الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بآراء الرجال، وسمّوا ذلك عدلًا وتوحيدًا بالزور والبهتان، وتلك تسمية ما أنزل الله بها من سلطان، فالعدل قيامه بالقسط في أفعاله، والتوحيد إثبات صفات كماله، {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 18 - 19]، فهذا التوحيد والعدل الذي جاء به المرسلون، وذلك التوحيد والعدل الذي جاء به المعطِّلون.
والمقصود أن هذه المناظرة وإن أبطلت قول هؤلاء وزلزلت قواعدهم؛ فإنها لا تبطل حكمة الله التي اختص بها دون خلقه، وطوى بساط الإحاطة بها عنهم، ولم يطلعهم منها إلا على ما نسبته إلى ما خفي عنهم كقطرة من بحار الدنيا.
فكم لله سبحانه من حكمة في ذلك الذي اخترمه صغيرًا، وحكمةٍ في الذي مَدّ له في العمر حتى بلغ وأسلم، وحكمةٍ في الذي أبقاه حتى بلغ وكفر، ولو كان كل مَن عَلِم أنه إذا بلغ يكفر يخترمه صغيرًا لتعطّل الجهاد والعبودية التي يحبها الله ويرضاها، ولم يكن هناك معارِض، وكان الناس أمة واحدة، ولم تظهر آياته وعجائبه في الأمم، ووقائعه وأيامه في أعدائه، وإقامة الحجج وجدال أهل الباطل بما يدحض شبههم، وينصر الحق ويظهره على الباطل، إلى أضعاف أضعاف ذلك من الحِكَم التي لا يحصيها إلا الله سبحانه.
والله سبحانه يحب ظهور أثر أسمائه وصفاته في الخليقة، فلو اخترم كل مَن عَلِم أنه يكفر إذا بلغ لفات ذلك، وفواته منافٍ لكمال تلك الأسماء والصفات واقتضائها لآثارها، وقد تقدم بسط ذلك أتم من هذا.
الوجه الأربعون:
قوله: «إنه سبحانه ردّ الأمر إلى محض مشيئته بقوله
تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} [العنكبوت: 21]، وقوله:{فَيَغْفِر لِّمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّب مَّن يَشَاءُ} [البقرة: 284]، وقوله:{فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر: 8]، وقوله:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23]».
فهذا كله حق، ولكن أين فيه إبطال حكمته وحمده والغايات المحمودة المطلوبة بفعله، وأنه لا يفعل شيئًا لشيء، ولا يأمر بشيء لأجل شيء، ولا سبب لفعله ولا غاية؟!
أَفَتَرى أصحابَ الحكمة والتعليل يقولون: إنه لا يفعل بمشيئته، أو أنه يُسأل عما يفعل؟
بل يقولون: إنه يفعل بمشيئة مقارنة للحكمة والمصلحة، ووضع الأشياء مواضعها، وإنه يفعل ما يشاء بأسباب وحِكَم، ولغايات مطلوبة، وعواقب حميدة، فهم مثبتون لملكه وحمده، وغيرهم يثبت ملكًا بلا حمد، أو نوعًا من الحمد مع هضم المُلْك، إذ الربّ
(1)
تعالى له كمال المُلْك وكمال الحمد، فكونه
(2)
يفعل ما يشاء لا يمنع أن يشاء بأسباب وحِكَم وغايات، وأنه لا يشاء إلا ذلك.
وأما قوله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، فهذا لكمال علمه وحكمته، لا لعدم ذلك.
وأيضًا فسياق الآية في معنى آخر، وهو إبطال إلهية مَن سواه، وإثبات
(1)
«م» : «والرب» .
(2)
«م» : «وكونه» .
إلهيته له وحده؛ فإنه سبحانه قال: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 21 - 23]، فأين في هذا ما يدل على إبطال الحكمة والتعليل بوجه من الوجوه؟!
ولكن أهل الباطل يتعلقون بألفاظ ينزلونها على باطلهم لا تدل عليه، وبمعان متشابهة يشتبه فيها الحق بالباطل، فعمدتهم المتشابه من الألفاظ والمعاني، فإذا فُصِّلت وبُيِّنت تبيّن أنها لا دلالة فيها، وأنها مع ذلك قد تدل على نقيض مطلوبهم، وبالله التوفيق.