزمن حدوثها.
واعتنى القرآن المجيد بتربيةِ هذا الفريق المستأذن، وببيان حالته النفسيّة وإقناعه، لتصحيح العناصر المختلّة لدَيْه من عناصر القاعدة الإِيمانيّة.
* وأمّا القسم الرّابع ممّا كان منهُمْ، وهو التعويقُ والتثبيط عن الخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم لمواجهة عدوّه، فقَدْ جاء أسلوب عرضه كما يلي:
{قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ والقآئلين لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ البأس إِلَاّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 18] .
فاختلف الأسلوبُ هنا اختلافاً كلّيّاً، إذْ نُلاحظُ أنَّ التعويقَ قد عرضه الله عز وجل وصْفاً ثابتاً لفريقٍ من المنافقين، ولم يَذْكُرْهُ عَلى أنَّه مُجَرّد عَرَضٍ طارئ استدعَتْهُ حالَةٌ مُزْعِجَة، وهو الأَمْر الذي كان في غزوة الأحزاب، فحصل فَهْمُ قِسْمِ التَّعْويقِ والتثبيط من ذِكْرِ المعوّقين.
وقَبْلَ ذِكْر المعوّقينَ بيَّنَ اللَّهُ عز وجل تَحَقُّقَ عِلْمِه بهم، لِيُشيرَ هذا البيان من طَرْفٍ خفِيٍّ إشارةَ تَهْدِيدٍ لهم، بأنَّهُمْ مَكْشُوفُونَ مَعْلومُونَ لله، وبأن عقاب الله يَتَرصَّدُهُمْ.
فمع التنويع في الأسلوب لإِكساب التعبير جمالاً فنيّاً، وإبداعاً مُعْجِباً، اخْتِير لِعَرْض كلِّ قسم الأُسلوبُ الأكْثَرُ ملاءمةً له، والأَكْثَرُ مضامِينَ فكريَّةً يُرادُ الدّلَالَةُ عليها مع ذكره، كإضافة أنّ المعوّقين معلومون لله عز وجل، وأنَّ تَعْوِيقَهُم لإِخوانهم صِفَةٌ ثابتَةٌ من صفاتهم، ومُلازِمَةٌ لهم في كلّ الأحوال، فهم معوّقّون
دائماً، وقائلونَ في كلّ المعارك لإِخوانهم: هلُمَّ إلينا، لا تخرجوا مع محمّد إلى قتال.
***
المثال الثاني:
جاء في سورة (الماعون/ 107 مصحف/ 17 نزول) وهي من أوائل التنزيل المكّي بيانٌ لبعض صفات المكذّبين بالدّين، أي: بالجزاء الذي يُجْريه الله في الآخرة، بَعْد البعث ليوم الدين.
أمّا الصفات التي ذُكِرَتْ فيها للمكذِّب بيَوْم الدين فهي ما يلي:
(1)
أنّه يَدُعُّ اليتيم، أي: يدفَعُه بعُنْفٍ وقَسْوة، بسَبَب أنّ الرَّحْمَة نُزِعَتْ من قَلْبه، إذْ هُو لَا يُؤْمِنُ بيوم الدّين حتَّى يطْمَع بثواب الله، أو يخاف من عقابه.
(2)
أنَّه لا يحضُّ على إطْعَامِ الْمِسْكين، أي: فكيف يَبْذُل من طعامه أو ماله.
(3)
أنّه لا يهْتَمُّ بأنْ يُصَلِّيَ لِرَبّه، ولو آمن بوجوده، بلْ يظلُّ ساهياً، لأنّه مكذّبٌ بيَوْم الدّين، فإذا صلَّى أو عَمِلَ عملاً من أعمال الخير على عادة أهل الجاهليّة فإنّه يُرَائي الناسَ بذلك. ولا يَعْمَله لله عز وجل، وَغَرَضُه ممّا يرائي به جَلْبُ مَغْنَم، أو دفْعُ مَغْرَم، على أنَّ ما يُرائي به لا يكلّفُه في الغالب مالاً، والأصلُ فيمن يُصَلِّي لله حقّاً أنْ تَدْعُوَه صلاتُهُ لفعل الخير وأنْ تَنْهاه عن الفحشاء والمنكر، لكنّ المكذّب بالدِّين يكون ساهياً عمّا تدعو إليه الصلاة، وعمّا تنهى عنه الصّلاة، لأنّه إذا صَلَّى مُرَائياً، فصلاتُه وعَدَمُها سواء.
(4)
أنّه شحيحٌ كزُّ النَّفْسِ، يَمْنَعُ أَيَّةَ مَعُونَةٍ، حتَّى الأمْتِعَةِ الَّتي تُسَمَّى "الماعون" عند العرب، والّتي يَتَساهَلُ البخلاء بإعارتها، يمنَعُها إذا لم يكن له في إعارتها منفعةٌ دُنيويّة.
هذه الصفات الأربع جاءت في سورة (الماعون) على قِصَرها بأسْلُوبَيْنِ من الأساليب البيانيّة.
* فالصفتان الأولَيَان جَاءَتَا بأسْلُوب توجيه النظر إلى رُؤْيَةِ صفاتِه المنكرة على طريقة الاستفهام الاستهجاني، مع ما يتضمّنُه مِنْ إقناعٍ بأنَّ الإِيمان بيوم الدّين يُصْلح في الأفراد صفاتِهم وأخلاقَهُم الاجتماعيّة، ويجعلهُمْ رُحَمَاءَ، يَفْعَلُونَ الخيرات، ويَحُضُّون على فِعْلِها، فقال اللَّهُ عز وجل:
{أَرَأَيْتَ الذي يُكَذِّبُ بالدين * فَذَلِكَ الذي يَدُعُّ اليتيم * وَلَا يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين} [الآيات: 1 - 3] .
أي: انظُرْ أَيُّها النَّاظِرُ أيّاً كُنْتَ إلى حال الذي يُكَذّبُ بيوم الدّين، تجدْ من صفاته أنّه يَدُعُ اليتيم، ولا يحضُّ على طعام المسكين.
* والباقي من الصفات المذكورة في السورة للمكذب بيوم الدين جاءت بأسْلُوبِ التهديد والوعيد بالعذاب يوم الدّين، فقال الله عز وجل فيها:
{فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الذين هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الذين هُمْ يُرَآءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الماعون} [الآيات: 4 - 7] .
