الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن أردت حقائق تلك الألفاظ لم يلزم من كونه يفعل لحكمة أن يتصف بذلك.
الجواب العاشر:
أنه سبحانه إذا كان قادرًا على تحصيل ذلك بدون الوسائط، وهو قادر على تحصيله بها= كان فعْل النوعين أكمل وأبلغ في القدرة، وأعظم في ملكه وربوبيته من كونه لا يفعل إلا أحد النوعين.
والربّ تعالى تتنوّع أفعاله لكمال قدرته وحكمته وربوبيته، فهو سبحانه قادر على تحصيل تلك الحكمة بواسطة إحداث مخلوق منفصل، وبدون إحداثه، بل بما يقوم به من أفعاله اللازمة وكلماته وثنائه على نفسه وحمده لنفسه، فمحبوبه يحصل بهذا وهذا، وذلك أكمل ممن لا يحصل محبوبه إلا بأحد النوعين.
الجواب الحادي عشر:
أن الربّ سبحانه كامل في أوصافه وأسمائه وأفعاله، فلا بدّ من ظهور آثارها في العالم، فإنه محسن ويستحيل وجود الإحسان بدون من يحسن إليه، ورازق فلابدّ من وجود من يرزقه، وغفّار وحليم، وجواد وبَرّ، ولطيف بعباده، ومنّان ووهّاب، وقابض وباسط، وخافض ورافع، ومعزّ ومذلّ، وهذه الأسماء والصفات تقتضي متعلقات تتعلق بها، وآثارًا تتحقق بها، فلم يكن بدّ من وجود متعلقاتها، وإلا تعطلت تلك الأوصاف، وبطلت تلك الأسماء.
فتوسّط تلك الآثار لابدّ منه في تحقّق معاني تلك الأسماء والصفات، فكيف يقال: إنه عبث لا فائدة فيه؟! وبالله التوفيق.
فصل
قال نفاة الحكمة: لو وجب أن يكون خلْقه وأمره معلَّلًا بحكمة وغرض
لكان خلْقُ الله العالَمَ في وقت معين دون ما قبله ودون ما بعده معلّلًا برعاية غرض ومصلحة، ثم ذلك الغرض والمصلحة إما أن يقال: كان حاصلًا قبل ذلك الوقت، أو لم يكن حاصلًا قبله.
فإن كان ما لأجله أوجد الله العالم في ذلك الوقت حاصلًا قبل أن أوجده؛ فيلزم أن يقال: إنه كان موجِدًا له قبل أن لم يكن موجِدًا له، وذلك محال.
وإن قلنا: إن ذلك الغرض والمصلحة لم يكن حاصلًا قبل ذلك الوقت، وإنما حدث في ذلك الوقت، فنقول: حصول ذلك الغرض في ذلك الوقت إما أن يكون مفتقرًا إلى المحدِث أو لا يفتقر، فإن لم يفتقر فقد حدث الشيء لا عن موجِد ومحدِث، وهو محال، وإن افتقر إلى محدِث: فإن افتقر تخصيص إحداث ذلك الغرض بذلك الوقت إلى غرض آخر؛ عاد التقسيم الأول فيه، ولزم التسلسل، وإن لم يفتقر إلى رعاية غرض آخر؛ فحينئذ تكون موجِديّة الله سبحانه وخالقيّته غنية عن الأغراض والمصالح، وهذا هو المطلوب.
قالوا: وهذه الحجة كما أنها
(1)
قائمة في اختصاص العالم بذلك الوقت المعين فهي قائمة في اختصاص كل حادث من الحوادث بوقته المعين.
وملخصها: أنّ إحداث الحادث في وقته إن كان لغرض: فإن كان ذلك الغرض حاصلًا قبله لزم حدوثه قبل حدوثه، وإلا افتقر إلى الإحداث، فإحداثه إن كان لغرض يتسلسل، وإلا ثبت المطلوب.
قال أهل الحكمة: هذه الحجة بعينها مذكورة في ضمن الحجة الثانية
(1)
«د» : «كأنها» .
التي تقدمت، وكأنكم يعجبكم التشبّع
(1)
بكثرة الباطل، وجميع ما أجبناكم به هناك فهو الجواب ههنا بعينه.
فغاية هذا أنه تسلسل في الآثار لا في المؤثِّرات، وتسلسل في الحوادث المستقبَلَة، وذلك جائز، بل واجب باتفاق المسلمين سوى قول الجهم
(2)
والعلّاف، وغاية الأمر أن يكون في الحوادث ما يراد لنفسه، وفيها ما يراد لغيره، والحكمة المطلوبة لنفسها لا تفتقر إلى أخرى تراد لأجلها.
