المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ أي قول التزمه الملتزم كان خيرا من نفي الخلق - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الباب العشرونفي ذِكْر مناظرة بين قدري وسُنّي

- ‌ أي قول التزمه الملتزم كان خيرًا من نفي الخلق

- ‌سر المسألة: الفرق بين تعلق الإرادة بفعل العبد، وتعلقها بفعله هو سبحانه بعبده

- ‌الباب الحادي والعشرونفي تنزيه القضاء الإلهي عن الشر ودخوله في المَقْضي

- ‌الأصل الأول: إثبات عموم علمه سبحانه

- ‌الأصل الثاني: أنه سبحانه حيّ حقيقة

- ‌الأصل الرابع: أنه سبحانه ربط الأسباب بمسبَّباتها شرعًا وقدرًا

- ‌الباب الثاني والعشرونفي إثبات حكمة الربِّ تعالى في خَلْقه وأَمْره، وذِكْر الغايات المطلوبة له بذلك، والعواقب الحميدة التي يفعل لأجلها ويأمر لأجلها

- ‌الباب الثالث والعشرونفي استيفاء شُبَه النافين للحكمة والتعليل، وذِكْر الأجوبة عنها

- ‌الجواب الثاني:

- ‌الجواب الثالث:

- ‌الجواب الرابع:

- ‌ الجواب الخامس:

- ‌ الجواب السادس:

- ‌الجواب السابع:

- ‌الجواب الثامن:

- ‌الجواب التاسع:

- ‌الجواب العاشر:

- ‌ الجواب الحادي عشر:

- ‌الجواب الثاني عشر:

- ‌الجواب الثالث عشر:

- ‌الجواب الرابع عشر:

- ‌الجواب الخامس عشر:

- ‌الجواب السادس عشر:

- ‌الجواب الأول:

- ‌الجواب الثاني:

- ‌الجواب الثالث:

- ‌الجواب الرابع:

- ‌الجواب الخامس:

- ‌الجواب السادس:

- ‌ الجواب السابع:

- ‌الجواب الثامن:

- ‌الجواب التاسع:

- ‌الجواب العاشر:

- ‌الجواب الأول:

- ‌الجواب الثاني:

- ‌ الجواب الثالث:

- ‌الجواب الرابع:

- ‌الجواب الخامس:

- ‌الجواب السادس:

- ‌الجواب السابع

- ‌الجواب الثامن:

- ‌الجواب التاسع:

- ‌الجواب العاشر:

- ‌الجواب الحادي عشر:

- ‌ الجواب الثاني:

- ‌الجواب الثالث:

- ‌الجواب الرابع:

- ‌الجواب الخامس:

- ‌الجواب السادس:

- ‌الجواب السابع:

- ‌الجواب الثامن:

- ‌الجواب التاسع:

- ‌الجواب العاشر:

- ‌الجواب الحادي عشر:

- ‌ الوجه الثاني عشر:

- ‌ الوجه الثالث عشر:

- ‌ الوجه الرابع عشر:

- ‌ الوجه الخامس عشر:

- ‌الوجه السادس عشر:

- ‌ الوجه السابع عشر:

- ‌ الوجه الثامن عشر:

- ‌ الوجه التاسع عشر:

- ‌ الوجه العشرون:

- ‌ الوجه الحادي والعشرون:

- ‌ الوجه الثاني والعشرون:

- ‌الوجه الثالث والعشرون:

- ‌ الوجه الخامس والعشرون:

- ‌الوجه السادس والعشرون:

- ‌الوجه السابع والعشرون:

- ‌الوجه الثامن والعشرون:

- ‌ الوجه التاسع والعشرون:

- ‌ الوجه الثلاثون:

- ‌الوجه الحادي والثلاثون:

- ‌الوجه الثاني والثلاثون:

- ‌الوجه الثالث والثلاثون:

- ‌ الوجه الرابع والثلاثون:

- ‌ الوجه الخامس والثلاثون:

- ‌الوجه السادس والثلاثون:

- ‌فصلالوجه السابع والثلاثون:

- ‌الوجه الثامن والثلاثون:

- ‌الوجه التاسع والثلاثون:

- ‌الوجه الأربعون:

- ‌الباب الرابع والعشرونفي معنى قول السلف: «من أصول الإيمان: الإيمان بالقدر خيره وشرّه، حلوه ومرّه»

- ‌ما الفرق بين كون القدر خيرًا وشرًّا، وكونه حلوًا ومرًّا

- ‌الباب الخامس والعشرونفي امتناع إطلاق القول نفيًا وإثباتًا: «إن الربّ تعالى مريد للشرّ وفاعل له»

- ‌الباب السادس والعشرونفيما دلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك»…(1)من تحقيق القدر وإثباته، وما تضمّنه الحديث من الأسرار العظيمة

- ‌الباب السابع والعشرونفي دخول الإيمان بالقضاء والقدر والعدل والتوحيد والحكمة تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ماضٍ فيّ حكمك، عدلٌ فيّ قضاؤك» وبيان ما في هذا الحديث من القواعد

- ‌فصلوقوله: «أسألك بكل اسم هو لك

- ‌الباب الثامن والعشرونفي أحكام الرضا بالقضاء، واختلاف الناس في ذلك، وتحقيق القول فيه

- ‌كيف يجتمع الرضا بالقضاء بالمصائب مع شدة الكراهة

- ‌الباب التاسع والعشرونفي انقسام القضاء والحُكْم والإرادة والكتابة والأمر والإذن والجَعْل والكلمات والبعث والإرسال والتحريم والإنشاء إلى كوني متعلِّق بخلقه، وإلى ديني متعلِّق بأمره، وما في تحقيق ذلك من إزالة اللبس والإشكال

- ‌القضاء في كتاب الله نوعان:

- ‌الباب الموفي ثلاثينفي ذِكْر الفطرة الأولى ومعناها، واختلاف الناس في المراد بها، وأنها لا تنافي القضاء والقدر بالشقاوة والضلال

- ‌ثبت مصادر الدراسة والتحقيق

الفصل: ‌ أي قول التزمه الملتزم كان خيرا من نفي الخلق

وتعطيله عن أفعاله، وهو أيضًا تعطيل الجهمية، وهم أساسه، ودَبّ فيمن عداهم من الطوائف، فقالوا: لا يقوم بذاته فعل؛ لأن الفعل حادث، وليس محلًّا للحوادث، كما قال إخوانهم: لا تقوم بذاته صفة؛ لأن الصفة عرض، وليس محلًّا للأعراض.

فلو التزم الملتزم أي قول التزمه كان خيرًا من تعطيل صفات الربّ وأفعاله، فالمشبّهة على ضلالهم وبدعتهم خير من المعطلة، ومعطلة الصفات خير من معطلة الذات، وإن كان التعطيلان متلازمين؛ لاستحالة وجود ذات قائمة بنفسها لا توصف بصفة، فوجود هذه محال في الذهن وفي الخارج، ومعطلة الأفعال خير من معطلة الصفات؛ فإن هؤلاء نفوا صفة الفعل، وإخوانهم نفوا صفات الذات.

