الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الثالث والعشرون:
أن هذه الجمادات والحيوانات المختلفة الأشكال والمقادير والصفات والمنافع والقوى والأغذية، والنباتات التي هي كذلك= فيها من الحِكَم والمنافع ما قد أكثرت الأمم في وصفه وتجربته على ممر الدهور، ومع ذلك فلم يصلوا منه إلا إلى أيسر شيء وأقله، بل لو اتفق جميع الأمم لم يحيطوا علمًا بجميع ما أُودِع واحدٌ من ذلك النوع من الحِكَم والمصالح.
هذا إلى ما في ضمن ذلك من الاعتبار والدلالة الظاهرة على وجود الخالق ومشيئته وإرادته واختياره وعلمه وقدرته وحكمته، فإن المادة الواحدة لا تحتمل بنفسها هذه الصور الغريبة والأشكال المتنوعة والمنافع والصفات ولو تركبت مع غيرها، فليس حدوث هذه الأنواع والصور بنفس التركيب أيضًا، ولا هو مقتضٍ له، فحصول هذا التنوع والتفاوت والاختلاف في الحيوان والنبات من أعظم آيات الرب تعالى، ودلائل ربوبيته وقدرته وحكمته وعلمه، وأنه فَعَّال لما يريد اختيارًا ومشيئةً، فتنويع مخلوقاته وحدوثها شيئًا بعد شيء من أظهر الدلالات.
وتأمل كيف أرشد القرآن إلى ذلك في غير موضع، كقوله تعالى:{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4].
وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ
(1)
} [الروم: 22].
وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً
(2)
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 10 - 11].
فتأمّل كيف نبّه سبحانه باختلاف الحيوانات في آلة المشي مع اشتراكها في المادة على الاختلاف فيما وراء ذلك من أعضائها وأشكالها وقواها وأفعالها وأغذيتها ومساكنها، فنبّه على الاشتراك والاختلاف، فنشير إلى يسير منه.
فالطير كلها تشترك في الريش والجناح، وتتفاوت فيما وراء ذلك أعظم تفاوت، واشتراك ذوات الحوافر في الحافر كالفرس والحمار والبغل، وتفاوتها فيما وراء ذلك، واشتراك ذوات الأظلاف في الظِّلْف وتفاوتها في غير ذلك، واشتراك ذوات القرون فيها وتفاوتها في الخلق والمنافع والأشكال، واشتراك حيوانات الماء في كونها سابحة تأوي فيه وتتكون فيه
(3)
وتفاوتها
(1)
«د» «م» : «لقوم يسمعون» .
(2)
«د» «م» : «لآيات» .
(3)
«د» : «تأوي فيها، وتتكوين فيها» مهملات، وفي الجملة شيء، والله أعلم.
أعظم تفاوت، عجز البشر إلى الآن عن حصره، واشتراك الوحوش في البعد عن الناس، والنِّفَار عنهم وعن مساكنهم، وتفاوتها في صفاتها وأشكالها وطبائعها وأفعالها أعظم تفاوت، يعجز البشر عن حصره، واشتراك الماشي منها على بطنه في ذلك وتفاوت نوعه، واشتراك الماشي على رجلين في ذلك وتفاوت نوعه أعظم تفاوت.
وكل من هذه الأنواع له علم وإدراك وتحَيُّل على جلب مصالحه ودفع مضاره، يعجز عن كثير منها نوع الإنسان، فمِن أعظم الحِكَم الدلالةُ الظاهرة على معرفة الخالق الواحد المستولي بقوته وقدرته وحكمته على ذلك كله، بحيث جاءت كلها مطيعة منقادة منساقة إلى ما خلقها له على وفق مشيئته وحكمته، وذلك أدلّ شيء على قوته القاهرة وحكمته البالغة وعلمه الشامل، فتُعلم إحاطة قدرة واحدة، وعلم واحد، وحكمة واحدة ــ أعني بالنوع ــ من قادر واحد، عالِم واحد، حكيم واحد، بجميع هذه الأنواع وأضعافها مما لا تعلمه العقول البشرية، كما قال تعالى:{وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]، وقال:{(37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا} [الحاقة: 38 - 39].
فتجتمع غايات فعله وحكمة خلقه وأمره إلى غاية واحدة هي منتهى الغايات، وهي إلهيته الحق التي كل إلهية سواها باطل ومحال، فهي غاية الغايات، ثم يُنزَل منها إلى غايات أُخَر، هي وسائل بالنسبة إليها، وغايات بالنسبة إلى ما دونها، {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42].
فليس وراءه معلوم ولا مطلوب ولا مذكور إلا العدم المحض، وليس في الوجود إلا الله ومفعولاته وهي آثار أفعاله، وأفعاله آثار صفاته، وصفاته قائمة به من لوازم ذاته.
والمقصود أن من الغايات المطلوبة
(1)
العلم بإحاطة عِلم واحد من عالِم واحد، وفِعْل واحد من فاعل واحد، وقدرة واحدة من قادر واحد، وحكمة واحدة من حكيم واحد، بجميع العالم على اختلاف ما فيه. واجتمعت غايات فعله وأمره إلى غاية واحدة، وذلك من أظهر أدلة توحيد الإلهية، كما ابتدأت كلها من خالق واحد، وقادر واحد، ورب واحد.
ودلَّ على الأمرين ــ أعني توحيد الربوبية والإلهية ــ النظام الواحد والحكمة الجامعة للأنواع المختلفة مع كثرتها وتعددها، ودلّ افتقار بعضها إلى بعض، وتشبّك بعضها ببعض، ومعاونة بعضها لبعض، وارتباطه به= على أنها صنع فاعل واحد، وربّ واحد.
فلو كان معه آلهة وأرباب غيره لذهب كل إله بخلقه واستبدّ به، ولم يرضَ لنفسه أن يحتاج خلقُه إلى خَلْقِ غيره، كما لا ترضى ملوك الدنيا أن يحتاج مملوكُ أحدِهم إلى مملوكِ غيرِه
(2)
؛ لما في ذلك من النقص والعيب المنافي لكمال الاقتدار والغنى، ودلَّ انتظامها في الوجود، ووقوعها مع تباينها، واختلافها على أكمل الوجوه وأحسنها، على انتهائها إلى غاية واحدة ومطلوب واحد هو إلهها الحق، ومعبودها الأعلى، الذي لا إله لها غيره، ولا معبود لها سواه.