وإن هذا الدليل لو صحت مقدماته ــ وهيهات ــ فإنما يدل على أن أفعاله تعالى لا يجب تعليلها، ولا يلزم من ذلك أن لا يجوز تعليلها، فنفي الوجوب شيء، ونفي الجواز شيء. فهب أنّا سلّمنا الأول، فأين دليل الثاني؟ وغايتها أنها تدل على عدم تعليل بعض الحوادث، لا على عدم تعليل جميعها.
وبالجملة فما تقدم هناك مُغْنٍ لنا عن الإطالة في الأجوبة.
وسر المسألة أن دوام فاعلية الربّ تعالى تُبْطِل هذه الشبهة من أصلها، وقد اتفق المسلمون على دوام فاعليته في المستقبل، والسلف على دوامها في الماضي، وإنما خالف في ذلك كثير من أهل الكلام.
فصل
قال نفاة الحكمة: قد قام الدليل على أنه سبحانه خالق كل شيء، فأي
(1)
«م» : «التشيع» معجمة، والمثبت من «د» أشبه.
(2)
«م» : «الجهمية» تحريف؛ فإن القول بمنع تسلسل الحوادث في الماضي والمستقبل هو قول الجهم خلافًا لعامة أتباعه، انظر:«الصفدية» (1/ 11)، وينظر في حكاية الاتفاق أيضًا:«مجموع الفتاوى» (8/ 380)، «منهاج السنة» (1/ 146).
حكمة أو مصلحة في خلق الكفر والفسوق والعصيان؟
وأي حكمة في خلق مَنْ علم أنه يكفر ويفسق ويظلم، ويفسد الدنيا والدين؟
وأي حكمة في خلق كثير من الجمادات التي وجودها وعدمها سواء؟ وكذلك كثير من الأشجار والنبات والمعادن المعطلة، والحيوانات المهملة، بل العادية المؤذية؟
وأي
(1)
حكمة في خلق السموم والأشياء المضرة؟
وأي حكمة في خلق إبليس والشياطين، وإن كان في خلقهم حكمة فأي حكمة في إبقائه إلى آخر الدهر، وإماتة
(2)
الرسل والأنبياء؟
وأي حكمة في إخراج آدم وحواء من الجنة، وتعريض الذرية لهذا البلاء العظيم، وقد أمكن أن يكونوا في أعظم العافية؟
وأي حكمة في إيلام الحيوانات، وإن كان في إيلام المكلَّفين منها حكمة، فما الحكمة في إيلام غير المكلَّف، كالبهائم والأطفال والمجانين؟
وأي حكمة له في خلقه خلقًا يعذبهم بأنواع العذاب الدائم الذي لا ينقطع؟
وأي حكمة في تسليط أعدائه على أوليائه يسومونهم سوء العذاب: قتلًا وأسْرًا وعقوبة واستعبادًا؟
(1)
نهاية القطعة الموجودة من «ج» .
(2)
«م» : «وإهانة» تحريف.
وأي حكمة في تكليف الثقلين، وتعريضهما بالتكليف لأنواع المشاق والعذاب؟
قالوا: ونحن والعقلاء نعلم علمًا ضروريًا أن خلود أهل النار فيها فِعْلٌ لله، ونعلم ضرورة أنه لا فائدة في ذلك تعود إليه، ولا إلى المعذَّبين، ولا إلى غيرهم.
قالوا: ويكفينا في ذلك مناظرة الأشعري لابن هاشم الجبائي
(1)
حين سأله عن ثلاثة إخوة: مات أحدهم مسلمًا قبل البلوغ، وبلغ الآخران، فمات أحدهما مسلمًا، والآخر كافرًا، فاجتمعوا عند رب العالمين، فبلغ المسلم البالغ الرتبة العلية بعمله وإسلامه.
فقال أخوه: يا ربّ، هلّا رفعتني إلى منزلة أخي المسلم.
فقال: إنه عمل أعمالًا لم تعملها.
فقال: يا رب، فهلّا أحييتني حتى أعمل مثل عمله.
قال: علمتُ أن موتك صغيرًا خير لك؛ إذ لو بلغتَ لكفرت.
فصاح الأخ الثالث من أطباق الجحيم، وقال: يا ربّ، فهلّا أمتني صغيرًا قبل البلوغ كما فعلت بأخي.
فما جوابه؟
(1)
كذا في «د» كأنه سبق قلم من المؤلف، وهي مطموسة في «م» ، صوابه:«لأبي علي الجبائي» كما في المصادر الآتية.
قال: فانقطع الشيخ، ولم يذكر جوابًا
(1)
.
قال نفاة الحكمة: وهذا قاطع في المسألة لا غبار عليه، وقد قال تعالى:{يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} [العنكبوت: 21]، وقال:{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 284]، وقال تعالى:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23]، فردَّ الأمر إلى محض مشيئته، وأخبر أن صدور الأشياء كلها عنها.