وأهل السمع والعقل حزب الرسول والفرقة الناجية برآء من تعطيل هؤلاء كلهم؛ فإنهم أثبتوا الذات والصفات والأفعال وحقائق الأسماء الحسنى، إذ جعلها المعطلة مجازًا لا حقيقة له، فشرّ هذه الفرق لخيرها الفداء.

والمقصود أنه‌

‌ أي قول التزمه الملتزم كان خيرًا من نفي الخلق

، وتعطيل هذه الصفة عن الله. وإذا عُرِض على العقل السليم مفعول لا فاعل له، أو مفعول لا فعل لفاعله؛ لم يجد بين الأمرين فرقًا في الإحالة، فمفعول بلا فعل كمفعول بلا فاعل، لا فرق بينهما البتّة.

فليعرض العاقل على نفسه القول بتسلسل الحوادث، والقول بقيام الأفعال بذات الربّ سبحانه، والقول بوجود مخلوق حادث عن خلق قديم

ص: 8

قائم بذات الرب سبحانه، والقول بوجود

(1)

مفعول بلا فعل، ولينظر أي هذه الأقوال أبعد عن العقل والسمع، وأيها أقرب إليهما، ونحن نذكر أجوبة الطوائف عن هذا السؤال.

فقالت طائفة: نختار من هذا التقسيم والترديد كون الخلق والتكوين قديمًا قائمًا بذات الربّ تعالى، ولا يلزمنا قدم المخلوق المكوَّن، كما نقول نحن وأنتم: إن الإرادة قديمة، ولا يلزم من قدمها قدم المراد، وكل ما أجبتم به في صورة الإلزام فهو جوابنا بعينه في مسألة التكوين.

وهذا جواب سديد، وهو جواب جمهور الحنفية والصوفية وأتباع الأئمة.

فإن قلتم: إنما لم يلزم من قدم الإرادة قدم المراد؛ لأنها تتعلق بوجود المراد في وقته، فهو يريد كون الشيء في ذلك الوقت، وأما تكوينه وخلقه قبل وجوده فمحال.

قيل لكم: لسنا نقول: إنه كوّنه قبل وقت كونه، بل التكوين القديم اقتضى كونه في وقته، كما اقتضت الإرادة القديمة كونه في وقته.

فإن قلتم: كيف يُعْقَل تكوين ولا مكوَّن؟

قيل: كما عقلتم إرادة ولا مراد.

فإن قلتم: المريد قد يريد الشيء قبل كونه، ولا يكونه قبل كونه.

قيل: كلامنا في الإرادة المستلزمة لوجوده، لا في الإرادة التي لا تستلزم

(1)

من قوله: «مخلوق حادث» إلى هنا ساقط من «م» .

ص: 9

المراد، وإرادة الربّ تعالى ومشيئته تستلزم وجود مراده، وكذلك التكوين، يوضحه: أن التكوين هو اجتماع القدرة والإرادة وكلمة التكوين، وذلك كله قديم، ولم يلزم منه قدم المكوَّن.

قالوا: وإذا عرضنا هذا على العقول السليمة، وعرضنا عليها مفعولًا بلا فعل؛ بادرت إلى قبول ذاك وإنكار هذا.

فهذا جواب هؤلاء.

وقالت الكرّامية: بل نختار من هذا الترديد كون التكوين حادثًا، وقولكم:«يلزم من ذلك قيام الحوادث بذات الربِّ، فالتكوين هو فعله، وهو قائم به» ، فكأنكم قلتم: يلزم من قيام فعله به قيامه به، وسميتم أفعاله حوادث، وتوسلتم بهذه التسمية إلى تعطيلها، كما سمّى إخوانكم صفاته: أعراضًا، وتوسلوا بهذه التسمية إلى نفيها عنه. وكما سمّوا علوّه على مخلوقاته واستواءه على عرشه: تحيّزًا، وتوسلوا بهذه التسمية إلى نفيه. وكما سمّوا وجهه الأعلى

(1)

ويديه: جوارح، وتوسلوا بذلك إلى نفيها.

قالوا: ونحن لا ننكر أفعال خالق السماوات والأرض وما بينهما، وكلامه وتكليمه، ونزوله إلى السماء، واستواءه على عرشه، ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده، ونداءه لأنبيائه ورسله وملائكته، وفعله ما شاء= بتسميتكم لهذا كله حوادث، ومن أنكر ذلك فقد أنكر كونه ربّ العالمين؛ فإنه لا يتقرر في العقول والفطر كونه ربًّا للعالمين إلا بأن يثبت له الأفعال الاختيارية، وذات لا تفعل ليست مستحقة للربوبية ولا للإلهية،

(1)

من قوله: «وتوسلوا بهذه» إلى هنا ساقط من «د» .

ص: 10

فالإجلال عن هذا الإجلال

(1)

واجب، والتنزيه عن هذا التنزيه متعين

(2)

، فتنزيه الربّ تعالى عن قيام الأفعال به تنزيه له عن ربوبيته وملكه.

قالوا: ولنا على صحة هذه المسألة أكثر من ألف دليل من القرآن والسنة والمعقول.

وقد اعترف أفضل متأخريكم

(3)

بفساد شبهكم كلها على إنكار هذه المسألة، وذَكَرَها شبهة شبهة وأفسدها، وألزم بها جميع الطوائف.

حتى الفلاسفة الذين هم أبعد الطوائف من إثبات الصفات والأفعال قالوا: ولا يمكن إثبات حدوث العالم وكون الربّ خالقًا ومتكلمًا وسامعًا ومبصرًا، ومجيبًا للدعوات، ومدبرًا للمخلوقات، وقادرًا ومريدًا؛ إلا بالقول بأنه فعَّال، وأن أفعاله قائمة به، فإذا بطل أن يكون له فعل، وأن تقوم بذاته الأمور المتجددة بطل هذا كله.

فصل

وقد أجاب عن هذا عبد العزيز بن يحيى الكناني في «حيدته»

(4)

فقال في سؤاله للمَرِيسي: بأي شيء حدثت الأشياء؟

فقال له: أحدثها الله بقدرته التي لم تزل.

فقلت له: أحدثها بقدرته كما ذكرت، أفليس تقول: إنه لم يزل قادرًا؟

(1)

«د» «م» : «فالاضلال من هذا الاضلال» تحريف، والمثبت من «ج» .

(2)

محله في «د» كلمة يشبه أن تكون: «مستفال» دون إعجام.

(3)

«د» : «متأخروكم» دون: «أفضل» .

(4)

«الحيدة» (83 - 84).

ص: 11

قال: بلى.

قلت: فتقول: إنه لم يزل يفعل؟

قال: لا أقول هذا.

قلت: فلابدّ أن يلزمك أن تقول: إنه خلق بالفعل الذي كان بالقدرة؛ لأن القدرة صفة

(1)

.

ثم قال عبد العزيز: لم أقل: لم يزل الخالق يخلق، ولم يزل الفاعل يفعل، وإنما الفعل صفة والله يقدر عليه، ولا يمنعه منه مانع.

فأثبت عبد العزيز فعلًا مقدورًا لله هو صفة له ليس من المخلوقات، وأنه به خلق المخلوقات، وهذا صريح في أن مذهبه كمذهب السلف وأهل الحديث: أن الخلق غير المخلوق، والفعل غير المفعول، كما حكاه البغوي إجماعًا لأهل السنة

(2)

.

