الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجواب الخامس:
أن يقال: غاية ما ذكرتم أنه يستلزم التسلسل، ولكن أي نوعي التسلسل هو اللازم، التسلسل الممتنع أو الجائز؟ فإن عنيتم الأول مُنِع اللزوم، وإن عنيتم الثاني مُنِع انتفاء اللازم؛ فإن التسلسل في الآثار المستقبلة ممكن، بل واجب، والتسلسل في الآثار الماضية فيه قولان للناس، والتسلسل في العلل والفاعلين محال باتفاق العقلاء، بأن يكون لهذا الفاعل فاعل قبله وكذلك إلى غير نهاية، وأما أن يكون الفاعل الواحد القديم الأبدي لم يزل يفعل ولا يزال، فهذا غير ممتنع.
إذا عُرِف هذا، فالحكمة التي لأجلها يفعل الفعل تكون حاصلة بعده، فإذا كان بعدها حكمة أخرى فغاية ذلك أن يلزم حوادث لا نهاية لها، وهذا جائز، بل واجب باتفاق المسلمين، ولم ينازع فيه إلا بعض أهل البدع من الجهمية والمعتزلة.
فإن قيل: فيلزم من هذا أن لا تحصل الغاية المطلوبة أبدًا.
قيل: بل اللازم أن لا تزال الغاية المطلوبة حاصلة دائمًا، وهذا أمر معقول في الشاهد، فإن الواحد من الناس يفعل الشيء لحكمة يحصل بها محبوبه، ثم يلزم من حصول ذلك المحبوب محبوب آخر يفعل لأجله وهلمّ جرَّا، حتى لو تُصوِّر دوامه أبدًا لكانت هذه حاله وكماله، فلم تزل محبوباته تحصل شيئًا بعد شيء، وهذا هو الكمال الذي لا ينبغي إلا لله سبحانه، فإنه لا تزال مراداته ومحابّه حاصلة على الوجه الذي يريده، مع غناه التام الكامل عن كل ما سواه، وفقر ما سواه إليه من جميع الوجوه، وهل الكمال إلا ذلك، وفواته هو النقص.
وهو سبحانه كتب على نفسه الرحمة والإحسان، فرحمته وإحسانه من
لوازم ذاته، فلا يكون إلا رحيمًا محسنًا، وهو سبحانه إنما أمر العباد بما يحبّه ويرضاه، وأراد لهم من إحسانه ورحمته ما يحبّه ويرضاه، لكن فَرْقٌ بين ما يريد هو سبحانه أن يخلقه ويفعله لما يحصل به من الحكمة التي يحبها، فهذا يفعله سبحانه ولا بدّ من وجوده، وبين ما يريد من العباد أن يفعلوه ويأمرهم بفعله ويحب أن يقع منهم، ولا يشاء خَلْقه وتكوينه، فَفَرْقٌ بين ما يريد خَلْقه وما يأمر به وقد لا يريد خَلْقه
(1)
، فإن الفرق بين ما يريد الفاعل أن يفعله، وما يريد من المأمور أن يفعله فرق واضح.
والله سبحانه له الخلق والأمر، فالخلق فعْله، والأمر قوله، ومتعلّقه فعل عباده، وهو سبحانه قد يأمر عبده ويريد من نفسه أن يعينه
(2)
على فعل ما أمره به؛ لتحصل حِكَمُه
(3)
ومحابّه من ذلك المأمور به، وقد يأمره ولا يريد من نفسه إعانته على فعل المأمور؛ لمَا له من الحكمة التامة في هذا الأمر وهذا الترك، يأمره لئلا يكون له عليه حجة، ولئلا يقول: ما جاءني من نذير، ولو أمرتني لبادرتُ إلى طاعتك، ولم يرد من نفسه إعانته؛ لأن محلّه غير قابل لهذه النعمة.
والحكمة التامة تقتضي أن لا توضع النعم عند غير أهلها، وأن لا تُمنَع من أهلها، قال تعالى:{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح: 26]، وقال:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]، وقال:{(22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23].
ولا يقال: فهلّا سوّى بين خلقه في جَعْلهم كلهم أهلًا لذلك؛ فإن هذا بمنزلة أن يقال: هلّا سوّى بين صورهم وأشكالهم وأعمارهم وأرزاقهم ومعاشهم، وهذا وإن كان ممكنًا؛ فالذي وقع من التفاوت بينهم هو مقتضى حكمته البالغة، وملكه التام وربوبيته، فاقتضت حكمته أنْ سوّى بينهم في الأمر، وفاوت بينهم في الإعانة عليه، كما فاوت بينهم في العلوم والقُدَرِ والغنى والحُسْن والفصاحة وغير ذلك.
والتخصيصات الواقعة في ملكه لا تناقض حكمته، بل هي من أدلّ شيء على كمال حكمته، ولولاها لم يُعرف فضلُه ومَنّه.
قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 7 - 8]، عليم بمن يصلح لهذه النعمة، حكيم في وضعها عند أهلها، ومنعها غير أهلها.
وقال تعالى: {آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)} [الحديد: 28 - 29]، وقال تعالى:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهْوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 2 - 4]، وقال تعالى: {(53) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ} [المائدة: 54]، وقالت الرسل لقومهم:{إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11]، وقال تعالى:{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} الآية [الزخرف: 31 - 32].
وفي حديث «مَثَل المسلمين واليهود والنصارى» ، قال تعالى لأهل الكتاب:«هل ظلمتكم من حقكم من شيء؟ قالوا: لا. قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء»
(1)
.
وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء: 69 - 70]، أي يعلم أين يضع فضله، ومن يصلح له ممن لا يصلح، فلا يمنعه أهله، ولا يضعه عند غير أهله.
وهذا كثير في القرآن، يذكر أن تخصيصه هو فضله ورحمته، فلو ساوى بين الخلائق لم يُعرف قدر فضله ونعمته ورحمته.
فهذا بعض ما في تخصيصه من الحكمة.
وفي «الزهد» للإمام أحمد: أن موسى عليه السلام قال: «يا رب، هلّا سوّيت بين عبادك؟ قال: إني أحببتُ أن أُشْكَر»
(2)
.
(1)
تقدم تخريجه (1/ 155).
(2)
لم أقف عليه في مطبوعة «الزهد» ، وهو فيه (256) من قول آدم، وقد تقدم (1/ 29).