أي: فويلٌ للمكذّبينَ بيَوْم الدّين، وإنْ صَلَّوْا على التقاليد والعادات الجاهليّة لله، لأنَّهم إذا صَلَّوْا فَهُمْ عن مَعَانِي صلاتِهم سَاهُونَ، إذْ هم بها يُرَاءُونَ، وأَدْنَى المعونات الاجتماعية بين الناس يَمْنَعُونَ.
فحصل بهذا الأسلوب التَّنْويع الجماليُّ الفنّي، مع التهديد والوعيد بالوَيْل، وهو العذابُ الشديد، ووادٍ في جهنَّم فيه عذابٌ شديد أليم.
***
المثال الثالث:
يجد المتدبّر لسورة (ق/ 50 مصحف/ 34 نزول) تنويعاً عجيباً رائعاً، في عَرْضِ الأدلّة، لدفْعِ شُبُهاتِ مُنْكري البعث، فقد جاء فيها ما يلي:
(1)
{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [الآية: 4] .
هذا دفْع شُبْهة أنَّ ما يتَلاشَى من أجسادهم وصفاتها بعوامل الفناء في الأرض يَجْعَلُ إعادتَهُمْ إلى ما كانوا عليه أمراً غير ممكن للجهل به، فجاء البيان مُثْبِتاً عِلْمَ اللَّهِ بكلِّ حَرَكةِ تغيير تَحْدُثُ في أجساد الموتى، وهو مُسجَّلٌ في كتابٍ يحفظ كلّ صغيرة فلا يَضِلُّ عن عِلْمِ الله وعن كتابه الحفيظ شيء.
(2)
{أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} [الآية: 6] .
قد جاء بأسلوب توجيه أنظار منكري الْبَعْثِ إلى أثَارِ قُدْرَةِ اللَّهِ في الكَوْنِ، في السماء والأرض، ممّا هو في المظهر أكبر من خَلْقِ الناس، للتنبيه على دليلٍ عقليّ يدُلُّ أهل البصيرة على أنَّ خالق السماوات والأرض، ومدبِّرَ أمورهما لا بُدَّ أن يكون قادِراً على بَعْث الأحياء بعْدَ مَوْتِها، فالإِنكار لا ذريعة له مع وجود هذا البرهان.
وقد جاء توجيهُ الأنظار بأسلوب الاستفهام الذي فيه معنى التلويم والإِنكار عليهم إذْ لم يَتَنَبَّهُوا لهذا الدليل العقلي.
(3)
{أَفَعَيِينَا بالخلق الأول
…
} [الآية: 15] .
استفهامٌ يَتَضَمَّنُ التّنبيهَ على دليلٍ عقلِيّ بُرْهَانِيّ آخر، وهو قياسُ ما سيكونُ على ما كان، فالذي بدأ الخلْقَ الأوّل على غير مثال سبق قادرٌ على أن يُعِيدَهُ بعد فنائه، إنّه سبحانه لم يَعْيَ بالخلقِ الأول، أي: لم يعجز عن خلقه فكيف يَعْيَا بالخلق الثاني.
ومع هذا الدليل نلاحظ في النص أيضاً أنّه يتضمن إشارةً إلى دَفْعِ شُبْهَةِ أنَّ الخلْقَ الأوّل قَدْ أصابَ الخالِقَ بالإِعْيَاء، وجاء النصّ بأسلوب الاستفهام الإِنكاريّ، وداعي الإِنكار أنّ الْخَلْقَ أوّلاً وثانياً وإلى غير نهاية لا يحتاج من الخالق إلَاّ أن يقولَ للشيء المراد: كُنْ فيكون.
(4)
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [الآية: 16] .
جاء هذا البيان بأسلوب الإِثباتِ التقريريّ المؤكَّد، لِدَفْعِ شُبْهَةِ أنَّ أعْمَالَ الإِنْسانِ الباطِنَةَ وبَعْضَ أعْمَالِهِ الظّاهِرَةِ لا يُحيطُ بها الْعِلْمُ الرَّبَّانيّ، وهو تقريرٌ مسْبُوقٌ بالدّليل عليه، وهو كونُ الرَّبّ هو الخالق للإِنسان، والخالِقُ له لا بدَّ أن يكون عالماً بكلّ خصائصه النفسيّةِ وعناصره الّتي ركّبَهُ مِنْهَا، ومن لازم ذلك أنْ يَعْلَمَ مَا تُوَسْوِسُ به نفسُه، وأنْ يعلَمَ كُلَّ أعْمَالِهِ الظاهرةِ والباطِنة ويُحَاسبَهُ عليها.
هذه أنواعٌ من الأساليب البيانيّة، جاءت لتَرُدَّ شُبَهاتِ المنكرين لقضيَّةِ البعثِ للحساب والجزاء، ومِنَ الملاحَظِ أنّ الموضوع فيها واحِدٌ، ولو عَالَجْنَاه بأساليبنا الإِنسانيّة لقال أحْسَن أديبٍ فينا وأَبْرَعُ كَاتبٍ مقالاً ذكر فيه أنَّ شبُهَاتِ المنكرينِ تَرجِعُ إلى عِدَّة توهمات: فالأول: جوابه كذا. والثاني: جوابه كذا. والثالث: جوابه كذا. والرابع جوابه كذا.
أمّا أنْ يَطْوِيَ ذِكْرَ الشّبُهَاتِ والتَّوَهُّمات، ويأتي بالرُّدُود الإِقناعيّة ضمْن أساليبَ متنوّعة، فهَذَا ممّا يَنِدُّ عن الخواطر مهما كانَتْ لمّاحَةً ذاتَ فُنُونٍ أدَبيَّة.
***
المثال الرّابع:
قال الله عز وجل في سورة (الفرقان/ 25 مصحف/ 42 نزول) :
اعْتَرَضَ الْمُشْرِكُونَ عَلى إِنْزَالِ القرآن مُنَجَّماً، وطَالَبُوا بتَحْضِيضٍ أنْ يُنَزَّلَ جُمْلةً واحِدَة.
أي: ما الداعي إلى تنزيله مُفَرَّقاً مُنَجّماً؟ إِنَّ هذا الأسْلُوبَ التَّنْجيميَّ يَدْعُوا إلَى الشَّكِّ في أنّه كلامُ الله، ألَيْسَ اللَّهُ عليماً بكلّ شيءٍ، قديراً على أَنْ يُنَزّلَ الْقُرآن كُلَّه في وقْتٍ وَاحِدٍ؟!
