الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقولة الأولى: الاستعارة
(1)
تعريفات
الاستعارة في اللّغة: طلبُ شيءٍ ما للانتفاع به زمناً ما دون مقابل، على أن يَرُدَّه المستعير إلى الْمُعِير عند انتهاء المدّة الممنوحة له، أو عند الطلب.
الاستعارة في اصطلاح البيانيين: استعمال لفظٍ ما في غير ما وُضِع له في اصطلاحٍ به التخاطب، لعلاقة المشابهة، مع قرينة صارفةٍ عن إرادة المعنى الموضوع له في اصطلاحٍ به التخاطب.
وهي من قبيل المجاز في الاستعمال اللّغوي للكلام، وأصلُها تشبيهٌ حُذِفَ منه المشَبّه وأداةُ التشبه ووجْهُ الشَّبَه، ولم يبق منه إلَاّ ما يدلُّ على المشبّه به، بأسلوب استعارة اللفظ الدالّ على المشبَّه به، أو استعارة بعض مشتقّاته، أوْ بعض لوازمه، واستعمالها في الكلام بدلاً عن ذكر لفظ المشبَّه، مُلَاحَظاً في هذا الاستعمال ادّعاءُ أنَّ المشبَّه داخل في جنس أو نوع أو صِنْف المشبّه به، بسبب مشاركته له في الصفة الّتي هي وجه الشَّبَهِ بينهما، في رؤية صاحب التعبير.
وأركان الاستعارة على هذا أربعة:
(1)
اللفظ المستعار.
(2)
المعنى المستعار منه، وهو المشبّه به.
(3)
المعنى المستعار له، وهو المشبّه.
(4)
القرينة الصارفة عن إرادة ما وُضِع له اللّفظ في اصطلاحٍ به التخاطب.
والقرينة دليلٌ من المقال، أو من الحال، أو عقليٌّ صرْف.
ولم يذكر البيانيّون هذا الركن وقد رأيت إضافته لأنّه إذا فقدت القرينة لم تصحّ الاستعارة.
وقد تطلق كلمة "الاستعارة" على اللّفظ المستعْمَلِ في غير ما وُضِع له في اصطلاح به التخاطب لعلاقة المشابهة.
مثل: انطلق أسَدُ الكتيبةِ الخضراء، يصرع فُرْسَانَ الأعداء، أفراداً وأزواجاً.
جاء في هذا المثال استعمال كلمة "أسد" في غير معناها الحقيقي على سبيل الاستعارة.
هذا الاستعمال يسمَّى "استعارة" بمقتضى المعنى الأول الذي جاء في التعريف.
ولفظ "أسد" في هذا الاستعمال قد يُطْلق عليه أيضاً في الاصطلاح "استعارة" بمقتضى المعنى الثاني.
ومن لطائف التعبيرات قولُهُمْ في الاستعارة: تزوَّج المجاز التشبيه فتولّد منهما الاستعارة.
فالاستعارة مجازٌ علاقته المشابهة.
الفرق بين الاستعارة والتشبيه:
قالوا في التفريق بين الاستعارة والتشبيه أنّه يشترط في الاستعارة تناسي التشبيه، وادّعاءُ أنَّ المشبَّه فردٌ من أفراد المشبّه به، ولا يُجْمَعُ فيها بين المشبَّه والمشبَّه به على وجه يُنْبئ عن التشبيه، ولا يُذْكَرُ فيها وجه الشَّبه، ولا أداة التشبيه لا لفظاً ولا تقديراً.
ومن الجمع بين المشبَّه والمشبَّه به على وجْهٍ يُنْبِئ عن التشبيه ما يلي:
(1)
أن يكون المشبّه به خبراً عن المشبَّه، مثل: وجْهُها قمر، وشعرُها ليل، وقدّها غُصْنُ بان، وعيناها عَيْنا ظبية.
ومثل الخبر ما كان في حكمه، كخبر "كان" وأَخواتها، و"إنّ" وأخواتها، وكالمفعول الثاني في فعل "ظنَّ" وأخواته.
(2)
أن يكون المشبّه به حالاً صَاحِبُها المشبّه، مثل قول الشاعر أبي القاسم الزاهي يصف حسناوات:
سَفَرْنَ بُدوراً. وانْتَقَبْنَ أَهْلَّةً
…
ومِسْنَ غُصُوناً. والْتَفَتْنَ جآذراً
جآذر: جمع جُؤْذُر، وهو ولد البقرة الوحشية.
(3)
أن يكون المشبه به صفة للمشبّه، مثل قولي صانعاً مثلاً:
لَا يَفْلِقُ الْهَامَ في سَاحِ الْقِتَالِ إذَا
…
تَلَاحَمَ الْبَأْسُ إلَاّ الْفَارِسُ الأَسَدُ
(4)
أنْ يكون المشبَّه به مضَافاً إلى المشَّبَه، مثل قول الشاعر:
والرّيحُ تَعْبَثُ بِالْغُصُونِ وقد جَرَى
…
ذَهَبُ الأَصِيلِ على لُجَيْنِ الْمَاءِ
أي: وقد جرَى شُعاع الأصيل الذي يُشْبِه الذهب، على الماء الذي يشبه اللّجين، وهي الفضة.
(5)
أن يكون المشبّه به مصدراً مُبَيِّناً للنوع مثل قول الله عز وجل في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) :
أي: وهي تَمْرُّ كَمَرِّ السّحاب.
(6)
أن يكون المشبَّه بِهِ مُبَيَّناً بالمشبّه، وهذا البيان قَدْ يكون بياناً صريحاً، أو بياناً ضمنيّاً، مثل قول الله عز وجل في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) بشأن ما يحلّ ليلة الصيّام:
{وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل} [الآية: 187] .
فقد جاء بيان الخيط الأبيض بالفجر بياناً صريحاً، وفي ضمنه جاء بيان الخيط الأسود باللّيل بياناً ضمنيّاً.
والمعنى: حتَّى يتبيّن لكم أوّلُ النهار الذي يُشْبه الخيط الأبيض عند الفجر، من آخر اللّيل الذي يشبه الخيط الأسود.
ومثل قول الشاعر:
فما زِلْتُ فِي لَيْلَيْنِ شَعْرٍ وظُلْمَةٍ
…
وشَمْسَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَوَجْهِ حَبِيبٍ
فقد جاء بيانُ اللّيْلَيْنِ بياناً صَريحاً بكون أحدهما شَعْرَ من يحبّ والآخر ظلمة اللَّيل. وبيانُ الشمسين بأنّ أحدهما الخمر والآخر وجه من يُحبّ.
أي: الشَّعر الذي يشبه اللّيل، والخمر الّتي تشبه الشمس، ووجه الحبيب الذي يشبه الشمس أيضاً.
***
(2)
هل الاستعارة مجاز لغوي أم مجاز عقلي؟
رأى جمهور البيانيين أنّ الاستعارة مجاز لغوي، وقيل: هي مجاز عقلي، بمعنى أنّ الاستعارة تعتمد على أمر عقليّ، لا لغويّ، واستدلّ القائلون بأنّ الاستعارة مجاز عقلي بما يلي:
(1)
أنّ اللّفظ المستعار وهو المشبَّه به للدلالة به على غير معناه الموضوع له في اصطلاح به التخاطب، وهو المشبَّه، لا يُطْلَقُ عليه إلَاّ بعد ادّعاء دخوله في جنس المشبَّه به، أو نوْعه، أو صِنْفِه، فيكون إطلاقُ لفظ المشبّه به على المشبَّه، حاصلاً على وجه الحقيقة لا على وجه المجاز، لأَنّ الادّعاء أدخلَ المشبَّهَ ضِمْنَ أفراد المشبَّه به.
(2)
ليست الاستعارة مجرّد إطلاق اللّفظ على غير ما وضع له في اصطلاحٍ به التخاطب، فهذا أمْرٌ لَا بلاغة فيه، بدليل الأعلام المنقولة، لكنّ العمل العقليّ هو الذي أعطى الاستعارة بلاغتها.
أقول: كلُّ المجازات اللّغوية سواء أكانت من قبيل الاستعارة أم المجاز المرسل، ليست مجرّد حركة آليّة لغويّة يتمّ بها استعمال اللفظ في غير ما وضِع له في اصطلاح به التخاطب.
بل لا بدّ في المجاز من عمل فكري أو شعور نفسّي يُصَحِّحُ في تصوُّرِ المتكلّم استخدامَ اللّفظ في غير ما وُضع له.
* فحين نتلو قول الله عز وجل: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ من الصوَّاعِقِ حَذَرَ الْمَوْت} [البقرة: 19] فإنّنا لا نشعر بأنّ لفظ الأصابع وُضِع بدل الأنامل وضعاً اعتباطيّاً في هذا المجاز المرسل، وليس مجرَّدَ حركة آليّة لُغَوِيّة، بل هو قائم على ملاحظة فكريّة، وهي أنّ الذين يحذرون الموت من الصّواعق ذواتِ الأصوات العظيمة
القاتلة، تندفع أيديهم إلى سَدِّ آذانهم بأصابعهم، فلو تمكنوا من إدخال كلّ أصابعهم فيها لفعلوا، فالعبارة تدلُّ على تَوَجُّهِ إرادتهم وما في أنفهسم من مشاعر، فكان هذا الإِطلاق المجازي، مع أنَّ الذي يضعونه في آذانهم هو رؤوس أناملهم.
* وحين يقول قائل معبّراً عن العطاء الذي هو أثر رحمة المعطي الموجودة في نفسه ووجدانه:
"أعطاني حتى ملأ بيتي من رَحْمَتِه" أي: من الرزق الذي هو أثر رحمته، فإنّه لا يَسْتَعْمِلُ كلمة الرحمة استعمالاً آليَّاً للدّلالة بها على ما ناله من رزقٍ أصابه، وإنّما يُعبِّر عن شعوره بأنّ جزءاً من رحمة المعطي انطلق من نفسه فتَجسَّد بصورة رزق مَلأَ بيْته.