وقد صرّح عبد العزيز أن فعله سبحانه القائم به مقدور له، وأنه خلق به المخلوقات، كما صرح به البخاري في آخر «صحيحه» ، وفي كتاب «خلق الأفعال» ، فقال في «صحيحه»: «باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرها من الخلائق، وهو فعل الربّ وأمره، فالرب سبحانه بصفاته وفعله وأمره وكلامه هو الخالق المكوِّن غير مخلوق، وما كان بفعله وأمره وتخليقه

ص: 12

وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكوَّن»

(1)

، فصرَّح إمام السنة أن صفة التخليق هي

(2)

فعل الربّ وأمره، وأنه خالق بفعله وكلامه.

وجميع يَزَك الرسول وحزبه مع محمد بن إسماعيل في هذا.

والقرآن مملوء من الدلالة عليه، كما دلّ عليه العقل والفطرة، قال تعالى:{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81]، ثم أجاب نفسه بقوله:{بَلَى وَهْوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} ، فأخبر أنه قادر على نفس فعله، وهو أن يخلق، فنفس {أن يخلق} فعل له، وهو قادر عليه.

ومَن يقول: لا فعل له، وأن الفعل هو عين المفعول، يقول: لا يقدر على فعل يقوم به البتّة، بل لا يقدر إلا على المفعول المباين له، الحادث بغير فعل منه سبحانه. وهذا أبلغ في الإحالة من حدوثه بغير قدرة، بل هو في الإحالة كحدوثه بغير فاعل؛ فإن المفعول يدل على قدرة الفاعل باللزوم العقلي، ويدل على فعله الذي وُجِد به بالتضمّن، فإذا سُلِبتْ دلالته التضمّنية كان سَلْب دلالته اللزومية أسهل، ودلالة المفعول على فاعله وفعله دلالة واحدة، وهي أظهر بكثير من دلالته على قدرته وإرادته.

وذكر قدرة الرب تعالى على أفعاله وتكوينه في القرآن كثير، كقوله:{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام: 65]، فـ {أن يبعث} هو نفس فعله، والعذاب هو مفعوله المباين له. وكذلك قوله:{أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40]، فإحياء الموتى نفس فعله، وحياتهم مفعوله

(1)

«الصحيح» (9/ 134)، وانظر:«خلق أفعال العباد» (2/ 297) وغيرها.

(2)

«م» : «بين» .

ص: 13

المباين له، وكلاهما مقدور له. وقال تعالى:{بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 4]، فتسوية البنان فعله، واستواؤها مفعوله.

ومنكرو الأفعال يقولون: الربّ تعالى يقدر على المفعولات المباينة له، ولا يقدر على فعل يقوم بنفسه، لا لازم

(1)

ولا متعدّ.

وأهل السنة يقولون: الربّ تعالى يقدر على هذا وعلى هذا، وهو سبحانه له الخلق والأمر، فالجهمية أنكرت خلقه وأمره، وقالوا: خلقه نفس مخلوقه، وأمره مخلوق من مخلوقاته، فلا خلق ولا أمر. ومن أثبت له الكلام القائم بذاته ونفى أن يكون له فعل؛ فقد أثبت الأمر دون الخلق، ولم يقل أحد بقيام أفعاله به، ونفي صفة الكلام عنه، فيثبت الأمر دون الخلق. وأهل السنة يثبتون له سبحانه ما أثبته لنفسه من الخلق والأمر، فالخلق فعله، والأمر قوله، وهو سبحانه يقول ويفعل.

وأجابت طائفة أخرى من أهل السنة والحديث عن هذا بالتزام التسلسل، وقالوا: ليس في العقل ولا في الشرع ما ينفي دوام فاعلية الربّ تعالى، وتعاقب أفعاله شيئًا قبل شيء إلى غير غاية، كما تتعاقب شيئًا بعد شيء إلى غير غاية، فلم يزل فعّالًا.

قالوا: والفعل صفة كمال، ومن يفعل أكمل ممن لا يفعل.

قالوا: ولا يقتضي صريح العقل إلا هذا، ومن زعم أن الفعل كان ممتنعًا عليه سبحانه في مُدَد غير مقدّرة

(2)

لا نهاية لها، ولا يقدر أن يفعل، ثم انقلب

(1)

«د» «م» : «ولا لازم» ، والوجه من «ج» .

(2)

«د» «م» : «مدد مقدرة» ، والتصويب من «ج» .

ص: 14

الفعل من الاستحالة الذاتية إلى الإمكان الذاتي من غير حدوث سبب ولا تغير في الفاعل= فقد نادى على عقله بين الأنام.

قالوا: وإذا جاز هذا في العقول

(1)

جاز أن ينقلب العالم من العدم إلى الوجود من غير فاعل، وإن امتنع هذا في بدائه العقول، فكذلك تجدُّد إمكان الفعل وانقلابه من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي بلا سبب، وأما أن يكون هذا ممكنًا، وذاك ممتنعًا، فليس في العقول ما يقتضي ذلك

(2)

.

قالوا: والتسلسل لفظ مجمل لم يرد بنفيه ولا إثباته كتاب ناطق، ولا سنة متّبعة، فيجب مراعاة لفظه، وهو ينقسم إلى: واجب، وممتنع، وممكن.

فالتسلسل في المؤثِّرين محال ممتنع لذاته، وهو أن يكون بين مؤثِّرَيْن كل واحد منهما استفاد تأثيره ممن قبله لا إلى غاية.

والتسلسل الواجب ما دلّ عليه العقل والشرع من دوام أفعال الربّ تعالى في الأبد، وأنه كلما انقضى لأهل الجنة نعيم أحدث لهم نعيمًا آخر لا نفاد له، وكذلك التسلسل في أفعاله سبحانه من طرف

(3)

الأزل، وأن كل فعل مسبوق بفعل آخر، فهذا واجب في كلامه؛ فإنه لم يزل متكلمًا إذا شاء، ولم تحدث له صفة الكلام في وقت.

وهكذا أفعاله التي هي من لوازم حياته، فإن كل حي فعّال، والفرق بين

(1)

«م» «ج» : «وإذا كان هذا» ، ويشبه أن تكون في «م»:«المعقول» ، والمثبت من «د» أقرب.

(2)

«د» «ج» : «بذلك» .

(3)

«م» «ج» : «طرق» بالإعجام، وأهملت في «د» ، والمثبت أشبه، وسيأتي نظيره.

ص: 15

الحي والميت بالفعل، ولهذا قال غير واحد من السلف: الحيُّ الفعّال. وقال عثمان بن سعيد: كل حيّ فَعَّال

(1)

.

ولم يكن ربُّنا تبارك وتعالى قط في وقت من الأوقات المحققة أو المقدّرة معطّلًا عن كماله من الكلام والإرادة والفعل.

وأما التسلسل الممكن فالتسلسل في مفعولاته من هذا الطرف، كما يتسلسل في طرف الأبد، فإنه إذا لم يزل حيًّا قادرًا مريدًا متكلمًا ـ وذلك من لوازم ذاته ـ فالفعل ممكن له بوجوب هذه الصفات له، وأن يفعل أكمل من أن لا يفعل، ولا يلزم من هذا أنه لم يزل الخلق معه؛ فإنه سبحانه متقدّم على كل فردٍ فردٍ

(2)

من مخلوقاته تقدّمًا لا أول له، فلكل مخلوق أول، والخالق سبحانه لا أول له، فهو وحده الخالق، وكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن.