وقالوا: وأصل ضلال الخلق هو طلب تعليل أفعال الربّ، كما قال شيخ الإسلام في «تائيته»:
وأصل ضلال الخلق من كل فرقةٍ
…
هو الخوض في فعل الإله بعلّةِ
(2)
فإنهم لما طلبوا علّة أفعاله فأعجزهم العلم بها افترقوا بعد ذلك، فطائفة
(3)
ردت الأمر إلى الطبيعة والأفلاك، وطائفة التزمت مكابرة الحس
(4)
والعقل، وقالوا: إن خلود أهل النار في النار أنفع لهم وأصلح من كونهم في الجنة، وإن إبقاء إبليس يغوي الخلق ويضلهم أنفع لهم من إماتته، وإن إماتة الأنبياء أصلح للأمم من إبقائهم بينهم، وإن تعذيب الأطفال خير لهم من رحمتهم!
(1)
انظر: «وفيات الأعيان» (4/ 267)، «منهاج السنة» (3/ 198).
(2)
«التائية» (111).
(3)
في الأصول: «وطائفة» ، والمثبت أليق بالسياق.
(4)
«م» : «الخبر» .
إلى غير ذلك من المحالات التي قادهم إليها الخوض في تعليل أفعال من لا يُسأل عما يفعل.
فلذلك قلنا: إن الصواب القول بعدم التعليل، وتخلصنا من الحبائل والأشراك التي وقعتم فيها.
قال أهل الحكمة: ليست هذه الأسئلة والاعتراضات التي قدحتم بها في حكمة أحكم الحاكمين بأقوى من الأسئلة والاعتراضات التي قدح بها أهل الإلحاد في وجوده سبحانه، وقد أقاموا أربعين شبهة تنفي وجوده. وكذلك اعتراضات المكذبين لرسله، وقد حكيتم أنتم عنهم ثمانين اعتراضًا. وكذلك الاعتراضات التي قدح بها المعطلة في إثبات صفات كماله، قد علمتم شأنها وكثرتها. وكذلك الاعتراضات التي نفي بها الجهمية علوّه على خلقه، واستواءه على عرشه، وتكلّمه بكتبه وتكليمه لعباده. ولقد علمتم الاعتراضات التي اعترض بها أهل الفلسفة على كونه خالقًا للعالَم في ستة أيام، وعلى كونه يقيم الناس من قبورهم ويبعثهم إلى دار السعادة والشقاء، ويبدّل هذا العالم ويأتي بغيره. واعتراضات هؤلاء وأسئلتهم أضعاف اعتراضات نفاة حكمته وغايات أفعاله المقصودة، وكذلك اعتراضات نفاة القدر وأسئلتهم إلى غير ذلك.
وقد اقتضت حكمةُ أحكم الحاكمين أن أقام في هذا العالم لكل حق جاحدًا، ولكل صواب معاندًا، كما أقام لكل نعمة حاسدًا، ولكل شر رائدًا، وهذا من تمام حكمته الباهرة، وقدرته القاهرة؛ ليتم عليهم كلمته، وينفذ فيهم مشيئته، ويُظهر فيهم حكمته، ويقضي بينهم بحكمه، ويفاضل بينهم بعلمه، ويُظهر فيهم آثارَ صفاته العليا وأسمائه الحسنى، ويتبين لأوليائه وأعدائه يوم
لقائه أنه لم يُخِلّ بحكمة، ولم يخلق خلقه عبثًا، ولا تركهم سُدى، وأنه لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلًا، وأن له الحمد التام الكامل على جميع ما خلقه وقدره وقضاه، وعلى ما أمر به ونهى عنه، وعلى ثوابه وعقابه، وأنه لم يضع من ذلك شيئًا إلا في محلّه الذي لا يليق به سواه.
قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا} [النحل: 38 - 39].
وإذا تبين ذلك لأهل الموقف، ونفذ فيهم قضاؤه الفصل، وحكمه العدل؛ نطق الكونُ أجمعُه بحمده، كما قال تعالى:{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)} [الزمر: 75].
وجواب هذه الأسئلة من وجوه:
أحدها: أن الحكمة إنما تتعلّق بالحدوث والوجود، والكفر والشرور وأنواع المعاصي راجعة إلى مخالفة نهي الله ورسوله، وترْك ما أمر به، وليس ذلك من متعلَّق الإيجاد في شيء، ونحن إنما التزمنا أن ما فعله الله وأوجده فله فيه حكمة وغاية مطلوبة، وأما ما تركه سبحانه ولم يفعله فإنه وإن كان إنما تركه لحكمة في ذلك فلم يدخل في كلامنا، فلا يرد علينا.
وقد قدمنا: أن الشر ليس إليه بوجه؛ فإنه عدَم الخير وأسبابه، والعدَم ليس بشيء كاسمه.
فإذا قلنا: إن أفعال الرب تعالى واقعة لحكمة وغاية محمودة؛ لم يرد علينا ترْكه.