فجاء الرّدّ القرآنيُّ مُبَيِّناً ثَلَاثَ حِكَمٍ لتَنْزِيلهِ مُفرّقاً مُنَجّماً، ولكِنَّ بيان هذهِ الْحِكَم جاءَ مُنَوَّعاً بأساليبَ مُخْتَلِفة، قَدْ لَا يَلْتَقِطُ منها التّالي للنصِّ إلَاّ الْحِكْمَةَ الأولى، لأنّ الحكمتَيْنِ الأخْرَيَيْنِ جاءتا بأُسلوبٍ آخر.
فالحكمة الأُولى: نُدْركُها في قول الله عز وجل خطاباً للرَّسول صلى الله عليه وسلم: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} .
وتثبيتُ الْفُؤادِ يكُون بما يُورثُهُ السُّكُونَ والطُّمَأْنينَةَ تُجَاهَ مَا يُمْكنُ أن يَهُزّهُ ويُقْلِقَهُ ويُزْعجَهُ مِنْ أحداثٍ يوميَّةٍ غيرِ سارّة.
وقد كان الرسولُ صلى الله عليه وسلم يتَعَرَّضُ منْ قِبَل كُفَّارِ قَوْمِه لأحْدَاثٍ كثيرةٍ غير سارّةٍ تُقْلِقُ وتُزْعِجُ أفْئِدَة عظماءِ الرجال. فإذا وجَدَ نفسَه على صلةٍ بالْوَحْي من آنٍ لآخر بصُورَةٍ متكرِّرة، لمْ تُزْعِجْهُ ولمْ تُقْلِقْه الأحداثُ، إذْ يشْعُرُ حِسِّيّاً بأنّ الرّبّ الجليلَ الذي أرسَلَهُ وأنزل عليه جِبْريلَ بالْوَحي، لم يَتْرُكْهُ لِنَفْسِه يُؤدّي وظائِفَ رِسَالته، بل هو على صِلَةٍ به، يُنَزّلُ عليه الآيَاتِ القرآنيّة تِباعاً، ويُعالجُ الأحداثَ التي يتعرَّضُ لها تِبَاعاً، ويُقَدِّمُ لَهُ الوصايَا والتعليمات الهاديات له في مسيرته، وهو يقوم بوظائف رسالته، ويَشْعُر أيضاً بأنّه مدعومٌ بقُوَّةٍ عظيمةٍ من الغيب، تتابعُهُ في كُلّ صغيرةٍ وكبيرة.
فلهذا الأمر شأنٌ عظيمٌ جدّاً في تثبيتِ فؤاده، ليقوم بجلائل الأمُور، ضِمْنَ قَوْمٍ يَخْشَى أَنْ يتألَّبُوا عليْهِ، ويَمْنَعُوهُ مِنْ مُتَابعةِ وَظائِفِ رسَالَتِه بالْقُوَّة.
والْحِكْمَةُ الثَّانية: نُدْرِكُها في قول الله عز وجل في النصّ: [الآية: 32] .
هذه الحكمةُ جاءتْ بأُسلوبٍ مخالفٍ لأسْلوبِ عَرْضِ الحْكْمَةِ الأولى، الأمْر الذي قد يجعل تاليَ النص لا يُدْرك أنّ النصّ يُتابعُ بيانيَ الْحِكَمِ منْ تنزيل القرآن مُنَجّماً.
التَّرْتِيل: هُو التَّمَهُّلُ والتَّأَنّي في الكلام، والتَّبْيِينُ له، للتَّمكينِ والتحقيق، وبناءِ الْمَعْرِفَة في المتَلَقّين بناءً تَكَامُلِيّاً، وذلك لا يحصُل بإنزاله جملةً واحِدةً، بل يحصلُ بإنْزَاله في دروسٍ تعليميّة قِسْماً بَعْد قِسْم، مع الاستفادة من الأحداث والمناسبات.
وقد جاء شرح هذه الحكمة في قول الله عز وجل في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول) :
{وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [الآية: 106] .
{فَرَقْنَاهُ} أي: جَزَّأْنَاهُ، وفَصَّلْنَاهُ، وبَيَّنَّاهُ، وأصْلُ معنَى الْفَرْقِ الفصْلُ بيْنَ الشّيْئَيْنِ أو الأشياء، وتمييزُ بَعْضِها عن بعْض.
وأَوْضَحُ صُوَرِ هذا الْفَصل والتَّمييزِ أَنْ يُنَزَّلَ الكتَابُ على مراحِلَ زمَنيّةٍ مُتَفاصِلَةٍ مُتَباعِدَةٍ.
{على مُكْثٍ} أي: عَلى تَمَهُّلٍ، وتَوَقُّفٍ، وانْتِظَارٍ، رَيْثَما تَثْبُتُ مَعْرِفَةُ الْقِسْمِ الْمُنَزَّلِ.
يُقال لغة: مكَثَ بالمكانِ يمكُثُ مُكْثاً وَمَكْثاً ومُكُوثاً، إذا توقّف وانتظَرَ.
{وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} أي: ونَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً بأناةٍ وتَمَهُّلٍ وتَحْقِيقٍ مع كلّ قِسْمٍ يُنَزّل منه، فالتأكيدُ بالمفعول المطلَقِ للإِشارة إلى نوع التنزيل.
والحكمة الثالثة: نُدْرِكُهَا من قول الله عز وجل في النصّ: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَاّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الآية: 33] .
الخطاب هنا مُوجّه للرسول ليَسْمَعَ أصحابُ الاعتراض على تنزيله مُفَرَّقاً، وقد سبقَ في سورة (الفرقان) نَفْسِها عَرْض طائِفَةٍ من اعتراضاتِهِمْ ومقترحاتهم التي جاءت الإجابة عليها في السورة.
والمعنى أنّ من حِكَمِ تنزيل القرآن مُنجَّماً مُتَابَعةَ جَدَليَّاتِ الذين كَفَرُوا فيما يُقَدّمونَه من أمْثِلَةٍ يصْطَنِعُونها بآرائهم، ويقترحونها، ويَرَوْن أَنَّها هيَ الصُّوَر الأفْضَل الَّتي ينْبَغِي أنْ يكون عليها حالُ الرسُولِ، أو حالُ القرآن، أو حالُ أحكام الشريعةِ والمنهاج.