قالوا: وكل قول سوى هذا فصريح العقل يرده، ويقضي ببطلانه، وكل من اعترف بأن الربّ تعالى لم يزل قادرًا على الفعل لزمه أحد أمرين لابد له منهما: إما بأن يقول: إن الفعل لم يزل ممكنًا، وإما أن يقول: لم يزل واقعًا، وإلا تناقض تناقضًا بيّنًا؛ حيث زعم أن الربّ تعالى لم يزل قادرًا على الفعل، والفعل محال ممتنع لذاته، لو أراده لم يمكن وجوده، بل فَرْض إرادته عنده محال، وهو مقدور له، وهذا قول يناقض بعضه بعضًا.

(1)

لم أقف عليه، وفي «النقض على المريسي» (1/ 215):«كل حي متحرك لا محالة، وكل ميت غير متحرك لا محالة» ، ونقل البخاري في «خلق الأفعال» (2/ 192) عن نعيم معنى ما في المتن.

(2)

رمز فوقهما بالصحة في «م» .

ص: 16

وأجابت طائفة أخرى بالجواب المركّب على جميع التقادير، فقالوا: تسلسل الآثار إما أن يكون ممكنًا أو ممتنعًا، فإن كان ممكنًا فلا محذور في التزامه، وإن كان ممتنعًا لم يلزم من بطلانه بطلان الفعل الذي لا يكون المخلوق إلا به؛ فإنا نعلم أن المفعول المنفصل لا يكون إلا بفعل، والمخلوق لا يكون إلا بخلق، قبل العلم بجواز التسلسل وبطلانه.

ولهذا كثير من الطوائف يقولون: الخلق غير المخلوق، والفعل غير المفعول، مع قولهم ببطلان التسلسل، مثل كثير من أتباع الأئمة الأربعة، وكثير من أهل الحديث والصوفية والمتكلمين.

ثم من هؤلاء من يقول: الخلق ـ الذي هو التكوين ـ صفة قديمة، كالإرادة.

ومنهم من يقول: بل هي حادثة بعد أن لم تكن، كالكلام والإرادة، وهي قائمة بذاته سبحانه، وهم الكرّامية ومن وافقهم، أثبتوا حدوثها وقيامها بذاته، وأبطلوا دوامها؛ فرارًا من القول بحوادث لا أول لها، وكلا الفريقين لا يقول: إن ذلك التكوين والخلق مخلوق، بل يقول: إن المخلوق وُجِد به كما وُجِد بالقدرة.

قالوا: فإذا كان القول بالتسلسل لازمًا لكل من قال: إن الربّ تعالى لم يزل قادرًا على الخلق، يمكنه أن يفعل بلا ممانع= فهو لازم لك، كما ألزمتَه لخصومك، فلا ينفردون بجوابه دونك. وأما ما ألزموك به من وجود مفعول بلا فعل، ومخلوق بلا خلق، فهو لازم لك وحدك.

قالوا: ونحن إنما قلنا: الفعل صفة قائمة به سبحانه، وهو قادر عليه لا يمنعه منه مانع، والفعل القائم به ليس هو المخلوق المنفصل عنه، فلا يلزم

ص: 17

أن يكون معه مخلوق في الأزل، إلا إذا ثبت أن الفعل اللازم يستلزم الفعل المتعدي، وأن المتعدي يستلزم دوام نوع المفعولات، ودوام نوعها يستلزم أن يكون معه سبحانه في الأزل شيء منها، وهذه الأمور لا سبيل لك ولا لغيرك إلى الاستدلال على ثبوتها كلها.

وحينئذ فنقول: أي لازم لزم من إثبات فعله سبحانه كان القول به خيرًا من نفي الفعل، وتعطيله عنه.

فإن ثبت قيام فعله به من غير قيام الحوادث به ـ كما يقوله كثير من الناس ـ بطل قولكم. وإن لزم من إثبات فعله قيام الأمور الاختيارية به، والقول بأنها مُفتتَحة ولها أول؛ فهو خير من قولكم، كما تقوله الكرّامية. وإن لزم تسلسلها وعدم أوليتها في الأفعال اللازمة؛ فهو خير من قولكم. وإن لزم تسلسل الآثار

(1)

، وكونه سبحانه لم يزل خالقًا كما دلّ عليه النص والعقل؛ فهو خير من قولكم. ولو قُدِّر أنه يلزم أن الخلق لم يزل مع الله قديمًا بقدمه؛ كان خيرًا من قولكم، مع أن هذا لا يلزم، ولم يقل به أحد من أهل الإسلام، بل ولا أهل الملل، فكلهم متفقون على أن الله سبحانه وحده الخالق، وكل ما سواه مخلوق موجود بعد عدمه، وليس معه غيره من المخلوقات يكون وجوده مساويًا لوجوده.

فما لزم بعد هذا من إثبات خلقه وأمره وصفات كماله ونعوت جلاله، وكونه ربّ العالمين، وأن كماله المقدس من لوازم ذاته= فإنا به قائلون، وله ملتزمون.

(1)

«د» : «التسلسل والآثار» .

ص: 18

كما أنا ملتزمون لكل ما لزم من كونه حيًّا عليمًا قديرًا سميعًا بصيرًا متكلّمًا آمرًا ناهيًا، فوق عرشه، بائن من خلقه، يراه المؤمنون بأبصارهم عيانًا في الجنة، وفي عرصات القيامة، ويكلمهم ويكلمونه، فإن هذا حق، ولازم الحق مثله، وما لم يلزم

(1)

من إثبات ذلك من الباطل الذي تتخيله خفافيش العقول فنحن له منكرون، وعن القول به عادلون، وبالله التوفيق.

قال القدري: كون العبد موجِدًا لأفعاله وهو الفاعل لها من أجلى الضروريات والبديهيات؛ فإن كل عاقل يعلم من نفسه أنه فاعل

(2)

لما يصدر عنه من الأفعال الواقعة على وفق قصده وداعيته، بخلاف حركة المرتعش والمجرور على وجهه، وهذا لا يتمارى فيه العاقل، ولا يقبل التشكيك والقدح في ذلك، والاستدلال على خلافه استدلال على بطلان ما عُلِمت صحته بالضرورة، فلا يكون مقبولًا.

قال السني: قد أجابك خصومك من الجبرية عن هذا بأن العاقل يعلم من نفسه وقوع الفعل مقارنًا لقدرته، ولا يعلم من نفسه أنه واقع بقدرته، والفرق بين الأمرين ظاهر، ولو كان وقوعه بقدرته هو المعلوم بالضرورة لما خالف فيه جمع عظيم من العقلاء، يستحيل عليهم الإطباق على جحد الضروريات.

وهذا الجواب مما لا يشفي عليلًا، ولا يروي غليلًا، وهو عبارات لا حاصل تحتها؛ فإن كل عاقل يجد من نفسه وقوع الفعل بقدرته وإرادته وداعيته، وأن ذلك هو المؤثِّر في الفعل، ويجد تفرقة ضرورية بين مقارنة

(1)

تحتمل في «د» و «م» : «لم يلتزم» ، مهملة، وجوّدها في «ج» بما تراه في المتن.

