الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السابع والعشرون
في دخول الإيمان بالقضاء والقدر والعدل والتوحيد والحكمة تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ماضٍ فيّ حكمك، عدلٌ فيّ قضاؤك» وبيان ما في هذا الحديث من القواعد
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أصاب عبدًا قطّ هَمٌّ ولا غَمٌّ ولا حزنٌ، فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدلٌ فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سَمّيتَ به نفسك، أو أنزلتَه في كتابك، أو علّمتَه أحدًا من خلقك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همّي وغمّي؛ إلا أذهب الله همّه وغمّه، وأبدله مكانه فرحًا» ، قالوا: يا رسول الله، أفلا نتعلمهنّ؟ قال:«بلى، ينبغي لمن يسمعهنّ أن يتعلمهنّ»
(1)
.
فقد دلَّ هذا الحديث الصحيح على أمور:
منها: أنه استوعب أقسام المكروه الواردة على القلب، فالهمّ يكون على مكروه يُتوقّع في المستقبل يهتم به القلب. والحزن على مكروه ماضٍ ــ من فوات محبوب أو حصول مكروه ــ إذا تذكّره أحدث له حزنًا. والغمّ يكون على مكروه حاصل في الحال يوجب لصاحبه الغمّ.
فهذه المكروهات الثلاث
(2)
هي من أعظم أمراض القلب وأدوائه، وقد
(1)
تقدم تخريجه (1/ 285).
(2)
كذا في «م» : «الثلاث» ، وهي ساقطة من «د» .
تنوع الناس في طرق أدويتها والخلاص منها، وتباينت طرقهم في ذلك تباينًا لا يحصيه إلا الله، بل كل أحد يسعى في التخلص منها بما يظن أو يتوهّم أنه يخلصه منها.
وأكثر الطرق والأدوية التي يستعملها الناس في الخلاص منها لا تزيدها إلا شدة، كمن يتداوى منها بالمعاصي على اختلاف أنواعها، من أكبر كبائرها إلى أصغرها، وكمن يتداوى منها باللهو واللعب والغناء وسماع الأصوات المطربة وغير ذلك، فأكثر سعي بني آدم، أو كله إنما هو لدفع هذه الأمور والتخلص منها.
وكلهم قد أخطأ الطريق، إلا من سعى في إزالتها بالدواء الذي وصفه الله لإزالتها، وهو دواء مركّب من مجموع أمور، متى نقص منها جزء نقص من الشفاء بقدره.
وأعظم أجزاء هذا الدواء هو التوحيد والاستغفار، قال تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاَسْتَغْفِر لِّذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]، وفي الحديث:«قال الشيطان: أهلكتُ بني آدم بالذنوب، وأهلكوني بالاستغفار وبلا إله إلا الله، فلما رأيتُ ذلك بثثتُ فيهم الأهواء، فهم يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا»
(1)
.
(1)
أخرجه بنحوه ابن أبي عاصم في «السنة» (7)، وأبو يعلى (136)، والطبراني في «الدعاء» (1780) من حديث أبي بكر مرفوعًا، وإسناده تالف، فيه عثمان بن مطر وعبد الغفور الواسطي كلاهما منكر الحديث، كما في «التاريخ الكبير» (6/ 253، 137).
وفي الباب عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا بإسناد حسن، انظر:«الأمالي المطلقة» (137).
ولذلك كان الدعاء المفرِّج للكرب محض التوحيد، وهو:«لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله ربُّ العرش العظيم، لا إله إلا الله ربُّ السماوات السبع وربُّ الأرض، ربُّ العرش الكريم»
(1)
.
وفي «الترمذي»
(2)
وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروبٌ إلا فرّج الله كربَه: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين» .
فالتوحيد يُدخِل العبدَ على الله، والاستغفار والتوبة يرفع المانع، ويزيل الحجاب الذي يحجب القلب عن الوصول إليه، فإذا وصل القلب إليه زال عنه همُّه وغمُّه وحزنُه، وإذا انقطع عنه حضرته الهموم والغموم والأحزان، وأتته من كل طريق، ودخلت عليه من كل باب.
فلذلك صدّر هذا الدعاء المُذْهِب للهمّ والغمّ والحزن
(3)
بالاعتراف له بالعبودية حقًّا منه ومن آبائه
(4)
.