هذا مجاز مرسل من إطلاق السَّبَب وإرادة المسبَّب، والعملُ الفكري والشعور النفسيّ هو المقتضي لهذا الإِطلاق، ولا خلاف في أنه مجاز لغوي.
* وحين يأتي التعبير عن تداعي الجدار إلى السقوط بأنّه يُريدُ أن يَنْقَضّ، فإنّ الأمر ليس مُجرَّدَ عمَلٍ آليٍّ تُوضَعُ فيه الإِرادة مكان ظاهرة التداعي، بل هو تعبيرٌ عمّا يَشْعُر به المشاهد له، من أنّه بمثابة شَيْخٍ هرِمٍ جدّاً انْحَنَى ظهْرُه، وليس بيده عصاً تسنده، وقد تعِبَ جدّاً من الوقوف فهو يريد أن ينقضّ بسرعةٍ انقضاضَ الطائر ليرتاح جسمه على الأرض، فهذا مجاز مرسل، والعمل الفكري والتصوّر الذهني هو المتقضي له.
كذلك حال الاستعارة فهي ليست مجرّد نَقْلٍ آليّ للفظ المشبَّهِ به، وإطلاقِه على المشبَّه، بل لا بُدَّ بها من عَمَلٍ فكريّ أو شعورٍ نفسّي يُصَحِّحُ في تصوّر المتكلّم هذا الإِطلاق.
والذين تَصَوَّروا أنّ الاستعارة هي من قبيل المجاز العقلي لهذا المعنى كان عليهم أن يَجْعَلُوا كُلَّ صُوَر المجاز اللغويّ من قبيل المجاز العقلي.
والتحقيق أنَّ المجاز العقلي لا يكون فيه نقْلٌ في استعمال الألفاظ، بل هو عمل فكري أو شعور نفسي بَحْتٌ، بخلاف المجاز اللّغوي فإنّ فيه هذا النّقل مع العمل الفكري أو الشعور النفسيّ.
وبهذا ظهر الفرق بين المجاز العقليّ والمجاز اللّغوي، وكان ما ذهب إليه جمهور البيانيّين هو الرأي الأجدر بالاعتبار.
***
(3)
تقسيم الاستعارة إلى استعارة في المفرد واستعارة في المركب
تنقسم الاستعارة انقساماً أوليّاً إلى قسمين:
القسم الأول: الاستعارة في اللّفظ المفرد، وهي التي يكون المستَعارُ فيها لفظاً مفرداً، مثل:
(1)
لفظ: "اللّيث" في نحو جملة: "أقْبَلَ اللَّيْثُ مُدَجَّجاً بلأَمَةِ الحرْبِ فاخترق جيْشَ العدوّ".
أي: أقبل الفارس الشجاع الذي هو كاللّيث.
لأْمةُ الحرب: لباسُ الحرب وأدواته.
(2)
لفظ: "البدور" في نحو جملة: "بزَغَتِ البُدُور فوق شَفَقِ النُّحُور والصُّدُور".
أي: أقبلت الحسناوات اللّواتي وجوهُهُنّ كالْبُدُور.
القسم الثاني: الاستعارة في اللّفظ المركّب، وهي الّتي يكون اللَّفْظُ المستعار فيها كلاماً مركباً من عدّة ألفاظ مفردة، مثل:
(1)
"لكلِّ جوادٍ كبْوَة - ولِكُلِّ صَارِمٍ نَبْوَة".
هذان مُرَكّبَان من عدّة ألفاظ، يستعاران لمن يخطئ أحياناً، وليس من شأنه ولا من عادته أن يخطئ.
(2)
"أَعْطِ الْقَوْسَ بارِيها".
هذا لفظ مركّب يستعار للدلالة به على أنه ينبغي إسناد العمل إلى من يُحْسِنُه ويُتْقِنُه لسابق خبرته به.
ويُطلَقُ على هذا القسم الثاني عبارات: "استعارة تمثيليّة - استعارة على سبيل التمثيل - تمثيل على سبيل الاستعارة - تمثيل" والإِطلاق الأوّل أحسنها، أمّا الأخير فيَشْتَبِهُ بالتمثيل الذي سبق بيانه في التشبيه، فالأولى اجتنابه.
وسيأتي إن شاء الله شرح القسم الثاني بعد استيفاء الكلام على تقسيمات القسم الأوّل.
***
وبعد هذه المقدمة يأتي المبحثان المعقودان للاستعارة، وهما:
المبحث الأول: الاستعارة في المفرد.
المبحث الثاني: الاستعارة في المركّب.
***
المبحَثْ الأوَّل
الاستعارة في المفرد
(أ)
تقسيمات الاستعارة في المفرد
تنقسم الاستعارة في المفرد إلى تقسيمات متعدّدات باعتبارات مختلفات، وفيما يلي تفصيلٌ وبيانٌ للمهمّ منها:
التقسيم الأوّل
تقسيم الاستعارة في المفرد إلى أصليّة وتبعيّة
رأى البيانيون تقسيم الاستعارة في المفرد إلى قسمين:
القسم الأول: الاستعارة الأصليّة، وهي التي يكون اللّفظ المستعار فيها اسماً جامداً، مثل:"أسد - بدر - شمس - ظبي" ونحوها.
القسم الثاني: الاستعارة التبعيّة، وهي التي يكون اللفظ المستعار فيها فِعْلاً، مثل: أشْرَقَ - يُشْرِقُ - أَشْرِقْ" أو اسماً مشتقاً، مثل: "جَارِح - مَجْروح - جَرِيح - مَقْتَلَة - مَحْرقة -" أو حرفاً من حروف المعاني، مثل: "اللام الجارّة - مِنْ - في - لن -".
لقد رأى البيانيّون أنَّ التشبيه الذي هو أصل الاستعارة وعلاقتها يكون أوّلاً في الأسماء الجامدة، ومنها المصادر.
وبعد التشبيه الذي يكون في المصدر يُشْتَقُّ من المصدر الفعل الماضي، أو المضارع، أو الأمر، ثم يُشْتَقُّ اسم الفاعل، أو اسم المفعول، أو الصفة المشبّهة، أو اسم الزمان، أو اسم المكان، أو نحو ذلك.
* وبناءً على هذا التصوّر اعتبروا استعارة الأفعال والمشتقات من الأسماء إنّما كانت تبعاً للاستعارة في المصادر، وأجْرَوا الاستعارات فيها على هذا الأساس.
فإذا قال المتشكِّي من نوائب الدهر: "عَضَّنَا الدّهْرُ بِنَابِه" بمعنى أوقع بنا المصائب، قالوا:
شَبَّه وقع المصائب بالعضّ الذي هو مصدر فعل "عَضّ" بجامع الإِيلام في كلٍّ من المشبَّه والمشبَّهِ به، ثمّ استعار كلمة "العضّ" للعمل المؤلم الذي تُحْدِثُه النوائب، ثمّ اشتَقَّ من "العضّ" الذي هو مصدرٌ فِعْلَ "عَضَّ" فكان هذا الاشتقاق أمراً تابعاً للاستعارة في الاسم الجامد الذي هو المصدر.
فَسَمَّوا كُلَّ ما كان من هذا القبيل استعارةً تبعيّة.
* وكذلك رأوا في استعارة الحرف للدلالة به على معنى حرف آخر.
مثل: استعارة حرف "في" الجار الذي يدلُّ على الظّرْفية للدلالة به على معنى حرف "على" الذي يُدلُّ على الاستعلاء.
ورأوا أنّ أصل هذه الاستعارة تشبيه العلوّ المثبّت بالشَّيْءِ تثبيتاً قويّاً بالشيء الدّاخل في شيءٍ آخر دخولاً انْدِمَاجيّاً، أو دخولاً ظرفيّاً، واسْتُعِير لهذا المعنى اسْمٌ يدلُّ على هذا الدخول، ثمّ استغني عنه بحرف الجرّ "في" الذي يدلُّ على الظرفية،
استعارة تابعةً للاستعارة في الاسم الجامد، لأنّ معاني الحروف تابعةٌ لمعاني الأسماء.
وتُلاحَظُ هذه الاستعارة فيما حكى الله عز وجل في سورة (طه/ 20 مصحف/ 45 نزول) عن قول فرعون لِسَحَرته متوعّداً لهم بعد أن آمَنُوا بِرَبّ موسى وهارون:
لقد رأى البيانيّون في عبارة: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} استعارةَ حرف الجرّ "في" للدلالة به على معنى حرف الجرّ "على".
ورأوا أنّ علاقة هذه الاستعارة تشبيه العلوّ المثبّت في الجذوع بدخول شيءٍ في شيءٍ آخر، لأنّ تثبيتهم في الجذوع قد يكون بمسامير تدخل فيها، ولمّا كان حرف "في" يفيد هذا المعنى فقد حَسُنَت استعارته على طريقة الإستعارة التبعيّة، باعتبار أنّ معاني الحروف تابعة للمعاني في الأسماء.
مع أنّ مثل هذا المثال ليس من اللَاّزِم أن يكون وارداً على سبيل الاستعارة في الحرف، بل الأقرب أن يكون الكلامُ جَارياً على طريقة التَّضْمِين، وهو هنا تضمين فعل:{لأُصَلّبنكم} معنى فعل آخر يتعدّى بحرف الجرّ "في" فعُدِّي تعديته، وأصل الكلام: لأصلبنكم عَلَى جذوع النَّخْل ولأُثَبّتَنَّكُمْ فيها بالْمَسَامِير التي تَدْخُل في الجذوع، فَنَابَتِ التعدية بحرف الجرّ "في" مناب ذكر الفعل الذي حُذِف، وَضُمِّنَ الْفِعْلُ المذكُورُ معناه.
