الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أراد يكمّله
(1)
أقبل بقلبه، وجَذَبه إليه، وألهمه رشده، وألقى فيه أسباب الخير، ومن لم يرد يكمّله تَرَكه وطَبْعه، وخَلّى بينه وبين نفسه؛ لأنه لا يصلح للتكميل، وليس محله أهلًا، ولا قابلًا لما يوضع فيه من الخير.
وههنا انتهى عِلْم العباد بالقدر.
وأما كونه تعالى جعل هذا يصلح
(2)
وأعطاه ما يصلح له، وهذا لا يصلح فمنعه ما لا يصلح له= فذاك موجَب ربوبيته وإلهيّته وعلمه وحكمته؛ فإنه سبحانه خالق الأشياء وأضدادها، وهذا مقتضى كماله وظهور أسمائه وصفاته، كما تقدم تقريره.
والمقصود أنه أعدل العادلين في قضائه بالسبب، وقضائه بالمسبَّب، فما قضى في عبده بقضاء إلا وهو واقع في محله الذي لا يليق به غيره، إذ هو الحَكَم العدل، الغني الحميد.
فصل
وقوله: «أسألك بكل اسم هو لك
، سمّيتَ به نفسك، أو أنزلتَه في كتابك، أو علّمتَه أحدًا من خلقك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك».
إنْ كانت الرواية محفوظة هكذا ففيها إشكال؛ فإنه جعل ما أنزله في كتابه، أو علّمه أحدًا من خلقه، أو استأثر به في علم الغيب عنده= قسيمًا لِمَا سمّى به نفسه، ومعلوم أنّ هذا تقسيم وتفصيل لما سمّى به نفسه.
(1)
كذا في «د» «م» : «أراد يكمله» مهملة هنا وفي الموضع الآتي، والأشبه:«تكميله» .
(2)
«م» : «مصلحا» ، والمثبت من «د» أليق بما بعده وأقوم.
فوجه الكلام أن يقال: سمّيتَ به نفسك فأنزلتَه في كتابك، أو علّمتَه أحدًا من خلقك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك، فإن هذه الأقسام الثلاثة تفصيل لما سمّى به نفسه.
وجواب هذا الإشكال: أن «أو» حرف عطف، والمعطوف بها أخص مما قبله، فيكون من باب عطف الخاص على العام؛ فإن ما سمّى به نفسه يتناول جميع الأنواع المذكورة بعده، فيكون عَطْفُ كلِّ جملة منها من باب عَطْف الخاص على العام.
فإن قيل: المعهود من عَطْف الخاص على العام أن يكون بالواو دون سائر حروف العطف؟
قيل: المسوّغ لذلك في الواو هو
(1)
تخصيص المعطوف بالذكر بالواو
(2)
لمرتبة من بين الجنس، واختصاصه بخاصّة تميّزه منه حتى كأنه غيره، أو إرادة
(3)
لذكره مرتين باسمه الخاص وباللفظ العام، وهذا لا فرق فيه بين العطف بالواو أو بأو، مع أن في العطف بأو على العام فائدة أخرى، وهي بناء الكلام على التقسيم والتنويع، كما يُبنى عليه بإمّا، فيقال: سمّيتَ به نفسك: فإما أنزلتَه في كتابك، وإما علمتَه أحدًا من خلقك.
وقد دلَّ الحديث على أن أسماء الله غير مخلوقة، بل هو الذي تكلم بها، وسمَّى بها نفسه، ولهذا لم يقل: بكل اسم خلقتَه لنفسك، ولو كانت مخلوقة
(1)
«د» : «وهو» تحريف يفسد المعنى.
(2)
«بالواو» من «م» .
(3)
«د» : «إرادتين» .
لم يسأله بها؛ فإن الله لا يُقسَم عليه بشيء من خلقه.
فالحديث صريح في أن أسماءه ليست من فعل الآدميين وتسمياتهم.
وأيضًا فإن أسماءه مشتقة من صفاته، وصفاته قديمة قائمة به، فأسماؤها غير مخلوقة.
فإن قيل: فالاسم عندكم هو المسمَّى أو غيره؟
قيل: طالما غلط الناس في ذلك، وجهلوا الصواب فيه.
فالاسم يراد به المسمَّى تارة، ويراد به اللفظ الدال عليه أخرى.
فإذا قلت: قال الله كذا، واستوى الله على عرشه، وسمع الله، ورأى وخلق= فهذا المراد به المسمَّى نفسَه.