فَبِهَذِهِ المتابعة يقدّم اللَّهُ عز وجل في النصّ اللَاّحق ما يكْشِفُ به وجْه الحقّ لمنْ يَطْلُب الحقَّ بصدْق، إذا كان ما اقترحه الكافرون من الأمور الباطلة.
ويقدّم في النّصّ اللاّحقِ ما يتضمَّن تفسير وجْهِ الحكمة من الطريقة الرَّبانيّة المختارة، إذا كان ما اقترحه الكافرون إحدى الصُّوَر الممكنة غير المرفوضة عقلاً، لكِنَّ الاختيارَ الرّبّانيّ قد كان هو الأفضل والأَحْسَن والأحْكَم، فيكُونُ تَفْسيرُ ما جاء من عنْد الله في كلّ ذلك لمُلَاءَمَةِ الأفْضَلِ والأحْسَنِ والأحكم، هو الأحْسَن والأفضل والأحكَمَ من تفسير ما اقترحوه.
وحينما يكون تفسير ما أنزل الله أحْسَنَ من تفسير ما افترحوه، يكونُ ما أنزل الله عز وجل أحْسَنَ ممّا اقترحوه حتماً، وهذا من الاستدلال بلازم الشيء عليه..
والمرادُ مِنَ المثَل هنا: النَّمُوذَجُ المقترحُ الذي يُقَدّمه الكافرون، في اعتراضاتهم وجَدَليّاتهم، حولَ ما ينبغي - بحَسَبِ آرائِهِمُ القاصرة - أنْ يكونَ عليه الرسولُ، أو القرآن، أو الْحُكْمُ الدينيّ، أو الطريقة الرَّبَّانيَّة في وسيلَةِ التبليغ، أو غير ذلك.
ولمّا كانت مقترحاتُ الناس بمثابة صُوَرٍ مُرْسُومَةٍ يُقَدِّمونَها، ليكونَ الواقعُ التَّطبيقيُّ على وَفْقِها، كَانَ أَدَقُّ تَعْبِيرٍ جامع هو التعبيرُ عنْها بأنَّها أمْثال، والواحِد منها "مَثَل" فقال اللَّهُ عز وجل لرسوله:{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَاّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الآية: 33] ، ومن الأمثال النماذج الّتي تُوضَع للمَباني التي ستقام أو يقترح المهندسونّ إقامتها.
والغرض من خطاب الرسول مخاطبتهم تعريضاً، ولو يواجِهِهُم الله عز وجل بالخطاب، لأنّ النصّ جاء في مَعْرِض إجابة الرسول على شكواه من أقوال كُفّار قومه.
والمعنى: ولَا تأتُون الرّسُولَ بِمَثَلٍ تَقْتَرِحُونه، إلَاّ أَنْزَلْنَاه في نُجُوم التَّنزيلِ اللاّحِقِ ما يَكْشِفُ وجْه الحقّ، أو يُبَيّن أَنَّ اختيارنا هو الأحسن والأفضل والأحْكَمُ ممّا اقترحْتُمْ.
***
المثال الخامس:
عرَضَ الله عز وجل في سورة (القمر/ 54 مصحف/ 37 نزول) موجَزاتٍ مختزلاتٍ من قصة قوم نوح، وقصّة عادٍ قوم هود، وقصة ثمود قوم صالح، وقصة قوم لُوطٍ، وقصّة فرعون وآله.
ويُلَاحَظُ في هذه المختزلَاتِ من قِصَصهم التَّنْوِيعُ في الأداء البيانيّ لدى عرضها، فلَمْ تُعْرَضْ فِقَراتُها على نَمَطٍ واحِدٍ.
* ففي عرض قصة قوم نوح عليه السلام قال الله عز وجل مُتَحَدّثاً عن الّذين كذّبُوا محمّداً إبَّانَ التنزيل:
نُلَاحِظُ أنَّهُ بَعْدَ عَرْضِ قِصَّة إهْلَاكِهِمْ جاءَ تَوْجِيهُ السُّؤال الّذي يَلْفِتُ النظرَ إلى الاتّعاظ والاعتبار بما جرى لقَوْمِ نوحٍ.
* أمّا عَرْض إهلاك عادٍ فقد جاء فيه توجيه السؤال نفسِه قَبْلَ ذكْرِ موجز
إهلاكِهِم إعداداً لتَلقِّي الجواب، وبَعْدَهُ تَوْجيهاً للاتّعاظ والاعتبار، فقال الله عز وجل:
ريحاً صَرْصَراً: أي: شديدة البرودة ذَات صَوْت.
أعجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِر: أي: أصُول نَخُلٍ مُنْقَلِعٍ من مَنْبِتِه، بادِيَةٍ أَسَافِلُهُ المتشعّثة الممزّقة.
* وأمّا عَرْضُ مُوجَزِ إِهْلَاكِ ثَمُودَ فَقد جاءَ بطريقةٍ مُخْتَلِفَة عمّا سبَق، فقالَ اللَّهُ عز وجل في هذا العرض:
وبَعْدَ هذا يُقَدِّم النَّصُّ قولاً مُقْتطعاً من الحدَثِ إبّانَ حُدوثِهِ في الماضي فقال الله عز وجل فيه:
{سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر * إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة فِتْنَةً لَّهُمْ فارتقبهم واصطبر * وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ المآء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} [الآيات: 26 - 28] .
الشِّرْبُ: وقْتُ الشُّرْبِ، والنَّصِيبُ من الماء.
هذا القول كان قد وجَّهَه الله عز وجل لرسولهم صالح عليه السلام، قُدِّمَ هُنَا مقتطَعاً من الحَدَثِ الماضي، دون مقدّمَاتٍ تُشِيرُ إلى ذلكِ، وبعده عادَ النصّ، إلى حكاية القصّة، فقال تعالى:
{فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فتعاطى فَعَقَرَ} [الآية: 29] .
أي: فتمطَّى متطاولاً قائماً على أطراف أصابع رجْلَيْهِ رافِعاً يَدَيْهِ، فعقَرَ نَاقةَ
الله، وبعْدَ هذا البيان وجّه الله عز وجل السؤال السّابق فقال تعالى:
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} ؟؟ [الآية: 30] .
وأجابَ عليه بقوله: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر} [الآية: 31] .