فتأمل كيف دلّ اختلاف الموجودات وتباينها، واجتماعها فيما اجتمعت فيه، وافتراقها فيما افترقت فيه على إله واحد، وربّ واحد، ودلت على صفات كماله ونعوت جلاله.
(1)
«م» : «الآيات المطلوبة» .
(2)
«م» : «غيره مثله» ، وهذه الزيادة مفسدة للمعنى.
فالموجودات بأسرها كعسكر واحد، له مَلِك واحد، وسلطان واحد، يحفظ بعضه ببعض، وينظم مصالح بعضه ببعض، ويسد خلل بعضه ببعض، فيمد هذا بهذا، ويقوي هذا بهذا، وينقص من هذا فيزيده في الآخر، {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ اَلْمَيْتِ وَتُخْرِجُ اُلْمَيْتَ مِنَ الْحَيِّ} [آل عمران: 27]، ويبيد هذا فينشئ مكانه من جنسه ما يقوم مقامه، ويسدّ مسده، فيشهد حدوث الثاني أن الذي أحدثه وأوجده هو الذي أحدث الأول لا غيره، وأن حكمته لم تتغير، وعلمه لم ينقص، وقدرته لم تضعف، وأنه لا يتغير بتغير ما تغير منها، ولا يضمحل باضمحلاله، ولا يتلاشى بتلاشيه، بل هو الحي القيوم، العزيز الحكيم.
هذا إلى ما في لوازم مكثها وانتظام بعضها ببعض، وما يصدر عنها من الأفعال والآثار من حِكَم وأفعال أخرى وغايات أُخَر حُكْمها حُكْم موادها وحواملها، كما نشاهده في أشخاصها وأعيانها.
فتأمل
(1)
ذلك في جزئية واحدة: أنك ترى المعدة تشتاق الغذاء وتجتذبه إليها، فانظر لوازم ذلك قبل تناوله، ولوازمه بعد تناوله، وما يترتب على تلك اللوازم من عمارة الدنيا، فإذا جذبَتْه إليها أنضجتْه وطبختْه، كما تُنْضِج القدرُ ما فيها، فتنضجه الإنضاج الذي تعده لتغذي جميع أجزاء البدن وقواه وأرواحه به، وهي وإن أنضجته لأجل نصيبها الذي ينالها منه فهو قليل من كثير بالنسبة إلى انتفاع غيرها به، فتدفع ما فضل عن غذائها عنها إلى من هو شديد الحاجة إليه على قدر حاجته، من غير أن يقصد ذلك أو يشعر به،
(1)
«د» : «مثال» .
ولكن قد قَصَده وأحكمه مَن هو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، بحكمته ولطفه، وساقه في المجاري التي لا تنفذ فيها الإبر لدقة مسالكها، حتى أوصله إلى المحتاج إليه، الذي لا صلاح له إلا بوصوله إليه.
وكانت طبيعة الكبد ومزاجها في ذلك تلي طبيعة المعدة، وفعلها يلي فعلها.
وكذلك الأمعاء وباقي الأعضاء كالكبد للقلب في إعداد الغذاء، والقلب للرئة، والرئة للقلب في إعداد الهواء وإصلاحه.
فالأعضاء الموجودة في الشخص إذا تأملتها وتأملت أفعالها ومنافعها، وما تضمنه كل واحد منها من حكمة اختصت به، كشكله ووصفه ومزاجه ووضعه من الشخص بذلك الموضع المعين= علمت علمًا يقينيًا أن ذلك صادر عن خالق واحد، ومدبّر واحد، وحكيم واحد.
فانتقِلْ من هذا إلى أشخاص العالم شخصًا شخصًا من النوع الإنساني؛ تجد الحكمة الواحدة الظاهرة في تلك الأفراد الكثيرة قد نفعت بعضهم ببعض، وأعانت بعضهم ببعض، حَرّاثًا لزَرّاع، وزَرّاعًا لحاصد، وحائكًا لخياط، وخياطًا لنجار، ونجارًا لبنّاء، فهذا يعين هذا بيده، وهذا برجله، وهذا بعينه، وهذا بأذنه، وهذا بلسانه، وهذا بماله
(1)
، إذ لا يقدر أحدهم على جميع مصالحه، ولا يقوم بحاجاته، ولا توجد في كل واحد واحد
(2)
منهم جميع خواص نوعه.
(1)
زاد في «د» : «وهذا» ، وبعده بياض بمقدار كلمة.
(2)
كذا في النسختين بتكرار «واحد» .
فهم بأشخاصهم الكثيرة كإنسان واحد يقوم بعضه بمصالح بعض، قد كَمَّل خواص الإنسانية في صفاته وأفعاله وصنائعه وما يراد منه، فإن الواحد منهم لا يفي بأن يجمع جميع الفضائل العلمية والعملية والقوة والبقاء، فجُعِل ذلك في النوع الإنساني بجملته.
والله سبحانه قد فرّق كمالات النوع في أشخاصه، وجعل لكل شخص منها ما هو مستعد قابل له، بحيث لو قبل أكثر من ذلك لأُعْطِيَه؛ فإنه جواد لذاته قد فاض جوده وخيره على العالم كله، وفضُل عنه أضعاف ما فاض عليه، فهو يفيضه على تعاقب الآنات أبدًا، ولذلك يَفضُل في الجنة فَضْلٌ عن أهلها فينشئ الله لها خلقًا يسكنهم فَضْلها.
وإنما يتخصص فضله بحسب استعداد القوابل والمُعَدّات، وذلك بمشيئته وحكمته، فهو الذي أوجدها، وهو الذي أعدها، وهو الذي أمدها.