مع هذه المعترضة المتعلقة بهذا المثال أقول:
لَا نجد متكلّماً فصيحاً بليغاً أديباً يُلَاحِظُ هذه التبعيَّة، لا في الأفعال ولا في المشتقات من الأسماء، ولا في الحروف.
إنَّما تَنْقدح في ذهنه صورةُ التشابه بين مَعْنَى فعلٍ ومَعْنَى فعلٍ آخر، أو بين معنى اسم مشتقٍّ ومعنى اسم مشتق آخر، أو بين معنىً يُدَلُّ عليه بحرف ومعنىً يُدَلُّ عليه بحرف آخر، فَيَسْتَعِيرُ الفعل أو الاسم المشتَقَّ أو الحرفَ، ولا تَخْطُر بباله سلسلة الإِجراءات التحليليّة التي ذكرها البيانيون.
فما الداعي لاعتبار الاستعارة في الأفعال، والاستعارة في الأسماء المشتقَّةِ، والاستعارة في الحروف إنْ وُجدت، استعارة تبعيّة، مع إمكان أن نقول فيها جميعاً:
استعارَ المتكلّم الفعلَ للدلالة به على معنى فِعْلٍ آخر، بجامع التشابه بين الفعلَيْنِ في حَدَثهما وفي زمانِهما، وكذلك يقال في استعارة الأسماء المشتقة، واستعارة الحروف إن وُجدت؟!.
وعلى هذا نقول في مثال قَوْلِ المتشكّي من نوائب الدهر: "عَضَّنَا الدَّهْرُ بنابِهِ".
إنّ ما تُحْدِثه النَّوائب من أعمال مُؤْلِمَةٍ قد يُعَبَّرُ عَنْها بفِعْلٍ أو أفعال مختلفة، مثل:"أتْلَفَتِ النوائبُ بَعْضَ زرعه - وأهلَكَتْ بعض ماشيته - ومسَّتْ بعض أهله وحاجاته بسُوءٍ - فتألم لذلك" يُمْكن أن يُسْتَعْمِلَ بَدَلَها فعل: "عَضَّ" على سبيل الاستعارة، إذْ تُشَبَّهُ هذه الأفعال الدّالّة على الحدث والزّمن، بفعل "عضّ" بجامع الحَدثِ المؤلم المقرون بِزَمَنٍ في كلٍّ من المشبَّهِ والمشبَّه به.
ويُسْتَعَارُ هذا الفعل "عَضَّ" للدّلالة به على ما أحدثَتْهُ أفعال النوائب في أزمانها الماضية.
وتطبيق هذا التحليل على المشتقّاتِ من الأسماء المستعارة لغير معانيها الأصليّة أيْسَرُ وأوضَحُ.
وبناءً على هذا البيان أقول:
لا داعي لإِطالة الطريق على الدارس لنصوص الاستعارة بإجراءات تحليليّة لا لُزُومَ لها، وما أحْسِبُ شيئاً منها يَخْطُرُ في ذهن شاعر أو ناثر يصوغ كلاماً يضمّنُه استعاراتٍ في الأفعال أو في الأسماء أو في الحروف.
فالرأيُ الذي انتهيتُ إليه: أنْ نَصْرف النظر في بحوث الاستعارة عن تقسيمها إلى أصليّة وتبعيّة.
وحسبنا في كلِّ ذلك أن نقول: استعارةُ كلمة بدل كلمة، سواءٌ أكانت اسماً أمْ فعلاً أمْ حرفاً.
***
تقسيم الاستعارة في المفرد إلى تصريحيّة ومكنيّة
نظر البيانيون في الاستعارات الواردات في المفرد فرأوا أنّ اللّفظ المستعار فيها للدلالة به على غير ما وُضع له في اصطلاحٍ به التخاطب، قدْ يُؤْتَى به صريحاً بذاته، وقد يُطْوَى فلا يؤتَى به بلفظه، ولكن يُكنَّى عنه بذكر شيءٍ من صفاته أو لوازمه القريبة أو البعيدة، فظهر لهم أن يُقَسِّمُوا الاستعارة إلى قسمين:
القسم الأول: سمّوه "الاستعارة التصريحية" وهي الّتي يُصَرَّحُ فيها بذات اللّفظ المستعار، الذي هو في الأصل المشبّه به حين كان الكلام تشبيهاً، قبل أن تُحْذَف أركانه باستثناء المشبَّهِ به، أو بعض صفاته أو خصائصه، أو بعض لوازمه الذهنيّة القريبة أو البعيدة، مثل:
(1)
وقف الغضنفر على المنبر، وارتجل خُطْبَتَهُ العصماء، على عِلْيَةِ القوم والدّهماء، فبشّر وأنذر، وأطمع وحذّر، وقال: أنا أميركم المبعوث إليكم بالرحمة والسيف، والفضل والعدل، فمن أطاع واستقام، أصاب من الإِنعام والإِكرام، ومن عصى والْتَوى، فبنار إثْمِهِ احْتَرَقَ أو اكتوى.
إنّ كلمة "الغضنفر" التي هي بمعنى "الأسد" قد استعيرت بذاتها من الحيوان المفترس، وأُطْلِقَتْ على الأمير المبعوث لقومٍ أهل شقاق وخلاف.
فهي في هذا المثال استعارة تصريحيّة، إذْ جاء فيها التصريح بذات اللّفظ المستعار.
(2)
قول الحريري:
سَأَلْتُهَا حِينَ زَارَتْ نَضْوَ بُرْقُعِهَا الْقَانِي وإِيدَاعَ سَمْعِي أَطْيَبَ الْخَبَرِ
فَزَحْزَتْ شَفَقاً غَشَّى سَنَا قَمَرٍ
…
وسَاقَطَتْ لُؤْلُؤاً مِنْ خَاتَمٍ عَطِرِ
نَضْوَ بُرْقُعِهَا: أي: إزَالَتَهُ وإلْقاءَه، والْبُرقُع قناع تُغَطّي به المرأة وجهها، يقال: نضا الشيءَ إذا نزعَهُ وألقاه.
والمعنى سألتها أنْ تُزِيل القناع عن وجهها.
القاني: أي: الأحمر.
أطلق الحريري: كلمة "شَفَقاً" وأراد الْبُرْقُعَ، على سبيل الاستعارة التصريحيّه. وأطلقَ كلمة "قَمَر" وأراد وجْهَ حسنائه. وأطلَقَ كلمة "لُؤْلؤاً" وأراد كلامَها، وأطلق كلمة "خَاتم" وأراد فَمَها، كلُّ هذا على سبيل الاستعارة التصريحيّة، إذ جاء في هذه الإِطلاقات التصريح بذوات الألفاظ المستعارة.
القسم الثاني: سمّوه "الاستعارة المكنيّة".
وهي التي لم يُصَرَّح فيها باللّفظ المستعار، وإنما ذُكِرَ فيها شيءٌ من صفاته أو خصائصه أو لوازمه القريبة أو البعيدة، كنايةً به عن اللّفظ المستعار، مثل:
(1)
أن نقول من المثال الأول من مثالي الاستعارة التصريحيّة: "وقف ذو اللّبدة الأغبر - أو وقف أو الأشبال - أو وقف صاحب الزئير - أو وقف الذي تأكل السباع بقايا فريسته" أو نحو هذه العبارات.
فذو اللّبدة صفة للأسد. ومثلها أبو الأشبال، وصاحب الزئير، ونحن باستعمال هذه العبارات نُكَنّي عن اللّفظ المستعار، وهو الغضنفر، أو الأسد.
وأصل هذا المجاز تَشْبِيهٌ حُذِفتْ كلُّ أركانه باستثناء بعض صفات المشبّه به، فهو استعارة مَكْنيّة.
(2)
زُرْنا نقتبس عِلْمَ ذي فضْلٍ يأتي اللّيلُ إذا غاب، ويذهب اللّيلُ إذا حضر.
أي نقتبس عِلْماً من الشَمْس، فالشمس من لوازم غيابها مجيءُ اللّيل، ومن لوازم حضورها ذهابُ اللّيل.
فلفظ الشمس مستعارٌ من الكوكب المضيء للدّلالة به على الإِنسان الممدوح، والأصل في هذا تَشْبِيهُهُ بالشمس، لكن حُذِف اللّفظ المستعارُ ورُمِزَ إليه ببعض لوازمه كنايةً عنه.
وأصل هذا المجاز تَشْبِيهٌ حذفت كلّ أركانه باستثناء بعض لوازم المشبَّه به، فهو استعارة مكنيَّة.
وقد تلْتَبِسُ هذِه الاستعارة المكنيّة بالتشبيه المكنّي الّذي سبَقَ أنْ فَرَزْتُه بقِسْمٍ خاصٍّ عن التَّشْبيه البليغ، وذكرتُ طائفةً من أمثلته.
والفرقُ بينهما أنّ التشبيه المكنيّ يأتي فيه المشبَّهُ ضمن العبارة بلفظه الصريح، أو بما يُكنَّى به عنه، من جهة، ويأتي فيه المشبّه به بلفظ الصريح أو بما يُكنَّى به عنه، من جهة ثانية، على وجه يُنْبِئ عن التشبيه.
بخلاف الاستعارة إذْ لا يَجْتَمعُ فيها المشبَّه بلفظه الصريح أو بما يُكنَّى به عنه، مع المشبَّه به بلفظه الصريح أو بما يُكنَّى به عنه، على وجه يُنْبِئ عن التشبيه، وبهذا يصير الكلام مجازاً بالاستعارة، وإلَاّ فلا مجاز والكلام جارٍ وفق أسلوب التشبيه الْمُضْمَر الذي يُوجَدُ في العبارة ما يدلُّ عليه، ومعلوم أنّ عبارات التشبيه هي من الحقيقة ولا مِنَ المجاز.