(2)

من قوله: «لها من أجلى» إلى هنا ساقط من «م» .

ص: 19

القدرة والداعية للفعل، ومقارنة طوله ولونه وشمّه وغير ذلك من صفاته للفعل، ونسبة ذلك كله عند الجبري إلى الفعل نسبة واحدة، والله سبحانه أجرى العادة بخلق الفعل عند القدرة والداعي لا بهما، وإنما اقترن الداعي والقدرة بالفعل اقترانًا مجرّدًا. ومعلوم أن هذا قدح في الضروريات.

ولا ريب أن من نظر إلى تصرفات العقلاء ومعاملاتهم مع بعضهم بعضًا؛ وجدهم يطلبون الفعل من غيرهم طلب عالم بالاضطرار أن المطلوب منه الفعل هو المحصِّل له، الواقع بقدرته وإرادته، ولذلك يتلطفون لوقوع الفعل منه بكل لطيفة، ويحتالون عليه بكل حيلة، فيعطونه تارة، ويزجرونه تارة، ويوبّخونه تارة، ويتوصلون إلى إخراج الفعل منه بأنواع الرغبة والرهبة، ويقولون: قد فعل فلان كذا

(1)

، فما لك لا تفعل كما فعل؟ وهذا أمر مشاهد بالحسِّ والضرورة.

فالعقلاء ساكنو الأنفس إلى أن الفعل من العبد يقع، وبه يحصل، ولو حرك أحدُهم أصبعه، فشتمْتَ المحرِّك لها، لغضب وشتمك، وقال: كيف تشتمني؟ ولم يقل: لِمَ تشتم ربّي؟

وهذا أوضح من أن يُضرب له الأمثال، أو يُبسط فيه المقال، وما يعرض في ذلك من الشُّبه جارٍ مجرى السَّفْسَطة.

وقد فطر الله سبحانه العقلاء على ذمِّ فاعل الإساءة، ومَدْح فاعل الإحسان، وهذا يدل على أنهم مفطورون على العلم بأنه فاعل؛ لأن الذم فرع عليه، ويستحيل أن يكون الفرع معلومًا باضطرار، والأصل ليس كذلك.

(1)

«فلان» من «ج» .

ص: 20

والعقلاء قاطبة يعلمون أن الكاتب مثلًا يكتب إذا أراد، ويمسك إذا أراد، وكذلك الباني

(1)

والصانع، وأنه إذا عجزت قدرته، أو عدمت إرادته بطل فعله، فإن عادت إليه القدرة والإرادة عاد الفعل.

وقولك: «لو كان ذلك أمرًا ضروريًا لاشترك العقلاء فيه» ، جوابك: أنه لا يجب الاشتراك في الضروريات، فكثير من العقلاء يخالفون كثيرًا من الضروريات لدخول شبهة عليهم، ولا سيما إذا تواطؤوا عليها وتناقلوها، كمخالفة الفلاسفة في الإثبات لكثير من الضروريات، وهم جمع كثير من العقلاء.

وهؤلاء النصارى مذهبهم مما يُعلم فساده بضرورة العقل، وهم يناظرون عليه ويَنْصرونه.

وهؤلاء الرافضة يزعمون أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لم يؤمنا بالله ورسوله طرفة عين، ولم يزالا عدوَّيْن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مترصّدَيْن لقتله، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام عليًا على رؤوس جميع الصحابة وهم ينظرون إليه جهرة، وقال: هذا وصيي وولي العهد بعدي، فكلكم له تسمعون، فأطبقوا كلهم على كتمان هذا النص وعصيانه.

وهؤلاء الجهمية ــ ومَن قال بقولهم ــ يقولون ما يخالف صريح المعقول؛ من وجود مفعول بلا فعل، ومخلوق بلا خلق.

(1)

اضطرب في رسمها النساخ، والمثبت من «ط» ، والجمع في التمثيل بين الباني والصانع شائع في كتب العقائد، انظر مثلًا:«الصواعق المرسلة» (2/ 493)، «المواقف» (3/ 12).

ص: 21

وهؤلاء الفلاسفة ــ وهم المُدِلّون بعقولهم ــ يثبتون ذواتًا قائمة بأنفسها خارج الذهن، ليست في العالم، ولا خارجة عن العالم، ولا متصلة به، ولا منفصلة عنه، ولا مباينة له، ولا محايثة، وهو مما يُعلم بصريح العقل فساده.

وهؤلاء طائفة الاتحادية تزعم أن الله هو هذا الوجود المشهود، وأن التعدد والتكثير فيه وهم محض.

وهؤلاء منكرو الأسباب يزعمون أنه لا حرارة في النار تحرق بها، ولا رطوبة في الماء يروي بها، وليس في الأجسام أصلًا قوى ولا طبائع، ولا في العالم شيء يكون سببًا لشيء آخر البتّة.

وإن لم تكن هذه الأمور جحدًا للضروريات فليس في العالم مَنْ جَحَد الضروريات، وإن كانت جحدًا للضروريات بطل قولكم: إن جمعًا من العقلاء لا يتفقون على ذلك.

والأقوال التي جحد بها المتكلمون الضروريات أضعاف أضعاف ما ذكرناه، فهم أجحد الناس لما يُعلم بضرورة العقل.

وكيف يصح في عقل سليم: سميعٌ لا سمع له، بصيرٌ لا بصر له، حيٌّ لا حياة له؟!

أم كيف يصح عند ذي عقل: مرئيٌّ يُرى بالأبصار عيانًا لا فوق الرائي، ولا تحته، ولا عن يمينه، ولا عن يساره، ولا خلفه، ولا أمامه؟!

أم كيف يصح عند ذي عقل: إثباتُ كلام قديم أزلي، لو كان البحر يمده من بعده سبعة أبحر، وجميع أشجار الأرض على اختلافها وكبرها وصغرها أقلام يُكتب بها= لنفدت البحار، وفنيت الأقلام، ولم يفنَ ذلك الكلام. ومع

ص: 22

هذا فهو معنى واحد لا جزء له، ولا ينقسم، والنهي

(1)

فيه عين الأمر، والنفي فيه عين الإثبات، والخبر فيه عين الاستخبار، والتوراة فيه عين الإنجيل وعين القرآن، وذلك كله أمر واحد إنما يختلف بمسمياته ونسبته. وقد أطبق على هذا جمع عظيم من العقلاء، وكفّروا من خالفهم فيه، واستحلّوا منهم ما حرّمه الله.

وهؤلاء الجهمية يقولون: إن للعالم صانعًا قائمًا بذاته، ليس في العالم، ولا هو خارج العالم، ولا فوق العالم، ولا تحته، ولا خلفه، ولا أمامه، ولا عن يمينه، ولا عن يَسْرَته، ولا هو مباين له، ولا مُحَايِث له. فوصفوا واجب الوجود بصفة ممتنع الوجود، وكفّروا من خالفهم في ذلك، واستحلّوا دمه، وقالوا ما يُعلم فساده بصريح العقل.

ولو ذهبنا نذكر كل ما جحد فيه أكثر الطوائف الضروريات لطال الكتاب جدًّا.