ولمّا كان جوده وفضله أوسع من حاجة الخلق لم يكن بُدّ من بقاء كثير منه مبذولًا في الوجود مهملًا، وهذا كضوء الشمس مثلًا، فإن مصالح الحيوان لا تتم إلا به، وهو مشرق على مواضعَ فَضْلة عن حوائج الحيوان
(1)
، وكذلك المطر والنبات وسائر النِّعَم، ومع ذلك فلم يعطل وجودها عن حِكَم ومصالح وعبر ودلالات، وعطاء الربّ ونعمه أوسع من حوائج خلقه، فلابُدّ أن يبقى في المياه والأقوات والنبات وغير ذلك أجزاء مهملة.
ولا يقال: ما الحكمة في خلقها؟ فإن هذا سؤال جاهل ظالم؛ فإن
(1)
«د» : «حوائج بني آدم الحيوان» .
الحكمة في خلق الأرض وما عليها ظاهرة لكل بصير، والمعمور منها بعضها لا كلّها، والرب تعالى واسع الجود دائمه، فجوده وخيره عام دائم فلا يكون إلا كذلك، فإن ذلك من لوازم علمه وقدرته وحكمته، ولعلمه وقدرته وحكمته العموم والشمول والكمال المطلق بكل اعتبار.
فيُعلم من استقراء العالَم وأحواله انتهاؤه إلى عالِم واحد، وقادر واحد، وحكيم واحد، قد أتقن نظامه أحسن الإتقان، وأوجده على أتم الوجوه، وهو سبحانه ناظمُ أفعال الفاعلين مع كثرتها، ورابطُ بعضها ببعض، ومعينُ بعضها ببعض، وجاعلُ بعضها سببًا لبعض، وغايةً لبعض، وهذا من أدلّ الدليل على أنه خالق واحد، وربّ واحد، وقادر واحد.
دلَّ على قدرته كثرةُ أفعاله وتنوعها في الوقت الواحد، وتعاقبها على تتالي الآنات، وتفنّن تصرفاته في مخلوقاته على كثرتها.
ودلَّ على علمه وحكمته كون كل صغير وكبير، ودقيق وجليل داخلًا في النظام الحِكَمِي، ليس فيها شيء سُدى، حتى مسام الشعر في الجلد، ومَراشح اللعاب في الفم، ومجاري الشُّعَب الدقيقة من العروق في أصغر الحيوانات، التي تعجز عنها أبصارنا، ولا تنالها قدرتنا، وهذا فيما دقّ لصغره.
وفيما جَلّ لعظمه، كالرياح الحاملة للسحب إلى الأرض الجُرُز التي لا نبات بها، فيمطرها عليها، فيُخْرِجُ بها نباتًا، ويُحْيي بها حيوانًا، ويجعل فيها خزائن من الطعام والشراب والأقوات والأدوية.
دع ما فوق ذلك
(1)
من تسخير الشمس والقمر والنجوم، واختلاف
(1)
«م» : «وغيرها، وفوق ذلك» .
مطالعها ومغاربها لإقامة دولة الليل والنهار، وفصول العام التي بها نظام مصالح مَن عليها.
فإذا تأملت العالم وجدته كالبيت المبني المُعَدّ فيه جميع عتاده، فالسماء سقفه، والأرض بساطه، والنجوم زينته، والشمس سراجه، والعقلاء سكّانه
(1)
، والليل سَكَنهم، والنهار معاشهم، والمطر سقياهم، والنبات غذاؤهم ودواؤهم وفاكهتهم، والحيوان خدمهم، ومنه قوتهم ولباسهم، والجواهر كنوزهم وذخائرهم، كل شيء منها لما يصلح له، فضروب النبات مهيَّأة لجميع حاجاتهم، وصنوف الحيوانات معدّة لجميع مصالحهم، وذلك أدلّ دليل على وحدانية خالقه وعلمه وحكمته وقدرته
(2)
.
فلم يكن لون السماء أزرق اتفاقًا، بل لحكمة باهرة؛ فإن هذا اللون أشدّ الألوان موافقة للبصر، حتى إن مِنْ وَصْف الأطباء لمن أصابه ما أضرّ ببصره أو كَلّ بصره
(3)
؛ إدمان النظر إلى الخُضْرة وما قرب منها إلى السواد، فجعل أحكم الحاكمين أديم السماء بهذا اللون ليمسك الأبصار الراجعة فيه، فلا يَنْكَأ فيها، فهذا الذي أدركه الناس بعد الفكر والتجربة قد وُجِد مفروغًا منه في الخِلْقة.
ولم يكن طلوع الشمس وغروبها على هذا النظام لغير علة ولا حكمة
(1)
«د» : «ومصالح سكانه» ، «م»:«والمصالح سكانه» ، وصوّبها في الحاشية، وانظر لنحو هذا المثال:«الصواعق المرسلة» (4/ 1567).
(2)
هذه الفقرة وأضرابها الآتيات مستفادة من مواضع متفرقة من «الدلائل والاعتبار» المنسوب للجاحظ.
(3)
«د» : «كلم بصره» .
مطلوبة، فكم من حكمة ومصلحة في ذلك، من إقامة الليل والسكن فيه، والنهار والمعاش فيه، فلو جعل الله عليهم الليل سرمدًا أو النهار سرمدًا لتعطلت مصالحهم وأكثر معايشهم، والحكمة في طلوعها أظهر من أن تُنْكَر.
ولكن تأمل الحكمة في غروبها، إذ لولا ذلك لم يكن للناس هدوء ولا قرار ولا راحة، وكان الكدّ الدائم يَنْكَأ في أبدانهم ويسرع فسادها، وكان ما على الأرض يحترق بدوام شروق الشمس من حيوان ونبات، فصار النور والظلمة على تضادهما متعاونين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم وقوامه ونظامه.
وكذلك الحكمة في ارتفاع الشمس وانحطاطها لإقامة هذه الأزمنة الأربعة، وما في ذلك من الحكمة.