إنّه مع التّشابُهِ في الْهَيكل العام، نُلاحظ أنّ الأساليب اختلفت وتنوّعَتْ.
* وأمّا عرضُ مُوجَزِ إهْلاكِ قَوم لُوطٍ عليه السلام، فقد جاء أيضاً بطريقَةٍ مختلفة، مع التناظُرِ في الهيكل العامّ كما سبق، فقدّم الله عز وجل صُورة إهلاكهم قبْلَ عَرْضِ أعمالِهِم، على خلاف ما جاء في موجز قصّة ثَمُود، إذْ جاء عرضُ أعْمالهم قَبْل عرْضِ صُورةِ إهْلَاكهم، فقال الله عز وجل:
ولَمْ يُورِدِ اللَّهُ عز وجل هنا السؤالَ السابق، إذ جاء هُنَا تكْرِيرُ عبَارَة:{فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ} وهي عبارة مقتطعة من الحدَث الماضي.
وأمّا إهلاكُ فرْعَوْنَ وآلِهِ وجُنُودِه، فقد جاء موجزاً جدّاً بعبارة:
{وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ النذر * كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ} [الآيات: 41 - 42] .
لقد جاء هذا البيان بطريقة مختلفة عما سبَق، مع بقاء التشابه والتناظُر في الهيكل العام، كما نشاهد اختلاف السِّمَاتِ والْخَصَائِصِ في أفراد المخلوقات، مع تشابه أفراد النوع الواحد في الهيكل العامّ.
وهذا من إعجاز القرآن وأدبه الرفيع.
***
(2)
التكامُل في أساليب البيان القرآن بين الأشباه والنظائر
من روائع الإِبداع في البيان القرآني ما يُمْكِنُ أن نُطْلق عليه اسم "التكامل في الدلالات بين الأشباه والنظائر" وهو تخصيص كلِّ صِنْفٍ من الأشباه والنظائر في النّصّ بتعبيرٍ يُفيدُ معنىً خاصّاً، وهذا التعبير يصْلُح اطّرادُه في سائر الأشباه والنظائر، وبتوزيع التعبيرات ذوات الدّلالات المختلفات على الأشباه والنظائر يحصُل الاستغناء عن إعادةِ كُلّ شبيهٍ ونظيرٍ عدّة بِعَدَدِ هذهِ التعبيرات، للإتيان به في كلِّ مرّةٍ مقترناً بواحدٍ منها حتى استغراقها.
وفي هذا الاستغناء إيجازٌ رائعٌ، واقتصادٌ في التعبير من جهة، ومَسَرَّةٌ لنباهَةِ الأذكياء من جهةٍ أخْرى، وتخلُّصٌ من الرّكاكة التي يجلُبُها التكرير في طريقة التعبير من جهة ثالثة.
وتتكامَلُ التعبيراتُ فيما بينها في أداء المقصود من دلالاتها المختلفات، ويُفْهَمُ هذا التكامل من قرينة جَمْع الأشباه والنظائر في نصٍّ واحدٍ، وقَدْ يَدُلُّ عليه بدءٌ وختام.
وقد يُلاحظُ معَ هذا التنويع التكامليّ في العبارات ذوات الدلالات المختلفات براعَةُ انتقاءِ التعبير الأكثر مُلاءَمَةً للنوع الذي يُقْرَنُ به من الأشباه والنظائر، مع صلاحيّة التعبيرات الأخريات له.
وأمثّل لهذا التكامل البديع بما يلي:
المثال الأول:
قول الله عز وجل في سورة (الحجرات/ 49 مصحف/ 106 نزول) :
{ياأيها الذين آمَنُواْ لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تلمزوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُواْ بالألقاب بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان وَمَن لَّمْ يَتُبْ
فأولائك هُمُ الظالمون * ياأيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الآيات: 11 - 12] .
يُدهشنا في هذا النّصّ ما اشتمل عليه من أدب التكامل البيانيّ البديع الذي سبق إيضاحُهُ، ففيه ينْهَى الله عز وجل الّذين آمَنُوا عن ستِّ قبائح اجتماعيّة، من شأنها بَذْرُ بُزور الفرقة والعداوة والبغضاء بين المسلمين، لما فيها من إيذاءٍ أو إضرارٍ من بعضٍ منهم لبعضٍ آخر.
وهي قبائح تشتمل على ظلم من الإِنسان لأخيه الإِنسان، وكُلُّ ظُلْم بين الناس من شأنه أن يُورِثَ العداوة والبغضاء، ويوقع الفرقة بين الجماعة الواحدة، وهذه القبائح السّت هي:
"السُّخرية - اللّمز - التنابز بالألقاب - اتّهامُ المؤمنين بالظّنون الضعيفة التي لا تقوى على الاتّهام - التجسُّس على المؤمنين - غِيبَة المؤمنين المتقين".
من الملاحظ في هذا النصّ أنَّ كلّ نَهْيٍ فيه قد انْفَرد بلَوْنٍ تَعْبيريٍ ذي دلالة خاصّة قابلةٍ لأن تكون شاملةً لسائر القبائح الّتِي جاء في النصّ النَّهْيُ عنْهَا.
(1)
ففي السخرية جاء التعبير بأسْلُوب: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ
…
ولا نِسَاءٌ من نسَاء}
(2)
وفي اللّمز جاء التعبير بأسلوب: {وَلَا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُم}
(3)
وفي النبر بالألقاب القبيحة جاء التعبير بأسلوب: {وَلَا تَنَابَزُوا بالألْقَابِ} .
(4)
وفي الظّن المنهيّ عنه جاء التعبير بأسلوب: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظّنّ} .
(5)
وفي التّجسّس جاء التعبير بأسلوب: {وَلَا تَجْسَّسُوا} .
(6)
وفي الغيبة جاء التعبير بأسلوب: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} .
ويُلاحَظُ أنَّه يَصِحُّ في كلٍّ منْها استعمالُ التعبيراتِ الأُخرى لتؤَدِّيَ فيه دَلَالَاتِها.
* فَيُقَالُ مثلاً في السُّخْرِية، مع ما جاء من تعبيرٍ حَوْلَها في النصّ:"لَا تَسْخَرُوا من أنفسكم - لا تَتَساخَروا - اجْتَنِبُوا السُّخُرِية - لَا تَسْخرُوا - لَا يَسْخَرْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْض".