وبسبب هذا الالْتِبَاس تختلط الأمثلة على كثير من الباحثين والكاتبين في علم البيان، فيجعلون ما هو من التشبيه المضمر الذي هو تشبيه مكنّي ضمن أمثلة الاستعارة المكنيّة، مع أنّ المشبَّه فيها مذكورٌ بلفظه الصريح أو بما يُكْنَّى به عنه، وقاعدة البيانيين أن لا يجتمعا اجتماعاً يُنْبئُ عن التشبيه.
وهذه دقيقة ينبغي للباحث أن يتَنَبَّه إليها.
رأي السكّاكي:
مع أنّ للسكّاكيّ نظرات ثاقبات في علوم البلاغة لكنّه فيما أرى أسرف هنا في التخيُّل وتعسّف، فعكس القضيّة، واعتبر التشبيه المضمر الذي هو من التشبيه المكنيّ على ما ظهر لي استعارةً تخييليّة، إذْ رأى أنّ لفظ "المشبّه" هو الذي استعمل في المشبّه به، بادّعاء أن المشبَّه هو عين "المشبه به" لا غيرُهُ بقرينة ذكر لازم المشبّه به.
ففي قول الْهُذَلي:
وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا
…
أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لَا تَنْفَعُ
رأى أنَّ كلمة "الْمَنَيَّة" وهي الموت مُسْتَعارَةٌ للدّلالة بها على الحيوان المفترس "السبع" فلمّا صَارتِ المنيّةُ في تَصَوُّر الشاعر عين السَّبع الذي هو في الأصل مشبَّه به تخيّلَ أنّ للمنيّة أظفاراً تَنْشَب، فقال: أَنْشَبَتِ المنيَّةُ أظفارها، وصاغَها شعراً فقال: وإذا المنيّةُ انشبت أظفارها، وسمّى هذا العمل "استعارة تخييليّة".
ومع أنَّ هذِه النظرة من السّكّاكي نظرةٌ بَدِيعَة وجميلة، إلَاّ أنها اعتمدت على تحليل متعسّف قلّما يخطر في ذهن أصحاب الكلام أنفسهم حين تجري ألسنتهم أو أقلامهم بمثل هذا الكلام.
والطريق الأَقربُ الذي يفهمه أصحاب الكلام أنفسهم هو أن يكون الكلام من قبيل التشبيه البليغ الذي يُذْكَرْ فيه المشبَّهُ به بلفظه، إنّما ذُكِرَ بَدَلَهُ مَا يَدُلُّ عليه من صفاته أو خصائصه أو لوازمه.
وأصل الكلام في عبارة "الْهُذَلِيّ" المنيةُ سَبُعٌ يُنْشِبُ أَظْفَارَه، فإذا أقلبتِ المنيّة لم تنفع التمائم.
هذا تشبيه بَلِيغٌ، لكنّه حذف لفظ المشَبَّه به، وهو كلمة "سَبُع" واكتفى بذكر أداة افتراسه، وهي أنْ يُنْشِبَ أظفارَه، واسند هذا الإِنشاب إلى المنيَّة بَدلَ أن يُسْنِدَ
لفظ السَّبعِ إِليها، واقتضى هذا الإِسناد مقتضيات لفظيّة نحويّة، فجاء بتاء التأنيث وضمير المؤنث، مراعاة للفظ "المنيّة".
وبهذا نكون قد أخذنا بالأظهر الذي لا تعقيد فيه ولا إبعاد، والتزمنا بقاعدة البيانيين بشأن الاستعارة، التي ذكروا لزوم عدم اجتماع المشبّه والمشبّه به فيها، أو ما يُكَنَّى به عنهما، على وجه يُنْبِئ عن التشبيه.
أمثلة للاستعارة بقسميها التصريحيّة والمكنيّة:
(1)
قول الله عز وجل في سورة (إبراهيم/ 14 مصحف/ 72 نزول) خطاباً لرسوله صلى الله عليه وسلم:
في هذه الآية استعارتان تصريحيتان:
الأولى: استعارة كلمة "الظلمات" للدَّلالة بها على الكُفْرِ والجهل بعناصر القاعدة الإِيمانيّة، والجهل بمفاهيم الإِسلام وشرائعه وأحكامه ومنهاج الله للنّاسِ.
وأصلها تشبيه الجهل بهذه الأمور الجليلة الهادية للعقول والقلوب بالظلمات.
الثانية: استعارة كلمة النور للدلالة بها على الإِيمان والعلم بعناصر القاعدة الإِيمانية، وبمفاهيم الإِسلام وشرائعه وأحكامه ومنهاج الله للناس.
وأصلها تشبيه الإِيمان بعد العلم بهذه الأمور الجليلة الهادية للعقول والقلوب بالنور.
والقرائن الفكرية واللّفظيّة تدلُّ على المراد من الكلمتَيْن، فكلُّ منهما مستعمل في غير ما وُضع له في اصطلاح به التخاطب، وعلاقته المشابهة، ولم
يُذْكر في اللّفظ وجه الشَّبه ولا أداة التشبيه ولا لفظ المشبّه، فالاستعمال جارٍ على طريقة الاستعارة التصريحيّة.
ونظائر هاتين الاستعارتين مكرّرة جدّاً في القرآن المجيد، حتّى صارتا بمثابة الحقيقة الشرعيّة.
(2)
قول الله عز وجل في سورة (فاطر/ 35 مصحف/ 43 نزول) :
يرجون تجارة: أي: يتوقَّعون أَرْباح تجارة عظيمة.
التجارة: هي أعمال البيع والشراء بممارسة وامتهان.
لن تَبُور: أي: لن تكْسَدَ، ولن تتعطّل، ولن تَخْسَر أو تَهْلِك.
جاء في هذه الآية استعمال لفظ "تجارة" مع وصفها بعدم البوار، على سبيل الاستعارة التصريحية.
والمراد أنّ التعامل مع الله عز وجل بأعمال العبادات والقُرُبَات، التي منها تلاوة القرآن، وإقامة الصلاة، وإنفاق الأموال في سبيل الله سرّاً وعلانيَة تعاملٌ يجني منه العبْدُ خيراً عظيماً.
وأصلها تشبيه ما يقدّمه المؤمنون من أعمال صالحة حَسَنَةٍ، يبتغون بها رضوان الله وثوابه العظيم بما يُقَدِّمُه التاجر في تجارته من سلعَة، مترقّباً من وراء ذلك ربحاً عظيماً.
فتعامل العبد مع ربّه بالأعمال الصالحة تُشْبِه التجارة الرابحة دواماً. إذْ هُو تَعَامُلٌ مضمون الرّبح، مأمون الخسارة، فهو بمثابة التجارة التي لنْ تكسد ولن تخسر ولن تضيع.
(3)
قول المتنبيّ من قصيدة يمدح بها "محمّد بْنَ سيَّار بْنِ مُكْرم التميمي، فيصف مسيره إليه، واستقبال ابْن سيّار له:
سَرَى السَّيْفُ مِمَّا تَطْبَعُ الْهِنْدُ صَاحِبِي
…
إلَى السَّيْفِ مِمَّا يَطْبَعُ اللَّهُ لَا الْهِنْدُ
فَلَمَّا رَآنِي مُقْبِلاً هَزَّ نَفْسَهُ
…
إِلَيَّ حُسَامٌ كُلُّ صَفْحٍ لَه حَدُّ
فَلَمْ أَرَ قَبْلِي مَنْ مَشَى الْبَحْرُ نَحْوَهُ
…
وَلَا رَجُلاً قَامَتْ تُعَانِقُهُ الأُسْدُ
في هذه الأبيات عدّة استعارت تصريحية.
يقول في البيت الأول: سَرَى السّيْفُ ممَّا تَطْبَعُ الْهِنْدُ صَاحِبي، أي: حالة كونه صاحباً لي. فأخَذَ المتنبّي من حَدَثِ سُراهُ هو حاملاً سيفه الذي هو من صُنْع الهند، لقطةً تصويريَّةً عَبَّرَ فيها أنَّ سَيْفَهُ هُو الّذِي سَرَى إلى شبيهه الممدوح مصاحباً له، فَأَسْنَدَ السُّرَى إلى السيف على طريقة المجاز العقلي "وهو هنا إسناد الفعل إلى غير ما هو له لعلاقة المصاحبة" توطئة للاستعارة التصريحيَّة التي أطلق فيها لفظة "السيف" على ممدوحه ابْنِ سيّار، فقال:"إِلَى السَّيف" ودلَّ على أنه أراد "ابْنَ سيّار" قوله: "ممّا يَطْبَعُ اللَّهُ لَا الهنْدُ".
وتابع يبني كلامه على اعتبار ممدوحه سيفاً، فقال: فَلَمَّا رَآنِيِ مُقْبلاً هَزَّ نَفْسَهُ إِلَيّ" فوصف حركة نهوضه وإقباله للاحتفاء بالمتنبّي بالسيف حين يهتزّ، فأطلق كلمة "هزَّ" على سبيل الاستعارة أيضاً بمعنى: تحرَّك يتلامع بإشراقه مقبلاً إلى زائره.
وتابع تأكيد أنه سيف توطئة لوصفه بأنّه ذو حدّين، إذا نظرت إلى أحد صَفْحَيْهِ رأيْتَ حدّاً، وإذا أدرتَهُ إلى الصَّفح الآخر وجَدْت حدّاً ثانياً، فقال:"حُسَامٌ كُلُّ صَفْحٍ لَهُ حَدُّ".
الصَّفْحُ: من السّيْف والْوَجْهِ عُرْضُه، ويجمع على صِفَاح وأصْفَاح.