وهؤلاء النصارى أمة قد طبقت شرق الأرض وغربها، وهم من أعظم الناس جحدًا للضروريات.

وهؤلاء الفلاسفة هم أهل المعقولات، وهم من أكثر الناس جحدًا للضروريات.

فاتفاق طائفة من الطوائف على المقالة لا يدل على [عدم]

(2)

مخالفتها لصريح العقل، وبالله التوفيق.

(1)

«م» «ج» : «وهو النهي» كأنها إقحام، والتصويب من «د» .

(2)

زيادة لازمة لإقامة المعنى.

ص: 23

فصل

(1)

قال القدري: قال الله عز وجل: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، وعند الجبري: أن الكل فعل الله، وليس من العبد شيء.

قال الجبري: في الكلام استفهام مقدَّر، تقديره: أفمن نفسك؟ فهو إنكار لا إثبات، وقرأها بعضهم:{فَمَنْ نَفْسُك} ؟ بفتح الميم ورفع نفسك

(2)

، أي: مَن أنت حتى تفعلها؟

قال: ولابد من تأويل الآية وإلا ناقض قوله في الآية التي قبلها: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78]، فأخبر أن الحسنات والسيئات جميعًا من عنده، لا من عند العبد

(3)

.

قال السني: أخطأتما جميعًا في فهم الآية أقبح خطأ، ومنشأ غلطكما ظنكما أن الحسنات والسيئات في الآية المراد بها الطاعات والمعاصي التي هي فعل العبد الاختياري، وهذا وهم محض في هذه الآية، وإنما المراد بها النعم والمصائب.

ولفظ الحسنات والسيئات في كتاب الله يراد به هذا تارة، وهذا تارة،

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (8/ 110 - 114)، (14/ 234 - 245)، والمؤلف صادر عنه.

(2)

وهي قراءة شاذة، انظر:«الكامل» (529)، «البحر المحيط» (3/ 721).

(3)

«د» «م» : «من عند العبد» دون «لا» ، والتصويب من «ج» .

ص: 24

فقوله تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران: 120]، وقوله تعالى:{إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} [التوبة: 50]، وقوله:{ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ} [الأعراف: 168]، وقوله:{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} [الشورى: 48]، وقوله:{فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131]، وقوله:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، المراد في هذا كله النعم والمصائب.

وأما قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام: 160]، وقوله:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، وقوله:{فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70]، المراد به في هذا كله الأعمال المأمور بها والمنهي عنها.

وهو سبحانه إنما قال: {مَا أَصَابَكَ} ، ولم يقل:«ما أصبت، وما كسبت» ، فما يفعله العبد يقال فيه: ما أصبت وكسبت وعملت، كقوله:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} [طه: 112]، {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا} [النساء: 112]، وقول المذنب التائب: يا رسول الله، أصبتُ ذنبًا فأقم عليَّ كتاب الله

(1)

، ولا يقال في هذا: أصابك ذنب، وأصابتك سيئة.

(1)

أخرجه البخاري (6823)، ومسلم (2764) بنحوه من حديث أنس.

ص: 25

وما يفعل به بغير اختياره يقال فيه: أصابك كقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، وقوله:{وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} [التوبة: 50]، وقوله:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران: 165]، فجمع الله في الآية بين ما أصابوه بفعلهم وكسبهم، وما أصابهم مما ليس فعلًا لهم، وقوله:{وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ} [التوبة: 52]، وقوله:{وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} [الرعد: 31]، وقوله:{فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة: 106].

فقوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} [النساء: 79] هو من هذا القسم، لا من القسم الذي يصيبه العبد باختياره، وهذا إجماع من السلف في تفسير هذه الآية.

قال أبو العالية: «{وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ}: هذا في السراء، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ}: هذا في الضراء»

(1)

.

وقال السُّدِّي: «الحسنة الخصب، تنتج مواشيهم وأنعامهم، ويحسن حالهم، وتلد نساؤهم الغلمان، قالوا: هذا من عند الله، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ}، قال: الضرّ في أموالهم، تشاءموا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: هذا من عنده، يقولون: بتركنا ديننا واتباعنا محمدًا صلى الله عليه وسلم أصابنا ما أصابنا، فأنزل الله تعالى ردًّا عليهم: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78]: الحسنة والسيئة»

(2)

.

(1)

أسنده الطبري (7/ 238)، وابن أبي حاتم (3/ 1008).

(2)

أسنده ابن أبي حاتم (3/ 1008) في ثلاثة أحاديث متفرقة.

ص: 26

وقال الوالبي: عن ابن عباس: «{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}، قال: ما فتح الله عليك يوم بدر. وقال أيضًا: هو الغنيمة والفتح. والسيئة: ما أصابه يوم أحد: شُجَّ في وجهه، وكُسِرت رَباعِيته»

(1)

.

وقال أيضًا: «أما الحسنة فأنعم الله بها عليك، وأما السيئة فابتلاك بها» .

وقال أيضًا: «ما أصابك من نكبة فبذنبك، وأنا قدّرت ذلك عليك»

(2)

.

ذكر ذلك كله ابن أبي حاتم.

وفي تفسير أبي صالح: عن ابن عباس: «{وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ}: الخصب، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} الجدب والبلاء»

(3)

.

وقال ابن قتيبة في هذه الآية: «الحسنة النعمة، والسيئة البلية»

(4)

.

فإن قيل: فقد حكى أبو الفرج ابن الجوزي

(5)

: عن أبي العالية أنه فسّر الحسنة والسيئة في هذه الآية بالطاعة والمعصية، وهو من أعلم التابعين؟

فالجواب: إنه لم يذكر بذلك إسنادًا، ولا نعلم صحته عن أبي العالية، وقد ذكر ابن أبي حاتم بإسناده عن أبي العالية ما تقدم حكايته، أن ذلك في السراء والضراء، وهذا هو المعروف عن أبي العالية، ولم يذكر ابن أبي حاتم

(1)

أسنده الطبري (7/ 242)، وابن أبي حاتم (3/ 1010).

(2)

أسنده وسابقه ابن أبي حاتم (3/ 1010).

(3)

أورده ابن الجوزي في «زاد المسير» (2/ 137).

(4)

«غريب القرآن» (130).

(5)

«زاد المسير» (2/ 138).

ص: 27

عنه غيره، وهو الذي حكاه ابن قتيبة عنه

(1)

.

وقد يقال: إن المعنيين جميعًا مرادان، باعتبار أن ما يوفقه الله له من الطاعات فهو نعمة في حقه أصابته من الله، كما قال تعالى:{بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ} [النحل: 53]، فهذا يدخل فيه نعم الدين والدنيا، وما يقع منه من المعصية فهو مصيبة أصابته من الله، وإن كان سببها منه.

والذي يوضح ذلك أن الله سبحانه إذا جعل السيئة التي هي الجزاء على المعصية من نفس العبد بقوله: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، فالعمل الذي أوجب الجزاء أولى أن يكون من نفسه، فلا منافاة بين أن تكون سيئة العمل من نفسه، وسيئة الجزاء من نفسه، ولا ينفي ذلك أن يكون الجميع من الله قضاءً وقدرًا، ولكن هو من الله عدل وحكمة ومصلحة وحَسَن، ومن العبد سيئة وقبيح.

وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: (وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وأنا قدّرتها عليك)

(2)

، وهذه القراءة زيادة بيان، وإلا فقد دلّ قوله قبل ذلك:{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78] على القضاء السابق، والقدر النافذ.

(1)

لم أقف على حكايته، وقد أسنده ابن جرير عنه كما تقدم.

(2)

لم أقف عليه عن ابن عباس بهذا الحرف، وحكاه عنه ابن عطية في «المحرر» (2/ 82) بلفظ:«وأنا قضيتها عليك» ، وأسنده ابن المنذر في «التفسير» (2029) بلفظ:«وأنا كتبتها عليك» ، ويروى كذلك عن أبي وابن مسعود كما في «تفسير ابن وهب» (253)، و «فضائل القرآن» لأبي عبيد (297)، وانظر:«تفسير القرطبي» (6/ 469 - 470).

ص: 28

والمعاصي قد تكون بعضها عقوبة بعض، فيكون لله

(1)

على المعصية عقوبتان: عقوبة بمعصية تتولد منها، وتكون الأولى سببًا فيها، وعقوبة بمؤلم يكون جزاءها، كما في الحديث المتفق على صحته عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البرِّ، والبرّ يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق، حتى يكتب عند الله صديقًا، وإيَّاكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابًا»

(2)

.

وقد ذكر الله سبحانه في غير موضع من كتابه أن الحسنة الثانية قد تكون من ثواب الحسنة الأولى، وأن المعصية قد تكون عقوبة للمعصية الأولى، فالأول كقوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 66 - 68]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبْلَنَا} [العنكبوت: 69]، وقال تعالى:{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16].

وأما قوله: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد: 4]، فيحتمل أن لا يكون من هذا، وتكون الهداية في الآخرة إلى طريق الجنة؛ فإنه رتّب هذا الجزاء على قَتْلهم، ويحتمل أن يكون منه، ويكون قوله:

(1)

«م» : «ذلك» .

(2)

البخاري (6094)، ومسلم (2607).

ص: 29

{سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} إخبارًا منه سبحانه عما يفعله بهؤلاء الذين قُتِلوا في سبيله قبل أن قُتِلوا، وأتى به بصيغة المستقبل إعلامًا منه بأنه يجدّد له كل وقت من أنواع الهداية وإصلاح البال شيئًا بعد شيء.

فإن قلت: فكيف يكون ذلك المستقبل خبرًا عن الذين قُتِلوا؟

قلت: الخبر قوله: {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} ، أي أنه لا يبطلها عليهم، ولا يَتِرَهم إيّاها، هذا بعد أن قُتِلوا، ثم أخبر سبحانه خبرًا مستأنفًا عنهم: أنه سيهديهم ويصلح بالهم، لمّا علم أنهم يُقتلون في سبيله، وأنهم بذلوا أنفسهم له، فلهم جزاءان: جزاء في الدنيا بالهداية على الجهاد، وجزاء في الآخرة بدخول الجنة، فيرد السامع كل جملة إلى وقتها؛ لظهور المعنى، وعدم التباسه، وهو كثير في القرآن، والله أعلم.

وقال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا اَلْمُخْلِصِينَ} [يوسف: 24]، فجازاه على إخلاصه بصرف السوء والفحشاء عنه، وقال:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 22]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الأحزاب: 70 - 71]، وقال:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]، وقال تعالى:{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} [الأنعام: 154]، فضمَّن التمام معنى الإنعام، فعدّاه بعلى، أي: إنعامًا منا على الذي أحسن، فهذا جزاء على الطاعات بالطاعات.

وأما الجزاء على المعاصي بالمعاصي فكقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وقوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ

ص: 30

أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19]، وقوله:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155]، وقوله:{وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88]، وقوله:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ رَحُبَت ثُّمَّ رَحُبَتْ ثُمَّ} [التوبة: 25]، وهو كثير في القرآن.

وعلى هذا فيكون النوعان من السيئات ــ أعني: المصائب والمعايب ــ من نفس الإنسان، وكلاهما بقدر الله، فشر النفس هو الذي أوجب هذا وهذا.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته المعروفة: «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا»

(1)

، فشر النفس نوعان: صفة وعمل، والعمل ينشأ عن الصفة، والصفة تتأكد وتقوى بالعمل، فكل منهما يمدّ الآخر.

وسيئات الأعمال نوعان قد فُسّر بهما الحديث:

أحدهما: مساوئها وقبائحها، فتكون الإضافة فيه من إضافة النوع إلى جنسه، وهي إضافة بمعنى «من» ، أي السيئات من أعمالنا.

والثاني: أنها ما يسوء العامل مما يعود عليه من عقوبة عمله، فيكون من إضافة المسبَّب إلى سببه، وتكون الإضافة على معنى اللام.

وقد يرجّح الأول بأنه يكون قد استعاذ من الصفة والعمل الناشئ عنها، وذلك يتضمن الاستعاذة من الجزاء السيئ المترتب على ذلك، فتضمنت

(1)

تقدم تخريجه في (1/ 279).

ص: 31

الاستعاذة ثلاثة أمور: الاستعاذة من العذاب، ومن سببه الذي هو العمل، ومن سبب العمل الذي هو الصفة.

وقد يرجّح الثاني أن شرّ النفس يعم النوعين كما تقدم، فسيئات الأعمال ما يسوء من جزائها، ونبّه بقوله:«سيئات أعمالنا» على أن الذي يسوء من الجزاء إنما هو بسبب الأعمال الإرادية، لا من الصفات التي ليست من أعمالنا.

ولمّا كانت تلك الصفة شرًّا استعاذ منها، وأدخلها في شر النفس.

وقال الصديق رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: علّمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال:«قل: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، ربَّ كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، وشر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءًا أو أجره إلى مسلم. قله إذا أصبحت، وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعك»

(1)

.

ولمّا كان الشر له مصدر يبتدئ منه، وغاية ينتهي إليها، وكان مصدره إما من نفس الإنسان، وإما من الشيطان، وغايته أن يعود على صاحبه، أو على أخيه المسلم= تضمّن الدعاء هذه المراتب الأربعة

(2)

بأوجز لفظ وأفصحه وأبينه.

(1)

أخرجه أحمد (7961)، وأبو داود (5067)، والترمذي (3392) وقال:«حسن صحيح» ، وصدر الحديث:«علمني شيئًا أقوله إذا أصبحت، وإذا أمسيت» ، فكأنّ المؤلف سبق قلمه فركّب صدر حديث آخر لأبي بكر في أدعية الصلاة على هذا المتن، والله أعلم.

(2)

كذا في الأصول بتأنيث العدد، والجادة التذكير مخالفة للمعدود، وتقدم نظيره في كلام المؤلف.

ص: 32

فصل

(1)

قال السني: فليس لك أيها القدري أن تحتج بالآية التي نحن فيها لمذهبك لوجوه:

أحدها: أنك تقول: فعل العبد ـ حسنة كان أو سيئة ـ هو منه لا من الله، بل الله سبحانه قد أعطى كل واحد من الاستطاعة ما يفعل به الحسنات والسيئات، لكن هذا أحدث من عند نفسه إرادةً فعل بها الحسنات، وهذا أحدث إرادة فعل بها السيئات، وليست واحدة من الإرادتين من إحداث الربِّ البتّة، ولا أوجبتها مشيئته.