* ويُقَالُ في اللَّمْز، مع ما جاء من تعبيرٍ حولَهُ في النّصّ:"لَا يَلْمِزْ قَوْمٌ قوماً، وَلَا نِسَاءٌ نِسَاءً - لَا تَتَلَامَزُوا - اجْتَنِبُوا اللَّمْزَ - لَا تَلْمِزُوا - لَا يَلْمِزْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً".
* وَيُقَالُ في النَّبْزِ بالألْقَابِ القبيحة، مع ما جاء من تعبير حوْلَهُ في النّصّ:"لَا يَنْبِزْ بالألْقَابِ قَوْمٌ قَوْماً، وَلَا نِسَاءٌ نِسَاءً - لا تَنْبِزُوا بالألْقَاب أَنْفُسَكُم - اجْتَنِبُوا النَّبْزَ بالألْقَابِ - لَا يَنْبِزْ بَعْضُكُمْ بعْضاً".
وهكذا يُقَالُ في سائرها، فأغْنَى أسْلوبُ التعبير الذي جاء في واحدةٍ مِنْها عن إعادته في سائرها، فَتَكامَلَتِ التَّعَبِيراتُ في أداء المقصود من دَلَالَاتها المختلفات.
ومع هذا الأسلوب البديع الدّالّ على التكامل في الصِّيغ المختارة لكل صنف من هذه القبائح السّت، فقد اخْتِيرَ لكلّ قبيحةٍ منْها صيغَةُ التعبير الّتي تدُلُّ عَلى أبْرَزِ صُورَةٍ من صُورِها، وهذا من الدّقّةِ الفكريّة، والبراعةِ والإِبْدَاعِ الفّنّي.
(1)
فالسخريةُ تغلبُ فيها المشاركة الجماعيّة، إذِ السّاخِرُ يضْحَكُ بسُخْريتِه آخرون، فيكونون مشاركين له في عمله، فجاء التعبير فيها بأسْلُوب: "لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قوم
…
وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ".
وجاء في هذا التعبير إفراد النساء عن الذكور، لأنّ الغالبَ أنْ لا يسْخَرَ الرّجالُ من النساء، ولا يسْخَرَ النساءُ من الرجال، وللإِشارة ضِمْنَاً إلى أنّ المجتمعات الإِسلاميّة هي مجتمعاتٌ غيرُ مختلطة في الغالب من الأحوال، فتقِلُّ فيها السُّخْريَةُ بيْنَ الصّنفين، والخطابُ في النّصّ قد بدأَ بنداءِ الّذين آمَنُوا.
وأسلوبُ هذا التعبير يَصْلُحُ تَعْميمُهُ على القبائح السّت.
(2)
واللّمُزُ يَغْلِبُ فيه الْعَمَلُ الفرديّ الخفيُّ، الّذي يُدْرِكُهُ أهْلُ الفطانةِ والنَّباهة، فجاء التعبير بأسلوب:{وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} وللدّلَالَةِ أَيْضاً عَلى أنَّ مَنْ لَمَزَ أخاهُ المؤمِنَ فكأنّما لَمَز نَفْسه، لأن المؤمنين هم بمثابة الجسَدِ الواحد. وهذا المعنى مع أسلوب التعبير يصْلُحُ تعميمُهُ على سائِرِ القبائح السّت، فنقول:"لَا تَسْخُرُوا مِنْ أنفسكم - لَا تَبْزوا أنفسكُمْ بالألقاب - اجْتَنُبِوا كثيراً منَ الظّنّ في أنْفُسِكُمْ - لَا تَجَسَّسُوا على أنْفُسِكُمْ - لَا تَغْتَابُوا أنْفُسَكُمْ".
(3)
والنَّبْزُ باللَّقَب، وهوَ الشَّتْمُ بالألْقَابِ القبيحَة، عَمَلٌ تَغْلِبُ فيه المشاركَةُ بيْنَ فَرِيقَيْن، فَمَنْ نَبَزَ غَيْرَهُ رَدّ عَلَيْهِ المنْبُوزُ غالباً بِمِثْلِ قَوْلِهِ، أَوْ بأقْبَحَ منْه، انتقاماً لنفسه، فالتنابُزُ كالتَّقَاتُل، من أجل ذلك جاء التعبير بأسلوب:{وَلَا تَنَابَزُوا بالألقاب} . وهذا المعنى مع أسلوب التعبير يصْلُحُ تعميمه على سائر القبائح السّتّ، فنقول فيها:"لَا تَتَساخَرُوا - لَا تَتَلامَزُوا - لَا تَتَرَامَوْا بكثير من الظّنّ - لَا تتعامَلُوا فيما بينكُمْ بالتَّجَسُّس - لَا تترامَوْا فيما بينكُمْ بالغيبة".
(4)
وأفضل وسيلة لترك الظنّ الذي يأثم به صاحبُه، هو اجتنابُ كثيرٍ من الظّنّ، لأنّ من جرى مع ظُنونه أو صلَتْهُ إلى ما يأثَمُ به حتماً، لمَا لاتِّباع الظنّ من مزالق، وتسلُّطٍ على النفوس، فجاء التعبير فيه بأسْلُوب الأمر بالاجتناب، أي: بالابْتعادِ عنْ كثيرٍ مِنَ الظّنّ: {ياأيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ} وأسلوبُ الأمر بالاجتناب يَصْلُحُ تعميمه على سائر القبائح السّتّ، ففي الابتعاد عن
حُدودها سلامةٌ وحفظ وورعٌ محمود، فنقول فيها:"اجتنوا السُّخْرية - اجْتَنبوا اللّمز - اجتنبوا التنابُزَ والنّبْزَ بالألقاب - اجتنبوا التجسُّس - اجتنبوا الغيبة".
(5)
والتجسُّس يغْلبُ فيه العملُ الفرديّ الذي يستخفي به فاعله فجاء التعبيرُ فيه بأسْلُوب: {وَلَا تجَسَّسُوا} فالنهيّ للجماعة عمّا يمكنُ أن يقوم به كلّ فردٍ منْهُم هو نهيٌ موجّه لكل فرد، وأسلوبُ هذا التعبير يصْلُح تعميمُه على سائر القبائح السّتّ: فنقول فيها: "لَا تَسْخَرُوا - لَا تَلْمِزُوا - لَا تَنْبِزُوا بالألقاب - لا تَتَّبِعُوا كثيراً مِنَ الظنّ - لَا تغتابُوا".