فإن في الشتاء تغور الحرارة في الشجر والنبات فتتولد من ذلك مواد الثمار، ويكثف الهواء فينشأ منه السحاب، ويحدث المطر الذي به حياة الأرض والحيوان، وتشتد أفعال الحيوان، وتقوى الأفعال الطبيعية.
وفي الربيع تتحرك الطبائع، وتظهر المواد الكامنة في الشتاء.
وفي الصيف يسخن الهواء فتنضج الثمار، وتتحلّل فضول الأبدان، ويجفّ وجه الأرض، فيتهيأ للبناء وغيره.
وفي الخريف يصفو الهواء ويعتدل، فيذهب بسَوْرة حر الصيف
(1)
وسمومه، إلى أضعاف أضعاف ذلك من الحكم.
(1)
«م» : «الشمس» ، وانظر:«مفتاح دار السعادة» (1/ 208).
وكذلك الحكمة في تنقّل الشمس، فإنها لو كانت واقفة في موضع واحد لفاتت مصالح العالم، ولما وصل شعاعها إلى كثير من الجهات؛ لأن الجبال والجدران تحجبها عنها، فاقتضت الحكمة الباهرة أن جعلت مطلع أول النهار من المشرق، فتشرق على ما قابلها من وجه الغرب، ثم لا تزال تغشى وجهًا بعد وجه حتى تنتهي إلى المغرب
(1)
، فتشرق على ما استتر عنها أول النهار، فتأخذ جميع الجهات منها قسطًا من النفع.
وكذلك الحكمة الباهرة في انتهاء مقدار الليل والنهار إلى هذا الحد، فلو زاد مقدار أحدهما زيادة عظيمة لتعطلت المصالح والمنافع، وفسد النظام.
وكذلك الحكمة في ابتداء القمر دقيقًا، ثم أخْذه في الزيادة حتى يكمل، ثم يأخذ في النقصان حتى يعود إلى حالته الأولى، فكم في ذلك من حكمة ومصلحة ومنفعة للخلق؛ فإنه
(2)
بذلك يعرفون الشهور والسنين والآجال وأشهر الحج والتاريخ ومقادير الأعمار ومدد الإجارات وغيرها، وهذا وإن كان يحصل بالشمس إلا أن معرفته بالقمر وزيادته ونقصانه أمر يشترك فيه الناس كلهم.
وكذلك الحكمة في إنارة القمر والكواكب في ظلمة الليل، فإنه مع الحاجة إلى الليل وظلمته لهدوء الحيوان وبرد الهواء عليه وعلى النبات؛ لم يجعل الليل ظلامًا محضًا لا ضياء فيه، فلا يمكن فيه سفر ولا عمل، وربما احتاج الناس إلى العمل بالليل لضيق الوقت عليهم في النهار ولشدة الحر، فيتمكنون في ضوء القمر من أعمال كثيرة، وجُعِل نوره باردًا ليقاوم حرارة نور
(1)
«د» : «الغرب» .
(2)
«د» «م» : «فإن» ، والسياق يقتضي المثبت.
الشمس فيه
(1)
وسمومه، فيبرد سمومه فيعتدل الأمر، ويكسر كيفية كل منهما كيفية الآخر، ويزيل ضررها.
وكذلك الحكمة في خلق النجوم، فإن فيها من الهداية في البر والبحر، والاستدلال على الأوقات، وزينة السماء وغير ذلك ما لم يكن حاصلًا بمجرد الاتفاق، كما يقوله نفاة الحكمة.
واقتضت هذه الحكمة أن جُعِلت نوعين: نوعًا منها يظهر وقتًا ويحتجب آخر، ونوعًا آخر لا يزال ظاهرًا غير مُحْتَجِب، بل جُعِل ظاهرًا بمنزلة الأعلام التي يهتدي بها الناس في الطرقات المجهولة، فهم ينظرون إليها متى أرادوا، ويهتدون بها إلى حيث شاؤوا، وجُعِلت الحكمة في النوع الأول الاستدلال بظهوره على أمور تقارنه، متى طلع في وقت معيّن دلّ على تلك الأمور، فقامت المصلحة والحكمة بالنوعين، مع ما في خلقها من حكم أخرى ومصالح لا يهتدي إليها العباد، فما خلق الله شيئًا سدى.
وقد نظم الله سبحانه الحوادث الأرضية بالأرواح والأجرام العلوية أكمل نظام، تعجز عقول البشر عن الإحاطة ببعضه، وقد استفرغت الأمم السالفة قوى أذهانها في إدراك ذلك فلم تصل منه إلا إلى ما لا نسبة له إلى ما خفي عليها بوجه ما.
وقد جعل الخلّاق العليم سبحانه النجوم فرقتين: فرقة منها لا تَرِيمُ مراكزها
(2)
من الفَلَك ولا تسير إلا بسيره، وفرقة أخرى مطلقه تتنقّل في
(1)
أي في النهار.
(2)
أي لا تبرح منازلها ولا تغادرها، من رام يريم رَيَّمْا، انظر:«الجمهرة» (2/ 805).
البروج وتسير بأنفسها غير سيرها بفَلَكها، فلكل منها مسيران مختلفان: أحدهما عام مع الفَلَك نحو الغرب، والآخر خاص لنفسه نحو المشرق.
وقد شُبِّه هذا النوع بنملة تدب على رحا، والرحا تدور ذات اليمين، والنملة تدور ذات الشمال، فللنملة في تلك الحال حركتان مختلفتان: إحداهما حركة بنفسها تتوجه أمامها، والأخرى بغيرها هي مقهورة عليها تبعًا للرحى، تجذبها إلى خلفها، فلهذا النوع من النجوم حركتان مختلفتان على وزن وتقدير لا تعدوه.
فَزَعَم نفاة الحكمة أن ذلك أمر اتفاقي لا لحكمة ولا لغرض مقصود.
فإن قلت: فما الغرض المقصود بذلك، وأي حكمة فيه؟
قيل: استدِلَّ بما عرفتَ من الحكمة على ما خفي عليك منها، ولا تجعل ما خفي عليك دليلًا على بطلانها.