وبعد هذا أطلق على ممدوحه "ابْن سيّار" على سبيل الاستعارة التصريحيَّة
كلمة "الْبَحْر" إشارة إلى جوده، وكلمة "الأُسْدُ" إشارةً إلى شدّة شجاعته إذْ جعله كمجموعة أسود في شخصٍ واحد فقال:
فَلَمْ أَرَ قَبْلِي مَنْ مَشَى الْبَحْرُ نَحْوَهُ
…
وَلَا رَجُلاً قَامَتْ تُعَانِقُهُ الأُسْدُ
(4)
قول "دِعْبِل الخُزَاعي" شاعر هجّاء، ولد بالكوفة وأقام ببغداد وتوفي عام "226هـ":
لَا تَعْجَبِي يَا سَلْمُ مِنْ رَجُلٍ
…
ضَحِكَ الْمَشِيبُ برَأْسِهِ فَبَكَى
يَا سَلْمُ: أي: يا سَلْمَى، مُسْتَثْنَى مُرخّم.
شبَّه "دِعْبِل" حَدَثَ ظهورِ الشيب في رأْسِه بِحَدَثِ ظُهُورِ الأَسْنَانِ الضّواحِكِ في الفمّ، ودلَّ على هذا الحدث بشيءٍ من خصائصه وهو حُدُوث الضَّحك. واستعمل فعل "ضَحِكَ" للدّلَالة على مُراده على سبيل الاستعارة المكنيَّة.
(5)
قول السَّرِيّ الرَّفاء يَصِفُ شِعْر نفسِه:
إِذَا مَا صَافَحَ الأْسْمَاعَ يَوْماً
…
تَبَسَّمَتِ الضَّمائِرُ والْقُلُوبُ
شبّه سمَاعَ أبياتِ شِعْرِه بقادمٍ زائرٍ خفيف الظل محبوب يزور الأسماع، وحذف المشبّه به ورمز إليه بشيء من صفات قدومه زائراً، وهي المصافحة، وأطْلَقَ فِعْل "صَافَحَ" على طريقة الاستعارة المكنيّة.
وشبّه الضمائر والقلوب بذي فَم يَتَبَسَّم حين سروره بأمر ما لكنه حذف المشبّه به ورمز إليه ببعض صفاته وهو التبسُّم، واستعمل فعل "تَبَسَّمَ" للدّلالة به على سرور الضّمائر والقلوب حين تستقبل عن طريق الأسماع شِعْرَه، على طريقة الاستعارة التصريحيّة.
(6)
قول البحتريّ يَصِفُ قصراً:
مَلأَتْ جَوَانِبُهُ الْفَضَاءَ وَعَانَقَتْ
…
شُرُفَاتُهُ قِطَعَ السَّحَابِ الْمُمْطِرِ
شُرُفَاتُ البناء: ما يُبْنَى في أعلاه للزّينة، مفردها شُرْفَة.
شبّه "البحتريُّ" دخول شرُفَاتِ القصر الذي وصفه في السحاب التي تموج، بِحَالَة تلاقي حَبيبَيْنِ في عناق.
واستعار لهذا الدخول كلمة "عَانَقَ" على سبيل الاستعارة التصريحيّة الجاريَةِ في الفعل.
(7)
قول الحماسي يصف سُرعة إقبال ممْدوحِيه لدفع الشرّ عن أنْفُسهم:
قَوْمٌ إذا الشَّرُّ أبْدَى ناجِذَيه لهم
…
طَارُوا إِلَيْه زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانَا
الناجذُ: الضرس، والجمعَ نواجذ.
زَرَافات: أي: جماعات، الزّرافَة: هي الجماعة من الناس هنا، وتُطْلَق الزرافة على الحيوان المعروف.
شبّه الشَّرَّ بحيوان مفترس، وحذف المشبّه به، وكنّى عنه بذكر "نَاجِذَيْه" لأنّ النواجذ أداةُ الْعَضّ، وهذا تشبيه مكني. وشبّه فعل إسراعهم إلى دَفْعِهِ وقمعه بفعل الطيران، واستعمل فعل "طَارَ" فقال:"طاروا إليه" أي: أسرعوا إليه إسراع طير يطير بجناحَيْهِ، على طريقة الاستعارة التصريحيّة.
(8)
قول الوأواء الدمشقي يصف حسناء تبكي:
وَأَسْبَلَتْ لُؤْلُؤاً مِنْ نَرْجِسٍ فَسَقَتْ
…
وَرْداً وَعَضَّتْ عَلَى الْعُنَّابِ بِالْبَرَدِ
أطْلَقَ على سبيل الاستعارة التصريحيّة اللّؤلؤ على الدَّمْع، والنّرجسَ على العيون العسليّة، والوردَ على الخدود، والْعنَّابَ على الأنامل، والْبَرَدَ على الأسنان.
(9)
قول المتنبّي يصف دخول رسول الروم على سيف الدولة:
وَأَقْبَلَ يَمْشِيِ في الْبِسَاطِ فَمَا دَرَى
…
إِلَى الْبَحْرِ يَسْعَى أَمْ إِلى الْبَدْرِ يَرْتَقِي
أطلق المتنبّي في هذا البيت على سيف الدولة أنّه البحر، وأنّه البدر على سبيل الاستعارة التصريحية إذ صُرّح فيها بلفظ المشبّه به.
والقرائن الحافّة من الحال ومن المقال دالّة على المراد، وأنّه لم يقصد البحر الحقيقي، ولا البدر الحقيقي.
***
تقسيم الاستعارة إلى مطلقة ومُرَشَّحة ومجرَّدة
تنقسم الاستعارة بالنظر إلى اقترانها بما يلائم المستعار منه "وهو المشبه به" أو المستعار له "وهو المشبّه" أو عدم اقترانها بشيءٍ من ذلك إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: "الاستعارة الْمُطْلَقة".
وهي الاستعارة التي لم تقترن عِبَارَتُها بأوصاف أو تفريعات أو كلامٍ مما يُلائم المستعارَ منه، أو يلائم المستعارَ له، باستثناء القرينة الصارفة عن إرادة المعنى الأصلي للّفظ المستعار.
مثل: "قطع وزير الداخليّة رأس الحيَّة الكبرى" بمعنى أنّه قطع رأس رئيس حزب الشرّ والفساد، إذا كانت قرينة الحال دالّة على المراد.
فالحيّةُ لفظ مستعار للدلالة به على رئيس حزب الشرّ والفساد، ويُلاحظ أنّ العبارة لم تقترن بما يلائم لفظ الحيّة، ولا بما يُلائم رئيس حزب الشرّ والفساد.
هذه الاستعارة استعارة تصريحيّة مطلقة.
فإذا قلنا فيها: "قطع وزير الداخليّة رأس الناهشة ذات السُّمّ القاتل" كانت استعارة مكنيّةً مطلقة، إذْ لم يصرّح فيها باللّفظ الدالّ على المستعار منه صراحة، وإنما جاء فيها استعمال ما يدلّ على بعض صفاته وبعض خصائصه.
القسم الثاني: "الاستعارة المرشحة".
وهي الاستعارة التي اقترنت بما يلائم المستعار منه.
وسمّيت مُرَشَّحة لأنّ ما اقترن بها يعطيها زيادة تقوية للمستعار منه بزيادة أَغْطِيَةٍ تحتاج زيادة عمل ذهني لكشف إرادة المعنى المجازي الّذي اسْتُعْمِل اللَّفْظ للدلالة عليه.
الترشيح في اللّغة: التربيةُ والتنمية، فهي تفيد تقوية الشيء وتمكينه.
مثل أن نقول في المثال السابق:
"قطع وزير الداخليّة رأسَ الحيّة الكبرى التي باضَتْ وفرّخت صغار الحيّات والثعابين وسعت تنهش وتنفثُ سُمَّها".
هذه العبارة اقترنت الاستعارة فيها بما يلائم المستعار منه، إذ الحيّة الحقيقيّة هي التي تبيض وتفرّخ وتنهش وتنفث سُمَّها.
فالاستعارة في هذا المثال استعارة تصريحيّة مُرَشَّحة.
ويمكن أن نبدّل فيها كما فعلنا في الاستعارة المطلقة فتكون مكنيّة مرشحة.
القسم الثالث: "الاستعارة المجرّدة".
وهي الاستعارة التي اقترنت بما يلائم المستعار له.
وسمّيت مجرّدة لأنّ المقارنات الملائمات للمستعار له تُجَرِّدُ الاستعارة من أغطيتها الساترة، فيظهر المعنى المجازيّ المراد دون تأمُّلٍ فكريّ.
كأن نقول في المثال السابق:
"قطع وزير الداخليّة رأس الحيّة الكبرى الّتي حزَّبت أشرار الناس، وأرادت الفتنة، وسعت في إفساد الأفكار والنفوس".
هذه العبارة اقترنت بما يلائم المستعار له الذي هو رئيس حزب الشرّ والفساد.
فالاستعارة في هذا المثال استعارة تصريحيّة مجرّدة.
ويمكن أن نبدّل فيها كما فعلنا في الاستعارة المطلقة فتكون مكنيّة مجرّدة.
وإذا اجتمع في العبارة المشتملة على الاستعارة الترشيح والتجريد معاً، كانت الاستعارة بحكم الاستعارة المطلقة.
وأبلغ هذه الأقسام الاستعارة المرشحة، فالمطلقة وما كان بحكمها، وتأتي المجرّدة في المرتبة الأخيرة، لأنّ التجريد، يُدْنِي الاستعارة من التشبيه، فيُضْعِفُ ادّعاء الاتحاد، بخلاف الترشيح، والإِطلاق فالترشيح يقوّي ادّعاء الاتّحاد بين المشبّه والمشبّه به، والإِطلاق يبدأ به.