(6)
والغيبة ظاهرة من ظواهر القبائح الاجتماعية، التي يؤذي أو يَضُرُّ بهَا النَّاسُ بعضُهم بعضاً، إذْ فيها مُغْتَابٌ وسامع مشاركٌ لَهُ أو أكثر، فجاء التعبيرُ في النهي عنها بأسلوب:{وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} وهذا الأسلوبُ من التعبيرُ يَصْلُحُ تعميمُه على سائر القبائح السّتّ، فنقولُ فيها:"لَا يَسْخَرْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ - لَا يَلْمِزْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً - لَا يَنْبزْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً - لَا يَتَّبِعْ بَعْضُكُمْ كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ بِبَعْضٍّ - لَا يتجسَّسْ بَعْضُكُمْ عَلَى بعض".
بعد هذا الشرح المفصّل أقول: إنّ المتدبّر الْفَطِن يكشفُ أنّ جمع هذه التعبيرات ذوات الأداء المختلف، في نصٍّ واحد قد جمع عدّة رذائل اجتماعيّة، هي أشباهٌ ونظائر فيما بينها ويُمْكن أن يوضع لها عنوان واحد، بغيَة النهي عَنْها والتحْذيرِ مِنْها، يُشْعِر بأنّ كلّ تعبير منها يَصْلُح تعميمُهُ واستعماله في سائرها.
وهذا من روائع الإِيجاز والإِعجاز البيانيّ الّذي اشتمل عليه القرآن المجيد.
***
المثال الثاني:
قول الله عز وجل في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) :
{قُلِ الحمد لِلَّهِ وَسَلَامٌ على عِبَادِهِ الذين اصطفىءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ
السماوات والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السمآء مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أإلاه مَّعَ الله بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً أإلاه مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض أإلاه مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أإلاه مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض أإلاه مَّعَ الله قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الآيات: 59 - 64] .
هذه الآيات تشتمل على بيانٍ تعليميٍّ لمناظرةٍ جدليّة مع المشركين، وهي تسير ضمن خطوات:
(1)
يأمُرُ هذا التعليم بافتتاح هذه المناظرة بعبارة: الْحَمْدُ لله وسَلَامٌ على عباده الذينَ اصطفَى.
أي: كلُّ الحمد لله وحده، وبعد توجيه الحمد لله، يوُجِّهُ سلاماً على عباده الذين اصطفى، وهم أنبياؤه ورسُلُهُ عبْرَ تاريخ الناس، وهم الذين حملوا لواء الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والنَّهْي عن الإِشراك به، وفي هذا تجرُّدٌ من معنى التعصّب للرسول الخاتم محمّد صلى الله عليه وسلم لشخصه.
(2)
وبعْدَ المقدّمة الافتتاحيّة يطرحُ المناظر المؤمن المسلم سؤالاً حول المقارنة بين الخالق الرّبّ وبين ما يتّخِذُه المشركونَ من شركاء على اختلاف أنواع شركهم، واختلاف ذوات شركائهم، وعبارة هذا السؤال:{ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} ؟؟.
وتحليل هذا السؤال يقتضي بياناً تَفْصِيليّاً لصفاتِ الرّبّ الخالق الرازق المحيي المميت النافع الضارّ إلى سائر صفات الله عز وجل، وبَيَاناً تقصيليّاً لصفاتِ ما اتّخَذ المشركون من شركاء لله في العبادة.
وبهذا البيان التفصيليّ المقارن يظهر أنّ ما اتَّخذهُ المشركون من شركاء لا يملكون شيئاً من خصائص الربوبيّة، فلا ينفعونَ أحداً ولا يضُرُّونَ أحداً، بل هم عاجزون عن أن يجلبُوا لأنفسهم نفعاً أو أن يدفَعُوا عن أنفسهم ضرّاً.
وإذا كان هؤلاء الشركاء لا يملكون نفعاً ولا ضرّاً، فإنّ أحداً منهم لا يستحقُّ أنْ يُعْبَدَ من دون الله، ولا أن يكون شريكاً للهِ في كونه إلهاً معْبُوداً.
(3)
فإذا ادّعَى المشركون أنّ لشركائهم نفعاً أو ضرراً أو مشاركة للهِ في ربوبيّته، فإنّ على المناظر أن يدخُلَ في عرضِ مظاهر ربوبيّة الله في كونه، فيطْرَحُ تساؤلاته التفصيليّة كما يلي:
* مَنْ خَلَق السّماوات والأرْضَ وأنزلَ لكُمْ من السماء ماءً فأنبتَ به حدَائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ؟.
* مَنْ جَعَلَ الأرضَ قراراً وجَعَلَ خلالَهَا أنهاراً وجَعَلَ لها رواسِيَ وجَعَلَ بَيْنَ البحرَيْنِ حَاجزاً؟.
*مَنْ يُجيبُ المضطّرّ إذا دعَاهُ ويكشفُ السّوءَ ويجعلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ؟.
*مَنْ يَهْدِيكُمْ في ظُلُماتِ البرّ والْبَحْرِ ومَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رحْمَتِه؟.
* مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ومَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ والأرض؟.
هذه مجموعات خمس من الأسئلة التي تجري المناظرةُ حولها من شأْنها أنْ تُوصِلَ بَعْدَ تقديم الحجج والبراهين والأدلّةِ العلميّة إلى الإِقناع بأنّ كلَّ هذه الظواهر الكونيّة هيَ من آثار الرّبّ الخالق، وأنَّهُ ليس شيءٌ منْها من أعمال شركاء المشركين، لا على سبيلِ الاستقلال، ولا على سبيل المشاركة في الرّبوبيّة.
وبما أنّ الإِلهيَّة لا يَصِحُّ عَقْلاً أنْ تكونَ إلَاّ لِمَنْ لَهُ الرُّبوبية، أو لَهُ مُشَارَكَةٌ مَا فِيها.
وبما أنَّ أحداً غير الله عز وجل لَيْسَ رَبّاً ولَا مُشَارِكاً لِلَّهِ في جُزْءٍ من ربُوبيّته.
فإنَّهُ لَا يَصِحُّ عَقْلاً أَنْ يُعْبَدَ مِنْ دُونَ اللَّهِ، ولَا أنْ يُجْعَلَ مَعَ اللَّهِ شريكاً في عبادة العابدين.