والآية قد فرّقت بين الحسنة والسيئة، وأنتم لا تفرقون بينهما؛ فإن الله عندكم لم يشأ هذا ولا هذا، ولم يخلق هذا ولا هذا.

قال القدري: إضافة السيئة إلى نفس العبد لكونه هو الذي أحدثها وأوجدها، وإضافة الحسنة إليه سبحانه لكونه هو الذي أمر بها وشرعها.

قال السني: الله سبحانه أضاف إلى العبد ما أصابه من سيئة، وأضاف إلى نفسه ما أصاب العبد من حسنة، ومعلوم أن الذي أصاب العبد هو الذي قام به، والأمر لم يقم بالعبد، وإنما قام به المأمور، وهو الذي أصابه، فالذي أصابه لا تصح إضافته إلى الربّ عندكم، والمضاف إلى الربّ لم يقم بالعبد، فعُلِم أن الذي أصابه من هذا وهذا أمر قائم به، فلو كان المراد به الأفعال الاختيارية من الطاعات والمعاصي لاستوت الإضافة، ولم يصح الفرق، وإن افترقا في كون أحدهما مأمورًا به والآخر منهيًا عنه، على أنّ النهي أيضًا من

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (14/ 246 - 260).

ص: 33

الله، كما أنّ الأمر منه، فلو كانت الإضافة لأجل الأمر لاستوى المأمور والمنهي في الإضافة؛ لأن هذا مطلوبٌ إيجاده، وهذا مطلوبٌ إعدامه.

قال القدري: أنا أجوّز تعلّق الطاعة والمعصية بمشيئة الربّ تعالى وإحداثه على وجه الجزاء، لا على سبيل الابتداء، وذلك أن الله سبحانه يعاقب عبده بما يشاء، ويثيبه بما يشاء، فكما يعاقبه بخلْق الجزاء الذي يسوؤه، وخلْق الثواب الذي يسره؛ فكذلك يحسن أن يعاقبه بخلْق المعصية وخلْق الطاعة؛ فإن هذا يكون عدلًا منه، وأما أن يخلق فيه الكفر والمعصية ابتداء بلا سبب فمعاذ الله من ذلك.

قال السني: هذا توسّط حسن جدًّا لا يأباه العقل ولا الشرع، ولكن من أعدى الأول؟ وليس هو عندك مقدورًا لله، ولا واقعًا بمشيئته، فقد أثبتَّ في ملكه ما لا يقدر عليه، وأدخلتَ فيه ما لم يشأه، ونقضتَ أصلك كله؛ فإنك أصّلتَ أن فعل العبد الاختياري قدرة العبد عليه واختياره له ومشيئته تمنع قدرة الربّ عليه ومشيئته له، وهذا الأصل لا فرق فيه بين الابتدائي والجزائي.

قال القدري: فالقرآن قد فرّق بين النوعين، وجعل الكفر والفسوق الثاني جزاءً على الأول، فعُلِم أن الأول من العبد قطعًا، وإلا لم يستقم جعل أحدهما عقوبة على الآخر، وقد صرح تعالى بذلك في قوله:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13]، فأضاف نقض الميثاق إليهم، وتقسية القلوب إليه، فالأول سبب منهم، والثاني جزاء منه سبحانه. وقال:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]، فأضاف عدم الإيمان أولًا

ص: 34

إليهم؛ إذ هو السبب، وتقليب القلوب وتَرْكهم في طغيانهم

(1)

إليه؛ إذ هو الجزاء، ومثله قوله:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، والآيات التي سقتموها آنفًا إنما تدلّ على هذا.

قال السني: نعم هذا حق، لكن ليس فيه إخراج السبب عن كونه مقدورًا للربِّ تعالى واقعًا بمشيئته، ولو شاء لحال بين العبد وبينه، ووفّقه لضده، فهذه البقية التي بقيت عليك من القدر، كما أن إنكار إثبات الأسباب واقتضائها لمسبَّبَاتها وترتبها عليها هي البقية التي بقيت على الجبري في المسألة أيضًا، فكلاكما مصيب من وجه، مخطئ من وجه، ولو تخلص كل منكما من البقية التي بقيت عليه لوجدتما روح الوفاق، واصطلحتما على الحق، وبالله التوفيق.

قال القدري: فما تقول أنت أيها السني في الفعل الأول: إذا لم يكن جزاءً فما وجهه؟ وأنت ممن يقول بالحكمة والتعليل، وتُنزِّه الربّ تعالى عن الظلم الذي هو ظلم، لا ما يقوله الجبري: إنه الجمع بين النقيضين.

قال السني: لا يلزمني في هذا المقام بيان ذلك؛ فإني لم أنتصب له، إنما انتصبت لإبطال احتجاجك بالآية لمذهبك الباطل، وقد وفيت به، ولله تعالى في ذلك حِكَم وغايات محمودة لا تبلغها عقول العقلاء، ومباحث الأذكياء، فالله سبحانه إنما يضع فضله وتوفيقه وإمداده في المحل الذي يصلح له، وما لا يصلح له من المحال يدعه غفلًا فارغًا من الهدى والتوفيق، فيجري مع طبعه الذي خُلِق عليه، {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ

(1)

من قوله تعالى: {يَعْمَهُونَ} إلى هنا ساقط من «م» .

ص: 35

مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23].

قال القدري: فإذا كان الله سبحانه قد أحدث فيهم تلك الإرادة والمشيئة المستلزمة لوجود الفعل؛ كان ذلك إيجادًا منه سبحانه لذلك فيهم، كما أوجد الهدى والإيمان في أهله.

قال السني: هذا مُعْتَرك النزال، ومَفْرَق

(1)

طرق العالم، والله سبحانه أعطى العبد مشيئة وقدرة وإرادة تصلح لهذا ولهذا، ثم أمد أهل الفضل بأمور وجودية زائدة على ذلك المشترك، أوجب لهم الهداية والإيمان

(2)

، وأمسك ذلك الإمداد عمن علم أنه لا يصلح له ولا يليق به، فانصرفت قوى إرادته ومشيئته إلى ضده، اختيارًا منه وإرادة ومحبّة، لا كرهًا واضطرارًا.

قال القدري: فهل كان يمكنه إرادة ما لم يُعَن عليه، ولم يوفَّق له بإمداد زائد على خَلْق الإرادة؟

قال السني: إن أردت بالإمكان أنه يمكنه فعله لو أراده؛ فنعم، هو ممكن بهذا الاعتبار مقدور له، وإن أردت به أنه يمكن وقوعه بدون مشيئة الربّ وإذنه؛ فليس بممكن؛ فإنه ما شاء الله كان، ووجب وجوده، وما لم يشأ لم يكن، وامتنع وجوده.

قال القدري: فقد سَلّمتَ حينئذ أنه غير ممكن للعبد إذا لم يشأ الله منه أن يفعله، فصار غير مقدور للعبد، فقد عوقب على ترك ما لا يقدر على فعله.

(1)

«ج» : «وتفرق» .

(2)

كذا في الأصول: «أوجب لهم» ، كأنها على الاستئناف، أي: أوجب الله، والأشبه بالسياق القبلي والبعدي:«أوجبت لهم» .

ص: 36