أمثلة للمرشحة وللمُجَرَّدة:
(1)
قول بشّار بن بُرْد:
أتَتْنِي الشَّمْسُ زَائِرَةً
…
وَلَمْ تَكُ تَبْرَحُ الْفَلكا
فجاء بالشطر الثاني ترشيحاً للاستعارة، إذ استعار لفظ الشَّمْسِ لزائرتِه من النساء، فهي استعارة تصريحيّة مرشحة.
(2)
قول المتنبيّ يَمْدَحُ بني أوْس:
أَمَّا بَنُو أَوْس بْنِ مَعْنِ بْنِ الرِّضَا
…
فَأعَزُّ مَنْ تُحْدَى إِلَيْهِ الأَنْيُقُ
كَبَّرْتُ حَوْل دِيَارِهِمْ لَمَّا بَدَتْ
…
مِنْهَا الشَّمُوسُ ولَيْسَ فِيَها الْمَشْرِقُ
وعَجِبْتُ مِنْ أَرْضٍ سَحَابُ أكُفِّهِمْ
…
مِنْ فَوْقِهَا وصُخُورُها لَا تُورِقُ
استعار لرجال بني أوس كلمة "الشموس" وجاء بِما يُرَشِّح إرادة الشموس من الكواكب، بتعجبه الذي جعله يُكَبِّر إذ طلعت من منازلهم الواقعة في جهة المغرب، فالمشرق ليس فيها.
واستعار لجودهم السخيّ لفظ السّحاب، وجاء بما يرشّح المستعار منه، إذ تعجب من أن صُخور أرضهم لا تُورقُ، مع أنّ سحاب أكفّهم من فوقها تَهْمي مطراً.
(3)
قول كُثَيِّر عزّة بشأن معشوقته:
رَمَتْنِي بِسَهْمٍ رِيشُهُ الكُحْلُ لَمْ يَضِرْ
…
ظَواهِرَ جِلْدِي وهو لِلْقَلْبَ جَارْحُ
استعار كُثَيّر عزّة لنظرتها الجميلة النافذة إلى القلب كلمة "سَهْم" وبعد استعارته جاء بترشيخ وتجريد.
فجعل للسهم ريشاً، وهذا مما يلائم المستعار منه، وهو ترشيح، وأبان أنّ هذا الريش هو من الكُحْل وهذا مما يلائم المستعار له، وهو تجريد، وبعد ذلك أبان أن السّهم لم يَضِرْ ظواهر جلده بل جَرَحَ قلبه، وهذا مما يُلائم المستعار له، لأنّ النظر هو الذي يؤثر في القلوب، وهذا تجريد، إلَاّ أن كلمة جارح تلائم المستعار منه، وهو ترشيح.
وهكذا مزج في كلامه ترشيحاً وتجريداً، وهو في نظري بليغ جدّاً في ادّعاء اتّحاد المشبّه بالمشبّه به، ولا ينطبق على استعارته أنها بحكم المطلَقَة.
(4)
قول ابن هانئ المغربي:
وَجَنَيْتُمُ ثَمَرَ الْوَقَائِعِ يَانِعاً
…
بالنَّصْرِ مِنْ وَرَقِ الْحَدِيدِ الأَخْضَر
نلاحظ في هذا البيت أنّ ابن هانئٍ مَزَج ترشيحاً وتجريداً في مُقَارِنَاتِ استعارته.
فالثمر الذي استعارة لما جاء به النّصر رشّحه بعبارة "جَنَيْتُمْ" وبكلمة "يانِعاً" وبعبارة "مِنْ وَرَق" وجاء بتجريدٍ في عبارة "الْحَدِيد الأخضر" إذ هو حديد السلاح الذي قاتلوا به.
والقرينة الصارفة عن إرادة الثمر الذي يُجْنى من الشجر كلمتا "الوقائع" و"النَّصْر".
(5)
قول الله عز وجل في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول) :
جاء في هذه الآية استعَارة "اللِّباس" لما أنزل الله بأهل القرية من جوع وخوف، وقرنها بما يلائم المستعار له وهو عبارة "فأذاقها" وهذا تجريد، ولو أراد الترشيح لقال: فكساها، إلَاّ أنّ التجريد هنا بلغ، لما في الإِذاقة من إضافة معنى الإِيلام الذي يُحَسُّ به.
***
تقسيم الاستعارة في المفرد بالنظر إلى كون كلٍّ من ركْنَيْهَا مما يدرك بالحسّ الظاهر أولاً
بما أنّ الاستعارة فرع من فروع شجرة التشبيه، فلا بُدَّ أن تشتمل على ما يشتمل عليه التشبيه من كون كلٍّ من ركنيها ممّا يدرك بالحسّ الظاهر أو مما لا يدرك بالحسّ الظاهر، بل يُدْرَك بالفكر أو بالوجدان الذي هو حسٌّ باطنيّ.
وترجع التقسيمات ضمن هذا الاعتبار إلى أربعة أصول ناتجة من ضرب اثنين باثنين:
القسم الأول: استعارة مُدْرَكٍ بالحسّ الظاهر لِمُدْرَكٍ بالحسّ الظاهر.
* كقول الله عز وجل في سورة (الكهف/ 18 مصحف/ 69 نزول) بشأن حَجْزِ يأجوج ومأجوج وراء السّدّ:
{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ
…
} [الآية: 99] .
جاء في هذه الآية استعارة فعل "يَمُوجُ" من حركة أمواج البحار، التي يختلط فيها الماء بعضُه ببعض، وهو أمْرٌ مُدْرَكٌ بالحسّ الظاهر، للدّلالة به على حركة جماهير "يأجوج ومأجوج" وراء السّدّ في أحداث متجدّدة متكرِّرة كتكرّر حركة أمواج البحار، وهذا أمْرٌ مُدْرَكٌ بالحسّ الظاهر أيضاً، فكثرةُ القوم تُشْبه البحر إذا اجتمعوا، وحركتُهم إذا اتَّجَهُوا إلى مصالحهم المختلفة تُشْبه حركة أمواج البحر في مرأى الأبْصار.
* وكقول الله عز وجل في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول) :
{وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} [الآية: 37] .
جاء في هذه الآية استعارة فعل "نَسْلَخُ" من عمليّة سَلْخِ جِلْدِ الذبيح من الحيوان بعد ذبْحِه، وهو أمْرٌ مُدْرَكٌ بالحسّ الظاهر، للدّلالة به على عمليّة إزالة ضوء النّهار شيئاً فشيئاً عن مواطن ظهوره على الأرض في حركات وأحداث متتابعات، وهذا أمْرٌ مُدْرَكٌ بالحسّا لظاهر أيضاً، فحركة ذهاب النهار عن المشارق وظهور اللّيل بالتدرج تُشْبه حركة سَلْخ الجلد شيئاً فشيئاً عن الحيوان المذبوح، فاستعير هذا لهذا بفنّيّة دقيقة جدّاً.
القسم الثاني: استعارة مُدْرَكٍ فكريٍّ أو وجداني لِمُدْرَكٍ فِكْرِيٍّ أو وَجْدَاني.
* كقول الله عز وجل في سورة (الملك/ 67 مصحف/ 77 نزول) في وصف نار جهنم وعذاب الّذين كفروا بربّهم فيها:
{إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ
…
} [الآية: 7 - 8] .
أي: تكاد تتفاصل أجزاؤها من الغَيْظِ الّذي يُحْدِثُ حركاتِ تفجُّرٍ داخلها.
فقد جاء في هذا النصّ استعارةُ كلمةِ "الغيظ" الّذي هو أَمْرٌ يُدْركُ دَاخِلَ النُّفوس بالحسّ الباطن، للدّلالة به على أمْرٍ يَحْدُث داخِلَ جَهَنَّمَ ممّا يُمْكِنُ أن يَتَخيَّلَهُ المخاطبون تخيُّلاً، ولكنّهم لا يُدْركونه بالحسّ الظاهر.
الْقِسْمُ الثالث: استعارةُ مُدْرَكٍ فِكْرِيٍّ أَوْ وِجْدَاني لِمُدْرَكٍ بالحسّ الظاهر.
* كأن نقول:
"لمَّا اشتدّت الحرْب غَضَباً، دخَلَ فُرْسانُنَا الأبطال فجعلوا غَضَبَها لَهَباً على جَيْشِ الْعَدُوّ فاسْتَحَالَ رَمَاداً".
جاء في هذه العبارة استعارة "الغضب" وهو أمْرٌ يُدْرَكُ بالحسّ الباطن داخل النفوس، للدلالة به على مشاهد تُدْرَك بالْحسِّ الظاهر في الحرب، من متفجّرات ناريّة تَقْذِف بشظايا الحديد، وحركة الأليَّات الموجَّهة ضِدَّ بعضها للتدمير والإِبادة.
القسم الرابع: استعارة مُدْرَكٍ بالحسّ الظاهر لِمُدْرَكٍ فِكْرَيٍّ أو وجْدَاني.
* كقول الله عز وجل لرسوله في سورة (الحجر/ 15 مصحف/ 54 نزول) :
{فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} [الآية: 94] .
الصَّدْعُ: كَسْرٌ في الزجاج ونحوه لا يَبْلُغُ حدّ الْفَصْلِ الْكَامل.
والصدع أمْرٌ يُدْرَكُ بالحسّ الظاهر، وقد اسْتُعِير هنا للدلالة به على التبليغ ذي التأثير في النفوس المشابه للتأثير الذي يُحْدِثُهُ من يَصْدَعُ الزجاج، وهذا أمر يُدْرَكُ بالفكر، وقد يُحِسُّ به مَنْ وجّه له التبليغ في وجدانه ومشاعر نفسه.