ويُلاحظُ أنّه قد جاء في النّصّ بعد كلّ مجموعةٍ من الأسئلة السابقة تعقيبٌ مبدوءٌ باستفهام إنكاريٍّ تَعْجِيبِيّ من شركِ المشركين، وبَعْدَهُ نوعُ بيان يتعلَّقُ بمذهبهم الباطل.
(1)
فبعد المجموعة الأولى جاء: {أإلاه مَّعَ الله بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} أي: يجعلون عباداً من عباد الله وخلْقاً من خَلْقِهِ مُعَادِلين لله في إلهيَّتِه الّتي لا يُشاركُهُ فيها أحَدٌ، لأنَّهُ لَا يُشاركُهُ في ربُوبيّته، ولا في جزءٍ منها أحد. ويَعْدِلُونَ عن صراطِ الحقّ متخِذينَ مَذَاهِبَ شركيّةً باطلةً.
(2)
وبعد المجموعة الثانية جاء: {أإلاه مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} .
(3)
وبعد المجموعة الثالثة جاء: {أإلاه مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} .
(4)
وبعد المجموعة الرابعة جاء: {أإلاه مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
(5)
وبعد المجموعة الخامسة جاء: {أإلاه مَّعَ الله قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} .
إنّ المتدبّر المتأنِّي لهذا النّصّ يُلاحظُ أنَّ كُلَّ تعقيبٍ من هذه التعقيباتِ الخمسة صالحٌ لأنْ يُعَمَّم علَى كُلّ المجموعات من الأسئلة الّتي تُطْرَحُ على المشرك كما جاء في المناظرة التعليميّة.
وقد أغْنَى ذِكْرُ كُلِّ واحدٍ منها بعْدَ مجموعته عن ذكر سائرها معه، ودَلَّت قرينة كون هذه المجموعات من الأسئلة وإرادةً في مناظرة واحدةٍ، على أنَّ التعقيبات قد أريد منها صلاحيّتُها لأنْ تكونَ عامّة.
واقتضت فنّيَّةُ الأداء البيانيّ أن لَا تُكرَّرَ مع كُلّ مجموعة، وأن يُذْكَرَ كُلُّ منها عَقِبَ مجموعةٍ منها.
ولَوْ تكَرَّرَتْ لضَعُفَتْ بلَاغةُ النصّ، وكذلك لو أُخِّرَتْ وجاءت على صِيغَةِ تعقيبٍ واحدٍ متتابع الجمل.
فَمَا جاء في هذا النصّ هو من أمثلة التكامل الإِبداعي في أساليب البيان القرآنيّ المجيد.
***
المثال الثالث:
قول الله عز وجل في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول) :
جاء في هذا النصّ ذِكْرُ مجموعاتٍ من آيَاتِ الله في كونه الدّلالاّتِ على صفات رُبُوبيّته، والهادية إلى إثبات ذاته جلَّ وعلا.
وهذه الآيات إنما يستفيد من دلالاتها المتفكّرون فيها، الذين يعْقِلون النتائجَ بعد أن يتوصَّلُوا إليها بعقولهم الواعية، ثمّ بعد أن يعقلوها يعْمَلُون على تذكُّرِها آناً بَعْدَ آن للاستفادة منها في استنباط حقائق جديدة، وفي الهداية إلى ما يُحَقِّق رضوان
الرّبّ الخالق، وبعد الاهتداء إلى ذلك تتحرّك الدوافع الخلقيّة الكريمة فيهم للقيام بشُكْرِ الله على نِعَمِهِ الكثيرة الَّتِي اشتملت عليها آياتُهُ في كونه.
فالسلسلة التكامليّة الّتي يمرُّ بها الإِنسانُ السّويُّ حينما يُوجّه نظره الفكريّ إلَى آيات الله في كونه تأتي وفق الخطوات التاليات:
الخطوة الأولى: التفكّرُ في آيات الله في كونه، وقد جاء بيان هذه الخطوة بعد ذكر المجموعة الأولى من آيات الله التي وجّه النصّ النظر لها، فقال تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
الخطوة الثانية: الْعَقْلُ بالإِمساك الواعي للنتائج التي أوْصَلَ إليها التفكر، وقد جاء بيان هذه الخطوة بعد ذكر المجموعة الثانية من آيات الله التي وجه النصّ النظر لها، فقال الله عز وجل:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
الخطوة الثالثة: التذكّر لمتابعة البحث التحليليّ، وللانتقاع عمليّاً وسلوكيّاً من النتائج الّتي تمّ التوصُّل إليها، وقد جاء بيانُ هذه الخطوة بعد ذكر المجموعة الثالثة من آيات الله التي وجّه النصُّ النظر لها، فقال الله عز وجل:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} .
الخطوة الرابعة: التوجّه لشكر الله على نعمه الّتي اشْتَمَلَت عليها آياته في كونه، وقد جاء بيان هذه الخطوة بعد ذكر المجموعة الرابعة من آيات الله الّتي وجّه النصّ النظر لها، فقال الله عز وجل:{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
ويُلاحظ متدبّر هذا النّصّ بأناةٍ أنّ هذه التعقيبات الأربعة صالحةٌ لأنْ تُذْكَرَ جميعُها عقب كلّ مجموعةٍ من المجموعات الأربع، ولكن جاء توزيعها عليها مراعاةً لفنّيّة الأداء البيانيّ، وابتعاداً عن تكريرها جميعاً مع كلّ مجموعة، أو حشرها جميعاً في آخر المجموعات، لأنّ كُلاًّ من التكرير والجمع أخيراً يُضْعِفُ بلاغة النصّ، ويُنْزلُ من قيمة صياغته الفنيّة.
وقرينة توجيه النظر لكلّ هذه المجموعات من آيات الله في كونه ضمن نصٍّ واحد، مع صلاحيّة هذه الآيات فكريّاً لأن يأتي التعقيبُ عليها بأيّ واحد من التعقيبات الأربعة، قرينةٌ دالّة على أنَّ المراد تعميمها على الجميع، وأنّ التعقيبات متكاملاتٌ فيما بينها.
فما جاء في هذا النصّ هو من أمثلة التكامل الإِبداعي في أساليب البيان القرآنيّ.
ولهذا الفنّ الأدبيّ المبتكر نظائر أُخْرى في كتاب الله عز وجل، والحمد لله على فتحه وتوفيقه.
***