مع أن من بعض الحِكَم في ذلك أنها لو كانت كلها راتبة لبطلت الدلالات التي تكون من تنقّل المتنقِّلة منها، ومسيرها في كل واحد من البروج، كما يُستدل على أمور كثيرة وحوادث جمّة بتنقّل الشمس والقمر والسيارات في منازلها، ولو كانت كلها متنقّلة لم يكن لسيرها منازل تعرف ولا رسم يقاس عليه؛ فإنه إنما يقاس مسير المتنقّلة منها بتنقّلها في البروج الراتبة، كما يقاس سير السائر على الأرض بالمنازل التي يقطعها، وبالجملة فلو كانت كلها بحال واحدة لبطل النظام الذي اقتضته الحكمة التي جعلها هكذا، فذلك تقدير العزيز العليم، وصنع الربّ الحكيم.
وكيف يرتاب ذو بصيرة أن ذلك كله تقديرُ مُقَدِّرٍ حكيم، أتقن ما صنعه،
وأحكم ما دبّره، ويعرف بما فيه من الحِكَم والمصالح والمنافع إلى خلقه؟!
فشهدت العقول والفِطَر بأنه ذو الحكمة الباهرة، والقدرة القاهرة، والعلم التام المحيط، وأنه لم يخلق ذلك باطلًا، ولا من الحكمة عاطلًا.
وكذلك الحكمة في تعاقب الحر والبرد على التدريج على أبدان الحيوان والنبات، فإن قيامهما وكمالهما لمّا كان بذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن لا يدخل أحدهما على الآخر وهلة فلا تحتمله، بل التدريج قليلًا قليلًا إلى أن ينتهي منتهاه، ويحصل المقصود به من غير ضرر يعم.
وهذا كله بأسباب هي منشأ الحِكَم والمصالح، فلا تُبْطِل السببَ بإثبات الحكمة، ولا الحكمةَ بالسبب، ولا السببَ والحكمةَ بالمشيئة= فتكونَ من الذين بخس حظهم من السمع والعقل
(1)
.
وكذلك الحكمة في خلق النار على ما هي عليه كامنة في حاملها، فإنها لو كانت ظاهرة كالهواء والماء والتراب لأحرقت العالم وما فيه، ولم يكن بدّ من ظهورها في الأحايين للحاجة إليها، فجُعِلت مخزونة في الأجسام تُورَى عند الحاجة إليها، فتمسك بالمادة والحطب ما احتيج إلى بقائها، ثم تخبو إذا استغنى عنها، فجُعِلت على خلقة وتقدير وتدبير حصل به الاستمتاع بها والانتفاع مع السلامة من ضررها.
ثم في النار خَلّة أخرى، وهي أنها مما خُصّ به الإنسان دون سائر الحيوان، فإن الحيوانات لا تستعمل النار ولا تستمتع بها، ولمّا اقتضت الحكمة الباهرة ذلك اغتنت الحيوانات عنها في لباسها وأقواتها، فأعطيت من
(1)
انظر: «مفتاح دار السعادة» (1/ 610 - 612).
الشعور والأوبار ما يغنيها عنها، وجُعِلت أغذيتها بالمفردات التي لا تحتاج إلى طبخ وخَبْز.
ولما كانت حاجة الإنسان إليها شديدة جُعِل له من الأسباب والآلات ما يتمكّن به من إيرائها إذا شاء، ومن إبطالها.
ومن حِكَمها هذه المصابيح التي يوقدها الناس، فيتمكنون بها من كثير من حاجاتهم، ولولاها لكانوا نصف أعمارهم بمنزلة أصحاب القبور.
وأما منافعها في إنضاج الأغذية والأدوية والدفء فلا يخفى.
وقد نبَّه تعالى على ذلك كله بقوله: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة: 71 - 73]، أي: تذكّر بنار الآخرة، فيحترز منها، ويستمتع بها المُقْوون وهم النازلون بالقِيّ
(1)
وهي الأرض الخالية، وخُص هؤلاء بالذكر لشدة حاجتهم إليها في خَبْزهم وطبيخهم حيث لا يجدون ما يشترونه، فتغنيهم عن ما يصنعونه بالنار.
وكذلك الحكمة في خلق هذا النسيم وما فيه من المصالح والعبر، فإنه حياة هذه الأبدان وقوامها من داخل ومن خارج، وفيه تطرد هذه الأصوات فيؤديها إلى المسامع، وهو الحامل لهذه الأراييح يؤديها إلى المشام، وينقلها من موضع إلى موضع، وهو الذي
(2)
يزجي السحاب، ويسوقه من مكان إلى مكان على ظهره كالرَّوايا على ظهور الإبل، وهو الذي يثير السحاب أولًا
(1)
«م» : «بالفَيء» تصحيف، وانظر:«تاج العروس» (39/ 364).
(2)
«م» : «وهي التي» ، «د»:«وهي الذي» ، والمثبت أشبه بما قبله وبعده.
فيكون كِسَفًا متفرقة، فيؤلف بينه ثانيًا فيصير طبقًا واحدًا، ثم يَلْقحه ثالثًا
(1)
كما يَلْقح الفحل الأنثى، فيحمل الماء كما تحمل الأنثى من لقاح الفحل، ثم يسوقه رابعًا إلى أحوج الأماكن والحيوان إليه، ثم يعصره خامسًا حتى يخرج ماؤه، ثم يذرو ماءه بعد عصره سادسًا حتى لا يسقط جملة فيهلك ما يقع عليه، ثم يربي النبات سابعًا، فيكون له بمنزلة الماء والغذاء، ثم يجففه بحرارته ثامنًا لئلا يعفن، ولا يمكن بقاؤه، ولهذا اقتضت الحكمة الباهرة أن تكون الرياح مختلفة المهاب والصفات والطبائع.
فَزَعَم نفاة الحكمة أن هذا كله أمر اتفاقي لا بسبب ولا غاية
(2)
.
وهذا باب لو تتبعناه لجاء عدة أسفار، بل لو تتبعنا خِلْقة الإنسان وحده وما فيها من الحِكَم والغايات لعجزنا نحن وأهل الأرض عن الإحاطة بتفصيل ذلك، فلنرجع إلى جواب نفاة الحكمة والتعليل.