وإذا قلت: الله اسم عربي، والرحمن اسم عربي، والرحمن من أسماء الله، والرحمن وزنه فَعْلان، والرحمن مشتقّ من الرحمة ونحو ذلك= فالاسم
(1)
ههنا للمسمَّى
(2)
، ولا يقال غيره؛ لما في لفظ الغير من الإجمال، فإن أريد بالمغايرة أن اللفظ غير المعنى فحق، وإن أريد أن الله سبحانه كان ولا اسم له حتى خَلَق لنفسه اسمًا، أو حتى سمّاه خَلْقه بأسماء من صنعهم= فهذا من أعظم الضلال والإلحاد.
فقوله في الحديث: «سمَّيتَ به نفسك» ، ولم يقل: خلقتَه لنفسك، ولا قال: سَمَّاك به خَلْقك؛ دليلٌ على أنه سبحانه تكلّم بذلك الاسم، وسمّى به
(1)
«د» : «فالاننى» دون إعجام.
(2)
كذا في «د» : «للمسمَّى» ، وطمست في «م» مع سابقتها.
نفسه، كما سمّى نفسه في كتبه التي تكلّم بها حقيقة بأسمائه.
وقوله: «أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك» دليلٌ على أن أسماءه أكثر من تسعة وتسعين، وأن له أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده لا يعلمها غيره.
وعلى هذا فقوله عليه السلام: «إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة»
(1)
لا ينفي أن يكون له غيرها، والكلام جملة واحدة، أي: له أسماء موصوفة بهذه الصفة، كما يقال: لفلان مائة عبد أعدّهم للتجارة، وله مائة فرس أعدّها للجهاد.
وهذا قول الجمهور، وخالفهم ابن حزم، فزعم أن أسماءه تعالى تنحصر في هذا العدد
(2)
.
وقد دلَّ الحديث على أنّ التوسل إليه سبحانه بأسمائه وصفاته أحبُّ إليه وأنفع للعبد من التوسل إليه بمخلوقاته، وكذلك سائر الأحاديث، كما في حديث اسم الله الأعظم
(3)
(4)
.
وفي الحديث الآخر: «أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا
(1)
أخرجه البخاري (2736)، ومسلم (2677) من حديث أبي هريرة.
(2)
انظر: «الفصل» (2/ 126)، «المحلى» (1/ 30).
(3)
«د» : «الاسم الأعظم» .
(4)
تقدم تخريجه (1/ 331).
أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد»
(1)
.
وفي الحديث الآخر: «اللهم إني أسألك بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق»
(2)
.
وكلها أحاديث صحاح، رواها ابن حبان والإمام أحمد والحاكم.
وهذا تحقيق لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180].
وقوله: «أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري» يجمع أصلين: الحياة والنور؛ فإن الربيع هو المطر الذي يحيي الأرض فينبت الربيع، فسأل اللهَ بعبوديته له وتوحيده وأسمائه وصفاته أن يجعل كتابه الذي جعله روحًا للعالمين ونورًا حياةً
(3)
لقلبه؛ بمنزلة الماء الذي تحيى به الأرض، ونورًا له؛ بمنزلة الشمس التي تستنير بها الأرض، والحياة والنور جماع الخير كله.
قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: 122]، وقال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، فأخبر أنه روح تحصل به الحياة، ونور تحصل به الهداية، فأتباعه
(1)
أخرجه أحمد (22965)، وأبو داود (1493)، والترمذي (3475) من طرق عن بريدة مطولًا ومختصرًا، قال الترمذي:«هذا حديث حسن غريب» ، وصححه ابن حبان (891)، والحاكم (1858).
(2)
تقدم تخريجه (2/ 350).
(3)
«د» : «وحياة» .
لهم الحياة والهداية، ومخالفوه لهم الموت والضلال.
وقد ضرب سبحانه المثل لأوليائه وأعدائه بهذين الأصلين في أول سورة البقرة، وفي وسط سورة النور، وفي سورة الرعد، وهما المثل المائي والمثل الناري.
وقوله عليه السلام: «وجلاء حزني، وذهاب همّي وغمي
(1)
» إن جلاء هذا يتضمن إزالة المؤذي الضار، وذلك يتضمن تحصيل النافع السار، فتضمن الحديث طلب أصول الخير كله، ودفع الشر، وبالله التوفيق.
(1)
«م» : «غمي وحزني» ، والمثبت من «د» موافق للرواية التي أوردها المصنف آنفًا.