ولمّا كان التبليغ مهما كان أسلوبه مؤثراً في النفوس لا يَبْلُغُ أن يُحَقِّق التحويلَ الفعليّ من الكُفْر إلى الإِيمان، كان تشبيهه بالصَّدْع تشبيهاً دقيقاً جدّاً.
فالأمْرُ بالتبليغ يتضمَّن معنى اتخاذ الوسائل المؤثّرة في النفوس تأثيراً لا يَبْلُغ مبلغ التحويل، لأنّ التحوُّل من الكفر إلى الإِيمان إنّما يكون عن طريق إرادة المُتَبَلِّغ نفسه، وليس من شأن الوسائل أن تصنع تحويلاً، ولكن قد تُولّد إقناعاً أو إلزاماً جَدَلِيّاً، فتشبيه هذا التأثير بالصَّدْعِ هو بالغ الدقّة في التصوير، وجاءت الاستعارة تبعاً لهذا التشبيه.
* وكقول الله عز وجل في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) :
{بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ
…
} [الآية: 18] .
القذف في اللّغة: رمْيُ شيءٍ مملوسٍ كحجَر ونحوه إلى جهة ما. وقد اسْتُعِير في هذه الآية فعل: "نَقْذِف" للدّلالة به على توجيه الحقّ الفكريّ وتوجيه أدلّته، للإِقناع بها أو للإِلزام أو للإِفحام، ضدّ الباطل الفكري الذي يُؤمِنُ به، ويجادل به الْمُبْطِلُون.
والدّمْغُ في اللّغة: هو الشجُّ في الرَأسِ الذي يكسر الجمجمة ويَصِلُ إلى الدّماغ فَيُخْرِجه، وهذا عَمَلٌ قَاتِلٌ للْمَدْمُوغ.
وقد استعير في هذه الآية فعل: "يَدْمَغ" للدّلالة به على إبطال الباطل ببرهان الحقّ.
ففي الآية استعارتان جاء في كلّ منهما استعارة مُدْرَكٍ بالحسّ الظاهر للدّلالة به على مُدْرَكٍ فِكْرِي.
فإذا هو زاهق: أي: فإذا الباطل مستَبْعَدٌ أو مضمحلٌ أو زائل، لا تنخدع به الأفكار السّويّة، والعقول السَّليمة.
تنبيه:
أمّا الاستعارة التي يكون كلُّ من طرفيها صورةً تمتزج فيها الأشياء المدركة بالحسّ الظاهر بالمدركات الفكرية أو الوجدانيّة فهي تابعة للاستعارة في المركب الآتي بيانها إن شاء الله.
***
التقسيم الخامس
تقسيم الاستعارة إلى وفاقية وعنادية
من متابعة الدقّة في التقسيمات التحليليّة قسّم البيانيُّون الاستعارة بالنظر إلى المضمون الفكريّ للمستعار له والمستعار منه، إلى قسمين:
القسم الأول: "الاستعارة الوِفاقيَّة".
وهي الاستعارة التي يمكن اجتماع طرفيها المستعار منه والمستعار له في شيءٍ واحد.
كقول الله عز وجل في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) :
جاء في هذه الآية استعارةُ كلمة "أَحْيَيْنَا" للإِنسان الذي اهتدى إلى الحقّ وآمن به، ومعلومٌ أَنَّ الْحَيَاةَ بمعناها الأصلي تجتمع في شخصٍ واحد مع الحياة وفق المعنى المجازي وهو الهداية.
فَبَيْنَ المعنيين وفاق.
القسم الثاني: "الاستعارة العناديَّة".
وهي الاستعارة التي لا يجتمع طرفاها المستعار منه والمستعار له في شيء واحد.
كقول عمرو بن معديكرب:
"تحيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ".
فقد استعار التحيَّة التي تكون عند الإِكرام للدلالة بها على الإِهانة التي من مظاهرها الضرب الوجيع، والغرض الهزء والسخرية والتهكم.
وظاهر أن الإِكرام والإِهانة أمران متعاندان لا يجتمعان.
وكقول عنترة:
وسَيْفِي كَانَ فِي الْهَيْجَا طَبِيباً
…
يُدَاوِي رَأْسَ مَنْ يَشْكُو الصُّدَاعا
الهيجاء: الحرب.
استعار فعل "يُداوِي" لَيَدُلَّ به على قَطْعِ رأس المقاتل الذي يشكو الصُّدَاع، ومعلوم أنَّ المداواة بالدُّواء تنافي قَطْعَ الرأس، فهما أمران متعاندان لا يجتمعان.
أقول:
إنَّ هذا التقسيم وأمثاله ينبغي أن تكون مفاتيح للدراسات الأدبيَّة، لا قوالب جاهزة حتى يقاس عليها، فمن شأن القوالب أن تُمِيتَ قدرات الإِبداع والابتكار.
***
(ب)
قيمة الاستعارة في البيان ومراقيها
(1)
تحتلُّ الاستعارة في البيان مرتبةً أعلى من مرتبة التشبيه بحسب الأصل، لعدة أسباب:
السبب الأول: أنّها أكثر من التشبيه توغُّلاً في أساليب البيان غير المباشر.
السبب الثاني: ما فيها من تجاهل التشبيه الذي هو أصلها، إذ الاستعارة تُشْعِرُ بادِّعَاء اتِّحاد المشبّه بالمشبَّه به.
السبب الثالث: ما فيها من استثارةٍ لإِعجاب أذكياء ذَوَّاقي الأدب، وَتَملُّكٍ لانتباههم وتأثيرٍ فيهم، ولا سيما حينما تكون استعارةً غريبة غير متداولة، ولا يتنبَّهُ لاصطيادها إلَاّ فُطنَاء البلغاء.
لكن لا يُشْتَرطُ أن تكون كُلُّ اسْتِعَارة أبلغ من التشبيه، إذْ قد تقتضي حال المتلقّي، أو يَقْتَضِي الموضوع المطروحُ للبيان، أنْ يُسْتَخْدَم التشبيه، فيكونُ التشبيه عندئذٍ هو الأبلغ.
(2)
وتكون الاستعارة حَسَنَةً جميلة إذا كان التشبيه الذي هو أسَاسُها حَسَناً جميلاً، مستوفياً الشُّروط التي سبق بيانها في فصل "التشبيه والتمثيل" تحت عنوان "صفات وخصائص التشبيهات المثلى".
وكلَّما قوي الشَّبه بين المشبَّه والمشبَّه به كان اللّجوء إلى الاستعارة أكثر فنيّة، وأرقى بياناً، وأبْعَد عن الإِطناب، وأرضى للأذواق الأدبيّة.
أمَّا إذا كان الشَّبَه ضعيفاً فإنّ التشبيه الذي يُذْكَرُ فيه وجه الشبه يكون هو الأولى.
(3)
وترتقي الاستعارة حُسْناً وإبداعاً بمقدار ما تجمع من العناصر التالية ونحوها:
* أن يخلو التعبير المشتمل عليها عمّا يُشْعر بالتَّشْبيه الذي هو الأصل، باستثناء القرينة الصارفة عن إرادة المعنى الأصلي.
* أن يكون وَجْهُ الشبه أبعد عن الابتذال والتداول على ألسنة وأقلام الكتّاب والشعراء والخطباء.
* أن تكون الاستعارة ذات غرابةٍ بالنظر إلى أصلها، أو بالنظر إلى ما اقترنت به من إضافات غريبةً رفعت من قيمتها.
* أن تكون الاستعارة دقيقة لطيفة المأخذ مع ظهورها.
* أن تكون الاستعارة ذات تفصيلات وتفريعات مبنيَّة عليها.
* أن تقترن بالترشيح الذي يقوِّيها.
كلَّ ما سبق مشروط بعد خفاء وَجْهِ الشّبه أو استهجانه.
فمن الخفاء ما يُفْضِي إلى التعمية والإِلغاز، بسبب عدم ظهوره في المشبَّه به أو في المشبَّه، أو بسبب اتِّجاه البلغاء لاختيار وصْفٍ من أوصاف المشبّه به ليكُون هو وجه الشَّبه في استعاراتهم وتشبيهاتهم، ككَوْنِ الأسَدِ شجاعاً مقداماً، دون كونه أبْخرَ ذا رَائحة مُنَفِّرَة، وككَوْن الْبَدْرِ جميلاً منيراً، دون كونه كوكباً مؤلفاً من جبال ووديان وصحاري وعناصر مشابهة لعناصر الأرض.
ومن الاستهجان انتزاع وجه شبه يكره الناس التَّنْبِيه عليه والتذكير به، كالمستقذرات والأشياء التي تتقَزَّز النفوس منها.
المبحَثْ الثَاني
الاستعارة في المركّب وهي "الاستعارة التمثليّة"
سبق في مقدمة الكلام على الاستعارة أنها تكون في المفرد وتكون في المركّب، وأن الاستعارة في المركب تسمّى "الاستعارة التمثيليّة".
وبعد أن انتهى المقصود عَرْضُه وبيانُه من صور الاستعارة في المفرد وتقسيماتها وأمثلتها، فقد جاء دور بيان القسم الآخر للاستعارة، وهو "الاستعارة في المركب".
الاستعارة في المركب: هي كما سبق بيانُه في المقدِّمة استعارة يكون اللّفظ المستعار فيها لفظاً مُرَكَّباً، وهذا اللّفظ المركب يستعمل في غير ما وُضِعَ له في اصطلاح به التخاطب، لعلاقة المشابهة بين المعنى الأصليّ، ويسمّى "الاستعارة التمثيليّة" وقد يطلق عليه "الاستعارة على سبيل التمثيل" أو نحو ذلك من غبارات.
وهذه الاستعارة يستعملها الناس في مخاطباتهم وأمثالهم الدارجة، في فصيح الكلام العربي، وفي اللِّسان العامّي الَّذي يتخاطبُ عامَّةُ الناس به، ويُسْتَعْمَل أيضاً في غير العربيَّة من اللُّغات الإِنسانيَّة الأخرى.