فنقول في الوجه الرابع والعشرين: قولهم: «أيّ حكمة في خلق إبليس وجنوده؟» ففي ذلك من الحِكَم ما لا يحيط بتفصيله إلا الله.
فمنها: أن يكمل لأنبيائه وأوليائه مراتب العبودية بمجاهدة عدو الله وحزبه، ومخالفته ومراغمته في الله، وإغاظته وإغاظة أوليائه، والاستعاذة به منه، واللجَأ إليه أن يعيذهم من شره وكيده، فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية والأخروية ما لم يحصل بدونه، وقد قدمنا أن الموقوف على الشيء لا يحصل بدونه.
(1)
«م» : «بالنار» تحريف، وانظر:«مفتاح دار السعادة» (2/ 637).
(2)
انظر: «مفتاح دار السعادة» (1/ 616 - 618).
ومنها: أن خوف الملائكة والمؤمنين من ربهم بعد أن شاهدوا من حال إبليس ما شاهدوه، وسقوطه من المرتبة الملكية إلى المنزلة الإبليسية= يكون أقوى وأتم، ولا ريب أن الملائكة لمّا شاهدوا ذلك حصلت لهم عبودية أخرى للربّ تعالى، وخضوع آخر، وخوف آخر، كما هو المشاهد من حال عبيد المَلِك إذا رأوه قد أهان أحدهم الإهانة التي بلغت منه كل مبلغ وهم يشاهدونه، فلا ريب أن خوفهم وحذرهم يكون أشد.
ومنها: أنه سبحانه جعله عبرة لمن خالف أمره، وتكبّر عن طاعته، وأصرّ على ذلك
(1)
، كما جَعَل ذنبَ أبي البشر عبرة لمن ارتكب نهيه أو عصى أمره، ثم تاب وندم ورجع إلى ربه، فابتلى أبوي الجن والإنس بالذنب، وجعل هذا الأب عبرة لمن أصر وأقام على ذنبه، وهذا الأب عبرة لمن تاب ورجع إلى ربه، فللّه كم في ضمن ذلك من الحِكَم الباهرة، والآيات الظاهرة.
ومنها: أنه مِحَكٌّ امتحن الله به خلقه؛ ليتميز به خبيثهم من طيبهم، فإنه سبحانه خلق النوع الإنساني من الأرض، وفيها السهل والحَزْن والطيب والخبيث، فلابدّ أن يظهر فيهم ما كان في مادتهم الأصلية، كما في الحديث الذي رواه الترمذي مرفوعًا
(2)
: «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على مثل ذلك، منهم الطيب والخبيث، والسَّهْل والحَزْن، وغير ذلك
(3)
»، فما كان في المادة الأصلية فهو كامن في المخلوق
(1)
«د» : «على معصية» .
(2)
برقم (2955) بنحوه، ورواه أحمد (19582)، وأبو داود (4693)، من حديث أبي موسى الأشعري، قال الترمذي:«حديث حسن صحيح» ، وصححه ابن حبان (6160).
(3)
كذا في الأصول هنا وفي موضع لاحق، والرواية:«وبين ذلك» .
منها، فاقتضت الحكمة الإلهية إخراجه وظهوره، فلا بدّ إذًا من سبب يظهر ذلك، فكان إبليس مِحَكًّا يتميز به الطيب من الخبيث.
كما أنه جعل أنبياءه ورسله مِحَكًّا لذلك التمييز، قال تعالى:{كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا} [آل عمران: 179]، فأرسل رسله إلى المكلَّفين وفيهم الطيب والخبيث، فانضاف الطيب إلى الطيب، والخبيث إلى الخبيث.
فاقتضت حكمته البالغة أن خلطهم في دار الامتحان، فإذا صاروا إلى دار القرار ميّز بينهم، وجعل لهؤلاء دارًا على حدة، ولهؤلاء دارًا على حدة، حكمة بالغة، وقدرة قاهرة.
ومنها: أنْ يظهر كمال قدرته في مثل خلق جبريل والملائكة وإبليس والشياطين، وذلك من أعظم آيات قدرته ومشيئته وسلطانه، فإنه خالق الأضداد، كالسماء والأرض، والضياء والظلام، والجنة والنار، والماء والنار، والحديد والهواء، والخير والشر
(1)
، والطيب والخبيث.
ومنها: أنّ خَلْقَ أحدِ الضدين مِنْ إظهار حُسْنِ ضدِّه، فإنّ الضد إنما يظهر حسنُهُ بضده، فلولا القبيح لم تظهر فضيلة الجميل، ولولا الفقر لم يُعْرف قدر الغنى، كما تقدم بيانه قريبًا.
ومنها: أنه سبحانه يحب أن يشكر بحقيقة الشكر وأنواعه، ولا ريب أن أولياءه نالوا بوجود عدو الله إبليس وجنوده وامتحانهم به من أنواع شكره ما لم يكن ليحصل لهم بدونه، فكم بين شكر آدم عليه السلام وهو في الجنة قبل
(1)
في «د» : «والحر والبرد» بدل جملة: «والحديد والهواء، والخير والشر» .
أن يخرج منها، وبين شكره بعد أن ابتُلِي بعدوه، ثم اجتباه ربّه فتاب عليه وقَبِله
(1)
.
ومنها: أنّ المحبة والإنابة والتوكل والصبر والرضا ونحوها أحب العبودية إلى الله سبحانه، وهذه العبودية إنما تتحقق بالجهاد وبذل النفس لله، وتقديم محبته على كل ما سواه، فالجهاد ذروة سنام العبودية، وأحبها إلى الرب سبحانه، فكان في خلق إبليس وحزبه قيام سوق هذه العبودية وتوابعها التي لا يحصي حِكَمها وفوائدها وما فيها من المصالح إلا الله.