ثم أتبع ذلك باعترافه بأنه في قبضته وملكه، وتحت تصرّفه؛ بكون ناصيته في يده، يصرّفه كيف يشاء، كما يُقاد مَن أمسك بناصيته شديدُ القوى، لا يستطيع إلا الانقياد له.
(1)
أخرجه أحمد (3147)، والبخاري (6346)، ومسلم (2730) من حديث ابن عباس.
(2)
الترمذي (3505) بنحوه، والنسائي في «الكبرى» (10416) وأحمد (1462) مطولًا، من حديث سعد بن أبي وقاص، وقد وقع في إسناده اختلاف لا يضر أشار إليه الترمذي عقب روايته، والحديث صححه الحاكم (1862).
(3)
يقصد الحديث المتقدم: «ما أصاب عبدًا قطّ هَمٌّ
…
».
(4)
تصحّفت في «ط» إلى: «وآياته» .
ثم أتبع ذلك بإقراره له بنفاذ حكمه فيه، وجريانه عليه، شاء أم أبى، وإذا حكم فيه بحكم لم يستطع غيرُه ردَّه أبدًا، وهذا اعتراف لربّه بكمال القدرة عليه، واعتراف من نفسه بغاية العجز والضعف، فكأنه قال: أنا عبد ضعيف مسكين، يحكم فيه قوي قاهر غالب، وإذا حكم فيه بحكم مضى حكمه فيه ولا بدّ.
ثم أتبع ذلك باعترافه بأن كل حُكم وكل قضية
(1)
ينفذها فيه هذا الحاكم فهي عدل محض بمشيئة
(2)
، لا جور فيها ولا ظلم بوجهٍ من الوجوه، فقال:«ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك» ، وهذا يعمّ جميعَ أقضيته سبحانه في عبده: قضاءَه السابقَ فيه قبل إيجاده، وقضاءَه فيه المقارِن لحياته، وقضاءَه فيه بعد مماته، وقضاءَه فيه يوم معاده، ويتناول قضاءَه فيه بالذنب، وقضاءَه فيه بالجزاء عليه.
ومن لم يثلج صدره لهذا، ويكون له كالعلم الضروري؛ لم يعرف ربَّه وكماله، ولا نفسه وعيبه
(3)
، ولا عدَلَ في حكمه، بل هو جهول ظلوم، فلا عِلْم ولا إنصاف.
وفي قوله عليه السلام: «ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك» ردٌّ على طائفتي القدرية والجبرية، وإن اعترفوا بذلك بألسنتهم فأصولهم تناقضه.
فإن القدرية تنكر قدرته سبحانه على خلق ما به يهتدي العبد غير ما
(1)
«م» : «مصيبة» ، والمثبت ألصق بسياق الحديث:«قضاؤك» ، والكلام هنا عن القضاء.
(2)
كذا في «م» ونحوها في «د» ، والأشبه:«بمشيئته» .
(3)
«وعيبه» مهملة في «د» «م» ، وفي «د»:«ونفسه وعيبه» دون أداة النفي.
خَلَقه فيه، وجَعَله عليه، فليس عندهم لله حكمٌ نافذ في عبده غير الحكم الشرعي بالأمر والنهي، ومعلوم أنه لا يصح حمل الحديث على هذا الحكم؛ فإن العبد يطيعه تارة ويعصيه تارة أخرى، بخلاف الحكم الكوني القدري فإنه ماضٍ في العبد ولابدّ، فإنه بكلماته التامات التي لا يجاوزهن بَرٌّ ولا فاجر.
ثم قوله بعد ذلك: «عدلٌ فيَّ قضاؤك» دليلٌ على أن الله سبحانه عادل في كل ما يفعله بعبده من قضائه كله، خيرِه وشرِّه، حلوِه ومرِّه، فعلِه وجزائه، فدلّ الحديث على الإيمان بالقدر، والإيمان بأن الله عادل فيما قضاه، فالأول التوحيد، والثاني العدل.
وعند القدرية النفاة: لو كان حُكْمُه فيه ماضيًا لكان ظالمًا له بإضلاله وعقوبته.
وأما القدرية الجبرية فعندهم: الظلم لا حقيقة له، بل هو الممتنع لذاته، الذي لا يدخل تحت القدرة، فلا يقدر الرب تعالى عندهم على ما يُسمّى ظلمًا حتى يقال: تَرَك الظلم، وفَعَل العدل.