* فمن العاميّ قول الناس إذا رأَوا صاحب صنعه أَوْ مَهْنة يُهْمِلُ أشياءه
الخاصة التي يصنع مثلها لغيره بإتقان: "بابُ النجَّار مخلَّع" أو "السّكافي حافي والحايك عريان".
وهذه الاستعارة قائمة على تشبيه حال هذا المُهْمِل لأشيائه الخاصة بحال النجّار الذي يصنع الأبواب المتقنة للناس مقابل ما يناله من أجر، ويُهْمِلُ باب داره إهمالاً مثيراً للانتقاد والتلويم، أو تشبيه حاله بحال الإِسْكاف الذي يُصْلح أحذية الناس ويمشي حافيّاً مُهْمِلاً إصلاحَ حِذَائه، أو تشبيه حاله بحال الحائك الذي يحيك الثياب للناس ويبيعها لهم، ويمشي هو كالعريان، بثيات مُمَزَّقة رثَّة.
* وقول العامة إذا رأوْا إنساناً يعالج أمراً لا جدوى منه: "يَنْفُخُ في قِرْبة مَخْرُومَة".
الأمثلة من الفصيح:
(1)
قول المتنبّي يصف الذي يَعِيب الشعر الرائع بسبب خَلَلٍ ذوقيّ لَدَيّه، يَجْعَلُهُ يرى الجميل قبيحاً، والكامل ناقصاً، والحسن سيِّئاً:
وَمَنْ يَكُ ذَا فَمٍ مُرٍّ مَرِيضٍ
…
يَجِدْ مُرّاً بِهِ الْمَاءَ الزُّلالَ
هذا الكلام الذي يدلُّ معناه الأصلي على أنَّ المريض الذي يُفْرِزُ فَمُهُ مُفْرَزاتٍ مُرَّةً، يَجدُ الماءَ الزُّلال مُرّاً في فمه، وليس ذلك من مرارة الماء، بل من الأشياء المرَّة الَّتي يُفْرِزُها فَمُه.
لكنَّ المتنّبي استعار هذا الكلام على طوله للدلالة به على حال من ليس لديه ملكة إدْراك الشعر الرائع النفيس، فهو بسبب ذلك يَعِيبُ الحسَنَ الجيّد منه، ويَنْتَقِدُه بغير فهم، ولا حُسْنِ تَذَوُّق.
(2)
قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لَا يُلْدَغُ المؤمن من جُحْرٍ مرَّتَيْن" هذه العبارة النبوية تُسْتَعْمَل على سبيل "الاستعارة التمثيليّة" للتحذير من تكرار العمل الذي جَرَّ مُصِيبة في نفسٍ أو مالٍ، أو أفضى إلى أمْرٍ غير محمود.
(3)
إذا رأى الناس اجتماع جمهورٍ غفيرٍ على عالمٍ أو واعظٍ أو زعيم، أو كثرةَ إقبالهم على سوقٍ من أسواق التجارة، تمثّل قائلهم بقول الشاعر:
"والْمَوْرِدُ الْعَذْبُ كَثيرُ الزِّحَام"
هذا القول يُسْتَخْدَمُ على سبيل "الاستعارة التمثيليّة" مراداً به غير معناه الأصلي الذي قاله الشاعر للدلالة به عليه.
(4)
ويقال فيمن يعمل عملاً لا جدوى منه، ويَبْذُلُ فيه جَهْداً ضائعاً:
* "ينْفُخُ في رماد".
* "تَضْرِبُ في حَدِيدٍ بارِد".
* "يَحْرُثُ في البحر".
فتُسْتَعَارُ هذه الجمل وأمثالُها للدلالة بها على أنَّ العامل الَّذي يُتَحَدَّثُ عنه يَعْمَلُ عملاً ضائعاً عَدِيمَ الأَثَرِ والنفع.
(5)
ويُقال فيمن يَغْتَرُّ بمَنْ لا خير فيه، ولا نَفْعَ يُرْجَى لديه:
* "يَسْتَسْمِنُ ذَا وَرَمٍ".
أو قول المتنبي:
أُعِيذُهَا نَظَرَاتٍ مِنْكَ صَادِقَةً
…
أَنْ تَحْسَبَ الشَّحْمَ فِيمَنْ شَحْمُهُ وَرَمُ
(6)
ويُقال لِمَنْ يُدْعَى لتحصيل مطلوبه ضِمْنَ العاملين الكثيرين الذين يعملون في أَمْرٍ مَا ليَحْصُلوا منه على مطلوبهم المماثل لمطلوبه:
"أَدْلِ دَلْوَكَ في الدِّلَاء".
مع أنه لا دلْوَ ولا بئر.
(7)
ويُقالُ لِمَنْ يُنْصَحُ بأنْ يَتَّخِذَ من وسائل القوة مَا يَصْلُح لتحقيق تَغَلُّبه على الصِّعاب الشديدة الَّتي تواجهه:
"إِنَّ الحَدِيدَ بِالْحَدِيدِ يُفْلَحُ".
يُفْلَحُ: أي: يُشَقُّ ويقطع.
(8)
ويقال لمن يعمل جاهداً في إقامة الفروع قبل العمل بتأسيس الأصول:
"مَنْ بَنَى على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَبِنَاؤُه مُنْهَارٌ".
أو "قَبْلَ أَنْ ترفع بناءَكَ أَرْسِ أُسُسَه ودَعَائِمه".
(9)
ويقال لمن يَتْرُكُ العملَ زاعماً أنَّ التوكُّلَ على الله يكفيه، ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم للأعرابي حين سأله: أأعْقِلُ ناقتي يا رسول الله أم أتوكّل:
"اِعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ".
(10)
ويقال لمن يَنَالُ جَزَاءَ عَمَلِه الذي كان قد عمله خيراً أو شراً:
"يَحْصُدُ ما زرع".
أو "يَدَاكَ أَوْكَتَا وَفُوكَ نفخ".
أَوْكَتَا: أي: شَدَّتَا الصُّرَّةَ أو القِرْبَةَ بالْوِكاء، وَهُوَ الخيطُ الذي يُشَدُّ به نَحْوُ فَمِ القِربة:
(11)
ويقال لمن يَنْقُل كلُّ ما يَسْمَع، أو يُدَوِّن في مؤلَّفَاتِه كلَّ ما يَطَّلعُ عليه دون تحقيق ولا تحرير ولا تمييز.
"حَاطِبُ لَيْلٍ".
إلى غير ذلك من أمثلة كثيرة جدّاً.
تنبيه:
حين تجري العبارة مجرى الأمثال، وتغدو مثلاً، فإنَّها تُسْتَعار بلفظها دون تغيير، فيخاطَبُ بها المفرد والمذكر وفروعهما:"المؤنث - المثنى - الجمع" وفق
صيغتها التي وردت دون تبديلٍ ولا تعديل.
ومنها الأمثال التالية:
(1)
قولهم: "أحَشَفاً وَسُوءَ كِيلَة".
الْحَشَفُ: التمْر الردئ الذي فَقَدَ خصَائصه.
الكِيلَةُ: هَيْئة الكَيْل.
هذا مثل يضرب لمن يظلم من جهتين.
(2)
قولهم: "إنَّ الْبَغَاثَ بِأرْضِنَا يَسْتَنْسِرُ".
البَغَاث: طائر أبْغَثُ اللَّون، أي: فيه بُقَعٌ بيضٌ وسود، والْبَغَاثُ نوعٌ من الطير أصغر من الرَّخَم بطيء الطيران وهو ممّا يُصاد، الواحدة منه "بَغَاثَة".
يَسْتَنْسِرُ: أي: يصير كالنّسْر فلا يُستطاع صَيْدُه.
هذا مَثَلٌ يُضْرَبُ ويرادُ به الدلالة على أنّ من نزل بأرضنا وجاورنا قَوِيَ بِنَا وَعَزّ.
(3)
قولهم: "الصَّيْفَ ضَيَّعْتِ اللَّبَنَ".
هذا مثلٌ يُضْرَبُ لمن فرَّط بطلب حاجته عند تمكُّنه منها، ثمَّ طلبها بَعْدَ فواتِ أوانها.
وأصل المثل أنّ امرأة طَلَبْتْ من زوجها ذي اليسار الطَّلاق، وكان ذلك في زمن الصَّيف، فطلَّقها، فتزوّجَتِ ابْنَ عمّها، وكان شابّاً مُعْدِماً، فمرَّت في الشتاء بأرضها إبلُ زَوْجها السابق، فأرسَلَتْ خادِمَها إليه تطلُبُ منه لَبَناً، فقال:"الصَّيْفَ ضَيَّعْتِ اللَّبَن" فسَارَتْ عبارتُه مثلاً.
(4)
قولهم: "أَنْ تَسْمَعَ بِالْمُعَيْدِيّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ".
هذا مثَلٌ يُضْرَبُ لمَنْ له ذِكْرٌ في النّاسِ كبير، ولكن ليس له جسْمٌ يملأُ عَيْنَ الناظر إليه.
قاله "النعمانُ بن المنذر" أو "المنذر بن ماء السّماء" في رجُلٍ سَمعَ بذكْرِه ينتهي نسَبُه إلى "مَعَدِّ" وتصغيره "مُعَيْد" فلمّا رآه اقْتَحَمَتْهُ عَيْنُه، أي: ازدَرَتْه، فقال كَلِمَتَهُ: فذهبت مثلاً.
قالوا: فقال الرَّجُلُ للمنذر بن ماء السماء: أبَيْتَ اللَّعْنَ، إنَّ الرّجَالَ لَيْسُوا بِجُزُرٍ تُرادُ مِنْهَا الأَجْسَام.
***