ومنها: أنّ في خلق مَن يُضاد رسله ويكذبهم ويعاديهم من تمام ظهور آياته وعجائب قدرته ولطائف صنعه= ما وجوده أحب إليه وأنفع لأوليائه من عدمه، كما تقدم من ظهور آية الطوفان والعصا واليد وفَلْق البحر وإلقاء الخليل في النار، وأضعاف أضعاف ذلك من آياته وبراهين قدرته وعلمه وحكمته، فلم يكن بدّ من وجود الأسباب التي يترتب عليها ذلك كما تقدم.
ومنها: أنّ المادة النارية فيها الإحراق والعلو والفساد، وفيها الإشراق والإضاءة والنور، فأخرج منها سبحانه هذا وهذا، كما أن المادة الترابية الأرضية فيها الطيب والخبيث، والسهل والحَزْن، والأحمر والأسود والأبيض، فأخرج منها ذلك كله، حكمة باهرة، وقدرة قاهرة، وآية دالة على أنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهْوَ وَهُوَ السَّمِيعُ} [الشورى: 11].
ومنها: أنّ من أسمائه: الخافض، الرافع، المعزّ، المذلّ، الحكم، العدل، المنتقم، وهذه الأسماء تستدعي متعلّقات تظهر فيها أحكامها كأسماء
(1)
«م» : «وهدى
…
» وبعدها كلمة مطموسة.
الإحسان والرزق والرحمة ونحوها، ولابد من ظهور متعلّقات هذه وهذه.
ومنها: أنه سبحانه المَلِك التام المُلْك، ومن تمام ملكه عموم تصرفه وتنوعه بالثواب والعقاب، والإكرام والإهانة، والعدل والفضل، والإعزاز والإذلال، فلابدّ من وجود من يتعلق به أحد النوعين، كما أوجد من يتعلق به النوع الآخر.
ومنها: أنّ من أسمائه الحكيم، والحكمة من صفاته سبحانه، وحكمته تستلزم وضع كل شيء موضعه الذي لا يليق به سواه، فاقتضت خَلْق المتضادات وتخصيص كل واحد منها بما لا يليق به غيره من الأحكام والصفات والخصائص، وهل تتم الحكمة إلا بذلك؟ فوجود هذا النوع من تمام الحكمة، كما أنه من كمال القدرة.
ومنها: أنّ حَمْده سبحانه تام كامل من جميع الوجوه، فهو محمود على عدله ومنعه وخفضه وانتقامه وإهانته، كما هو محمود على فضله وعطائه ورفعه وإكرامه، فله الحمد التام الكامل على هذا وهذا، وهو يحمد نفسه على ذلك كله، ويحمده عليه ملائكتُه ورسلُه وأولياؤه، ويحمده عليه أهلُ الموقف جميعهم، وما كان من لوازم كمال حمده وتمامه فله في خلقه وإيجاده الحكمة التامة، كما له عليه الحمد التام، فلا يجوز تعطيل حمده، كما لا يجوز تعطيل حكمته.
ومنها: أنه سبحانه يحب أن يُظْهِر لعباده حلمَهُ وصبرَهُ وأناتَهُ
(1)
وسعَةَ رحمته وجوده، فاقتضى ذلك خَلْق مَن يُشرك به، ويضادّه في حكمه، ويجتهد
(1)
«م» : «حكمه وصبره وآياته» تصحيف.
في مخالفته، ويسعى في مساخطه، بل يشتمه
(1)
سبحانه، وهو مع ذلك يسوق إليه أنواع الطيبات، ويرزقه ويعافيه، ويمكّن له من أسباب ما يلتذّ به من أصناف النعم، ويجيب دعاءه، ويكشف عنه السوء، ويعامله من برِّه وإحسانه بضد ما يعامله هو به من كفره وشركه وإساءته، فلله كم في ذلك من حكمة وحمد، وتحبُّب إلى أوليائه، وتعرّف إليهم بأنواع كمالاته.
كما في «الصحيح»
(2)
عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله، يجعلون له الولد وهو يرزقهم ويعافيهم» .
وفي «الصحيح»
(3)
عنه صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه: «شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، أما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفؤًا أحد، وأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليه من إعادته» .
وهو سبحانه مع هذا الشتم له والتكذيب يرزق الشاتم المكذِّب ويعافيه ويدفع عنه، ويدعوه إلى جنته، ويقبل توبته إذا تاب إليه، ويبدله بسيئاته حسنات، ويتلطّف به في جميع أحواله، ويؤهله لإرسال رسله إليه، ويأمرهم بأن يُلينوا له القول ويرفقوا به.
(1)
قراءة محتملة من «م» ، وفي «د»:«يشبهه» دون إعجام.
(2)
البخاري (6099)، ومسلم (2804) من حديث أبي موسى الأشعري.
(3)
البخاري (3193، 4974، 4975) من حديث أبي هريرة، وابن عباس (4482) بألفاظ مقاربة.
(1)
.
وفي أثر إلهي: «إني والإنس والجن في نبأ عظيم، أَخْلُقُ ويُعبَدُ غيري، وأَرْزُقُ ويُشْكَر سواي»
(2)
.
وفي أثر آخر
(3)
(4)
.
(1)
رواه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (8/ 92).
(2)
أخرجه الطبراني في «مسند الشاميين» (975)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (4243)، من طريق عبد الرحمن بن جبير وشريح بن عبيد عن أبي الدرداء مرفوعًا، وفي إسناده انقطاع، عبد الرحمن وشريح لم يدركا أبا الدرداء، انظر:«فيض القدير» (4/ 469)، «السلسلة الضعيفة» (2371).
(3)
«د» : «أثر حسن» .
(4)
أخرجه بنحوه الرافعي في «التدوين» (3/ 4)، وابن عساكر في «المعجم» (2/ 993) من حديث علي بن أبي طالب يرفعه، وفي إسناده وضاع، كما في «السلسلة الضعيفة» (3287).
وأسنده الدينوري في «المجالسة» (2/ 33)، وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 27) عن وهب قال:«قرأت في بعض الكتب» بنحوه.
وفي الحديث الصحيح: «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون فيغفر لهم»
(1)
.