فعلى قولهم: لا فائدة في قوله: «عدلٌ فيَّ قضاؤك» ، بل هو بمنزلة أن يقال: نافذ فيَّ قضاؤك ولابدّ، وهو معنى قوله:«ماض فيَّ حكمك» ؛ فيكون تكريرًا لا فائدة فيه.
وعلى قولهم: فلا يكون ممدوحًا بترك الظلم؛ إذ لا يُمْدَح بترك المستحيل لذاته.
ولا فائدة في قوله: «إني حرمت الظلم على نفسي»
(1)
، أو يصير معناه: إني
(1)
جزء من حديث أبي ذر المتقدم تخريجه في (1/ 158).
حرمت على نفسي ما لا يدخل تحت قدرتي
(1)
، وهو المستحيلات.
ولا فائدة في قوله: {فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112]؛ فإن كل أحد لا يخاف من المستحيل لذاته أن يقع.
ولا فائدة في قوله: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31]، ولا في قوله:{وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 29]؛ فنفوذ حُكْمِه في عباده بملكه وعدله فيهم بحمده، وهو سبحانه له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
ونظير هذا قوله سبحانه حكاية عن نبيه هود صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56]، فقوله:{مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «ناصيتي بيدك ماضٍ فيَّ حكمك» ، وقوله:{إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} مثل قوله عليه السلام: «عدل فيَّ قضاؤك» أي: لا يتصرف في تلك النواصي إلا بالعدل والحكمة والمصلحة والرحمة، لا يَظلم أصحابَها، ولا يعاقبهم بما لم يعملوه، ولا يهضمهم حسناتِ ما عملوه، فهو سبحانه على صراط مستقيم في قوله وفعله، يقول الحق، ويفعل الخير والرشد.
وقد أخبر سبحانه أنه على الصراط المستقيم في سورة هود، وفي سورة النحل، فأخبر في هود أنه على صراط مستقيم في تصرفه في النواصي التي هي في قبضته وتحت يده، وأخبر في النحل أنه يأمر بالعدل ويفعله.
وقد زعمت الجبرية أن العدل هو المقدور، وزعمت القدرية
(2)
أن
(1)
بياض في «د» بنحو كلمة.
(2)
«د» : «الجبرية» مكررة.
العدل إخراج أفعال الملائكة والجنّ والإنس عن قدرته وخلقه، وأخطأ الطائفتان جميعًا في ذلك.
والصواب أن العدل وَضْع الأشياء في مواضعها التي تليق بها، وإنزالها منازلها، كما أن الظلم وَضْع الشيء في غير موضعه، وقد تسمّى سبحانه بالحَكَم العَدْل.
والقدرية تنكر حقيقة اسم الحَكَم، وتردّه إلى الحُكْم الشرعي الديني، وتزعم أنها تُثبِت حقيقة العدل، والعدل عندهم إنكار القدر، ومع هذا فينسبونه إلى غاية الظلم؛ فإنهم يقولون: إنه يُخَلِّد في العذاب الأليم مَن أفنى عمره في طاعته، ثم فَعَل كبيرة واحدة، ومات عليها.
فإن قيل: فالقضاء بالجزاء عدل؛ إذ هو عقوبة على الذنب، فكيف يكون القضاء بالذنب عدلًا على أصول أهل السنة؟
وهذا السؤال لا يلزم القدرية ولا الجبرية؛ أما القدرية فعندهم أنه لم يقضِ المعصية، وأما الجبرية فعندهم أن كل مقدور عدل، وإنما يلزمكم أنتم هذا السؤال.
قيل: نعم، كلّ قضائه عدل في عبده؛ فإنه وَضْعٌ له في موضعه الذي لا يَحْسُن في غيره، فإنه وَضَع العقوبةَ في موضعها، ووَضَع القضاءَ بسببها وموجَبها في موضعه، فإنه سبحانه كما يجازي بالعقوبة فإنه يعاقب بنفس قضاء الذنب، فيكون حكمه بالذنب عقوبة على ذنب سابق؛ فإن الذنوب يُكسِب بعضُها بعضًا، وذلك الذنب السابق عقوبة على غفلته عن ربّه وإعراضه عنه، وتلك الغفلة والإعراض هي في أصل الجِبِلّة والنّشأة، فمن