الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أفعالًا ظهرت فيها حكمته، ووقعت على أتم الوجوه وأوفقها للمصالح المقصودة بها، ثم رأوا أفعاله قد تكرّرت كذلك، ثم جاءهم من أفعاله ما لا يعلمون وجه حكمته فيه= لم يسعهم غير التسليم لِمَا عرفوا من حكمته، واستقرَّ في عقولهم منها، وردّوا متشابه ما جهلوه إلى مُحكَم ما علموه.
هكذا نجد أرباب كل صناعة مع أستاذهم، حتى إن النفاة يسلكون هذا المسلك بعينه مع أئمتهم وشيوخهم، فإذا جاءهم إشكالٌ على قواعد أئمتهم ومذاهبهم، قالوا: هم أعلم منا، وهم فوقنا في كل علم ومعرفة وحكمة، ونحن معهم كالصبي مع معلمه وأستاذه.
فهلّا سلكوا هذا السبيل مع ربهم وخالقهم الذي بهرت حكمته العقول، وكان نسبتها إلى حكمته أقل
(1)
من نسبة عين الخُفّاش إلى جرم الشمس.
ولو أنّ العالِم الفاضل المبرَّز في علوم كثيرة اعترض على من لم يشاركه في صنعته، ولا هو من أهلها، وقدح في أوضاعها= لخرج
(2)
عن موجِب العقل والعلم، وعُدّ ذلك منه نقص وسفه، فكيف بأحكم الحاكمين، وأعلم العالمين، وأقدر القادرين؟!
الجواب الحادي عشر:
أن الحكمة إنما تتم بخلْق المتضادّات والمتقابلات، كالليل والنهار، والعلو والسفل، والطيّب والخبيث، والخفيف والثقيل، والحلو والمر، والحرّ والبرد، والألم واللذة، والحياة والموت، والداء والدواء، فخلْق هذه المتقابلات هو محل ظهور الحكمة الباهرة، كما
(1)
«د» : «أولى» .
(2)
تحرفت في الأصول إلى: «يخرج» مهملة الأول.
هو محل ظهور القدرة القاهرة، والمشيئة النافذة، والملك الكامل التام.
فتوهُّم تعطيل خلْق هذه المتضادّات تعطيل لمقتضيات تلك الصفات وأحكامها وآثارها، وذلك عين المحال؛ فإن لكل صفة من الصفات العليا حُكمًا ومقتضى وأثرًا هو مظهر كمالها، وإن كانت كاملة في نفسها، لكن ظهور آثارها وأحكامها من كمالها، فلا يجوز تعطيله؛ فإن صفة القادر تستدعي مقدورًا، وصفة الخالق تستدعي مخلوقًا، وصفة الوهّاب، الرازق، المعطي، المانع، الضار، النافع، المقدِّم، المؤخِّر، المعزّ، المذلّ، العفو، الرؤوف= تستدعي آثارها وأحكامها.
فلو عُطِّلتْ تلك الصفات عن المخلوق المرزوق، المغفور له، المرحوم، المعفو عنه؛ لم يظهر كمالها، وكانت معطَّلة عن مقتضياتها وموجَباتها، فلو كان الخلق كلهم مطيعون عابدون حامدون لتعطل أثر كثير من الصفات العُلى والأسماء الحسنى.
وكيف كان يظهر أثر صفة العفو، والمغفرة، والصفح، والتجاوز، والانتقام، والعز، والقهر، والعدل، والحكمة التي تنزل الأشياء منازلها، وتضعها مواضعها؟
فلو كان الخلق كلهم أمة واحدة لفاتت الحِكَم والآيات، والعبر والغايات المحمودة في خلقهم على هذا الوجه، وفات كمال المُلْك والتصرف؛ فإن المَلِك إذا اقتصر تصرّفه على مقدور واحد من مقدوراته: فإما أن يكون عاجزًا عن غيره؛ فيتركه عجزًا، أو جاهلًا بما في تصرفه في غيره من المصلحة؛ فيتركه جهلًا، وأما أقدر القادرين، وأعلم العالمين، وأحكم الحاكمين؛ فتصرفه في مملكته لا يقف على مقدور واحد؛ لأن ذلك نقص في ملكه.