فهو سبحانه لكمال محبته لأسمائه وصفاته اقتضى حمده وحكمته أن يخلق خلقًا يُظهر فيهم أحكامها وآثارها، فلمحبته للعفو خَلَق مَنْ يحسن العفو عنه، ولمحبته للمغفرة خَلَق مَنْ يغفر له، ويحلم عنه، ويصبر عليه ولا يعاجله، بل يكون تحت
(2)
أمانه وإمهاله، ولمحبته لعدله وحكمته خَلَق مَنْ يظهر فيهم عدله وحكمته، ولمحبته للجود والإحسان والبر خَلَق مَنْ يعامله بالإساءة والعصيان وهو سبحانه يعامله بالمغفرة والإحسان، فلولا خَلْق مَن تجري على أيديهم أنواع المعاصي والمخالفات لفاتت هذه الحِكَم والمصالح، وأضعافها وأضعاف أضعافها.
فتبارك الله رب العالمين، وأحكم الحاكمين، ذو الحكمة البالغة، والنعم السابغة، الذي وصلت حكمته إلى حيث وصلت قدرته، وله في كل شيء حكمة باهرة، كما أن له فيه قدرة قاهرة.
وهذا باب إنما ذكرنا منه قطرة من بحر، وإلا فعقول البشر أعجز وأضعف وأقصر من أن تحيط بكمال حكمته في شيء من خلقه، فكم حصل بسبب هذا المخلوق البغيض للرب المسخوط له من محبوب له تبارك
(1)
تقدم تخريجه في (1/ 378).
(2)
مهملة في الأصول، وفي «ط»:«يحب» .
وتعالى يتضاءل في جنبه ما حصل به من مكروهه.
والحكيم الباهر الحكمة هو الذي يحصّل أحب الأمرين إليه باحتمال المكروه الذي يبغضه ويسخطه إذا كان طريقًا إلى حصول ذلك المحبوب، ووجود الملزوم بدون لازمه محال.
فإن يكن قد حصل بعدو الله إبليس من الشرور والمعاصي ما حصل فكم حصل بسبب وجوده ووجود جنوده من طاعة هي أحب إلى الله، وأرضى له من جهاد في سبيله، ومخالفة هوى النفس وشهوتها له، وتحمّل المشاق والمكاره في محبته ومرضاته، وأحب شيء للحبيب أن يرى مُحِبّه يتحمل لأجله من الأذى والوصب ما يصدِّق محبَّتَه:
من أجلك قد جعلت خدي أرضًا
…
للشامت والحسود حتى ترضى
(1)
وفي أثر إلهي: «بِعَيْني
(2)
، ما يتحمّل المتحملون من أجلي»
(3)
.
فلله ما أحب إليه احتمال محبيه أذى أعدائه لهم فيه وفي مرضاته، وما أنفع ذلك الأذى لهم، وما أحمدهم لعاقبته، وماذا ينالون به من كرامة حبيبهم وقربه، وقرة عيونهم به، ولكن حرام على منكري محبّة الرب تعالى أن يشموا لذلك رائحة، أو يدخلوا من هذا الباب، أو يذوقوا من هذا الشراب.
(1)
تمثّل به ابن الجوزي في «المدهش» (181)، والمؤلف في «المدارج» (3/ 2222).
(2)
هكذا هي مجوّدة في «م» ، وفي مصادر الرواية، ووقعت في «ط»:«بغيتي» .
(3)
جزء من أثر طويل يُروى من طريق وهب بن منبه وغيره عن بعض كتب الأوّلين، رواه أبو نعيم في «الحلية» (4/ 60)(9/ 255)(10/ 80)، وابن أبي الدنيا في «حسن الظن بالله» (90)، وأورده المؤلف في «عدة الصابرين» (81) وغيره.
فقل للعيون العُمْيِ: للشمس أعينٌ
…
سواك تراها في مغيب ومطلعِ
وسامح نفوسًا لم تؤهل لحبهم
…
فما يحسن التخصيص في كل موضعِ
(1)
فإنْ أغضب هذا المخلوق ربّه فقد أرضاه فيه أنبياؤه ورسله وأولياؤه، وذلك الرضا أعظم من ذلك الغضب، وإن أسخطه ما يجري على يديه من المعاصي والمخالفات فإنه سبحانه أشدّ فرحًا بتوبة العاصي
(2)
من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه إذا وجدها في المَفَاوز المهلكات، وإن أغضبه ما جرى على أنبيائه ورسله من هذا العدو فقد سَرّه وأرضاه ما جرى على أيديهم من حربه ومعصيته ومراغمته وكبته وغيظه، وهذا الرضا أعظم عنده وأبرّ لديه من فوات ذلك المكروه المستلزِم لفوات هذا المَرْضي المحبوب، وإنْ أسخطه أكْلُ آدم من الشجرة فقد أرضاه توبته وإنابته وخضوعه وتذلّله بين يديه وانكساره له، وإنْ أغضبه إخراجُ أعدائه لرسوله من حرمه وبلدته ذلك الخروج فقد أرضاه أعظم الرضا دخوله إليها ذلك الدخول، وإنْ أسخطه قتْلُهُم أولياءَه وأحبابَه وتمزيقُ لحومهم وإراقةُ دمائهم فقد أرضاه نيلهم الحياة التي لا أطيب منها ولا أنعم ولا ألذ في قربه وجواره، وإن أسخطه معاصي عباده وذنوبُهُم فقد أرضاه شهود ملائكته وأنبيائه ورسله وأوليائه سعة مغفرته وعفوه وبرّه وكرمه وجوده، والثناء عليه بذلك، وحمده وتمجيده بهذه
(3)
الأوصاف التي حمْده بها والثناء عليه بها أحب إليه وأرضى
(1)
أنشدهما المؤلف بألفاظ متقاربة في مواضع من كتبه، منها:«الصواعق المرسلة» (3/ 1200)، وضمن عدة أبيات بقافية مختلفة في «مدارج السالكين» (4/ 2827).
(2)
«د» : «عبده» .
(3)
«م» : «فهذه» .